نهاية الأرب في فنون الأدب/أخبار أخبار معبد اليقطيني
أخبار أخبار معبد اليقطيني
قال أبو الفرج: كان معبد هذا غلاماً مولداً من مولدي المدينة، أخذ الغناء عن جماعة من أهلها، واشتراه بعض ولد على بن يقطين.واخذ الغناء بالعراق عن إسحاق وابن جامع وطبقتهما، وخدم الرشيد ولم يخدم غيره من الخلفاء، ومات في أيامه.وكان أكثر انقطاعه إلى البرامكة.وروى أبو الفرج الأصفهاني حكايةً عنه أحببت أن أذكرها في هذا الموضع، وهي ما رواه بسنده إلى محمد بن عبد الله بن مالك الخزاعي، قال حدثني معبد الصغير المغني مولى علي بن يقطين قال: كنت منقطعاً إلى البرامكة أحدثهم وألازمهم.فبينما أنا ذات يومٍ في منزلي إذ أتاني آتٍ فدق بابي، فخرج غلامي ثم رجع إلي فقال لي: على الباب فتىً ظاهر المروءة يستأذن عليك، فأذنت له، فدخل شابٌ ما رأيت أحسن وجهاً منه ولا أنظف ثوباً ولا أجمل زياً منه من رجلٍ دنفٍ عليه آثار السقم ظاهرة.فقال لي: إني أحاول لقائك منذ مدة ولا أجد إلى ذلك سبيلاً، وإن لي حاجةً.فقلت: وما هي ؟ فأخرج ثلاثمائة دينار فوضعها بين يدي فقال: أسألك أن تقبلها وتصنع في بيتين قلتهما لحناً تغنيني به.فقلت: هاتهما فأنشدني:
والله يا طرفي الجاني على بدني
لتطفئن بدمعي لوعة الحزن
أو لأبوحن حتى يحجبوا سكني
فلا أراه وقد أدرجت في كفني
قال: فصنعت فيه لحناً ثم غنيته إياه، وأغمي عليه حتى ظننته قد مات، ثم أفاق فقال أعد، فديتك ! فناشدته الله في نفسه وقلت: أخشى أن تموت، فقال: هيهات ! أنا أشقى من ذلك.وما زال يخضع لي ويتضرع حتى أعدته، فصعق صعقةً أشد من الأولى حتى ظننت أن نفسه قد فاضت.فلما أفاق رددت عليه الدنانير فوضعتها بين يديه، وقلت: يا هذا، خذ دنانيرك وانصرف عني، قد قضيت حاجتك وبلغت وطراً مما أردته، ولست أحب أن أشرك في دمك.فقال: يا هذا، لا حاجة لي في الدنانير، وهذه مثلها لك، ثم أخرج ثلاثمائة دينارٍ فوضعها بين يدي وقال: أعد الصوت علي مرةً أخرى وحلٌ لك دمي ! فشرهت نفسي في الدنانير، وقلت: لا والله ولا بعشرة أضعافها إلا على ثلاث شرائط.قال: وما هي ؟ قلت: أولاهن أن تقيم عندي وتتحرم بطعامي.والثانية أن تشرب أقداحاً من النبيذ تطبب قلبك وتسكن ما بك.والثالثة أن تحدثني بقصتك.قال: أفعل ما تريد.فأخذت الدنانير ودعوت بطعامٍ فأصاب منه إصابة معذرٍ، ثم دعوت بالنبيذ فشرب أقداحاً، وغنيته بشعر غيره في معناه وهو يشرب ويبكي، ثم قال: الشرط أعزك الله ! فغنيته صوته فجعل يبكي أحر بكاءٍ وينشج أشد نشيجٍ وينتحب.فلما رأيت ما به قد خف عما كان يلحقه ورأيت النبيذ قد شد قلبه، كررت عليه صوته مراراً.ثم قلت: حدثني حديثك، فقال: أنا رجلٌ من أهل المدينة خرجت متنزهاً في ظاهرها وقد سال العقيق في فتيةٍ من أقراني وأخداني، فبصرنا بفتياتٍ قد خرجن لمثل ما خرجنا له، فجلسن حجرةً منا، وبصرت منهن بفتاةٍ كأنها قضيبٌ قد طله الندى، تنظر بعينين ما ارتد طرفهما إلا بنفس من يلاحظهما.