نهاية الأرب في فنون الأدب/أخبار أبي زيد الدلال

من موسوعة الأدب العربي
اذهب إلى:تصفح، ابحث

أخبار أبي زيد الدلال

هو أبو زيد ناقدٌ مدنيٌ، مولى عائشة بنت سعيد بن العاص، وكان مخنثاً. قال إسحاق:لم يكن في المخنثين أحسن وجهاً ولا أنظف ثوباً ولا أظرف من الدلال.قالوا: ولم يكن بعد طويس أظرف منه ولا أكثر ملحاً.وكان كثير النوادر نزر الحديث، فإذا تكلم أضحك الثكالى، وكان ضاحك السن، ولم يكن يغني إلا غناءً مضعفاً يعني كثير العمل. وقال أيوب بن عباية:شهدت أهل المدينة إذا ذكروا الدلال وأحاديثه طولوا رقابهم وفخروا به، فعلمت أن ذلك لفضيلةٍ كانت عنده.قالوا: وكان مبتلىً بالنساء والكون معهن، فكان يطلب فلا يقدر عليه.وكان صحيح الغنخاء حسن الجرم.قالوا: وإنما لقب بالدلال لشكله وحسن ظرفه ودله وحلاوة منطفه وحسن وجهه.وكان مشغوفاً بمخالطة النساء يكثر وصفهن للرجال.وكان يشاغل كل من يجالسه عن الغناء بأحاديث النساء كراهةً منه للغناء.وكان إذا غنى أجاد، كما حكاه أبن الماجشون عن أبيه قال: غناني الدلال يوما بشعر مجنون بني عامر، فلقد خفت الفتنة على نفسي.وأستحضره سليمان بن عبد الملك من المدينة سراً وغناه وأقام عنده شهرا ثم صرفه إلى الحجاز مكرما. قال الأصمعي:حج هشام بن عبد الملك ؛ فلما قدم المدينة نزل رجلٌ من أشراف أهل الشام وقوادهم بجنب دار الدلال، فكان الشامي يسمع غناء الدلال ويصغي إليه ويصعد فوق السطح ليقرب من الصوت، ثم بعث إلى الدلال: إما أن تزورنا وإما أن نزورك.فبعث إليه الدلال بل تزورنا.فبعث الشامي ما يصلح ومضى إليه بغلامين من غلمانه كأنهما درتان مكنونتان.فغناه الدلال، فأستحسن الشامي غناءه فقال: زدني ؛ قال: أو ما يكفيك ما سمعت ! قال: لا والله ما يكفيني.قال: فإن لي حاجة.قال: وما هي ؟ قال: تبيعني أحد هذين الغلامين أو كليهما، فقال: أختر أيهما شئت، فأختار أحدهما، فقال له الشامي: هو لك ؛ فقبله منه الدلال، ثم غناه وغنى:

