أخبار الغريض
وما يتصل بها من أخبار عائشة بنت طلحة
هو عبد الملك، وكنيته أبو زيد، وقيل: أبو مروان، والغريض لقبٌ لقب به ؛ لأنه كان طري الوجه نضراً غض الشباب حسن المنظر، فلقب بذلك.والغريض: الطري من كل شيء.وقال أبن الكلبي: شبه بالإغريض وهو الجمار ثم ثقل ذلك على الألسنة فحذفت الألف فقيل: الغريض.وهو من مولدي البربر.وولاؤه للثريا صاحبة عمر بن أبي ربيعة وأخواتها الرضيا وقريبة وأم عثمان بنات علي بن عبد الله بن الحارث بن أمية الأصغر.قالوا: وكان يضرب بالعود وينقر بالدف ويوقع بالقضيب.وكان قبل الغناء خياطا.وأخذ الغناء في أول أمره عن عبيد بن سريج، لأنه كان قد خدمه ؛ فلما رأى أبن سريج طبعه وظرفه وحلاوة منطقه، خشى أن يأخذ غناءه فيغلبه عليه ويفوقه بحسن وجهه، وحسده، فأعتل عليه وشكاه إلى مولياته، وكن دفعنه إليه ليعلمه الغناء، وجعل يتجنى عليه ثم طرده.فعرف مولياته غرض أبن سريج فيه وأنه حسده ؛ فقلن له: هل لك أن تسمع نوحنا على قتلانا فتأخذه وتغني عليه ؟ قال نعم.فأسمعنه المراثي فأحتذاها وخرج غناءه عليها.وكان ينوح مع ذلك فيدخل المأتم وتضرب دونه الحجب ثم ينوح فيفتن كل من سمعه.فلما كثر غناؤه عدل الناس إليه لما كان فيه من الشجا ؛ فكان أبن سريج لا يغني صوتا إلا عارضه فيه فيغني فيه لحنا آخر.فلما رأى أبن سريج موقع الغريض اشتد عليه وحسده، فغنى الأرمال والأهزاج، فأشتهاها الناس.فقال له الغريض: يا أبا يحيى قصرت الغناء وحذفته.قال: نعم يا مخنث حين جعلت تنوح على أبيك وأمك.قال: ولم يفضل أبن سريج عليه إلا بالسبق، وأما غير ذلك فلا. وقال بعضهم: كان الغريض أشجى غناءً، وأبن سريج أحكم صنعةً.وحكى أبو الفرج الأصفهاني بسند رفعه إلى أيوب بن عباية عن مولى لآل الغريض قال: حدثني بعض مولياتي وقد ذكرن الغريض فترحمن عليه وقلن: جاءنا يوما فحدثنا بحديث أنكرناه عليه ثم عرفناه بعد ذلك حقيقةً.قالت: وكان أبن سريج بجوارنا فدفعناه إليه ولقن الغناء، وكان من أحسن الناس صوتاً، ففتن أهل مكة بحسن وجهه مع حسن صوته.فلما رأى ذلك أبن سريج نحاه عنه.فكان بعض مولياته تعلمه النياحة فبرز فيها.فجاءني يوما فقال: نهتني الجن أن أنوح وأسمعتني صوتا عجيبا، فقد أبتنيت عليه لحناً فأسمعيه مني، فأندفع فغنى بصوتٍ عجيبٍ في شعرٍ لمرار الأسدي:
حلفت لها بالله ما بين ذي الغضا
وهضب القنان من عوانٍ ومن بكر
أحبّ إلينا منك دلاّ وما نرى
به عند ليلى من ثواب ولا أجر
قالت: فكذبناه وقلنا: شيءٌ فكر فيه وأخرجه على هذا الجنس.فكان في كل يوم يأتينا فيقول: سمعت البارحة صوتاً من الجن بترجيع وتقطيع، فقد بنيت عليه صوت كذا وكذا بشعر فلان، فلم يزل على ذلك ونحن ننكر عليه.فإنا لكذلك ليلةً وقد أجتمع جماعةٌ من نساء أهل مكة في جمع لنا سمرنا فيه ليلتنا والغريض يغنينا بشعر عمر بن أبي ربيعة حيث يقول:
أمن آل زينب جدّ البكور
نعم فلأيّ هواها تصير
