أخبار الأمين والمأمون
وما كان بينهما من الفتن والاختلاف وما أفضى إليه الأمر من قتل الأمينكان ابتداء الخلف بينهما في سنة ثلاث وتسعين ومائة عند وفاة الرشيد.وكان سبب ذلك أن الرشيد كان قد أشهد عليه في سفرته التي مات فيها: أن جميع ما في عسكره من مال ومتاع ورقيق وكراع وغير ذلك للمأمون، وأخذ له البيعة على جميع من في عسكره، فعظم ذلك على الأمين، ثم بلغه شدة مرض الرشيد، فأرسل بكر بن المعتمر وكتب معه كتباً وجعلها في قوائم صناديق المطبخ، وألبسها جلود البقر، وقال: لا تظهرن أمير المؤمنين ولا غيره عليها، فإذا مات فادفع الكتب إلى أربابها، فقدم بكر إلى طوس فبلغ الرشيد قدومه، فأحضره وسأله عن موجب قدومه، قال: بعثني الأمين لآتيه بخبرك، قال: فهل معك كتاب ؟ قال: لا، فأمر بتفتيش ما معه فلم يصيبوا شيئاً، فأمر به فضرب فما أقر، ثم أمر الفضل بن الربيع بتقريره، فإن أقر وإلا ضرب عنقه، ثم مات الرشيد فأخرج بكر الكتب التي معه، وهي كتاب إلى المأمون يأمره بترك الجزع، وأخذ البيعة على الناس لأخيهما المؤتمن، فلم يكن المأمون حاضراً وكان بمرو، وكتاب إلى أخيه صالح يأمره بتسيير العسكر واستصحاب ما فيه، وأن يتصرف هو ومن معه برأي الفضل بن الربيع، وكتاب إلى الفضل بالحفظ والاحتياط على الحرم والأموال وغير ذلك، وأقر كل من كان على عمل من الأعمال على عمله، من صاحب شرط وحجابة وحرس، فلما قرءوا الكتب تشاور القواد في اللحاق بالمأمون أو الأمين، فقال الفضل بن الربيع: لا أدع ملكاً حاضراً لآخر ما أدري ما يكون من أمره، ثم أمر الناس بالرحيل فرحلوا، محبة منهم لأهليهم ووطنهم وتركوا العهود التي كانت أخذت عليهم للمأمون، فلما بلغ المأمون ذلك جمع من كان عنده من القواد، وفيهم ذو الرئاستين الفضل بن سهل، وهو أعظمهم قدراً عنده وأخصهم به، واستشارهم فأشاروا عليه أن يلحقهم جريدة في ألفي فارس ويردهم، فخلى به ذو الرئاستين وقال: إن فعلت ما أشار به هؤلاء جعلوك هدية إلى أخيك ولكن الرأي أن تكتب إليهم كتاباً مع رسول من عندك، تذكرهم البيعة وتسألهم الوفاء وتحذرهم الحنث، ففعل ووجه سهل بن صاعد ونوفلاً الخادم، فلحقا الجند والفضل بنيسابور، فأوصلا الفضل كتابه فقال: إنما أنا واحد من الجند، وشد عبد الرحمن بن جبلة على سهل بالرمح ليطعنه، فأمره على جنبه وقال: قل لصاحبك لو كنت حاضراً لوضعته فيك، وسب المأمون فرجعا إليه بالخير فقال ذو الرئاستين: أعداء استرحت منهم، وقال له: اصبر وأنا أضمن لك الخلافة، فقال المأمون: قد فعلت وجعلت الأمر إليك فقم به، قال ذو الرئاستين: والله لأصدقنك، إن عبد الله بن مالك ومن معه من القواد قاموا لك بالأمر كانوا أنفع لك مني، برياستهم المشهورة وبما عندهم من القوة، فمن قام بالأمر كنت خادماً له حتى تبلغ أملك وترى رأيك، وقام ذو الرئاستين فأتاهم في منازلهم، وذكر لهم البيعة وما يجب عليهم من الوفاء، قال: فكأني جئتهم بجيفة على طبق، فقال بعضهم: هذا لا يحل وأخرجه، وقال بعضهم: ومن الذي يدخل بين أمير المؤمنين وأخيه ؟ قال: فجئت وأخبرته فقال: قم بالأمر، فأشار عليه أن يبعث إلى الفقهاء، ويدعوهم إلى الحق والعمل به وإحياء السنة ورد المظالم، وأن تجلس على الصوف وتكرم القواد، ففعل ذلك ووضع عن خراسان ربع الخراج، فحسن ذلك عند أهلها وقالوا: ابن أختنا وابن عم نبينا صلى الله عليه وسلم، ثم كتب المأمون إلى الأمين وعظمه. ولما قدم الفضل بن الربيع العراق - وقد نكث عهد المأمون - علم أن المأمون، إن أفضت إليه الخلافة وهو حي، لم يبق عليه، فسعى في إغراء الأمين وحثه على خلع المأمون، والبيعة لابنه موسى بولاية العهد - ولم يكن ذلك في عزم الأمين، فلم يزل الفضل يصغر أمر المأمون عنده ويزين له خلعه، ووافقه على ذلك علي بن عيسى بن ماهان والسندي وغيرهما، فرجع الأمين إلى قولهم وجمع القواد لذلك، فنهاه عبد الله بن خازم وأبى القواد ذلك، وربما ساعده قوم، فلما بلغ إلى خزيمة بن خازم قال له: يا أمير المؤمنين، لم ينصحك من كذبك، ولم يغشك من صدقك، لا تجريء القواد على الخلع فيخلعوك، ولا تحملهم على نكث العهد فينكثوا عهدك وبيعتك، فإن الغادر مخذول، والناكث مفلول، فأقبل الأمين على علي بن ماهان فتبسم وقال: لكن شيخ هذه الدعوة وناب هذه الدولة لا يخالف على إمامه، ولا يوهن طاعته ثم رفعه إلى موضع لم يرفعه إليه قبلها، وألح الأمين في خلع المأمون، فأول ما فعل أن كتب إلى جميع العمال بالدعاء بالإمرة لابنه موسى بعد الدعاء للمأمون والمؤتمن، فلما بلغ ذلك المأمون، وأن الأمين عزل المؤتمن عما كان بيده، أسقط الأمين من الطرز وقطع البريد عنه، وكان رافع بن الليث بن نصر بن سيار - لما بلغه حسن سيرة المأمون - طلب الأمان منه فأمنه، فحضر عنده. قال: ثم كتب الأمين إلى المأمون يستقدمه ويسأله أن يقدم ابنه موسى على نفسه، وأرسل إليه أربعة في الرسالة - منهم العباس بن موسى بن عيسى، فلما أتوه امتنع من ذلك، فقال له العباس بن موسى: ما عليك أيها الأمير من ذلك ؟ وقد فعله جدي عيسى بن موسى وخلع فما ضره ذلك، فصاح به ذو الرئاستين: فقال اسكت فإن جدك كان أسيراً بين أيديهم، وهذا بين أخواله وشيعته، ثم قاموا فخلى ذو الرئاستين بالعباس بن موسى، واستماله ووعده إمرة الموسم ومواضع، فأجاب إلى بيعة المأمون وسماه بالإمام، وكان يكتب إليهم بالأخبار من بغداد، ورجع الرسل إلى الأمين وأخبروه بامتناع المأمون، وبعث المأمون ثقة من عنده إلى الحد، يمنع من الدخول إلى بلاده إلا مع ثقة من ناحيته، وضبط الطرق بثقاة أصحابه. قال: وألح الفضل بن الربيع في قطع خطبة المأمون، وأغرى الأمين بحربه، فأجابه إلى ذلك وبايع لولده موسى، وجعله في حجر علي بن عيسى بن ماهان، وجعل على شرطه محمد بن عيسى بن نهيك وعلى حرسه عثمان بن عيسى بن نهيك، وعلى رسائله علي بن صالح صاحب المصلى، وأسقط خطبة المأمون في سنة خمس وتسعين ومائة، وبايع لولده موسى في صفر وقيل في ربيع الأول، وأرسل إلى الكعبة فأتى بالكتابين اللذين وضعهما الرشيد ببيعة الأمين والمأمون، فمزقهما الفضل بن الربيع.