أخبار أنطاكية
ذهب المفسرون لكتاب الله تعالى في قوله تعالى: 'واضرب لهم مثلا أصحاب اقرية إذ جاءها المرسلون' أن القرية أنطاكية. وقال اصحاب الأخبار فيها: إن الملك أنتيوخس قصد بناء مدينة يعمرها ليكون نسبتها إليه، فسير حكماه ووزراه لاختيار مكان يكون طيب الهواء والماء، قريبا من البحر والجبل، فوجدوا هذا المكان.فاختاروه لأنه جبلي بحري يحكم عليه الهواء الغربي، وعيون المياه العذبة حوله والبحيرة الحلوة شرقية، والبحر المقلوب وهو العاصي، خارج سورها وعليه طواحينها، وفيه المراكب تحمل الغلات إليها وغير ذلك فعرفوا ملكهم هذه الصفات، فأمر ببنائها، وأخرج النفقات، وطلبوا حجرا جيدا لبنائها، فوجدوه في مسافة يومين منها.فاستخدم لها من الرجال والبنائين ثمانين ألف رجل وثمانمائة رجل، ومن العجل ستمائة عجلة، وألف وتسعمائة حمار، ومائة زروق لنقل الحجارة، خارجا عما في ميناء السويدية من العجل والرجال والزوارق التي تحمل الرخام والعمد والقواعد.فنجزت في ثلاث سنين ونصف، وبنيب أسوارها وأبراجها وهي مائة وثلاثة وخمسون برجا، ومائة وثلاثة وخمسون بدنة، وسبعة أبواب، منها خمسة كبار وبابان صغارا.وجعل فيها سبع عوادي ترمي إلى النهر عند الوادي المسمى الحسكروت، وجعل منه باب في الجبل ينزل منه إلى المدينة، وعليه قناطر يعبر الناس عليه، وإذا امتلئ يخرج من تحت السور، وساقوا الملء إليها في قناتين: البوليط والعاوية. ولما فرغت حضر الملك إليها ورأها فأكرم الصناع ومد لهم طعاما ثلاثة أيام، وأمر ببناء الأدر والدكاكين، فشرع الناس في بنائها ووهب كل من يحضر إليها وينزل حولها خراج ثلاث سنين، وبنى الكنائس وبيوت عباداتهم فاجتمع العالم إليها. واتفق أن الملك جلس في بعض الأيام وهو مسرور فرح، فقال له وزيره: 'لو عرفت ما أنفقت في هذه المدينة ما كنت تفرح' فاستيقظ لنفسه وأمر بعمل حساب ماأنفق فيها سوى الضيافات والجواميس التي أخذت من المروج والبهائم بغير ثمن، فجاء أربعة آلاف قنطار وخمسين قنطارا ذهبا، فعظم ذلك عنده، وأمك عن العمارة، وشرع في بناء المدائن تغل، فبنى سبع مدائن، وأسكن الناس فيها.واستمرت في يد الملك ومن ملك بعده، وعمارتها تتزايد، وكل ملك يؤثر بها تأثيرا ويجدد بها طلسما إلى أن ظهر المسيح عليه السلام. وما زالت في يد الروم إلى أن فتحها المسلمون في خلافة عمر بن الخطاب، رضي الله عنه كما قدمناه في خلافته.ولما ولي معاوية بن ابي سفيان نقل إلى أنطاكية في سنة اثنتين وأربعين جماعة من الفرس وأهل بعلبك وحمص، وكان منهم: مسلم بن عبد الله جد عبد الله بن حبيب بن مسلم الأنطاكي.ولم تزل بيد عمال الخلفاء في الدولتين الأموية والعباسية، ثم استقرت في يد بني حمدان.فلما مات سيف الدولة ابن حمدان اتفق أهلها أنهم لا يمكنون أحدا من الحمدانية يدخلها، وولوا شخصا يسمى بغلوش الكردي، وكان قد ورد الغزاة من خراسان خمسة آلاف رجل فأمسكهم وتقوى بهم واشتد أمره، وكان منهم رجل أسود من الصعاليك يعرف بالزعلي قد جمع طائفة وسموا نفوسهم بالغزاة.فدخل يوماً عليه السلام، فقتل الكردي وهرب أصحابه، واستولى الأسود على المدينة هو ومن معه.وكان في بغراس نائب للروم اسمه ميخائيل البرجي وبطرس.فحضرا إليها في جمع كبير، فعجز المسلمون عن حفظها لاتساعها، فملكها الروم في يوم الخميس لثلاث عشرة خلت من ذي الحجة سنة ثمان وخمسين وثلاثمائة.فطرح المسلمون النار بينهم وبين الروم، وفتحوا باب البحر وخرجوا منه.وأسر الروم جميع من كان المسلمين، فتقوى الروم بفتحها، وتوجهوا إلى حلب فصالحهم أهلها وأهل حمص على ما يحمل في كل سنة إلى ملك الروم وهو عشرة قناطير ذهبا، ومن كل مسلم دينار سوى ذوي العاهات، وأقامت إلى سنة ست وستين وثلاثمائة، فسير جعفر بن فلاح غلامه 'فتوحا' إلى أنطاكية فحاصرها خمسة أشهر فلم يظفر بها.وحدثت في هذه السنة زلزلة عظيمة هدمت قطعة من سورها فأنفذ ملك روم ثانيا، أثني عشر ألف دينارا وصناعا لاصلاح ذلك، فبنيت أحسن ما كانت.وبنى فلعتها لاون بن الفقاس وحصنها، وكان في خدمته جماعة من الأرمن، ومات فكمل عمارتها الملك بسيل وهو الذي وجد له لما مات ستة آلاف قنطار ذهبا، ولما ولى كان في حاصل بيت المال أربعة قناطير لا غير، وهو الذي ملك أرجيش من بلاد أرمينية في سنة خمس عشرة وأربعمائة، وكان ملكه تسعا وأربعين سنة وأحدى عشر شهرا.وبقيت في أيدي الروم إلى أن فتحها الملك سليمان من قتلمش السلجقي في سنة سبع وسبعين وأربعمائة على ما أوردناه في أخبار الدولة السلجقية، وبقيت في يده إلى أن قتل في سنة تسع وسبعين وأربعمائة، فصارت بيد وزيره الحكم بن طاهر الشهر ستاني يتولى أمرها.