إذ سمعنا في بعض الليل عزيفاً عجيبا وأصواتا ذعرتنا وأفزعتنا.فقال لنا الغريض: إن في هذه الأصوات صوتاً إذا نمت سمعته وأصبح أبني عليه غنائي ؛ فأصغينا إليه فإذا نغمته نغمة الغريض بعينها، فصدقناه تلك الليلة. وكانت وفاة الغريض باليمن في خلافة سليمان بن عبد الملك أو عمر بن عبد العزيز، وكان قد هرب من نافع بن علقمة لما ولي مكة من مكة إلى اليمن وأستوطنها ومات بها. وللغريض أخبارٌ مستظرفة وحكايات مستحسنة قد رأينا أن نثبت في هذا الموضع ما سنقف عليه إن شاء الله تعالى. فمن ذلك ما حكاه أبو الفرج الأصبهاني في كتابه المترجم بالأغاني في أخبار الحارث بن خالد بن العاص بن هشام بن المغيرة المخزومي، بعد أن ساق قطعة من أخباره مع عائشة بنت طلحة بن عبيد الله، وأنه كان يهواها ويشبب بها في شعره، ثم قال في أثناء ذلك: لما قدمت عائشة بنت طلحة مكة أرسل إليها الحارث وهو أمير مكة يومئذ، وكان وليها من قبل عبد الملك بن مروان، فأرسل إليها: إني أريد السلام عليك ؛ فإذا خف ذلك عليك أذنت، وكان الرسول الغريض.فأرسلت إليه: إنا حرمٌ، فإذا أحللنا أذناك.فلما أحلت خرجت سراً على بغلتها، ولحقها الغريض بعسفان أو قريب منه ومعه كتاب الحارث إليها، وفيه:
ما ضرّكم لو قلتم سدداً
إنّ المطايا عاجلٌ غدها
ولها علينا نعمةٌ سلفت
لسنا على الأيام نجحدها
لو أتممت أسباب نعمتها
تمّت بذلك عندنا يدها
فلما قرأت الكتاب قالت: ما يدع الحارث باطله !.ثم قالت للغريض: هل أحدثت شيئا ؟ قال: نعم فأسمعي، ثم أندفع يغني في هذا الشعر.فقالت عائشة: والله ما قلنا إلا سدداً ولا أردنا إلا أن نشتري لسانه ؛ وأتسحسنت الشعر، وأمرت للغريض بخمسة آلاف درهم وأثوابٍ، وقالت: زدني.فغنى في قول الحارث أيضا حيث يقول:
زعموا بأنّ البين بعد غدٍ
فالقلب ممّا أحدثوا يجف
والعين منذ أجدّ بينهم
مثل الجمان دموعها تكف
نشكو وتشكو ما أشتّ بنا
كلٌّ بوشك البين معترف
ومقالها ودموعها سجمٌ
أقلل حنينك حين تنصرف
فقالت عائشة: يا غريض، بحقي عليك أهو أمرك أن تغنيني في هذا الشعر ؟ قال: لا وحياتك يا سيدتي ؛ فأمرت له بخمسة آلاف درهم، ثم قالت: غنني في غير شعره ؛ فغناها بشعر عمر بن أبي ربيعة وكان عمر قد سأله ذلك فقال:
أجمعت خلّتي مع الهجر بينا
جلّل الله ذلك الوجه زينا
أجمعت بينها ولم نك منها
لذّة العيش والشباب قضينا
فتولّت حمولها وأستقلّت
لم تنل طائلاً ولم تقض دينا
ولقد قلت يوم مكّة لمّا
أرسلت تقرأ السلام علينا
أنعم الله بالرسول الذي أر
سل والمرسل الرسالة عينا
قال: فضحكت ثم قالت: وأنت يا غريض فأنعم الله بك عيناً وأنعم بأبن أبي ربيعة عينا، لقد تلطفت حتى أديت إينا رسالته، وإن وفاءك له لمما يزيدنا رغبةً فيك وثقةً بك.وكان عمر سأل الغريض أن يغنيها بشعره هذا لأنه كان قد ترك ذكرها لما غضبت بنو تيم من ذلك، فلم يحب التصريح بها وكره إغفار ذكرها.فقال له عمر بن أبي ربيعة: إن أبلغتها هذه الأبيات في غناءٍ فلك خمسة آلاف درهم، فوفي له، وأمرت له عائشة بخمسة آلاف درهم.ثم أنصرف الغريض من عندها، فلقي عاتكة بنت يزيد بن معاوية أمرأة عبد الملك بن مروان وقد كانت حجت في تلك السنة ؛ فقال لها جواريها: هذا الغريض.فقالت لهن: علي به ؛ فجئن به إليها.قال الغريض: فلما دخلت سلمت فردت علي وسألتني عن الخبر، فقصصته عليها.فقالت: غنني بما غنيتها به، ففعلت ؛ فلم أرها تهش لذلك ؛ فغنيتها معرضا ومذكرا بنفسي في شعر مرة بن محكان السعدي يخاطب أمرأته وقد نزل به أضياف:
أقول والضيف مخشيٌّ ذمامته
على الكريم وحقّ الضيف قد وجبا
يا ربّة البيت قومي غير صاغرةٍ
ضمّي إليك رحال القوم والقربا
