نهاية الأرب في فنون الأدب/أخبار أبي عبد الله الشيعي
أخبار أبي عبد الله الشيعي
داعي المغرب وما كان من أمره وكيف ظهر وما فتحه من بلاد المغربقال أبو إسحاق إبراهيم بن القاسم الكاتب المعروف بابن الرقيق، في تاريخ إفريقية، وغير ابن الرقيق ممن ذكر أخبار هذه الدولة: كان أبو عبد الله الشيعي من أهل الكوفة، وقيل من أهل صنعاء، واسمه الحسين ابن أحمد بن زكريا، فاتصل بالذي يدعى أنه الإمام، وهو ابن القداح الذي ذكرناه المختلف في نسبه، فأرسله إلى أبي القاسم الحسن بن حوشب الكوفي النجار، وهو المعروف بالصناديقي، داعيتهم باليمن وكتب إليه أن ينصره ويرشده، وقال لأبي عبد الله: امتثل سيرته، وانظر إلى مخارج أفعاله فاعمل بها، ثم اذهب إلى المغرب.فخرج حتى انتهى إلى أبي القاسم، فأنزله وأكرمه، وأقام عنده من وقت انصراف الحاج من مكة إلى اليمن إلى وقت خروجهم في العام المقبل.فخرج أبو عبد الله مع الحاج إلى مكة. فلما قضى الناس حجهم واستقروا بمنى جعل الشيعي يمشي بمنى وينظر إلى الناس، فمر بجماعة من كتامة وهم في رحالهم، وكانوا من الشيعة الذين تشيعوا بسبب الحلواني وفيهم حريث الجيملي وموسى بن وجاد، فسمعهما الشيعي يذكران لأصحابهما فضائل علي بن أيطالب، رضي الله عنه، فجلس إليهما وذكر من ذلك شيئاً، وأقبل القوم وحدثهم طويلاً، ثم نهض ليقوم فقاموا معه، ومشوا بمشيه، وعرفوا مكانه، ثم أتوا من الغد فأوسع لهم الحديث، فزادهم ذلك فيه رغبة، وعليه إقبالاً، ثم صحبهم في طول الطريق بعد انصرافهم من الحج إلى أن وصلوا إلى مصر، وهم يبالغون في خدمته، ويرحلون برحيله، وينزلون بنزوله، وهو يسألهم عن بلادهم في خلال ذلك، وعن طاعتهم لملوكهم، فيقولون ما علينا طاعة لهم، وهو لا يعرض لهم بقصده ولا رغبته في بلادهم، فلما أتوا مصر أظهر أنه يريد الإقامة بها، فتألموا لفراقه، وقالوا ما الذي تقصد بمقامك في مصر ؟ قال: التعليم، فسألوه أن يصحبهم إلى بلادهم وأنهم يوجبون له على أنفسهم أجرة كل سنة، وما أوجب.ولم يجبهم إجابة كلية ؛ ورغبتهم كل يوم تزيد فيه، فأجابهم إلى الخروج معهم، ففرحوا بذلك واستبشروا، وجعلوا يزيدون في بره، ويقولون له: عندنا كثير من إخوانك ومن يذهب إلى مذهبك، ولو رأوك ما رضوك إلا شيوخهم، فضلاً عن صبيانهم ؛ ولسنا نخليك للتعليم بل نعدك لما هو أعظم منه. فلما عزم على المسير معهم جمعوا له دنانير وأتوه بها، فامتنع من قبولها، وقال لم يكن مني ما يوجب ذلك، فعظم في أنفسهم، وزادت هيبته في صدورهم.وخرجوا به من مصر، وساروا حتى إذا كان بسوجمار من أرض سماتة، تلقاهم رجال من الشيعة، فأخبروهم بخبر الشيعي، ونظروا إلى تعظيم الكتاميين له ؛ فرغب كل واحد منهم أن يكون نزوله عنده، حتى رموا عليه السهام، فخرج سهم أبي عبد الله الأندلسي فنزل عنده، ونزل كل واحد على صاحبه.وأصاب أبو عبد الله عندهم من علم الشيعة أصلاً قوياً، فزاد في الكلام معهم، فأجلوه. ثم سار القوم فدخلوا حد الكتامة يوم الخميس النصف من شهر ربيع الأول سنة ثمانين ومائتين، ومعهم أبو عبد الله الأندلسي وأبو القاسم الورفجومي، فأراد كل واحد من الكتاميين نزول الشيعي عنده، وتنازعوا في ذلك حتى خيروه في النزول، فقال أي موضع عندكم فج الأخيار ؟ قالوا: عند بني سكتان فقال: فإياه نقصد، ثم نأتي كل قوم منكم في موضعهم، ونزورهم في بيتوهم، ولا نجعل لأحد منكم حظاً من نفسي دون أحد إن شاء الله تعالى، فأرضاهم كلهم بذلك، وسار كل قوم إلى جهتهم، وسار الشيعي مع موسى بن حريث وأبي القاسم الورفجومي وأبي عبد الله الأندلسي إلى إيكجان موضع موسى بني سكتان.قال ولما نزل عبد الله بإيجكان ومضى كل معه من الحجيج إلى مرافقهم أخبروا من قدموا عليه من أصحابهم بخير، ووصفوه لهم مع الناس، فتسامع الناس به، وأقبلوا إليه من كل ناحية ؛ فكان يجلس لهم ويحدثهم بظاهر فضائل على رضي الله عنه. قال: فاتصل خبر الشيعي بإبراهيم بن أحمد صاحب إفريقية، فكتب إلى موسى بن عياش يسأل عن خبره فضعف موسى أمره فكتب إليه ثانياً وأرسل ابن المعتصم المنجم، وأمر إبراهيم بن أحمد موسى بن عياش أن يتلطف في اتصاله إلى أبي عبد الله، وأن يختبر أحواله، ويأتيه بصحيح خبره، وأوصاه بوصايا أمره أن يذكرها له. فلما وصل إلى موسى أرسل إلى بني سكتان يخبرهم أن إبراهيم قد بعث برجل إلى أب يعبد الله ليجتمع به.فرفع ذلك إلى أبي عبد الله، فأذن له.فلما انتهى إليه قربه وأقبل عليه، فقال له ابن المعتصم: إن الأمير إبراهيم ابن أحمد وجهني إليك برسالة، فإن أذنت لي أديتها.فقال له: أدّ رسالتك قال: وأنا آمن ؟ قال: نعم.فقال: يقول لك الأمير: ما حملك على التعرض لسخطي، والوثوب في ملكي، وإفساد رعيتي، والخروج علي ؛ فإن كنت تبتغي عرضاً من أعراض الدنيا فإنك تجده عندي، وإن أنت تلافيت أمرك، ورجعت عن غيك، فصر إلى وأنت آمن ؛ فإن أردت المقام ببلدنا أقمت، وإن أحببت الانصراف انصرفت.وإن كان قصدك قصد من سولت له نفسه الخلاف على الأئمة، واستفساد جهلة الأمة، فلقد عرفت عواقب من تمنيه نفسه أمنيتك، وسولت له ما سولت لك، من الهلاك العاجل، قبل سوء المصير في الآجل.ولا يغرنك ما رأيت من إقبال هؤلاء الأوباش عليك، وأتباعك، فإني لو صرفت وجهي إليك لأسلموك، وتبرءوا منك، واعلم أني أردت الأعذار إليك، لاستظهار الحجة عليك، وهذا أول كلامي وآخره، لا أقبل لك بعد هذا توبة، ولا أقيلك عثرة، ولا أجعل جواب ما يمكن منك إلا النهوض إليك بنفسي، وجميع أبطال رجالي، وأنصار دولتي، وجملة أهل مملكتي فعند ذلك تندم حين لا ينفعك الندم، ولا تقبل منك التوبة، فانظر في يومك لغدك، وقد أعذر إليك من انذر. فقال له أبو عبد الله الشيعي: قد قلت فاسمع، وبلغت فابلغ: ما أنا ممن يروع بالإيعاد، ولا ممن يهوله الإبراق والإرعاد.فأما تخويفك إياي برجال مملكتك، وأنصار دولتك، أبناء حطام الدنيا، الذين يقتادون لك سائق، ويجيبون كل داع وناعق، فإني في أنصار الدين، وحماة المؤمنين، الذين لا تروعهم كثرة أنصار الباطل، مع قول الله تعالى، وهو أصدق القائلين: 'كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله، والله مع الصابرين' فأما ما أطمع به من دنياه وعرضه من زبدها وحطامها، فلست من أهل الطمع فأميل إليه، ولا ممن يرغب فيما عنده فيأته.وإنما بعثت رسولاً لأمر قد حم وقرب، فإن سولت له نفسه ما وعد به، ودعته إليه، فسوف يعلم أن الله عز وجل من ورائه ولن تغني عنه فئة شيئاً ولو كثرت وأن الله مع المؤمنين فهذا جواب ما جئت به، فبلغه إن شاء الله. قال: ولما اشتهر أمر الشيعي ببلد كتامة، ونظر رؤساء القبائل وولاة البلدان فلم يروا في إبراهيم بن أحمد نهضة في أمر، وخافوا على زوال الرئاسة من أيديهم، وتقديم من يسارع إلى أمره عليهم، ممن كانوا يرونه دونهم، كتب بعضهم إلى بعض في ذلك، فاجتمعوا وتعاقدوا.