فأطلنا وأطلن حتى تفرق الناس، وانصرفن وانصرفنا وقد أبقت بقلبي جرحاً بطيئاً اندماله، فعدت إلى منزلي وأنا وقيذ، وخرجت من الغد إلى العقيق وليس به أحدٌ فلم أر لها ولا لصواحبها أثراً، ثم جعلت أتتبعها في طرق المدينة وأسواقها، وكأن الأرض أضمرتها فلم أحس لها بعينٍ ولا أثر، وسقمت حتى أيس مني أهلي.وخلت بي ظئري فاستعلمتني حالي وضمنت لي كتمانها والسعي فيما أحبه منها، فأخبرتها بقصتي، فالت: لا بأس عليك، هذه أيام الربيع وهذه سنة خصبٍ وأنواءٍ وليس يبعد عنك المطر، ثم هذا العقيق فتخرج حينئذٍ وأخرج معك فإن النسوة سيجئن، فإذا فعلن ورأيتها اتبعها حتى أعرف موضعها ثم أصل بينك وبينها وأسعى لك في تزويجها.فكأن نفسي اطمأنت إلى ذلك ووثقت به وسكنت إليه، فقويت وطعمت وتراجعت إلى نفسي.وجاء مطرٌ بعقب ذلك وسال العقيق وخرج الناس وخرجت مع إخواني إليه، فجلسنا مجلسنا الأول بعينه، فما كنا والنسوة إلا كفرسي رهان، فأومأت إلى ظئري فجلست، وأقبلت على إخواني فقلت: لقد أحسن القائل:
رمتني بسهمٍ أقصد القلب وانثنت
وقد غادرت جرحاً به وندوبا
فأقبلت على صواحباتها وقالت: أحسن والله القائل، وأحسن من أجابه حيث يقول:
بنا مثل ما تشكو فصبراً لعلنا
نرى فرجاً يشفي السقام قريباً
فسكت عن الجواب خوفاً من أن يظهر مني ما يفضحني وإياها، وعرفت ما أرادت.ثم تفرق الناس وانصرفنا، وتبعتها ظئري حتى عرفت منزلها، وصارت إلي فأخذت بيدي ومضينا إليها، فلم نتلطف حتى وصلت إليها، فتلاقينا وتزاورنا على حالٍ مخالسةٍ ومراقبةٍ، حتى شاع حديثي وحديثها وظهر ما بيني وبينها، فحجبها أهلها وسدوا أبوابها، فما زلت أجهد في لقائها فلا أقدر عليه، وشكوت ذلك إلى أبي لشدة ما نالني وسألته خطبتها لي.فمضى أبي ومشيخة أهلي إلى أبيها فخطبوها، فقال: لو كان بدأ بهذا قبل أن يفضحها ويشهرها لأسعفته بما التمس، ولكنه قد فضحها فلم أكن لأحقق قول الناس فيها بتزويجه إياها، فانصرفت على يأسٍ منها ومن نفسي.قال معبد: فسألته أن ينزل بجواري، وصارت بيننا عشرة.ثم جلس جعفر بن يحيى ليشرب فأتيته، فكان أول صوتٍ غنيته صوتي في شعر الفتى، فشرب وطرب عليه طرباً شديداً، وقال: ويحك ! إن لهذا الصوت حديثاً فما هو ؟ فحدثته، فأمر بإحضار الفتى فأحضر من وقته، واستعاده الحديث فأعاده، فقال: هي في ذمتي حتى أزوجك إياها، فطابت نفسه وأقام معنا ليلتنا حتى أصبح، وغدا جعفر إلى الرشيد فحدثه الحديث، فعجب منه وأمر بإحضارنا جميعاً فأحضرنا، وأمر بأن أغنيه الصوت فغنيته إياه وشرب عليه وسمع حديث الفتى، فأمر من وقته بكتابٍ إلى عامل الحجاز بإشخاص الرجل وابنته وجميع أهله إلى حضرته، فلم تمض إلا مسافة الطريق حتى أحضروا.فأمر الرشيد بإحضار أبي الجارية إليه فأحضر، وخطب إليه الجارية للفتى وأقسم عليه ألا يخالف أمره، فأجابه وزوجها إياه، وحمل إليه الرشيد ألف دينارٍ لجهازها وألف دينارٍ لنفقة طريقه، وأمر للفتى بألف دينارٍ ولي بألف دينار، وأمر جعفرٌ لي وللفتى بألف دينار.وكان المديني بعد ذلك من ندماء جعفر بن يحيى.