نهاية الأرب في فنون الأدب/أخبار إبراهيم الموصلي

من موسوعة الأدب العربي
اذهب إلى:تصفح، ابحث

أخبار إبراهيم الموصلي

هو إبراهيم بن ماهان بن ميمون، وأصله من فارس، ومولده في سنة خمس وعشرين ومائة بالكوفة، ووفاته ببغداد في سنة ثمان وثمانين ومائة.قالوا: ومات ماهان وترك إبراهيم صغيراً، فكفله آل خزيمة بن خازم، فكان ولاؤه لبني تميم.وكان السبب في نسبه إلى الموصل أنه لما كبر وأشتد وأدرك صحب الفتيان وأشتهى الغناء وطلبه ؛ فاشتد أخواله بنو عبد الله بن دارم عليه في ذلك وبلغوا منه، فهرب منهم إلى الموصل فأقام بها سنة ؛ فلما رجع إلى الكوفة قال له إخوانه من الفتيان: مرحباً بالفتى الموصلي، فغلب عليه ثم أرتحل إلى الري في طلب الغناء، فطال مقامه هناك، وأخذ الغناء الفارسي والعربي. قال إسحاق: حدثني أبي قال:أول شيء أعطيته بالغناء أني كنت بالري أنادم أهلها بالسوية لا أرزؤهم شيئا ولا أنفق إلا من بقية مال كان معي.فمر بنا خادم أبو جعفر المنصور إلى بعض عماله برسالة، فسمعني عند رجل من أهل الري فشغف بي وخلع علي دواج سمورٍ له قيمة، ومضى بالرسالة فرجع وقد وصله العامل بسبعة آلاف درهم وكسوةٍ كثيرةٍ، فجاءني إلى منزلي الذي كنت أسكنه، فأقام عندي ثلاثة أيام ووهب لي نصف الكسوة التي معه وألفي درهم.وكان ذلك أول مالٍ كسبته من الغناء.فقلت: والله لا أنفق هذه الدراهم إلا على الصناعة التي أفادتنيها.ووصف لي رجلٌ بالأبلة اسمه: جوانويه وكان حاذقا، فخرجت إليه، وصحبت فتيانها وأخذت عنهم وغنيتهم فشغفوا بي. قال إبراهيم: ولما أتيت جوانويه لم أصادفه في منزله فأقمت حتى جاء.فلما رآني أحتشمني وكان مجوسيا ؛ فأخبرته بصناعتي والحال التي قصدته فيها ؛ فرحب بي وأفرد لي جناحاً في داره ووكل بي جاريةً، فقدمت لي ما أحتاج إليه.فلما كان العشاء عاد إلى منزله ومعه جماعة من الفرس ممن يغني ؛ فنزلت إليه فجلسنا وأخذوا في شأنهم وضربوا وغنوا ؛ فلم أجد في غناء أحد منهم فائدة ؛ وبلغت النوبة إلي فضربت وغنيت ؛ فقاموا جميعا إلي فقبلوا رأسي وقالوا: سخرت بنا، نحن إلى تعليمك إيانا أحوج منك إلينا.فأقمت على تلك الحال أياما حتى بلغ محمد بن سليمان بن علي خبري، فوجه إلي فأحضرني وأمرني بملازمته.فقلت: أيها الأمير، لست أتكسب بهذه الصناعة وإنما ألتذ بالغناء فلذلك تعلمته، وأريد العود إلى الكوفة ؛ فلم أنتفع بذلك عنده وأخذل بملازمته وسألني: من أين أنا ؟ فأنتسبت إلى الموصل، فلزمتني وعرفت بها.ولم أزل عنده مكرماً، حتى قدم عليه خادم المهدي.فلما رآني عنده قال له: أمير المؤمنين أحوج إلى هذا منك، فدافعه عني.فلما قدم الخادم على المهدي سأله عما رأى في طريقه ومقصده، فأخبره بما رأى، حتى أنتهى إلى ذكرى فوصفني له.فأمره المهدي بالرجوع وإشخاصي إليه، فجاء وأشخصني إلى المهدي، وحظيت عنده وقدمني. قال: وما سمع المهدي قبلي أحداً من المغنين سوى فليح بن أبي العوراء وسياط ؛ فإن الفضل بن الربيع وصفهما له. قال: وكان المهدي لا يشرب، فأرادني على ملازمته وترك الشرب، فأبيت عليه.وكنت أغيب عنه الأيام، فإذا جئته جئته منتشيا ؛ فغاظه ذلك مني وضربني وحبسني ؛ فحذقت القراءة والكتابة في الحبس.ثم دعاني يوما فعاتبني على شربي في منازل الناس والتبذل معهم.فقلت: يا أمير المؤمنين، إنما تعلمت هذه الصناعة للذتي وعشرة إخواني ولو أمكنني تركها تركتها وجميع ما أنا فيه لله تعالى.فغضب غضباً شديدا وقال: لا تدخل على موسى وهارون، فوالله لئن دخلت عليهما لأفعلن وأصنعن.فقلت نعم.ثم بلغه أني دخلت عليهما وشربت معهما وكانا مشتهرين بالنبيذ، فضربني ثلاثمائة سوط وستين سوطا.فقلت له وأنا أضرب: إن جرمي ليس من الأجرام التي يحل بها سفك دمي، ووالله لو كان سر أبنيك تحت قدمي ما رفعتهما عنه ولو قطعتا، ولو فعلت ذلك كنت في حالة أبان العبد الساعي.فلما قلت ذلك ضربني بالسيف في جفنه فشجني، فسقطت مغشياً علي.وقال لعبد الله أبن مالك: خذه إليك وأجعله في مثل القبر.فدعا عبد الله بكبش فذبحه وسلخه وألبسني جلده ليسكن الضرب عني، ودفعني إلى خادم له يقال له أبو عثمان سعيد التركي، فجعلني في قبر ووكل بي جارية.فتأذيت بنز كان في القبر وببقٍ.فقلت للجارية: أصلحي لي مجمرةً وكندرا ليذهب عني هذا البق ففعلت.فلما دخنت أظلم القبر وكادت نفسي تذهب، ثم خف ذلك وزال البق، وإذا حيتان مقبلتان نحوي من شق في القبر تدوران حولي، فهممت أن آخذ واحدةً بيدي اليمنى والأخرى بيدي اليسرى، فإما علي وإما لي، ثم كفيتهما، فدخلتا في الثقب الذي خرجتا منه.فمكثت في ذلك القبر ما شاء الله، ثم أخرجت منه.وأحلفني المهدي بالطلاق والعتاق وكل يمينٍ لا فسحة لي فيها ألا أدخل على أبنيه موسى وهارون أبدا ولا أغنيهما، وخلى سبيلي.قال إبراهيم: وقلت وأنا في الحبس:

ألا طال ليلي أراعي النجوم

أعالج في السّاق كبلاً ثقيلا

بدار الهوان وشرّ الديار

اسام بها الخسف صبراً جميلا

كثير الأخلاّء عند الرخاء

فلما حبست أراهم قليلا

لطول بلائي ملّ الصديق

فلا يأمننّ خليلٌ خليلا

قال: فلما ولي موسى الهادي الخلافة أستتر إبراهيم منه ولم يظهر له بسبب الأيمان التي حلف بها للمهدي.فلم يزل يطلبه حتى أتي به فلما عاينه قال: يا سيدي، فارقت أم ولدي أعز الخلق علي ؛ ثم غناه:

يا أبن خير الملوك لا تتركنّ

غرضاً للعدو يرمى حيالي

فلقد في هواك فارقت أهلي

ثم عرّضت مهجتي للزوال

ولقد عفت في هواك حياتي

وتغرّبت بين أهلي ومالي

قال إسحاق بن إبراهيم: فموله الهادي وخوله ؛ وبحسبك أنه أخذ منه مائة ألف وخمسين ألف دينار في يوم واحد، ولو عاش لنا لبنينا حيطان دورنا بالذهب والفضة. قال حماد بن إسحاق قال لي أبي:والله ما رأيت أكمل مروءةً من جدك، وكان له طعام يعد أبداً في كل وقت.فقلت لأبي: كيف كان يمكنه ذلك ؟ قال: كان له في كل يوم ثلاث شياهٍ، واحدةٌ مقطعة في القدور، وأخرى مسلوخةٌ معلقة، وأخرى قائمة في المطبخ ؛ فإذا أتاه قوم طعموا مما في القدور، فإذا فرغت القدور قطعت الشاة المعلقة ووضعت في القدور وذبحت القائمة وأتى بأخرى فأقيمت في المطبخ.وكانت وظيفته لطعامه وطيبه وما يتخذ له في كل شهر ثلاثين ألف درهم سوى ما كان يجري وسوى كسوته.ولقد كان مرةً عندنا من الجواري الودائع لإخوانه ثمانون جارية، ما فيهن واحدة إلا ويجري عليها من الطعام والكسوة والطيب مثل ما يجري لأخص جواريه، فإذا ردت الواحدة إلى مولاها وصلها وكساها.ومات وما في ملكه إلا ثلاثة آلاف دينار وعليه من الدين سبعمائة دينار قضيت منها. وروى عن إسحاق بن إبراهيم قال:اشترى الرشيد من أبي جاريةً بستة وثلاثين ألف دينار، فأقامت عنده ليلة ثم أرسل إلى الفضل بن الربيع وقال له: إنا أشترينا هذه الجارية من إبراهيم ونحن نحسب أنها على صفةٍ وليست كما ظننا وما قربتها، وقد ثقل علي الثمن وبينك وبينه ما بينكما ؛ فأذهب إليه فسله أن يحطنا من ثمنها ستة آلاف دينار.قال: فأتاه الفضل، فخرج إليه وتلقاه ؛ فقال له: دعني من هذه الكرامة التي لامؤنة فيها، قد جئتك في أمر، ثم أخبره الخبر.فقال له إبراهيم: إنما أراد أن يبلو قدرك عندي.قال: هو ذاك ؟ قال: فمالي في المساكين صدقةٌ إن لم أضعفه لك، قد حططتك أثني عشر ألف دينار.فرجع الفضل إليه بالخبر ؛ فقال: ويحك ! احمل إليه المال بجملته، فما رأيت سوقةً أنبل منه نفسا.قال إسحاق: وكنت قد أتيت أبي فقلت: ما كان لحطيطة هذا المال معنىً ولا هو قليل يتغافل عنه، قال لي: يا أحمق، أنا أعرف الناس به، والله لو أخذت المال منه كملاً ما أخذته إلا وهو كاره ولحقد ذلك، وكنت أكون عنده صغير القدر، وقد مننت عليه وعلى الفضل وأنبسطت نفسه وعظم قدري عنده، وإنما أشتريت الجارية بأربعين ألف درهم وقد أخذت بها أربعة وعشرين ألف دينار.فلما حمل إليه المال بكماله دعاني وقال: كيف رأيت يا إسحاق، من البصير أنا أم أنت ؟ فقلت: أنت، جعلني الله فداك.قال: وإبراهيم أول من علم الجواري المثمنات الغناء فإنه بلغ بالقيان كل مبلغ ورفع من أقدارهن. ومن أخباره مع الرشيد ما روى عن إسحاق قال حدثني أبي قال:إن الرشيد غضب علي فقيدني وحبسني بالرقة وجلس للشرب يوما في مجلس قد زينه وحسنه.فقال لعيسى بن جعفر: هل لمجلسنا عيبٌ ؟ قال: نعم، غيبة إبراهيم الموصلي عنه.فأمره باحضاري ؛ فأحضرت في قيودي، ففكت عني بين يديه، وأمرهم فناولوني عودا ؛ ثم قال: إن يا إبراهيم ؛ فغنيته:

تضوّع مسكاً بطن نعمان أن مشت

به زينبٌ في نسوةٍ عطرات

فاستعاده وشرب وطرب وقال: هنأتني وسأهنئك بالصلة، وقد وهبت لك الهنئ والمرئ، فانصرفت ؛ فلما أصبحت عوضت منهما مائتي ألف درهم. قال إبراهيم: دخلت على موسى الهادي فقال لي: يا إبراهيم، إن من الغناء ما ألذ وأطرق عليه ولك حكمك.فقلت: يا أمير المؤمنين، إن لم يقابلني زحل ببرده رجوت ذلك ؛ فغنيته:

وإني لتعروني لذكراك هزة

كما أنتفض العصفور بلّله القطر

فضرب بيده إلى جيب دراعته فحطه ذراعا ؛ ثم قال: أحسنت والله زدني ؛ فغنيت:

فيها حبّها زدني جوىً كلّ ليلةٍ

ويا سلوة الأيام موعدك الحشر

فضرب بيده إلى دراعته فحطها ذراعا آخر وقال: زدني ويلك ! أحسنت والله ووجب حكمك ؛ فغنيت:

هجرتك حتى قيل ما يعرف الهوى

وزرتك حتى قيل ليس له صبر

فرفع صوته وقال: أحسنت والله ! لله أبوك ! هات ما تريد.فقلت: يا سيدي عين مروان بالمدينة.فدارت عيناه في رأسه حتى صارتا كأنهما جمرتان وقال: يا أبن اللخناء ! أردت أن تشهرني بهذا المجلس فيقول الناس: أطربه فحكم عليه فتجعلني سمراً وحديثا ! يا إبراهيم الحراني، خذ بيد هذا الجاهل فأدخله بيت مال الخاصة، فإن أخذ كل ما فيه فحله وإياه.فدخلت فأخذت خمسين ألف دينار.وهذا الشعر لأبي صخر الهذلي، وأوله:

عجبت لسعي الدّهر بيني وبينها

فلما أنقضى ما بيننا سكن الدّهر

فيا حبّها زدني جوىً كلّ ليلةٍ

ويا سلوة الأيام موعدك الحشر

ويا هجر ليلى قد بلغت بي المدى

وزدت على ما ليس يبلغه الهجر

وإني لتعروني لذكراك هزّةٌ

كما أنتفض العصفور بلّله القطر

هجرتك حتى قيل لا يعرف الهوى

وزرتك حتى قيل ليس له صبر

أما والذي ابكى وأضحك والذي

أمات وأحيا والذي أمره الأمر

لقد تركتني أحسد الوحش أن أرى

أليفين منها لا يروعهما الذّعر

نبذة من أخباره مع البرامكة

كان لإبراهيم الموصلي مع البرامكة أخبار مستحسنة، سنورد منها طرفا.منها ما حكى عن مخارق قال:أذن لنا أمير المؤمنين الرشيد أن نقيم في منازلنا ثلاثة أيام وأعلمنا أنه يشتغل فيها مع الحرم.فمضى الجلساء أجمعون إلى منازلهم وقد أصحبت السماء متغيمةً تطش طشيشا خفيفا.فقلت: والله لأذهبن إلى أستاذي إبراهيم فأعرف خبره ثم أعود، وأمرت من عندي أن يسووا لنا مجلسا إلى وقت رجوعي.فجئت إلى إبراهيم، فدخلت إليه، فإذا هو جالس في رواق له والستارة منصوبةٌ والجواري خلفها ؛ فدخلت أترنم ببعض الأصوات وقلت له: ما بال الستارة لست أسمع من ورائها صوتا ؟ فقال: اقعد ويحك ! غني أصبحت فجاءني خبر ضيعةٍ تجاورني قد والله طلبتها زماناً وتمنيتها ولم أملكها، وقد أعطي بها مائة الف درهم.فقلت له: ما يمنعك منها ؟ فوالله لقد أعطاك الله أضعاف هذا المال وأكثر.قال: صدقت، ولكن لست أطيب نفسا بأن أخرج هذا المال.فقلت: فمن يعطيك الساعة مائة ألف درهم ؟ قال: والله ما أطمع في ذلك من الرشيد، فكيف بمن دونه ! ثم قال: اجلس، خذ هذا الصوت.ثم نقر بقضيب على الدواة وألقي علي هذا الصوت:

نام الخليّون من همٍّ ومن سقمٍ

وبتّ من كثرة الأحزان لم أنم

يا طالب الجود والمعروف مجتهداً

اعمد ليحيى حليف الجود والكرم

قال: فأخذت الصوت وأحكمته.ثم قال لي: أنصرف إلى الوزير يحيى بن خالد فإنك تجد الناس على بابه قبل أن يفتح الباب، ثم تجد الباب قد فتح ولم يجلس بعد، فاستأذن عليه قبل أن يصل إليه أحدٌ، فإنه ينكر مجيئك ويقول: من أين أقبلت في هذا الوقت ؟ فحدثه بقصدك إياي وما ألقيت إليك من خبر الضيعة وأعلمه أني قد صنعت هذا الصوت وأعجبني ولم أر أحداً يستحقه إلا جاريته فلانة، وأني ألقيته عليك حتى أحكمته لتطرحه عليها ؛ فسيدعوها ويأمر بالستارة فتنصب ويوضع لها كرسي ويقول لك: اطرحه عليها بحضرتي ؛ فأفعل وأتني بما يكون بعد ذلك من الخبر.قال مخارق: فجئت إلى باب يحيى بن خالد فوجدته كما وصف.وسألني فأعلمته بما أمرني به ؛ ففعل كل شيء قاله لي إبراهيم وأحضر الجارية فألقيته عليها.ثم قال لي: تقيم عندنا يا أبا المهنأ أو تنصرف ؟ فقلت: بل أنصرف، أطال الله بقاءك، فقد علمت ما أذن لنا فيه.فقال يا غلام، احمل مع أبي المهنأ عشرة آلاف درهم واحمل إلى أبي إسحاق مائة ألف درهم ثمن هذه الضيعة.فحملت عشرة الآلاف معي، وأتيت منزلي وقلت: أسر يومي هذا وأسر من عندي.ومضى الرسول بالمال إلى إبراهيم ؛ فدخلت منزلي ونثرت على من عندي دراهم من تلك البدرة وتوسدتها وأكلت وشربت وطربت وسررت يومي كله.فلما أصبحت قلت: والله لآتين أستاذي ولأعرفن خبره ؛ فأتيته فوجدته كهيئته بالأمس ملى مثل ما كان عليه، فترنمت وطربت فلم يتلق ذلك بما يجب ؛ فقلت: ما الخبر ؟ ألم يأتك المال بالأمس ؟ ! فقال: بلى، فما كان خبرك أمس ؟ فأخبرته بما كان وقلت: ما تنتظر ؟ فقال: ارفع السجف، فرفعته فإذا عشر بدر ؛ فقلت: فأي شيء بقي عليك في أمر الضيعة ؟ فقال: ويحك ! ما هو والله إلا أن دخلت منزلي حتى شححت عليها وصارت مثل ما حويت قديما.فقلت: سبحان الله ! فتصنع ماذا ؟ قال: قم حتى ألقي عليك صوتا صنعته يفوق ذاك.فقمت فجلست بين يديه ؛ فألقي علي:

ويفرح بالمولود من آل برمكٍ

بغاة النّدى، والسيف والرمح والنصل

وتنبسط الآمال فيه لفضله

ولا سيما إن كان والده الفضل

قال مخارق: فلما ألقى علي الصوت سمعت ما لم أسمع مثله قط وصغر في عيني الأول، فأحكمته.ثم قال: امض الساعة إلى الفضل بن يحيى، فغنك تجده لم يأذن لأحد بعد وهو يريد الخلوة مع جواريه اليوم ؛ فأستأذن عليه وحدثه بحديثنا وما كان من أبيه إلينا، وأعلمه أني صنعت هذا الصوت وكان عندي أرفع منزلةً من الصوت الأول الذي صنعته بالأمس، وأني ألقيته عليك حتى أحكمته ووجهت بك قاصداً لتلقيه على فلانة جاريته.فصرت إلى باب الفضل فوجدت الأمر على ما ذكر، فاستأذنت فوصلت إليه ؛ وسألني عن الخبر، فأعلمته بخبري وما وصل إلي وإليه من المال ؛ فقال: أخزى الله إبراهيم ! ما أبخله على نفسه ! ثم دعا خادما فقال له: اضرب الستارة، فضربها ؛ فقال لي: ألقه.فلما ألقيته وغنته الجارية لم أتمه حتى أقبل يجر مطرفه، ثم قعد على وسادة دون الستارة وقال: أحسن والله أستاذك وأحسنت أنت يا مخارق.ولم أبرح حتى أحكمته الجارية ؛ فسر بذلك سرورا عظيما وقال: أقم عندي اليوم.فقلت: يا سيدي إنما بقي لنا يوم واحد، ولولا أنني أحب سرورك لم أخرج من منزلي.فقال: يا غلام، احمل مع أبي المهنأ عشرين ألف درهم وإلى أبي إسحاق مائتي ألف درهم.فانصرفت إلى منزلي بالمال، وفتحت بدرةً ونثرت منها على الجواري وشربت وسررت أنا ومن عندي يومنا.فلما أصبحت بكرت إلى إبراهيم أتعرف خبره وأعرفه خبري، فوجدته على الحال التي كان عليها أولا وآخرا ؛ فدخلت أترنم وأصفق.فقال لي: أدن ؛ فقلت: ما بقي عليك ؟ فقال: اجلس وأرفع سجف هذا الباب ؛ فرفعته فإذا عشرون بدرةً مع تلك العشر.فقلت: ما تنتظر الآن ؟ فقال: ويحك ! ما هو إلا أن حصلت حتى جرت مجرى ما تقدم.فقلت: والله ما أظن أحداً نال من هذه الدولة ما نلت ! فلم تبخل على نفسك بشيء تمنيته دهراً وقد ملكك الله أضعافه ! ثم قال: اجلس فخذ هذا الصوت.فألقي علي صوتا أنساني صوتي الأولين وهو:

أفي كلّ يومٍ أنت صبٌّ وليلةٍ

إلى أمّ بكرٍ لا تفيق فتقصر

أحبّ على الهجران أكناف بيتها

فيالك من بيت يحبّ ويهجر

إلى جعر سارت بنا كلّ جسرةٍ

طواها سراها نحوه والتهجّر

إلى واسع للمجتدين فناؤه

تروح عطاياه عليهم وتبكر

وهو شعر مروان بن أبي حفصة يمدح جعفر بن يحيى قال مخارق: ثم قال لي إبراهيم: هل سمعت مثل هذا قط ؟ فقلت: ما سمعت قط مثله ! فلم يزل يردده علي حتى أخذته، ثم قال لي: امض إلى جعفر فافعل به كما فعلت بأبيه وأخيه.قال: فمضيت ففعلت مثل ذلك وأخبرته بما كان وعرضت عليه الصوت ؛ فسر به ودعا خادماً فأمره أن يضرب الستارة، وأحضر الجارية وقعد على كرسي ؛ ثم قال: هات يا مخارق ؛ فألقيت الصوت عليها حتى أخذته ؛ فقال: أحسنت يا مخارق وأحسن أستاذك، فهل لك في المقام عندنا اليوم ؟ فقلت: يا سيدي، هذا آخر أيامنا، وإنما جئت لموقع الصوت مني حتى ألقيته على الجارية.فقال: يا غلام، احمل معه ثلاثين ألف درهم وإلى الموصلي ثلثمائة ألف درهم.فصرت إلى منزلي بالمال وأقمت ومن عندي مسرورين نشرب طول يومنا ونطرب.ثم بكرت إلى إبراهيم فتلقاني قائما، ثم قال لي: أحسنت يا مخارق ! فقلت: ما الخبر ؟ قال: اجلس فجلست ؛ فقال لمن خلف الستارة: خذوا فيما أنتم عليه ثم رفع السجف فإذا المال.فقلت ما خبر الضيعة ؟ أدخل يده تحت مسورة وهو متكئ عليها فقال: هذا صك الضيعة اشتراها يحيى بن خالد وكتب إلي: قد علمت أنك لا تسخو نفسك بشراء هذه الضيعة من مال يحصل لك ولو حويت الدنيا كلها، وقد أبتعتها من مالي.ووجه إلي بصكها، وهذا المال كما ترى، ثم بكى وقال: يا مخارق، إذا عاشرت فعاشر مثل هؤلاء، وإذا خنكرت فخنكر لمثل هؤلاء، ستمائة الف، وضيعة بمائة ألف، وستون ألف درهم لك، حصلنا ذلك أجمع وأنا جالس في مجلسي لم أبرح منه، متى يدرك مثل هؤلاء !. وروى عنه قال: أتيت الفضل بن يحيى يوما فقلت له: يا أبا العباس، جعلت فداك ! هب لي دراهم فإن الخليفة قد حبس بره.فقال: ويحك يا أبا إسحاق ما عندي ما أرضاه لك.ثم قال: هاه ! إلا أن ها هنا خصلةً، أتانا رسول صاحب اليمن فقضينا حوائجه، ووجه إلينا بخمسين ألف دينار يشتري لنا بها محبتنا.فما فعلت ضياء جاريتك ؟ قلت: عندي جعلت فداك.قال: فهو ذا، أقول لهم يشترونها منك فلا تنقصها من خمسين ألف دينار ؛ فقبلت رأسه ثم أنصرفت.فبكر علي رسول صاحب اليمن ومعه صديقٌ له ولي، فقال: جاريتك فلانة عندك ؟ قلت: عندي.قال: أعرضها علي فعرضتها عليه ؛ فقال: بكم ؟ فقلت: بخمسين ألف دينار ولا أنقص منها دينارا واحدا، وقد أعطاني الفضل بن يحيى أمس هذه العطية، فقال: هل لك في ثلاثين ألف دينار مسلمة ؟ وكان مشتري الجارية أربعمائة دينار، فلما وقع في أذني ذكر ثلاثين ألف دينار أريج علي ولحقني زمعٌ، وأشار علي صديقي الذي معه بالبيع، وخفت والله أن يحدث بالجارية حدثٌ أو بي أو بالفضل بن يحيى، فسلمتها وأخذت المال.