فلما استرد السلطان ملكشاه بلاد الشام استردها وضمها إلى الوزير المذكور، فأقام بها إلى سنة إحدى وثمانين وأربعمائة، ثم فارقها 'الوزير' ودخل الروم، فسلمها لباغي شيان بن ألب 'أرسلان' وكانت بنته متزوجة للملك رضوان صاحب حلب. وحدثت زلزلة بأنطاكية في التاسع عشر من شعبان سنة أرلابعة وثمانين وأربعمائة خربت دورها وأهلكت خلقا كثيرا، ورمت من أبراجها نحو السبعين برجا، فتقدم السلطان بعمارة ما انهدم في سنة خمس وثمانين. واستمرت أنطاكية بيد ملوك الإسلام إلى أن ملكها الفرنج في جمادى الأولى سنة إحدى وتسعين وأربعمائة على ما قدمناه.وكان قد اجتمع عليها جماعة من ملوك الفرنج والملك الكبير المشار إليه منهم اسمه كند فري، فقرر أن كل ملك من الملوك يحاصرها عشرة أيام، ومن فتحت في نوبته فهي له، ففتح في نوبة ملك منهم اسمه ميمون.فلما اتصل ذلك بملوك الإسلام بالشام اجتمعوا ومقدميهم ظهير الدين طغرتكين صاحب دمشق، وجناح الدولة حسن صاحب حمص، وكربغا صاحب الموصل، وحاصروا أنطاكية، وكان الفرنج في قل، فسألوا الأمان ليخرجوا منها فلم يجيبوهم، ووقع تنافس بين المسلمين فخرج الفرنج إليهم فاتهزموا من غير قتال.وبقي ميمون مالكها حتى كسره الدانشمند وأسره وقتل أكثر عسكره، وذلك في سنة ثلاث وتسعين وأربعمائة، فاشترى نفسه بعد ذلك بمائة ألف دينار واستخلف ميمون فيها ولد أخيه طنكري، وركب في البحر وسار إلى بلاده ليستنجد الفرنج ويعود، فأهلكه الله تعالى.واستمر طنكري ملكا لأنطاكية وأعمالها إلى أن أهلكه الله تعالى في ثاني عشر شهر ربيع الأول سنة ست وخمسمائة، وملكها بعده روجار.وكان طنكي قد استدعاه من بلده وجعله ولي عهده، وهو الذي حضر إلى بيت المقدس في ملك بغدوين، وكان بغدوين شيخا كبيرا، فاجتمعا بالبيت المقدس وقررا عهدا: أن من مات منهم قبل الآخر انتقل ملكه إلى الباقي منهما.وتزوج بنت بغدوين، فقتل روجار في حرب كانت بينه وبين نجم الدين إيلغازي بن أرتق في يوم السبت ثامن عشر شهر ربيع الأول سنة ثلاث عشرة وخمسمائة.فقتل روجار وجميع من معه، فسار بغدوين إلى أنطاكية وملكها، وأقام بها إلى أن وصل شاب، في ثامن عشر شهر رمضان سنة ست وعشرين وخمسمائة، من الفرنج في البحر وادعى أنه ميمون بن ميمون الذي كان صاحب أنطاكية، فسلم بغدوين أنطاكيه له فملكها، وكان شجاعا مقداما، وأقام بها إلى أن سار نحو الدروب فلقيه ابن الدانشمند فكسره وقتل جماعة من عسكره بأرض عين زرية، وذلك في نصف شهر رمضان سنة أربع وثلاثين وخمسمائة.ومثلك بعده الأبرنس، ولقي الملك العادل نور الدين محمود بن زنكي على حصن الأكراد في شهر رجب سنة ثلاث وأربعين وخمسمائة فكسر المسلمون وقتل جماعة منهم، واستولى الفرنج على أثقالهم.فجمع نور الدين العساكر، والتقاه في يوم الأربعاء الحادي والعشرين من صفر سنة أربع وأربعين وخمسمائة فقتله فرسانه واستولى على خيامه.وولى أنطاكية بعده الأبرنس أرناط، فأقام إلى أن لقيه مجد الدين أبو بكر الملك العادل في المملكة الحلبية، وذلك في صفر سنة إحدى وخمسين وخمسمائة فكسره وقتل أصحابه وأخذه أسيرا، فأقام في حبس الملك العادل وملك أنطاكية وهو في الأسر رجل من ذريته اسمه بيمند وخلص أرناد، وتزوج صاحبة الكرك وأقام بالحصن حتى ملكه السلطان الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب وقتله. وفي سنة أربع وثمانين وخمسمائة عقد السلطان الملك الناصر الكبير مبيمند صاحب أنطاكية هدنة لمدة ثمانية مائة أشهر من تشرين الأول إلى آخر آيار، وحلفا على ذلك، ورحل الناصر عنها وتوجه إلى حلب على ما ذكرناه في أخباره.ثم ملكها الإبرنس المعروف بالأسير، وملكها ابنه بعده، ثم ملكها بيمنده ولده أيضا، وهو الذي أخذت منه الآن في الدولة الظاهرية. هذا تلخيص خبر أنطاكية من حين عمرت إلى حين فتحت هذا الفتح.
ما اعتمده السلطان في قسمة غنائم وأنطاكية وإحراقه
قلعتها وما افتتحه مما هو مضاف إليها وهو: دير كوشوشقيق كفر دنين وشقيف كفر تلميسقال ولما قتحت أنطاكية وفرغ الناس من نهبها، رسم السلطان بإحضار المكاسب للقسمة، وركب وأبعد عن الخيام وحمل ما غنمه وما غنمه من مماليكه وخواصه.وقال للأمراء: 'ينبغي أن تخلصوا ذمتكم وتحضروا ما غنمتوه، وأنا أحلف الأمراء والمقدمين، وهم يحلفون أجنادهم ومضافيهم'.فأحضر الناس الأموال والمصاغ من الذهب والفضة، فطال الوزن، فقسمت النقود بالكاسات والشربوشات، ولم يبقى غلام إلا أخذ.وتقاسم الناس النسوان والبنات والأطفال وبيع الصغير بأثني عشر درهما، والجارية بخمسة دراهم وباشر السلطان القسمة بنفسه، وما ترك شيئا حتى قسمه من الأموال والمصوغ والدواب والمواشي.ثم ركب إلى قلعة أنطاكية وأحرقها وعم الحريق أنطاكية. وكان صاحب طرابلس قد استولى على عند أخذ التتار حلب على ديركوش، وهو من أمنع الحصون وعلى شقيف كفر دنين وعلى شقيف كفر تلميس، وكانت هذه الحصون شجى في حلق المسلمين.فلما فتحت أنطاكية انقطعت حيلة هذه الحصون فطلبوا الأمان على أنهم يسلمون الحصون ويؤسرون، فسير الأمير بدر الدين بيليك الأشرفي الظاهري، فتسلم دركوش في ليلة الجمعة حادي عشر شهر رمضان، وتسلم بقية هذه الحصون.
