أخبار إسحاق بن إبراهيم
هو أبو محمد إسحاق بن إبراهيم الموصلي، وقد تقدم نسبه في أخبار أبيه.وكان الرشيد يولع به فيكنيه أبا صفوان.قال أبو الفرج الأصفهاني في ترجمة إسحاق: وموضعه من العلم، ومكانه من الأدب، ومحله من الرواية، وتقدمه في الشعر، ومنزلته في سائر المحاسن أشهر من أن يدل عليها بوصفٍ.قال: فأما الغناء فكان أصغر علومه وأدنى ما يوسم به وإن كان الغالب عليه وعلى ما كان يحسنه، فإنه كان له في سائر أدواته نظراءً وأكفاءً ولم يكن له في هذا نظير.لحق بمن مضى فيه وسبق من قد بقى، وسهل طريق الغناء وأنارها، فهو إمام أهل صناعته جميعاً وقدوتهم ورأسهم ومعلمهم، يعرف ذلك منه الخاص والعام، ويشهد له به الموافق والمفارق.على أنه كان أكره الناس للغناء وأشدهم بغضاً له لئلا يدعى إليه ويسمى به.وكان المأمون يقول: لولا ما سبق على ألسنة الناس وشهر به عندهم من الغناء لوليته القضاء بحضرتي، فإنه أولى به وأعف وأصدق وأكثر ديناً وأمانةً من هؤلاء القضاة.وقد روى الحديث ولقي أهله مثل مالك بن أنس وسفيان بن عينينة وهشيم بن بشير وإبراهيم بن سعد وأبي معاوية الضرير وروح ابن عبادة وغيرهم من شيوخ العراق والحجاز.وكان مع كراهته للغناء أضن خلق الله به وأشدهم بخلاً على كل أحدٍ حتى على جواريه وغلمانه ومن يأخذ عنه منتسباً إليه ومتعصباً له فضلاً عن غيرهم.قال: وهو صحح أجناس الغناء وطرائقه وميزها تمييزاً لم يقدر عليه أحدٌ قبله. وقال محمد بن عمران الجرجاني: كان والله إسحاق غرةً في زمانه، وواحداً في عصره علماً وفهماً وأدباً ووقاراً وجودة رأي وصحة مودة.وكان الله يخرس الناطق إذا نطق، ويحير السامع إذا تحدث، لا يمل جليسه مجلسه، ولا تمج الآذان حديثه، ولا تنبو النفس عن مطاولته.إن حدثك ألهاك، وإن ناظرك أفادك، وإن غناك أطربك.وما كانت خصلةٌ من الأدب، ولا جنسٌ من العلم يتكلم فيه إسحاقٌ فيقدم أحدٌ على مساجلته أو مناوأته فيه. حكى أبو الفرج عن إسحاق قال: دعاني المأمون وعنده إبراهيم بن المهدي وفي مجلسه عشرون جاريةً قد أجلس عشراً عنة يمينه وعشراً عن شماله.فلما دخلت سمعت من الناحية اليسرى خطأً فأنكرته.فقال المأمون أسمعت خطأً ؟ قلت: نعم يا أمير المؤمنين.فقال لإبراهيم بن المهدي: هل تسمع خطأ ؟ قال: لا.قال: فأعاد علي السؤال، فقلت بلى والله يا أمير المؤمنين، وإنه لفي الجانب الأيسر.فأعاد إبراهيم سمعه إلى الناحية اليسرى ثم قال: لا والله يا أمير المؤمنين ما في هذه الناحية خطأ.فقلت يا أمير المؤمنين، مر الجواري اللاتي على اليمين يمسكن، فأمرهن فأمسكن، ثم قلت لإبراهيم: هل تسمع خطأ ؟ فتسمع ثم قال: ما هاهنا خطأ.فقلت يا أمير المؤمنين، يمسكن وتضرب الثانية، فأمسكن وضربت الثانية، فعرف إبراهيم الخطأ فقال: نعم يا أمير المؤمنين، هاهنا خطأ.