ثم بكرت على الفضل، فإذا هو جالسٌ وحده.فلما نظر إلي ضحك وقال لي: يا ضيق العطن والحوصلة، حرمت نفسك عشرين ألف دينار.فقلت له: جعلت فداك، دع ذا عنك، فوالله لقد دخلني شيء أعجز عن وصفه وخفت أن تحدث بي حادثةٌ أو بالجارية أو بالمشتري أو بك أعاذك الله من كل سوء، فبادرت بقبول الثلاثين ألف دينار.فقال: لا ضير، يا غلام جيء بجاريته، فجيء بها، فقال: خذ بيدها وأنصرف بارك الله لك فيها، ما أردنا إلا منفعتك ولم نرد الجارية.فلما نهضت قال لي: مكانك، إن رسول صاحب أرمينية قد جاءنا فقضينا حوائجه ونفذنا كتبه، وقد ذكر أنه قد جاء بثلاثين ألف دينار يشتري لنا بها ما نحب، فاعرض عليه جاريتك هذه ولا تنقصها من ثلاثين ألف دينار ؛ فأنصرفت بالجارية.وبكر علي رسول صاحب أرمينية ومعه صديقٌ لي آخر، فقاولني بالجارية ؛ فقلت: لن أنقصها من ثلاثين ألف دينار.فقال لي: معي عشرون ألف دينار مسلمة خذها بارك الله لك فيها.فدخلني والله مثل الذي دخلني في المرة الأولى وخفت مثل خوفي الأول، فسلمته وأخذت المال.وبكرت على الفضل، فإذا هو وحده.فلما رآني ضحك وضرب برجله ثم قال: ويحك، حرمت نفسك عشرة آلاف دينار.فقلت: أصلحك الله، خفت والله مثل ما خفت في المرة الأولى.فقال: لا ضير، أخرج يا غلام جاريته فجيء بها ؛ فقال: خذها، ما أردناها وما أردنا إلا منفعتك.فلما ولت الجارية صحت بها: ارجعي فرجعت ؛ فقلت: أشهدك جعلت فداك هي حرة لوجه الله تعالى، وإني قد تزوجتها على عشرة آلاف درهم، كسبت لي في يومين خمسين ألف دينار فما جزاؤها إلا هذا.فقال: وفقت إن شاء الله تعالى. وأخباره مع البرامكة كثيرةٌ وصلاتهم له وافرةٌ.وقد ذكرنا منها ما فيه غنيةٌ عن زيادة.فلنذكر وفاة إبراهيم.كانت وفاته ببغداد في سنة ثمان وثمانين ومائة، ومات في يوم وفاته العباس بن الأحنف الشاعر، وهشيمة الخمارة ؛ فرفع ذلك إلى الرشيد فأمر المأمون أن يصلي عليهم، فخرج وصلى عليهم. قال إسحاق: لما مرض إبراهيم مرض موته ركب الرشيد حمارا ودخل على إبراهيم يعوده وهو جالس في الأبزن، فقال له: كيف انت يا إبراهيم ؟ فقال: أنا والله يا سيدي كما قال الشاعر:

سقيمٌ ملّ منه أقربوه

وأسلمه المدواي والحميم

فقال الرشيد: إنا لله ! فما بعد حتى سمع الواعية عليه. صورة ما ورد بآخر الجزء الرابع في أحد الأصلين الفتوغرافيين:هذا آخر الجزء الرابع من نهاية الأرب في فنون الأدب.والحمد لله وحده، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم ؛ وحسبنا الله ونعم الوكيل. صورة ما ورد بآخر الجزء الرابع في الأصل الآخر الفتوغرافي:كمل الجزء الرابع من كتاب نهاية الأرب في فنون الأدب على يد مؤلفه فقير رحمة ربه أحمد بن عبد الوهاب بن محمد بن عبد الدائم البكري التيمي القرشي المعروف بالنويري عفا الله عنهم.

شارك هذه الصفحة:

تابع موسوعة الأدب العربي على شبكات التواصل الإجتماعي