وكان ممن سعى في ذلك موسى بن عياش صاحب ميلة، وعلى بن عسلوجة صاحب سطيف وحي بن تميم صاحب بلزمه وكل هؤلاء أمراء هذه المدن، وعندهم العدة والعدة والأموال الكثيرة والنجدة، والقوة، ومن مقدمي كتامة وكبارهم وولاة أمورهم: فتح بن يحيى المشالي، وكان يقال له الأمير، ومهدي بن كناره، رئيس لهيصة، وقرح بن خيران، رئيس أجاته، وثميل بن فحل رئيس لطاية، واستعملوا آراءهم في أخذ الشيعي فعلموا، أنهم لا يقدرون عليه عنوة من أيدي بني سكتان لأنهم يمنعونه، ويجتمع عليهم جميلة وغيرها من قبائل كتامة، فتفرق ذات البين، ويكون ذلك داعية إلى أن يجعلوا له أنصاراً، وتصير كتامة فريقين، ولم يأمنوا سوء العواقب، فقصدوا بنان بن صقلان، وهو من وجوه بني سكتان، ولم يكن له يومئذ دخل في أمر الشيعي، وأرسلوا جماعة منهم إليه، وبعثوا له أربعة أفراس وأغنماً وهدية، وقالوا له: إن هذا الرجل قد بدل الدين، وفرق الجماعة، وشتت الكلمة، وأدخل الاختلاف بين الأقارب وقد قصدناك في أمره، وأملكناك في قطع هذا المكروه بأن تقبض على الشيعي وتخرجه من بلدنا، وتنفيه عنا إن كرهت قتله، ونجعل لك بعد ذلك بعد ذلك التقدمة على جميع كتامة والعرب، فيكون لك شرف الدنيا وفخرها، وثواب الآخرة وأجرها، وتزيل عن أهل بيتك مكروهاً، وتقطع عنهم شراً، واخذوا معه في ذلك وحذروه عواقب السلطنة. فقال لهم بنان: هذا رجل صار بين أظهرنا، وهو ضيف عندنا، كيف ينبغي أن نفعل فيه مثل هذا الفعل، فتنازعوا في ذلك طويلاً، وكان آخر خطاب بنان لهم أن قال: الرأي أن نجمع العلماء إليهم فيناظرهم، فإن كان على حق فما أولانا وإياكم بنصرته وأتباعه، وإن كان على باطل عرفنا من اتبعه أن يرجعوا عنه. فانصرفوا إلى أصحابهم وأخبروهم بما كان من بنان، فخافوا أن تقوم حجته، ويستحكم أمره، فتزول رئاستهم بسببه.فاجمعوا على أن يمضوا في جماعة ويظهروا أنهم أثو بالعلماء، فإذا خرج إليهم قتلوه، وانصرفوا على حمية. فاجتمعوا في عدد عظيم من الخيل والرجل، فلما رآهم بنو سكتان ركبوا خيولهم ؛ والتقى الجمعان.فقالوا لبنان إنما أتيناك لما كان بيننا وبينك.فقال: إنما كان بيننا أن تأتوا بالعلماء، وقد أتيتم بالزحف والعدة، وعلا الكلام بينهم، فالتحم القتال، وتداعت جيملة من كل مكان ؛ فانهزم القوم، وانصرف عنهم بنو سكتان، وكان الشيعي قد سير في مبادئ هذا الأمر، وخاف عليه أصحابه. ثم أرسل الجماعة بناناً مرة ثانية، وقالوا: قد كنا أخطأنا فيما أتينا به من الجمع، ولم يكن ذلك عن قصد، ولكن تسامع الناس بنا فتبعونا.وقد رجوناك لإصلاح جماعتنا، وقدمناك، واخترناك لأنفسنا، لتحقن دماءنا، وتجمع ما تبدد من شملنا، فقد عادى من أجل هذا الرجل من أهل المشرق، وهم كما علمت شياطين، وعلماؤنا بربر، وقوم ليست لهم تلك الأذهان ؛ ناظروه يظهر عليهم ولم يجدوا حجة.يحتجون بها عليه.وقالوا له: أترى نحن وآباؤنا والناس كلهم في ضلالة، وهذا وحده على الحق والهدى، وكرروا عليه ما وعدوه به من التقدمة عليهم ؛ فأصغى إليهم ووعدهم أن يتلطف في إخراجه.فجعل يتكلم في ذلك ويحتج على أهل بيته، ويخوفهم العواقب ؛ فاتصل كلام بنان بالشيعي فانتقل عنهم.