صلح القصير على المناصفة
كان القصير للبطرك الكبير خاصة، وزعموا أن بأيديهم خط عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فلما نزل السلطان في هذه الجهات بذلوا نصف البلاد للسلطان، فكتبت لهم هدنة، وانضاف إلى مملكة الإسلام نصف بلاد القصير.
فتوح حصن بغراس من الديوية
قال: ولما فتح الله تعالى هذه الحصون والجهات على السلطان ولم يبقى بتلك الجهات سوى بغراس، وخاف من بها من الديوية، فانهزموا وتركوا.فجهز السلطان الأمير أقسنقر 'الفرقاني' أستاد الدار العالية بعسكر فتسلمه في يوم السبت ثالث عشر شهر رمضان من السنة، ولم يجد به سوى امرأة عجوز، ووجده عامر بالحواصل والذخائر. وقال البلاذري: كانت أرض بغراس بمسلمة بن عبد الملك فوقفها في سهيل البر، ولما قصد المسلمون غزاة عمورية صحبة مسلمة، حمل هو والعسكر النساء معهم للجد في القتال.فلما صاروا في عقبة بغراس عند الطريق المستدقة التي تشرف على الوادي سقط جمل عليه امرأة، فأمر مسلم النساء أن يمشين فسميت تلك العقبة عقبة النساء.قال: وكان في تلك الطريق سباع لا يسلك فيها بسببها، فشكا الناس ذلك إلى الوليد بن عبد الملك فبعثت أربعة آلاف جاموسة وفحولها، فانكفأت السباع.ثم بناها بعد ذلك وحصنها أتم تحصين الملك نقفور ملك الروم الذي خرج إلى بلاد الشام في آخر سنة سبع وخمسين وثلاثمائةوقتل وسبى.ولما بنى هذه الحصن، الذي هو حصن بغراس.رتب فيه نائبا له يعرف بالبرجي، ورتب معه ألف رجل، وحصت بغراس.ثم ملكه الفرنج وما زالوا يتداولونه ويحصنونه على طول المدد، إلى أن ملكه السلطان الملك الناصر صلاح الدين بن أيوب، في ثاني شعبان سنة أربع وثمانين وخمسمائة، على ما قدمناه، ثم ملكه الديوية بعد ذلك.
الإغارة على صور
كانت قد تقررت مهادنة بين السلطان وبين صاحب صور، فلما توجهت الرسل إليه حلف على بعضها، واسقط فصولا لم يحلف عليها.فلما كان السلطان بالشام، في سنة سبع وستين وستمائة، ووقفت له امرأة ذكرت أنها كانت أسيرة في صور، وأنها اشترت نفسها ثم قطعت على بنت لها قطيعة، وحصلت من أوقاف دمشق مبلغا اشترتها به من صور بمكاتبة عليها خط الفرنج، ولما خرجت بها إلى قرب بلاد صفد سير خلفها جماعة من صور أخذوا البنت منها ونصروها.فلما سمع السلطان كلامها غضب الله تعالى وكتب يطلب هذه البنت، فاعتذروا بأنها تنصرت.وكان بالنواقير من جهة صفد جماعة 'من المسلمين' سير صاحب صور أمسكهم وقتل منهم نفرين واعتقل الباقيين.وطلبهم السلطان فأصروا على منعهم، فركب السلطان في العشرين من شهر رمضان، وساق بنفسه ومن معه من العسكر الخفيف، وتوجه الأمير جمال الدين المحمدي من جهة، والأتابك من جهة، ووصلوا إلى صور، فأمسكوا جماعة من الرجال والنساء والصغار، وهرب في ذلك الوقت للأمير جمال الدين أقش الرومي فنصره صاحب صور بوقته.وطلب منه فدافع عنه، وأمسك السلطان عن إتلاف زرعه ورد الحريم والأطفال ورجع إلى المخيم وأمهل عليه مدة، فلما استمر على منع البنت والملوك، جرد السلطان جماعة لاستغلال بلاده.
الإغارة على بلاد كركر وأخذ شرموشاك
وفي هذه السنة توجهت الغيارة في البيرة وغيرها إلى جهة كركر فأحرقوا بلدها وأخذوا مواشي، وتوجهوا إلى قلعة بين كركر والكختا اسمها شرموشاك، فزحفوا عليها وأخذوها وقتلوا رجالها ونهبوا من المواشي شيئا كثيرا، وأخرجوا من الفلاحين إلى البلاد السلطانية خلقا كثيرا، وأخذ الخميس من الغنيمة للديوان ورسم بترتيب الناجعين في البلاد الحمصية والشيزرية وجهة أنطاكية.