دعتني دواعٍ من أريّا فهيّجت

هوىً كان قدماً من فؤاد طروب

لعل زماناً قد مضى أن يعود لي

فتغفر أروى عند ذاك ذنوبي

سبتني أريّا يوم نعف محسّرٍ

بوجهٍ جميلٍ للقلوب سلوب

فقال له الشامي: أحسنت.ثم قال له أيها الرجل الجميل، إن لي إليك حاجةً، قال الدلال: وما هي ؟ قال: أريد وصيفةً ولدت في حجر صالح ونشأت في خير، جميلة الوجه مجدولةً وضيئةً جعدةً في بياض مشربةً حمرةً حسنة الهامة سبطةً أسيلة الخد عذبة اللسان لها شكلٌ ودلٌ تملأ العين والنفس.فقال له الدلال: قد أصبتها لك، فما لي عندك إن دللتك عليها ؟ قال: غلامي هذا.قال: إذا رأيتها وقبلتها فالغلام لي ؟ قال نعم.قال: فأتي أمرأةً كنى عن أسمها، فقال لها: جعلت فداءك ! نزل بقربي رجلٌ من قواد هشام، له ظرف وسخاءٌ، وجاءني زائرا فأكرمته، ورأيت معه غلامين كأنهما الشمس الطالعة المنيرة والكواكب الزاهرة ما وقعت عيني على مثلهما ولا يطول لساني بوصفهما، فوهب لي أحدهما والآخر عنده، وإن لم يصر إلي فنفسي ذاهبةٌ.قالت: وتريد ماذا ؟ قال: طلب مني وصيفةً على صفةٍ لا أعلمها إلا في أبنتك، فهل لك أن تريد إياها ؟ قالت: وكيف لك بأن يدفع الغلام إليك إذا رآها ؟ قال: إني قد شرطت عليه ذلك عند النظر لا عند البيع.قالت: شأنك، لا يعلم هذا أحد.فمضى الدلال وأتى بالشامي.فلما صار إلى المرأة وضع له كرسيٌ وجلس.فقالت له المرأة: أمن العرب أنت ؟ قال نعم.قالت: من أيهم ؟ قال: من خزاعة.قالت: مرحبا بك وأهلا ! أي شيء طلبت ؟ فوصف لها الصفة.قالت: قد اصبتها ؛ وأسرت إلى جارية لها فدخلت فمكثت هنيهة ثم خرجت فنظرت فقالت: أخرجي، فخرجت وصيفةٌ ما رأى الراءون مثلها.فقالت لها: أقبلي فأقبلت، ثم قالت: أدبري فأدبرت تملأ العين والنفس، فما بقي منها شيء إلا وضع يده عليه.فقالت له: أتحب أن نؤزرها لك ؟ قال نعم.قالت: أئتزري ؛ فضمها الإزار وظهرت محاسنها الخفية ؛ فضرب بيده إلى عجيزتها وصدرها.ثم قالت: أتحب أن نجردها لك ؟ قال نعم.قالت: أي حبيبتي وضحي ؛ فألقت الإزار فإذا أحسن خلق الله كأنها سبيكةٌ.فقالت: يا أخا العرب، كيف رأيت ؟ قال: منية المتمني.قال: بكم تقولين ؟ قالت: ليس يوم النظر يوم البيع، ولكن تعود غداً حتى نبايعك فلا تنصرف إلا عن رضاً، فأنصرف من عندها.فقال له الدلال: أرضيت ؟ قال: نعم، ما كنت أحسب أن مثل هذه في الدنيا، وإن الصفة لتقصر دونها، ثم دفع إليه الغلام الثاني.فلما كان من الغد قال له الشامي: أمض بنا.فمضيا حتى قرعا الباب، فأذن لهما فدخلا فسلما، فرحبت المرأة بهما ثم قالت للشامي: أعطنا ما تبذل ؛ فقال: ما لها عندي ثمنٌ إلا وهي أكثر منه، فقولي أنت يا أمة الله.قالت: بل قل أنت، فإنا لم نوطئك أعقابنا ونحن نريد خلافك وأنت لها رضاً.قال: ثلاثة آلاف دينار.قالت: والله لقبلةٌ منها خيرٌ من ثلاثة آلاف دينار.قال: أربعة آلاف دينار.قالت: غفر الله لك أعطنا أيها الرجل.قال: والله ما معي غيرها ولو كان لزدتك إلا رقيقٌ ودواب.قالت: ما أراك إلا صادقاً، أتدري من هذه ؟ قال: تخبريني.قالت: هذه ابنتي فلانة بنت فلانة وأنا فلانة بنت فلان، قم راشداً.فقال للدلال: خدعتني.قال: أو ما ترضى أن ترى ما رأيت من مثلها وتهب مائة غلام مثل غلامك ؟ قال: أما هذا فنعم.وخرجا من عندها. والدلال أحد من خسى من المخنثين بالمدينة لما أمر سليمان بن عبد الملك عامله على المدينة أبا بكر بن عمرو بن حزمٍ بخصيهم.

شارك هذه الصفحة:

تابع موسوعة الأدب العربي على شبكات التواصل الإجتماعي