في ليلةٍ من جمادى ذات أنديةٍ
لا يبصر الكلب في ظلمائها الطّنبا
لا ينبح الكلب فيها غير واحدة
حتى يلفّ على خيشومه الذّنبا
فقالت وهي مبتسمة: نعم وقد وجب حقك يا غريض، فغنني ؛ فغنيتها:
يا دهر قد أكثرت فجعتنا
بسراتنا ووقرت في العظم
وسلبتنا ما لست مخلفه
يا دهر ما أنصفت في الحكم
لو كان لي قرنٌ أناضله
ما طاش عند حفيظةٍ سهمي
لو كان يعطى النّصف قلت له
أحرزت قسمك فاله عن قسمي
فقالت: نعطيك النصف فلا يضيع سهمك عندنا ونجزل لك قسمك، وأمرت له بخمسة آلاف درهم وثياب عدنيةٍ وغير ذلك من الألطاف.قال الغريض: فأتيت الحارث بن خالد فأخبرته الخبر وقصصت عليه القصة ؛ فأمر لي بمثل ما أمرتا لي جميعا ؛ وأتيت أبن أبي ربيعة فأعلمته بما جرى، فأمر لي بمثل ذلك.فما أنصرف أحدٌ من ذلك الموسم بمثل ما أنصرفت به: نظرة من عائشة، ونظرة من عاتكة وهما أجمل نساء عالمهما وبما أمرتا لي به، والمنزلة عند الحارث وهو أمير مكة وأبن أبي ربيعة وما أجازاني به جميعا من المال. ولنصل هذا الفصل بشيء من أخبار عائشة بنت طلحة ؛ لأن الشيء بالشيء يذكر. هي عائشة بنت طلحة بن عبيد الله بن عثمان بن عامر بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم.وأمها أم كلثوم بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنه.وكانت عائشة لا تستر وجهها من أحد.فعاتبها مصعب في ذلك فقالت: إن الله تبارك وتعالى وسمني بميسم جمال أحببت أن يراه الناس ويعرفوا فضلي عليهم فما كنت لأسترهن ووالله ما في وصمةٌ يقدر أن يذكرني بها أحد. قال أبو الفرج الأصبهاني: وكانت شرسة الخلق، وكذلك نساء بني تيم، هن أشرس خلق الله خلقا وأحظاهن عند أزواجهن.قال: وآلت عائشة من زوجها مصعب بن الزبير، فقالت: أنت علي كظهر أمي، وقعدت في غرفةٍ وهيأت ما يصلحها.فجهد مصعبٌ أن تكلمه فأبت.فعبث إليها أبن قيس الرقيات فسألها كلامه.فقالت: كيف بيميني ؟ فقال: ها هنا الشعبي فقيه أهل العراق فأستفتيه.فدخل الشعبي عليها فأخبرته ؛ فقال: ليس هذا بشيء ؛ فأمرت له بأربعة آلاف درهم. وحكى أبو الفرج أن مصعب بن الزبير لما عزم على زواج عائشة بنت طلحة، جاء هو وعبد الله بن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق وسعيد بن العاص إلى عزة الميلاء وكانت عزة هذه يألفها الأشراف وغيرهم من أهل المروءات، وكانت من أظرف الناس وأعلمهم بأمور النساء فقالوا لها: إنا خطبنا فأنظري لنا.فقالت لمصعب: يا أبن أبي عبد الله، ومن خطبت ؟ قال: عائشة بنت طلحة.قالت: فأنت يا أبن أبي أحيحة ؟ قال: عائشة بنت عثمان بن عفان.قالت: فأنت يا أبن الصديق ؟ قال: أم الهيثم بنت زكريا بن طلحة.فقالت: يا جارية، هاتي منقلي تعني خفيا، فلبستهما وخرجت ومعها خادمٌ لها، فبدأت بعائشة بنت طلحة، فقالت: فديتك، كنا في مأدبة أو مأتم لقريش، فتذاكروا جمال النساء وخلقهن فذكروك فلم أدر كيف أصفك، فديتك، فألقي ثيابك ؛ ففعلت فأقبلت وأدبرت فأريج كل شيء منها.فقالت لها عزة: خذي ثوبك.فقالت عائشة: قد قضيت حاجتك وبقيت حاجتي.فقالت عزة: وما هي ؟ فديتك ! قالت: تغنيني صوتا.فأندفعت تغني لحنها في شعرٍ لجميل بن عبد الله بن معمر العذري:
خليليّ عوجا بالمحلّة من جمل
وأترابها بين الأصيفر فالحبل
نقفٌ بمغانٍ قد عفا رسمها البلي
