نهاية الأرب في فنون الأدب/أخبار أبي المهنأ مخارق

من موسوعة الأدب العربي
اذهب إلى:تصفح، ابحث

أخبار أبي المهنأ مخارق

هو أبو المهنأ مخارق بن يحيى بن ناووس الجزار مولى الرشيد.وقيل: بل ناووس لقب أبيه يحيى ؛ وإنما لقب بناووس لأنه بايع رجلا أنه يمضي إلى ناووس الكوفة فيطبخ فيه قدرا بالليل حتى تنضج، فطرح رهنه بذلك ؛ فدس الرجل الذي راهنه رجلا فألقى نفسه في الناووس بين الموتى.فلما فرغ ناووس من الطبخ مد الرجل يده من بين الموتى وقال له: أطعمني ؛ فغرف بالمغرفة من المرق وصبها في يد الرجل فأحرقها وضربها بالمغرفة وقال له: اصبر حتى نطعم الأحياء أولا ثم نتفرغ للموتى ؛ فلقب ناووساً لذلك. قال: وكان مخارقٌ لعاتكة بنت شهدة، وهي من المغنيات المحسنات المتقدمات في الضرب.نشأ مخارقٌ بالمدينة ؛ وقيل: كان منشؤه بالكوفة.وكان أبوه جزاراً مملوكا، وكان مخارقٌ وهو صبي ينادي على ما يبيعه أبوه من اللحم.فلما بان طيب صوته علمته مولاته طرفاً من الغناء، ثم أرادت بيعه، فأشتراه إبراهيم الموصلي منها وأهداه للفضل بن يحيى، فأخذه الرشيد منه ثم أعتقه.وقيل: أشتراه إبراهيم من مولاته بثلاثين ألف درهم وزادها ثلاثة آلاف درهم.قال: ولما أشتراه قال له الفضل بن يحيى: ما خبر غلام بلغني أنك أشتريته ؟ فقال: هو ما بلغك.قال: فأرنيه، فأحضره، فغنى بين يديه ؛ فقال له: ما أرى فيه الذي رأيت.قال: تريد أن يكون في الغناء مثلي في ساعةٍ واحدةٍ ! فقال: بكم تبيعه ؟ قال: أشتريته بثلاثين ألف درهم، وهو حر لوجه الله تعالى إن بعته إلا بثلاثة وثلاثين ألف دينار.فغضب الفضل وقال: إنما أردت ألا تبيعه أو تجعله سببا لأن تأخذ مني ثلاثة وثلاثين ألف دينار.فقال إبراهيم: أنا أصنع بك خصلة واحدة، أبيعك نصفه بنصف هذا المال وأكون شريكك في نصفه وأعلمه، فإن أعجبك إذا علمته أتممت لي باقي المال وإلا بعته بعد، وكان الربح بيني وبينك.فقال الفضل: إنما أردت أن تأخذ مني المال الذي قدمت ذكره، فلما لم تقدر على ذلك أردت أن تأخذ نصفه، وغضب.فقال إبراهيم له: فأنا أهبه لك على أنه يساوي ثلاثة وثلاثين ألف دينار ؛ قال: قد قبلته ؛ قال: وقد وهبته لك.وغدا إبراهيم على الرشيد ؛ فقال له: يا إبراهيم، ما غلامٌ بلغني أنك وهبته للفضل ؟ قال: غلام يا أمير المؤمنين لم تملك العرب ولا العجم مثله، ولا يكون مثله أبدا.قال: فوجه إلى الفضل يأمره بإحضاره.فوجه به إليه، فغنى بين يديه ؛ فقال له: كم يساوي ؟ قال إبراهيم: يساوي خراج مصر وضياعها.قال: ويحك ! أتدري ما تقول ! مبلغ هذا المال كذا وكذا ! قال: وما مقدار هذا المال في غلام لم يملك أحدٌ مثله قط ! قال: فالتفت الرشيد إلى مسرور الكبير وقال: قد عرفت يميني أني لا أسأل أحداً من البرامكة شيئا فقال مسرور: فأنا أمضي إلى الفضل فأستوهبه منه، فإذا كان عندي فهو عندك.فقال له: شأنك.فمضى مسرور إلى الفضل وأستوهبه منه، فوهبه له.وقيل: بل إبراهيم هو الذي أهداه للرشيد ؛ فأمره الرشيد بتعليمه فعلمه حتى بلغ ما بلغه.قال: وكان مخارقٌ يقف بين يدي الرشيد مع الغلمان لا يجلس ويغني وهو واقف.فغنى ابن جامع ذات يوم بين يدي الرشيد:

كأنّ نيراننا في جنب قلعتهم

مصبّغات على أرسان قصّار

هوت هرقلة لمّا أن رأت عجباً

جواثما ترتمي بالنّفط والنّار

فطرب الرشيد وأستعاده مراراً ؛ وهو شعر مدح به الرشيد في فتح هرقلة.فأقبل الرشيد على أبن جامع دون غيره.فغمز مخارقٌ إبراهيم بعينه وتقدمه إلى الخلاء، فلما جاء قال له: مالي أراك منكسراً ؟ فقال له: أما ترى إقبال أمير المؤمنين على أبن جامع بسبب هذا الصوت ! فقال مخارقٌ: قد والله أخذته.فقال: ويحك ! إنه الرشيد، وأبن جامعٍ من تعلم، ولا يمكن معارضته إلا بما يزيد على غنائه وإلا فهو الموت ! فقال: دعني وخلاك ذمٌ، وعرفه أني أغني به، فإن أحسنت فإليك ينسب، وإن أسأت فإلي يعود.فقال إبراهيم للرشيد: يا أمير المؤمنين، أراك متعجباً من هذا الصوت بغير ما يستحقه وأكثر مما يستوجبه ! فقال: لقد أحسن فيه أبن جامع ما شاء.قال: أو لأبن جامع هو ؟ قال: نعم، كذا ذكر.قال: فإن عبدك مخارقاً يغنيه.فنظر إلى مخارق ؛ فقال: نعم يا أمير المؤمنين.قال: هاته ؛ فغناه وتحفظ فيه فأتى بالعجائب، وطرب الرشيد حتى كاد يطير ؛ ثم أقبل على أبن جامع فقال: ويلك ! ما هذا ؟ فابتدأ يحلف بالطلاق وكل محرجة أنه لم يسمع ذلك الصوت قط من غيره وأنه صنعه وأنها حيلةٌ جرت عليه.فأقبل على إبراهيم وقال: أصدقني بحياتي ؛ فصدقه عن قصة مخارق.فقال لمخارق: اجلس إذاً مع أصحابك، فقد تجاوزت مرتبة من يقوم.وأعتقه ووصله بثلاثة آلاف دينار وأقطعه ضيعةً ومنزلا. وقد روى أبو الفرج الأصفهاني عن هارون بن مخارق، قال: كان أبي إذا غنى هذا الصوت:

يا ربع سلمى لقد هيّجت لي طربا

زدت الفؤاد على علاّته وصبا

ربعٌ تبدّل ممن كان يسكنه

عفر الظباء وظلماناً به عصبا

يبكي ويقول: أنا مولى هذا الصوت.فقلت له: كيف يا أبت ؟ فقال: غيته مولاي الرشيد، فبكى وشرب عليه رطلا ثم قال: أحسنت يا مخارق ! فسلني حاجتك ؛ فقلت: تعتقني يا أمير المؤمنين أعتقك الله من النار ؛ فقال: أنت حرٌ لوجه الله تعالى، فأعد الصوت فأعدته ؛ فبكى وشرب رطلا، ثم قال: أحسنت يا مخارق ! فسلني حاجتك ؛ فقلت: ضيعةٌ تقيمني غلتها ؛ فقال: قد أمرت لك بها، أعد الصوت فأعدته ؛ فبكى وقال: سل حاجتك ؛ فقلت: يا أمير المؤمنين، تأمر لي بمنزل وفرسٍ وخادمٍ ؛ فقال: ذلك لك، أعد الصوت فأعدته ؛ فبكى وقال: سل حاجتك ؛ فقبلت الأرض بين يديه وقلت: حاجتي أن يطيل الله بقاءك ويديم عزك ويجعلني من كل سوءٍ فداءك ؛ فأنا مولى هذا الصوت بعد مولاي. ويروى أيضاً عن الحسين بن الضحاك عن مخارق أن الرشيد قال يوما للمغنين وهو مصطبح: من منكم يغني:

يا ربع سلمى لقد هيّجت لي طربا

فقمت وقلت: أنا يا أمير المؤمنين.فقال: هاته ؛ فغنيته فطرب وشرب ثم قال: علي بهرثمة ؛ فقلت في نفسي: ماذا يريد منه ! فجاء هرثمة فقال له: مخارق الشاري الذي قتلناه بنواحي الموصل ما كانت كنيته ؟ فقال: أبو المهنأ ؛ فقال: أنصرف فانصرف ؛ ثم أقبل الرشيد علي فقال: قد كنيتك أبا المهنأ لإحسانك ؛ وأمر لي بمائة ألف درهم ؛ فأنصرفت بها وبالكنية. قال أبو عبد الله بن حمدون: كنا عند الواثق وأمه عليلةٌ.فلما صلى المغرب دخل إليها وأمر ألا نبرح، فجلسنا في صحن الدار، وكانت ليلةً مقمرةً وأبطأ الواثق علينا ؛ فاندفع مخارق يغني، فأجتمع علينا الغلمان، وخرج الواثق فصاح: يا غلام، فلم يجبه أحد، ومشى في المجلس إلى أن توسط الدار ؛ فلما رأيته بادرت إليه ؛ فقال لي: ويلك ! هل حدث في داري شيءٌ ؟ فقلت: لا يا سيدي.قال: فما بالي أصيح فلا أجاب ؟ فقلت: مخارق يغنى والغلمان قد أجتمعوا إليه فليس فيهم فضلٌ لسماع غير ما يسمعونه.فقال: عذرٌ والله لهم يا أبن حمدون وأي عذر ! ثم جلس وجلسنا بين يديه إلى السحر.وقد روى نحو هذه الحكاية في أمر الغلمان مع مخارق عند المعتصم.وقال محمد بن عبد الملك الزيات: قال لي الواثق: ما غناني مخارق قط إلا قدرت أنه من قلبي خلق.وكان يقول: أتريدون أن تنظروا فضل مخارق على جميع أصحابه ؟ انظروا إلى هؤلاء الغلمان الذين يقفون في السماط، فكانوا يتفقدونهم وهم وقوفٌ فكلهم يسمع الغناء من المغنين جميعا وهو واقفٌ مكانه ضابطٌ لنفسه، فإذا تغنى مخارق خرجوا عن صورهم فتحركت أرجلهم ومناكبهم وبانت أسباب الطرب فيهم، وأزدحموا على الحبل الذي يقفون من ورائه. وحكى أنه خرج مرة إلى باب الكناسة بمدينة السلام والناس يرحلون إلى مكة ؛ فنظر إلى كثرتهم وأزدحامهم، فقال لأصحابه الذين معه: قد جاء في الخبر أن أبن سريج كان يغني في أيام الحج والناس يمشون فيستوقفون بغنائه، وسأستوقف لكم هؤلاء الناس وأستلهيهم جميعاً لتعلموا أنه لم يكن ليفضلني إلا بصنعته دون صوته ؛ ثم اندفع يؤذن، فأستوقف أولئك الخلق واستلهاهم، حتى جعلت المحامل يغشي بعضها بعضاً. قالوا: وجاء أبو العتاهية إلى باب مخارق وطرقه فخرج إليه ؛ فقال له: يا حسان هذا الإقليم، يا حكيم أرض بابل، أصبب في أذني شيئا يفرح به قلبي وتتنعم به نفسي وكان في جماعة منهم محمد بن سعيد اليزيدي فقال: انزلوا، فنزلوا، فغناهم.فقال محمد بن سعيد: فكدت أسعى على وجهي طرباً.قال: وجعل أبو العتاهية يبكي، ثم قال: يا دواء المجانين، لقد رققت حتى كدت أن أحسوك، فلو كان الغناء طعاماً لكان غناؤك أدما، ولو كان شراباً لكان ماء الحياة. وقال أبو الفرج عن عمر بن شبة قال: حدثني بعض آل نوبخت قال: كان أبي وعبد الله بن أبي سهل وجماعةٌ من آل نوبخت وغيرهم وقوفا بكناسة الدواب في الجانب الغربي ببغداد يتحدثون، وإنهم لكذلك إذ أقبل مخارقٌ على حمار أسود وعليه قميصٌ رقيقٌ ورداءٌ مسهم ؛ فقال: فيم كنتم ؟ فأخبروه.فقال: دعونا من وسواسكم هذا، أي شيء لي عليكم إن رميت بنفسي بين قبرين من هذه القبور وغطيت وجهي وغنيت صوتا فلم يبق أحد بهذه الكناسة ولا في الطريق من مشتر ولا بائع ولا صادرٍ ولا وارد إلا ترك عمله وقرب مني واتبع صوتي ؟ فقال عبد الله: إني لأحب أن أرى هذا، فقل ما شئت.فقال مخارق: فرسك الأشقر الذي طلبته منك فمنعتنيه.قال: هو لك إن فعلت ما قلت.قال: فرمى بنفسه بين قبرين وتغطى بردائه، ثم أندفع يغني بشعر أبي العتاهية:

نادت بوشك رحيلك الأيّام

أفلست تسمع أم بك أستصمام

ومضى أمامك من رأيت وأنت لل

باقين حتى يلحقوك أمام

مالي أراك كأنّ عينك لا ترى

عبراً تمرّ كأنهنّ سهام

تمضي الخطوب وأنت منتبهٌ لها

فإذا مضت فكأنها أحلام

قال: فرأيت الناس يأتون إلى المقبرة أرسالا بين راكبٍ وراجل وصاحب شغل ومار في الطريق حتى لم يبق أحد.ثم قال لنا من تحت ردائه: هل بقي أحدٌ ؟ قلنا: لا، وقد وجب الرهن.فقام فركب حماره، وعاد الناس إلى صنائعهم ؛ وقال لعبد الله: أحضر الفرس ؛ قال: على أن تقيم عندي ؛ قال نعم ! فسلم الفرس إليه وبره وأحسن رفده. وروى عن يحيى المكي قال: خرج مخارقٌ مع بعض إخوانه إلى بعض المتنزهات، فنظر إلى قوس مذهبة مع بعض من خرج معه، فسأله إياها، وكان المسئول ضن بها، وسنحت ظباءٌ بالقرب منه ؛ فقال لصاحب القوس: أرأيت إن تغنيت صوتا فعطفت علي به خدود هذه الظباء أتدفع إلي القوس ؟ قال نعم ! فاندفع يغني:

ماذا تقول الظباء

أفرقةً أم لقاء

أم عهدها بسليمى

وفي البيان شفاء

مرّت بناسانحاتٍ

وقد دنا الإمساء

فما أحارت جوابا

وطال فيها العناء

قال: فعطفت الظباء راجعةً إليه حتى وقفت بالقرب منه تنظر إليه مصغيةً إلى صوته.فعجب من حضر من رجوعها ووقوفها ؛ وناوله الرجل القوس، فأخذها وقطع الغناء فعاودت الظباء نفارها ومضت راجعةً على سننها. وروى عن إسحاق بن إبراهيم قال: دخلت على أبي وهو جالسٌ بين بابين له ومخارقٌ بين يديه وهو يغنيه:

يا ربع بشرة إن أضرّبك البلى

فلقد رأيتك آهلاً معمورا

قال: فرأيت أبي ودموعه تجري على خديه من أربعة أماكن وهو ينشج أحر نشيج.فلما رآني قال: يا إسحاق، هذا والله صاحب اللواء غداً إن مات أبوك. وروى عن مخارق قال: رأيت وأنا حدثٌ كأن شيخا جالسا على سرير في روضة حسنة، فدعاني فقال لي: غنني يا مخارق ؛ فقلت: أصوتاً تقترحه أو ما حضر ؟ فقال: ما حضر.فغنيته:

دعى القلب لا يزدد خبالاً مع الذي

به منك أو داوى جواه المكتّما

وليس بتزويق اللسان وصوغه

ولكنّه قد خالط اللّحم والدّما

فقال لي: أحسنت يا مخارق ! ثم أخذ وترا من أوتار العود فلفه على المضراب ودفعه إلي، فجعل المضراب يطول ويغلظ والوتر ينتشر ويعرض حتى صار المضراب كالرمح والوتر كالعذبة عيه وصار في يدي علماً، ثم أنتبهت فحدثت برؤياي إبراهيم الموصلي ؛ فقال لي: الشيخ بلا شك إبليس، وقد عقد لواء صنعتك فانت ما حييت رئيس أهلها. وقال أحمد بن حمدون: غضب المعتصم على مخارق فأمر أن يجعل في المؤذنين ويلزمهم ففعل ذلك ؛ وأمهل حتى علم أن المعتصم يشرب، فأذنت العصر، فدخل إلى الستر حيث يقف المؤذن للسلام، ثم رفع صوته جهده وقال: السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته، الصلاة يرحمك الله.فبكى حتى جرت دموعه وبكى كل من حضر، ثم قال: أدخلوه علي وأقبل علينا ؛ ثم قال: سمعتم هكذا قط ! هذا الشيطان لا يترك أحداً يغضب عليه !.فدخل إليه فقبل الأرض بين يديه ؛ فدعاه المعتصم إليه فأعطاه يده فقبلها وأمره بإحضار عوده فأحضره، وأعاده إلى مرتبته.وأخباره كثيرة، وفيما أوردناه منها كفاية.وكانت وفاته في أول خلافة المتوكل ؛ وقيل: بل في آخر خلافة الواثق.وغنى خمسةً من الخلفاء: الرشيد والأمين والمأمون والمعتصم والواثق.رحمهم الله تعالى.

شارك هذه الصفحة:

تابع موسوعة الأدب العربي على شبكات التواصل الإجتماعي