فقال المأمون عند ذلك لإبراهيم بن المهدي: لا تمار إسحاق بعدها، فإن رجلاً عرف الخطأ بين ثمانين وتراً وعشرين حلقاً لجديرٌ ألا تماريه، قال: صدقت. وقال ابن حمدون: سمعت الواثق يقول: ما غناني إسحاق قط إلا ظننت أنه قد زيد في ملكي، ولا سمعته قط يغني غناء ابن سريج إلا ظننته أن ابن سريج قد نشر، وإني ليحضرني غيره إذا لم يكن حاضراً، فيتقدمه عندي بطيب الصوت، حتى إذا اجتمعا عندي رأيت إسحاق يعلو ورأيت من ظننت أنه يتقدمه ينقص.وإن إسحاق لنعمةٌ من نعم الملوك لم يحظ أحدٌ بمثلها.ولو أن العمر والشباب والنشاط مما يشترى لاشتريتهن له بشطر ملكي. وحكى عن أحمد بن المكي عن أبيه قال: كان المغنون يجتمعون مع إسحاق وكلهم أحسن صوتاً منه ولم يكن فيه عيبٌ إلا صوته فيطمعون فيه، ولا يزال بلطفه وحذقه ومعرفته حتى يغلبهم جميعاً ويفضلهم ويتقدم عليهم.قال: وهو أول من أحدث المجتث ليوافق صوته ويشاكله فجاء معه عجباً من العجب، وكلن في حلقه نبؤ عن الوتر. وحكى قال: سأل إسحاق الموصلي المأمون أن يكون دخوله مع أهل العلم والأدب والرواة لا مع المغنين، فإذا أراد الغناء غناه، فأجابه إلى ذلك.ثم سأله بعد مدةٍ طويلةٍ أن يأخذ له في الدخول مع الفقهاء فأذن له، قال: فكان يدخل ويده في يد قاضي القضاة يحيى بن أكثم.ثم سأل إسحاق المأمون في لبس السواد يوم الجمعة والصلاة معه في المقصورة، قال: فضحك المأمون وقال: ولا كل هذا يا إسحاق ! وقد اشتريت منك هذه المسألة بمائة ألف دينارٍ وأمر له بها. وكان لإسحاق مع إبراهيم بن المهدي مخاطباتٌ ومنازعاتٌ ومحاوراتٌ بسبب الغناء، وكان الرشيد ينصر إسحاق على إبراهيم أخيه.من ذلك ما حكاه إسحاق قال: كنت عند الرشيد يوماً، وعنده ندماؤه وخاصته وفيهم إبراهيم بن المهدي، فقال لي الرشيد: غن:
شربت مدامةً وسقيت أخرى
وراح المنتشون وما انتشيت
فغنيته.فأقبل على إبراهيم بن المهدي فقال لي: ما أصبت يا إسحاق ولا أحسنت.فقلت له: ليس هذا مما تعرفه ولا تحسنه، وإن شئت فغنه فإن لم أجدك أنك تخطئ فيه منذ ابتدائك إلى انتهائك فدمي حلال.ثم أقبلت على الرشيد فقلت: يا أمير المؤمنين، هذه صناعتي وصناعة أبي، وهي التي قربتنا منك واستخدمتنا لك فأوطأتنا بساطك، فإذا نازعنا أحدٌ بغير علمٍ لم نجد بداً من الإفصاح والذب، فقال: لا غرور ولا لوم عليك.وقام الرشيد ليبول، فأقبل إبراهيم بن المهدي علي وقال: ويحك يا إسحاق ! أتجترئ على وتقول لي ما قلت يا ابن الفاعلة ! لا يكنى.فداخلني ما لم أملك نفسي معه، فقلت له: أنت تشتمني ولا أقدر على إجابتك وأنت ابن الخليفة وأخو الخليفة، ولولا ذلك لقلت لك: يا ابن الزانية كما قلت لي يا ابن الزانية.أو تراني كنت لا أحسن أن أقول: يا ابن الزانية ! ولكن قولي في ذمك ينصرف كله إلى خالك الأعلم، ولولاك لذكرت صناعته ومذهبه - قال إسحاق: وكان بيطاراً - قال: ثم سكت، وعلمت أن إبراهيم سوف يشكوني إلى الرشيد، وسوف يسأل من حضر عما جرى فيخبرونه، فتلافيت ذلك بأن قلت: إنك تظن أن الخلافة تصير إليك، فلا تزال تتهددني بذلك وتعاديني كما تعادي سائر أولياء أخيك حسداً له ولولده على الأمر ! وأنت تضعف عنه وعنهم، وتستخف بأوليائهم تشفياً، وأرجو ألا يخرجها الله من الرشيد وولده، وأن يقتلك دونها.