الإغارة على عكا
وفي سنة ثمان وستين وستمائة، توجه السلطان جريدة إلى الشام، وكان الفرنج بعكا اعتمدوا أشياء لا يصبر عليها: منها أن أربعة من مماليك السلطان هربوا ودخلوا عكا، فلما طلبهم منهم طلبوا العوض عنهم، فأنكر السلطان ذلك عليهم، فنصروهم، وذلك في سنة سبع وستين.فكنب السلطان إلى النواب بوقوع الفسخ، فأغار عليهم الأمير جمال الدين أقش الشمسي فقتل وأسر منهم جماعة.واتفقت حركة للسلطان إلى الحجاز فأطلق الذين أسروا، وعوق رسل الفرنج على إحضار المماليك، وأطلق منهم وزير الاستبار خاصة، لأنه كان يخدم السلطان.فلما كان في هذه السنة بلغ السلطان أن الفرنج وصل إليهم سفائن من جهة الردراكون، أحد ملوك الغرب فيها جماعة من أصحابه وأقاربه وكتبه، يقول فيها: إنه واعد أبعى بن هولاكو أنه يوافيه بالبلاد الإسلامية، وأنه واصل لمواعدته 'من جهة سيس في سفن كثيرة'، فأرسل الله تعالى ريحا مزعجة كسر عدة من سفائنه ولم يسمه لها خبر.وأما أهل عكا فإنهم خرجوا هم ومن وصل ليهم من الغرب إلى ظاهر عكا وخيموا وصاروا يركبون 'وتوجهت طائفة منهم إلى عسكر جينين وعسكر صفد'، وبلغهم أن السلطان وصل جريدة فتوهموا أنه لا يقصدهم.واتفق أن السلطان خرج متصيدا إلى جهة الحارسة، وعاد مسرعا وتوجه على أنه يتصيد في مرج برغوث.ولما وصل في أثناء الطريق إلى برج الفلوس سير الأمير عز الدين معن الظاهري السلاح دار لاحضار السلاح، وسير الأمير ركن الدين إياجي لإحضار العسكر الشامي كله، فتكامل الناس عنده في مرج برغوث في بكرة نهار الثلاثاء الحادي والعشرين في شهر ربيع، وركب وساق ووصل جسر يعقوب عشية النهار، فساق فأصبح الصبح وهو بأول المرج.وكان قد سير إلى الأمير جمال الدين الشمسي مقدم عسكر عين جالوت، والأمير علاء الدين إيدغدي مقدم عسكر صفد بالإغارة في ثاني وعشرين، وأنهم ينهزمون قدام الفرنج.فخرج جماعة من الفرنج مقدمهم كندلوفير المسمى زيتون، وفيهم أقارب الريداركون وغيرهم، ودخل السلطان الكمين فعندما خرج الفرنج لقتال العسكر الصفدي تقدم الأمير عز الدين إيغان الركني، وبعده الأمير جمال الدين الحاجبي، ومعهما أمراء الشام.وساق قدام السلطان الأمير شمس الدين إيتمش السعدي، والأمير علاء الدين كندغدي الظاهري أمير مجلس ومعهما مقدموا الحلقة.وقاتل الأمراء الشاميون أحسن قتال، وأمسك الأمير عز الدين إيغان فارسا اسمه ريمون دكوك.وأما السلطان ومن كان قدامه من الأمراء فما وصلوا إلى الأمراء المقدمين إلا والعدو قد انكسر فلم يحصل لهم اختلاط.وكان القتال شديدا تماسكوا فيه بالأيدي، وأكمن زيتون فجال العسكر بينهم واخذوا عليه وعلى أكابر الفرنج حلقة وقتل أخو زيتون وابن أخت الريدراكون، وجماعة من الخيالة، ونائب فرنسيس بعكا، ولم يعدم من عسكر الإسلام إلا الأمير فخر الدين الطونبا الفائزي.وعاد السلطان ورؤوس القتلى بين يديه إلى صفد، وتوجه منها إلى دمشق، فدخلها في يوم الأحد سادس وعشرين الشهر، والأسرى والرؤوس بين يديه.
فتوح قلعة صافيتا
وفي سنة تسع وستين وستمائة، توجه السلطان من الديار المصرية في عاشر جمادى الآخرة وصحبته ولده الملك السعيد، ودخل الملك السعيد إلى دمشق في ثامن شهر رجب، وخرج هو والأمير بدر الدين الخزندار من جهة القطيفة.وكان السلطان قد توجه من جهة بعلبك وتوجه من جهة بعلبك وتوجه إلى طرابلس، فقتل من رعاياها وأسر، واتصلت الغارة بصافيتا، فطلب من فيها الأمان، ثم نكثوا، فرحل عنهم السلطان وأنزل جماعة حولهم.فسير كمندور أنطرطوس إلى السلطان يشفع الإخوة الديوية بصافيتا، على أنه يأمرهم بالتسليم، فأجابهم الشسلطان إلى ذلك، فأرسل إليهم فنزلوا، وكانوا سبعمائة رجل، خارجا عن النساء والأطفال، وأحضروا إلى السلطان وهو على حصن الأكراد، فأطلقهم وجهز معهم من أوصلهم إلى مأمنهم، وتسلم السلطان صافيتا وبلادها، وتسلمت الحصون والأبراج المجاورة لحصن الأكراد، مثل تل خليفة وغيره. وقد ذكرنا ما كان وقع من المهادنة على حصن الأكراد والمرقب، ثم اتفق من بيت الاسبتار أمور أوجبت فسخ الهدنة: منها أن السلطان لما أغار على طرابلس في سنة وست وستين وستمائة، وكتب إلى النائب بحمص بأن يقيم بحدود حصن الأكراد لدفع الضرر عن بلاد الهدنة وكتب إلى عدة جهات بالوصية بهم، وحر رسول حصن الأكراد يسأل الوصية، فأعطاهم علما برنكة. ولما عبرت الأثقال من جهة القصب، عبر أحد الحرافشة ومعه رفقه له على بستان بقرب تل خليفة المجاور للحصن فأخذوا منه شيئا لا قيمة له، فأخذهم المقدم 'الفرنجي' بتل خليفة وضرب رقاب بعضهم وأسر البعض.فنزل النائب بحمص على تل خليفة وطلب الخصوم.فامتنع النائب بها عن تسلميهم وقال: 'أنا قتلت'، واساء في القول.فحاصرهم 'نائب حمص' وسير إليهم شجاع الدين عنبر، فاحتال إلى أن استنزل الخصوم، وسيروا إلى السلطان.فحضرت رسل من حصن الأكراد تطلبهم، فأجابهم السلطان إنه لا بد من تحقيق هذه الواقعة ؛ فقوت نفوس الذين في الحصن.وغلق النائب 'الفرنجي' باب الحصن ومنع الميرة، وألبس جماعة العدد. ولما رجع السلطان من طرابلس عند توجهه إلى أنطاكية ومر تحت الحصن متوجها إلى حمص، فسير يقول: 'ما كان ينبغي لكم تعبرون من ههنا إلا بأمري'.وقيل لهم: 'لأي معنى غلقتم الأبواب ولبستم العدد، وأنتم صلح ؟ '.فقال: 'ما غلقناها إلا شفقة على عسكر السلطان من الفرنج الغرب الذين عندنا، لأنهم لا يخافون الموت'.فعز ذلك على السلطان لأن الغرب الذين عنده عدتهم دون المائة نفر.وكان هذا الأمر مقدمة انحراف السلطان عليهم ؛ وبقي ذلك في خاطره.فلما توجه إلى الشام جريدة في سنة ثمان وستين وتوجه إلى حماة ثم رحل عنها في ثالث جمادى الآخرة توجه إلى حصن الأكراد بمقدار ما ثنى فارس بغير عدة، وصعد جبل الحصن في أربعين فارسا، فخرج له جماعة من الفرنج ملبسين، فحمل عليهم وكسرهم، وقتل منهم جماعة ووصل إلى الخندق، وقال - وهو متنكر لا يعرف من هو -: 'قولوا لذلك الرسول الذي حضر سنة طرابلس يخلي الفرنج الغرب يخرجوا، فما نحن أكثر من أربعين فارسا بأقبية بيض'.وعاد إلى مخيمه، ورعت الخيول المروج والزروع، فكان ذلك أحد أسباب الإستيلاء على الحصن لأنه ليس له مادة إلا من زرع بلده.فلما توجه السلطان، وفي سنة تسع وتسعين وستمائة إلى الشام، وأغار على طرابلس كما قدمنا نازل حصن الأكراد، في تاسع شهر رجب من السنة وملك أرباض الحصن في العشرين منه، وحضر الملك المنصور صاحب حماة، فتلقاه السلطان وترجل لترجله، وساق السلطان تحت صناجق صاحب حماة بغير جمدارية ولا سلاح دارية أدبا معه، وسير إليه دهليزا أمره بنصبه.ووصل الأمير سيف الدين صاحب صهيون، والصاحب نجم الدين صاحب الدعوة.وفي أواخر شهر رجب، تكمل نصب عدة مجانيق، وفي سابع شعبان، أخذت الباشورة بالسيف، وفي سادس عشر الشهر، تشقق برج من أبارج القلعة، وزحف العسكر وطلع الناس إلى القلعة وتسلموها، وطلع الفرنج القلعة 'الأخرى' وأحضرت جماعة من الفرنج والنصارى، فأطلقهم السلطان، نقلت المجانيق إلى القلعة ونصبت على القلة.وكتب السلطان كتابا على لسان مقدم الفرنج بطرابلس إلى من بالقلعة يأمرهم بالتسليم.ثم طلبوا الأمان، فكتب لهم أمان على أنهم يتوجهون إلى بلادهم.وفي يوم الثلاثاء رابع عشرين شعبان، خرج الفرنج من القلعة وجهزوا إلى بلادهم، وتيلم السلطان الحصن.ورتب الأمير صارم الدين الكافري نائبا بحصن الأكراد، وفوض أمر عمارة الحصن إلى الأمير عز الدين أيبك الأفرم وعز الدين أيبك الشيخ. وهذا الحصن كان قديما يبد المسلمين، فلما نازل صنجيل طرابلس كان يشن الغارات على هذا الحصن وما قاربه من الحصون، ثم قصده في سنة ست وتسعين وأربعمائة وحاصره وضيق على من به وأشرف على أخذه، فاتفق قتل جناح الدولة صاحب حمص فطمع فيها ورحل عنه.وهلك صنجيل وملك ابنه، فجرى على عادة أبيه في أذية أهل هذا الحصن وإفساد أعماله، ثم فارقه وتوجه لحصار بيروت.فجاء طنكلي صاحب أنطاكية ونازله، وأهله في غاية الضعف، فسلمه صاحبه إليه، وكان يرجو أنه يبقيه فيه لأنه اختاره على صنجيل فأنزله وأهله منه، وأخذه صحبته، ورتب فيه من يحفظه من الفرنج ؛ وحكى ذلك ابن عساكر. وذكر ابن منقد في كتاب البلدان أن: نور الدين محمود بن زنكي، رحمه الله تعالى، كان قد عامل بغض رجالة التركمان المستخدمين من جهة الفرنج بهذا الحصن، إلى أنه إ ذا قصده نور الدين يثور هو وجماعة من أصحابه في الحصن ويرفعون علم نور الدين على الحصن وينادون باسمه.وكان هذا التركماني له أولاد وإخوة قد وثق بهم الفرنج، وكان الإنفاق بينه وبين نور الدين أن يقف على رأس الباشورة، فكتم نور الدين هذا الأمر عن أصحابه وتقدم أوائل العسكر النوري فرأوا التركماني على الباشورة فرموه بالنشاب فمات، واشتغل أهله بوفاته، فلم يتم لنور الدين ما دبره.ولم يفتحه السلطان الملك الناصر صلاح الدين.وكان فتحه على يد السلطان الملك الظاهر الآن. ذكر صلح أنطرطوس والمرقبقال: وسأل كمندور أنطرطوس ومقدم بيت الإسبتار السلطان على الصلح، فأجابهم على أنطرطوس خاصة، خارجا عن صفيتا وبلادها، وعلى المرقب.واسترجع منهم بلدة وأعمالها وما أخذوه في الأيام الناصرية، وعلى أن جميع مالهم من المناصفات والحقوق على بلاد الإسلام يتركونه.وعلى أن تكون بلاد المرقب، وحلف لهم السلطان على ذلك، وتوجه لتحليف المقدم المذكور بأنطرطوس الأمير فخر الدين المقري الحاجب، وأخلى الفرنج برج قرميص، وأحرقوا ما لا أمكنهم حمله من موجدوهم، وتسلم البرج المذكور في هذه الأيام، وكذلك البرج الذي في بلدة هدم الفرنج بعضه الفرنج بعضه وحرقوه، ورسم السلطان بهدم باقية.