فإن صارت إليك - والعياذ بالله تعالى من ذلك - فحرامٌ علي حينئذٍ العيش ! والموت أطيب من الحياة معك، فاصنع حينئذٍ ما بدا لك ! قال: فلما خرج الرشيد وثب إبراهيم بين يديه وقال: يا أمير المؤمنين، شتمني إسحاق وذكر أمي واستخف بي.فغضب وقال لي: ويلك ! ما تقول ؟ قلت: لا أعلم، فسل من حضر.فأقبل على مسرورٍ وحسين فسألهما عن القصة فجعلا يخبرانه ووجهه يربد إلى أن انتهيا إلى ذكر الخلافة فسرى عنه ورجع لونه، وقال لإبراهيم: لا ذنب له، شتمته فعرفك أنه لا يقدر على جوابك، ارجع إلى موضعك وأمسك عن هذا.فلما انفض المجلس وانصرف الناس أمر الرشيد بألا أبرح.وخرج كل من حضر حتى لم يبق غيري، فساء ظني وهمتني نفسي.فأقبل علي وقال: يا إسحاق، أتراني لم أفهم قولك ومرادك ! قد والله زنيته ثلاث مرات ! أتراني لا أعرف وقائعك وأقدامك وأين ذهبت ! ويلك لا تعد ! حدثني عنك لو ضربك إبراهيم أكنت أقتص لك منه فأضربه وهو أخي يا جاهل ! أتراه لو أمر غلمانه فقتلوك أكنت أقتله بك ! فقلت: والله يا أمير المؤمنين، قد قتلني هذا الكلام، وإن بلغه ليقتلني، وما أشك أنه قد بلغه الآن.فصاح بمسرورٍ وقال له: علي بإبراهيم فأحضر، وقال لي: قم فانصرف.فقلت لجماعة من الخدم - وكلهم كان لي محباً وإلي مائلاً ولي مطيعاً -: أخبروني بما يجري، فأخبروني من غد أنه لما دخل عليه وبخه وجهله وقال له: أتستحف بخادمي وصنيعتي وابن خادمي وصنيعتي وصنيعة أبي في مجلسي ! وتقدم علي وتستخف بمجلسي وحضرتي ! هاه هاه هاه ! وتقدم على هذا وأمثاله ! وأنت مالك وللغناء ! وما يدريك ما هو ! ومن أخذك به وطارحك إياه حتى تتوهم أنك تبلغ منه مبلغ إسحاق الذي غذي به وعلمه وهو من صناعته ! ثم تظن أنك تخطئه فيما لا تدريه، ويدعوك إلى إقامة الحجة عليه فلا تثبت لذلك وتعتصم بشتمه ! هذا مما يدل على السقوط وضعف العقل وسوء الأدب من دخولك فيما لا يشبهك، وغلبة لذتك على مروءتك وشرفك، ثم إظهارك إياه ولم تحكمه، وادعائك ما لا تعلمه حتى ينسبك إلى إفراط الجهل.ألا تعلم، ويحك، أن هذا سوء أدبٍ وقلة معرفةٍ وقلة مبالاةٍ بالخطأ والتكذيب والرد القبيح ! ثم قال: والله العظيم وحق رسوله وإلا فأنا بريءٌ من المهدي إن أصابه أحدٌ بسوءٍ أو أسقط عليه حجرٌ من السماء أو سقط من دابته أو أسقط عليه سقفه أو مات فجأةً لأقتلنك به.والله ! والله ! والله ! فلا تعرض له وأنت أعلم ! قم الآن فاخرج، فخرج وقد كاد يموت.فلما كان بعد ذلك دخلت على الرشيد وإبراهيم عنده فأعرضت عن إبراهيم فجعل ينظر إلي مرةً وإليه مرةً ويضحك، ثم قال: إني لأعلم محبتك لإسحاق وميلك إليه وإلى الأخذ عنه، وإن هذا لا يجيئك من جهته كما تريد إلا بعد أن يرضى، والرضا لا يكون بمكروهٍ، ولكن أحسن إليه وأكرمه واعرف حقه وبره وصله، فإذا فعلت ذلك ثم خالف ما تهواه عاقبته بيدٍ مستطيلةٍ منبسطةٍ ولسانٍ منطلق.ثم قال لي: قم إلى مولاك وابن مولاك فقبل رأسه، فقمت إليه وقام إلي وأصلح الرشيد بيننا. قال أبو الفرج: وكان إسحاق جيد الشعر، كان يقول الشعر وينسبه للعرب.فمن ذلك قوله:
لفظ الخدور إليك حوراً عيناً
أنسين ما جمع الكناس قطينا
فإذا بسمن فعن كمثل غمامةٍ
أو أقحوان الرمل بات معيناٍ
وأصح ما رأت العيون محاجراً
ولهن أمراض ما رأيت بات عيونا
فكأنما تلك الوجوه أهلةٌ
أقمرن بين العشر والعشرينا
وكأنهن إذا نهضن لحاجةٍ
ينهضن بالعقدات من يبرينا
وأشعاره في هذا النوع كثيرة. روي عن الأصمعي قال: دخلت أنا وإسحاق بن إبراهيم الموصلي يوماً على الرشيد فرأيناه لقس النفس، فأنشده إسحاق:
وآمرةٍ بالبخل قلت لها اقصري
فذلك شيءٌ ما إليه سبيل
أرى الناس خلان الكرام ولا أرى
بخيلاً له حتى الممات خليل
وإني رأيت البخل يزرى بأهله
فأكرمت نفسي أن يقال بخيل
ومن خير حالات التي لو علمته
إذا نال خيراً أن يكون ينيل
فعالي فعال المكثرين تجملاً
ومالي كما تعلمين قليل
وكيف أخاف الفقر أو أحرم الغنى
ورأي أمير المؤمنين جميل !
قال: فقال الرشيد: لا تخف إن شاء الله، ثم قال: لله در أبياتٍ تأتين بها ما أشد أصولها، وأحسن فصولها، وأقل فضولها ! وأمر له بخمسين ألف درهم.فقال له إسحاق: وصفك والله يا أمير المؤمنين لشعري أحسن منه، فعلام آخذ الجائزة ! فضحك الرشيد وقال: اجعلوها مائة ألف درهم.قال الأصمعي: فعلمت يومئذٍ أن إسحاق أحذق بصيد الدراهم مني. قال أبو العبد بن حمدون: سأل المتوكل عن إسحاق، فعرف أنه كف وأنه بمنزله ببغداد، فكتب في إحضاره.فلما دخل عليه رفعه حتى أجلسه قدام السرير وأعطاه مخدة وقال: بلغني أن المعتصم دفع إليك في أول يومٍ جلست بين يديه مخدةً، وقال: إنه لا يستجلب ما عند حرٍ مثل إكرامه.ثم سأله: هل أكل ؟ فقال نعم، فأمر أن يسقى.فلما شرب أقداحاً قال: هاتوا لأبي محمد عوداً، فجيء به فاندفع يغني بشعره:
ما علة الشيخ عيناه بأربعةٍ
تغرورقان بدمعٍ ثم ينسكب
قال ابن حمدون: فما بقي غلامٌ من الغلامان الوقوف على الحير إلا وجدته يرقص طرباً وهو لا يعلم بما يفعل، فأمر له بمائة ألف دينار.ثم انحدر المتوكل إلى الرقة وكان يستطيبها لكثرة تغريد الطير فيها، فغناه إسحاق:
أأن هتفت ورقاء في رونق الضحى
على فننٍ غض النبات من الرند
بكيت كما يبكي والوليد ولم تزل
جليداً وأبديت الذي لم تكن تبدي
فضحك المتوكل ثم قال: يا إسحاق، هذه أخت فعلتك بالواثق لما غنيته بالصالحية:
طربت إلى أصيبيةٍ صغار
وذكرني الهوى قرب المزار
فكم أعطاك لما أذن لك في الانصراف ؟ قال: مائة ألف دينار، فأمر له بمائة ألف دينار وأذن له بالانصراف.وكان آخر عهده بإسحاق.توفي بعد ذلك بشهرين.وكانت وفاته في شهر رمضان سنة خمسٍ وثلاثين ومائتين.وكان يسأل الله تعالى ألا يبتليه بالقولنج لما رأى من صعوبته على أبيه، فرأى في منامه كأن قائلاً يقول له: قد أجيبت دعوتك ولست تموت بالقولنج ولكنك تموت بضده، فأصابه ذرب في شهر رمضان، فكان يتصدق في كل يومٍ يمكنه صومه بمائة درهم، ثم ضعف عن الصوم فلم يطقه ومات في الشهر.ولما نعي إلى المتوكل غمه وحزن عليه وقال: ذهب صدرٌ عظيمٌ من جمال الملك وبهائه وزينته.رحمه الله تعالى.