فتوح حصن عكار
قال: ولما رتب السلطان أمور حصن الأكراد توجه إلى حصن عكار ونازله، وفي يوم الأربعاء سابع عشر رمضان، ورتب طلوع المجانيق، وركب بنفسه على الأخشاب فوق العجل في تلك الجبال إلى أن أوصلها إلى مكان نصبت به، وشرع في نصيب المجانيق الكبار في العشرين من الشهر.وفي هذا اليوم، استشهد الأمير ركن الدين منكورس الدواراري، وكان يصلي في خيمته فجاء حجر منجنيق فمات، رحمه الله تعالى.وفي التاسع والعشرين من الشهر، طلب أهل الحصن الأمان ورفعت الصناجق السلطانية على أبراجه، وفي يوم الثلاثاء سلخ الشهر، خرج أهل حصن عكار منه، جهزوا إلى مأمنهم، وعيد السلطان بالحصن' ورحل إلى مخيمه بالمرج. وهذا الحصن يعرف بابن عكار، وكان بيد المسلمين، فلما ملك الفرنج طرابلس وغيرها ترددت الرسائل بينهم وبين طغتكين وهو بحمص، فوقع الاتفاق على أن يكون للفرنج ثلث بلاد البقاع ويتسلمون حصن المنيطرة وحصن عكار، وإلا يتعرضوا إلى البلاد بغارة.وتقرر معهم أن مصياف وحصن الوادي وحصن الطوبان وحصن الأكراد في الصلح، ويحمل إلى الفرنج مال عنها.فلما تسلم الفرنج الحصنين عادوا إلى ما كانوا عليه الغارات، وصار هذا الحصن لما تسلمه الفرنج من أضر شيء على المسلمين المارين من حمص إلى بعلبك، ولم يكن له كبير ذكر فيما مضى، إلى ان وصل ريدافرنس إلى الساحل بعد فكاكه من الأأسر بمصر فرآه حصنا صغيرا، فأشار على صاحبه الأبرنس أن يزيد فيه وهو يساعده في عمارته، فزاد فيه زيادة كثيرة من جهة الجنوب.وهو في واد بين جبال محيطو به من أربع جهاته. ولما فتحه السلطان الملك الظاهر كتب إلى صاحب طرابلس ما مثاله قبل البسملة:'قد علم القومص يمند - جعله الله ممن ينظر لنفسه ويفكر في عاقبة يومه من أمسه - نزولنا بعد حصن الأكراد على حصن عكار، وكيف نقلنا المنجنيقات إليها في جبال تستصعبها الطيور لاختيار الأوكار، وكيف صبرنا في جرها على مناكدة الأوحال ومكابدة الأمطار، وكيف نصبنا المنجنيقات على أمكنة يزلق عليها النمل إذا مشى، وكيف هبطنا تلك الأودية التي لو أن الشمس من الغيوم ترى بها ما كان غير جبالها رشا، وكيف صارت رجالك الذين ما قصرت في انتخابهم، وحسنت بهم استعانة نائبك الذي انتحى بهم'. وكتابنا هذا يبشرك أن علمنا الأصفر نصب مكان علمك الأحمر، وأن صوت الناقوس صار عوضه الله أكبر، ومن بقي من رجاله أطلقوا ولكن جرحى القلوب والجوارح، وسلموا ولكن من ندب السيوف إلى بكاء النوايح، وأطلقناهم ليحدثوا القومص بما جرى، ويحذروا أهل طرابلس أنهم يغترون بحديثك المفتري، وليروهم الجراح التي أريناهم بها نفادا، ولينذروه لقاء يومهم هذا، ويفهموكم أنه ما بقي من حياتكم إلا القليل، وأنهم ما تركونا إلا على رحيل، فتعرف كنائسك وأسوارك أن المنجنيقات تسلم عليها إلى حين الاجتماع عن قريب، ونعلم أجساد فرسانك أن السيوف تقول إنها عن الضيافة لا تغيب، لآن أهل عكار ما سدوا لها جوعا، ولا قضت من ريها بدمائهم الوطر، وما أطلقوا إلا لما عاقب شرب دمائهم.وكيف لا، وثلاثة أرباع عكار عكر.يعلم القومص هذه الجملة المسرودة ويعمل بها، وإلا فيجهز مراكبه ومراكب أصحابه، وإلا فقد جهزنا قيودهم وقيوده. وقال المولى محيي الدين عبد الله بن عبد الظاهر:
يا مليك الأرض بشرا
ك فقد نلت الإرادة
إن عكار يقينا
هي عكا وزيادته
صلح طرابلس
قال: ولما استقر أمر حصن عكار رحل السلطان من منزلته بالأرزوية هو وجميع العساكر والأثقال، وساق على عزم حصار طرابلس، فوردت الأخبار أن ملك الإنكتار وصل إلأى عكا، في أواخر شهر رمضان من هذه السنة، وصحبته ثلاثمائة فرس، وثماني بطس وشواني ومراكب تكملة ثلاثين مركبا، غير ما كان سبقه صحبة استاد داره، وأنه يقصد الحج.ففتر عزم السلطان ونزل قريبا من طرابلس جريدة، وتردد الأتابك إلى جهة طرابلس، والأمير سيف الدين الدوادار واجتمعا بصاحبها.وأراد السلطان قدر ما بقي من الأشجار، فسير البرنس يطلب الصلح وخرج وزراؤه، وكتبت الهدنة لمدة عشر سنين.وجهز السلطان فخر الدين من جلبان، وشمس الدين الأخنائي شاهد الخزانة ومعهما ثلاثة آلاف دينار مصرية لفكاك الأسرى وتوجه السلطان إلى حصن عكار، ثم عاد إلى مخيمه بالأرزونية، ثم توجه إلى حصن الأكراد، ثم رحل فوصل إلى دمشق في نصف شوال.
فتوح القرين
كان حصن القرين إسبتار الأرمن، ولم يكن لهم بالساحل غيره، وكان من أمنع الحصون وأضرها على صفد، فتوجه السلطان إليه من دمشق، في الرابع والعشرين من شوال سنة تسع وستين وستمائة ووصل إلى صفد وجهز منها المجانيق وسار إلى القرين ونازله.وبينما السلطان واقف لنصر المجانيق وردت رسل عكار.واتفق أن السلطان 'كان' يرمي نشابا على القلعة فمر به طائر فرماه فإذا فيه بطاقة من جاسوس في العسكر للفرنج مضمونها أخبار السلطان، وذلك بحضور الرسل، فسلم السلطان الطائر لهم وقال: 'واستصحبوه معكم لتقرأ الفرنج هذه البطاقة، ونحن نفرح بمن نخبركم بأخبارنا'.وفي مستهل ذي القعدة ملك الربض، وفي ثانيه أخذ الباشورة، وأخذت النقوب في السور، وشرط السلطان للحجارين عن كل حجر ألف درهم.واشتد القتال، فحضر رسلهم، وتقرر خروجهم وتوجههم حيث شاءوا، وأنهم لا يستصحبون مالا ولا سلاحا.وكتب الأمان بذلك، ورفعت الصناجق السلطانية عليها، وركب السلطان وأصبح على أبواب عكا مطلبا، فما ترك أحد من الفرنج، وعاد إلى مخيمه بالقرين، وأمر بهدم القلعة فتكمل هدمها في رابع وعشرين ذي القعدة من السنة.
صلح صور وما تقرر من المناصفة
وحضرت رسل صاحب صور، وحصل الاتفاق على أن يكون لهم من بلاد صور عشرة بلاد خاصا، وللسلطان خمسة بلاد يختارها تخصه، وبقية البلاد مناصفة، وحلف السلطان على ذلك.وجهز الرسل فحلفوا صاحب صور على ما تقرر.
منازلة التتار البيرة وكسرهم على الفرات
وقتل مقدمهم جنقروفي تاسع شهر ربيع الأول سنة إحدى وسبعين وستمائة وردت الأخبار بحركة التتار، فجرد السلطان الأمير فخر الدين الحمصي بجماعة من العساكر المصرية والشامية إلى جهة حارم، ثم جهز الأمير علاء الدين الحاج طيبرس الوزيري بجماعة من العساكر وجماعة من العربان وعد التتار البر الشامي لقصد الرحبة فتقسم فكر السلطان ليقسمهم على البيرة والرحبة، ورحل من ظاهر دمشق، فبلغه رحيل العدو عن الرحبة، فجد في مسيره ووصل إلى الفرات إلى مخاضة تعرف بمخاضة الحمام، فوجد التتار قد وقفوا على شط الفرات، وعدتهم قريب الخمسة آلاف فارس، ومقدمهم جنقر أحد مقدميهم الكبار وحفظوا فم المخاضة.وكان السلطان قد استصحب عدة مراكب من دمشق وحمص فرست في الفرات، وركب فيها الرجالة الاقجية لكشف البر.وعمل التتار مكيدة: وهي أنهم تركوا المخاضة السهلة ووقفوا على مكان بعيد الغور وعملوا الستائر، فاعتقد المسلمون أن المكان الذي حفظوه هو المخاضة السهلة فخاضوا منه، وكان العدو قد عملوا سيبا على البر من جانبهم ليقاتلوا من ورائها، فرتبت العساكر الإسلامية نفوسها بخيولها، وعاموا أطلابا، الفارس إلى جانب الفارس، متماسكين بالأعنة معتمدين على الرماح، كما قال القائل:
فعمنا إليهم بالحديد سباحة
ومن عجب أن الحديد يعوم
وازدحم الناس وانسكر الماء بهم فصار كالجبال.وطلع المسلمون، والسلطان في أوائل القوم، فلم يلبث التتار أن انهزموا أقبح هزيمة، وقتل مقدمهم جنقر وجماعة كثيرة منهم وأسرت جماعة، وأقام السلطان إلى العصر وجمع الأسرى ورؤوس القتلى وبات في مكان النصر، والعساكر لابسة والخيل ملجمة، وأصبح يوم الاثنين بمنزلته حتى عاد من كان قد ساق خلف العدو، واستبرئ أمر العدو، ثم عادت العساكر، وكان العود عليهم أشق. ولما صار السلطان بالبر الشامي بلغه أن التتار الذين كانوا نازلوا البيرة ومقدمهم درباي قد هربوا وتركوا أزوادهم والمجانيق التي معهم، ورموا النار في بعض ذلك، ونزل أهل البيرة وحملوا من ذاك شيئا كثيرا.فنزل السلطان على جبل مشرف قرب البيرة من الجانب الشامي، وتوجه إليها على الجسر الذي مده العدو وهو جسر كبير تحته المراكب والصواري والسلاسل، ومعه جماعة من الأمراء، وأنعم على النائب بها بألف دينار، و 'الأمير سيف الدين' الصروي المجرد بها بألف دينار، وعم من بها بالتشاريف، وأنعم على أهل الثغر بمائة ألف درهم، وجرد بها جماعة زيادة من بها، وعاد إلى مخيمه، وسار إلى دمشق فدخلها في ثالث جمادى الآخرة والأسرى بين يديه.
فتوح كينوك
كان قد كثر فساد أهل كينوك وتعديهم على التجار والقصاد، وكتب إلى صاحب سيس في ذلك فلم تفد فيه المكاتبة، فجرد الأمير حسام الدين العين تأبى مقدم العسكر الحلبي إلى كينوك، فوصل إليها في ثالث المحرم، فأخذوا الحوش البراني، ودخل الأرمن إلى القلعة، فقاتلهم المسلمون وملكوها وقتلوا الرجال وسبوا الحريم، وأغار العسكر على أطراف طرطوس ونهبوا وسبوا.وهذه كينوك هي الحدث الحمراء التي بناها سيف الدولة على بن حمدان، ومعنى تسميها كينوك أي المحترقة.وكان قسطنطين صاحب سيس قد أخذها من ملوك الروم السلجقية وأحرقها.وهي التي يقول فيها المتنبي عند بنائها يمدح سيف الدولة في قصيدته التي أولها: 'على قدر أهل العزم تأتي العزائم'
سل الحدث الحمراء يعرف لونها
ويعلم أي الساقيين الغمائم
سقتها الغمام الغر قبل نزوله
فلما دنا منها سقتها الجماجم
بناها على والقنا تقرع
وموج المنايا حولها متلاطم
وكان بها مثل الجنون فأصبحت
ومن حيث القتلى عليها تمائم أن الحد أ
وكان من خبرها: أن سيف الدولة بن حمدان سار لبنائها، وكان أهلها سلموها بالأمان للدمستق ملك الروم، وفي سنة سبع وثلاثين وثلاثمائة، فنزلها سيف الدولة في يوم الأربعاء ثاني جمادى الآخرة سنة ثلاث وأربعبن وثلاثمائة، فحط الأساس من يومه، وحفر أول الأساس بيده، وأقام حتى كمل بناؤها في يوم الثلاثاء ثالث عشر شهر رجب من السنة.
إغارة عيسى بن مهنا على الأنبار
وفي سنة لثنتين 'وسبعين' وستمائة: رسم السلطان للأمير شرف الدين عيسى ابن مهنا 'أمير العرب' بالإغارة على بلاد العراق، فوصل إلى الأنبار فوجد بها جماعة من التتار، وكان السلطان قد اختفى أمره، فلما وصل عيسى إلى الأنبار توهموا أن السلطان دهمهم، فعدوا إلى البر الآخر، واقتتل عيسى وخفاجة، ودام القتال نصف نهار، وكانت هذه الإغارة في ثامن عشر شعبان.
الإغارة على مرعش
وفي سنة ثلاث وسبعين وستمائة: توجه عسكر حلب صحبة الأمير حسام الدين العين تابي إلى جهة مرعش، وأغاروا على بلاد سيس، وحازوا غنائم كثيرة، وقلعوا أبواب ربض مرعش، وغرق ربيعة بن الظاهر بن غنام في نهر هناك.
غزوة سيس
كان صاحب سيس قد اعتمدوا ما يقتضي فسخ الهدنة التي وقع الإتفاق عليها في سنة ست ستين عند إطلاق ولده ليفون، وقطع الهدايا المقررة عليه، وخالف الشروط من أنه لا يجدد بناء ولا يحصن قلعة، وصار لا يطالع بخبر صحيح كما تقرر معه، ثم لم يقتصر على ذلك إلى أن صار يلبس الأرمن السراقوجات ويخيف القوافل ويدعى أنهم من عسكر التتار، فاقتضى ذلك أخذ كينوك وإخرابها كما ذكرنا، فتصور صاحب سيس من ذلك.فذكر السلطان لرسوله سوء اعتماده، وأرسل إليه يعرفه أنه عزم على قصد سيس، ثم أسر السلطان في نفسه قصده ولم يبده لأحد، بل أظهر الحركة إلى الشام وعرض العساكر في يوم واحد تحت القلعة، وخرج ثالث شعبان سنة ثلاث وسبعين وستمائة، ووصل إلى دمشق في سلخ الشهر، وخرج منها في سابع شهر رمضان بجميع العساكر.ولما وصل إلى حماة خرج الملك المنصور صاحب حماة بعساكره، ثم سار وفي خدمته العساكر والعربان.فجرد الأمير شرف الدين بن مهنا، والأمير حسام الدين العين تابي إلى جهة البيرة بصورة جاليش العسكر المنصور فوصلوا إليها.ولما وصل السلطان إلى سرمين رحل منها إلى جهة الدربساك، وآخر الأثقال وبعض العسكر صحبة الأمير شمس الدين سنقر جاه بسرمين، وجرد الأمير عز الدين الأفرم أمير جاندار، والأمير مبارز الدين الطوري لتمهيد جوانب النهر الأسود، فقطعته العساكر بمشقة.ونزل السلطان بين الدربساك وبغراس، وأمر جماعة من مقدمي الألوف أن يتوجه كل منهم إلى جهة وطلعوا تلك الجبال، وأمر الناس بوقود الشموع فقطعوا تلك الجبال والأوعار والمضايق.وكان السلطان قد حمل ثلاثين مركبا لأجل التعدية، ونزل السلطان داخل باب اسكندرونة خلف السور الذي بناه الملك هيتوم والد ليفون صاحب سيس، ثم رحل إلى قرب المثقب، وملكت العساكر جسر المصيصة وملكوا المصيصة، وغلبت العساكر على ما فيها، وقتلوا من وجدوا بها، وغنم الناس ما لا يحصى كثرة من البقر والجاموس والغنم، وحضر إلى الطاعة جماعة كبيرة من التركمان والعربان بمواشيهم وخيولهم، فجهزهم السلطان إلأى البلاد الإسلامية، وساق مطلبا في تاسع وعشرين شهر رمضان، فوصل إلى سيس، فعدل عنها ووصل دربند الروم، ووجد بقايا من حريم التتار فسبين، وعاد فبات في تلك الجبال، وعيد بمدينة سيس، وهي كرسي ملك الأرمن، وبها بستان متملكها ومناظره.فانتهبت مدينة سيس وهدمت وأحرقت وتحصن أهلها بقلعتها ولما فرغ من إحراق المدينة وهدم قصور التكفور وعادت الجاليشية بما سبوه من حريم المغول وأولادهم، وسيقت الغنائم، وعاد السلطان ورعت العساكر الزروع.ووصل الأمير جمال الدين المحمدي، والأمير عز الدين الدمياطي إلى طرسوس ووجدوا بها من الخيل والبغال مقدار ثلاثمائة رأس فاستاقوها.وتوجه الأمير مبارز الدين الطوري، والأمير عز الدين كرجي إلى قريب البحر وقاتلوا جماعة من العدو، ووجدوا مراكب في البحر فدخلوا إليها وأخذوها وقتلوا من فيها.ووصل الأمير سيف الدين الزيني إلى قلعة البرزين، ووصل الأمير بدر الدين الأيدمري إلى أذنة، وغنموا نساء وأطفال.وأغارت العساكر في تلك الجبال وقتلوا رجالا كثيرة ووصل الأمير بدر الدين بيسرى والأمير سيف الدين أيتمش السعدي إلى أياس، وكان خبر العسكر قد وصل إلى من بها من الفرنج فنقلوا أموالهم إلى المراكب فاحرقت العساكر وقتلت جماعة كبيرة في البر والبحر، وحضر بعد ذلك كتاب وإلى اسكندرونة يتضمن: أن العساكر لما قصدت أياس ركب جماعة منها من الفرنج والأرمن قريب ألفي نفس هاربين فغرقوا جميعهم، وأخذ الأمير بدر الدين أمير سلاح جشارات خيول.هذا ما يتعلق بغزوة سيس. وأما العسكر والعربان الذين توجهوا إلى جهة البيرة فوصلوا إلى رأس عين وغنموا غنائم كثيرة، وانهزم من كان في تلك الجهة من التتار، وعاد العسكر سالما منصورا.ووصل السلطان إلى المصيصة وأحرقت من الجانبين. ولما تكامل حضور الأمراء بالغنائم وخروج التركمان والعربان الواصلين إلى الطاعة من الدربندات، رحل السلطان وعبر على بحيرة بها أغصان ملتفة مثل الغابة وبها جزائر قد تحصن بها جماعة من تلك البلاد ونقلوا إليها حريمهم وأموالهم، فرمى العسكر نفوسهم فيها عوما بالخيل فقتلوا وسبوا.ثم عبروا على تل حمدون، وقلعة النقير فعاثت العساكر فيهما، وخرج العسكر من الدربندات فشاهدوا الغنائم قد ملأت المروج طولا وعرضا، فوقف السلطان بنفسه وفرق الغنائم وعم بها الناس، وما أخذ لنفسه شيئا منها.ثم سار بعد القسمة فنزل دهليزه بحارم. فقال القاضي محيي الدين بن عبد الظاهر:
يا ملك الأرض الذي عزمه
كم عامر للكفر منه خرب
قلبت سيسا فوقها تحتها
والناس قالوا سيس لا تنقلب