تعاقبها الأيام بالرّيح والوبل
فلو درج النّمل الصغار بجلدها
لأندب أعلى جلدها مدرج النّمل
وأحسن خلق الله جيداً ومقلةً
تشبّه في النسوان بالشادن الطّفل
فقبلت عائشة ما بين عينيها ودعت لها بعشرة أثواب وطرائف من أنواع الفضة، فدفعته إلى مولاتها.وأتت النسوة على مثل ذلك تقول ذلك لهن.ثم اتت القوم في السقيفة.فقالوا: ما صنعت ؟ فقالت: يا أبن أبي عبد الله، أما عائشة فلا والله ما رأيت مثلها مقبلةً ولا مدبرة، محطوطة المتنين، عظيمة العجيزة، ممتلئة الترائب، نقية الثغر وصفحة الوجه، فرعاء الشعر، ممتلئة الصدر، خميصة البطن ذات عكنٍ، ضخمة السرة، مسرولة الساق، يريج ما بين أعلاها إلى قدميها ؛ وفيها عيبان، أما أحدهما فيواريه الخمار، وأما الآخر فيواريه الخف: عظم الأذن والقدم.وكانت عائشة بنت طلحة كذلك.ثم قالت عزة: وأما أنت يا أبن أبي أحيحة فإني والله ما رأيت مثل خلق عائشة بنت عثمان لأمرأةٍ قط ! ليس فيها عيب والله لكأنما أفرغت إفراغاً ولكن في الوجه ردةٌ، وإن أستشرتني أشرت عليك.قال: هات.قالت: عليك بوجه تستأنس به.وأما أنت يا أبن الصديق: فوالله ما رأيت مثل أم الهيثم، كأنها خوط بانة تنثني، أو كأنها جانٌ يتثنى على رمل، لو شئت أن تعقد طرفيها لفعلت، ولكنها شختة الصدر وأنت عريض الصدر، فإذا كان كذلك كان قبيحاً، لا والله حتى يملأ كل شيء مثله.قال: فوصلها الرجال والنساء وتزوجوهن. وحكى أبو الفرج أيضا: أن مصعب بن الزبير إنما تزوجها بعد عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي بكر.وقال: وكانت عائشة بنت طلحة تشبه بخالتها عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها، فزوجتها عائشة من أبن أخيها عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي بكر، وهو أول من تزوجها.ولم تلد عائشة بنت طلحة من أحد من أزواجها غيره، ولدت له عمران وبه كانت تكنى، وعبد الرحمن وأبا بكر وطلحة ونفيسة، ولكل من هؤلاء عقبٌ.وأنا من عقب طلحة بن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي بكر من ولده ليث ابن طلحة.وليس هذا موضع سرد نسبي فأسرده. قال أبو الفرج: وصارمت عائشة بنت طلحة زوجها عبد الله بن عبد الرحمن وخرجت من داره مغضبة تريد عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها.فرآها أبو هريرة فسبح الله تعالى وقال: كأنها من الحور العين.فمكثت عند عائشة قريبا من أربعة أشهر.وكان عبد الله قد آلى منها ؛ فأرسلت عائشة إليه: إني أخاف عليك الإيلاء ؛ فضمها إليه وكان مولياً منها.فقيل له: طلقها ؛ فقال:
يقولون طلّقها لأصبح ثاوياً
مقيماً عليّ الهمّ، أحلام نائم
وإنّ فراقي أهل بيت أحبّهم
لهم زلفةٌ عندي لإحدى العظائم
وتوفي عبد الله بعد ذلك وهي عنده، فما فتحت فاها عليه ؛ وكانت عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها تعد هذا عليها في ذنوبها التي تعددها.ثم تزوجها بعده مصعب بن الزبير، فمهرها خمسمائة ألف درهم وأهدى لها مثل ذلك. وكانت عائشة تمتنع على مصعب في غالب الأوقات.فحكى أنه دخل عليها يوما وهي نائمة ومعه ثماني لؤلؤات قيمتها عشرون ألف دينار، فأنبهها ونثر اللؤلؤ في حجرها.فقالت: نومتي كانت أحب إلي من هذا اللؤلؤ.ولم تزل حالها معه على مثل ذلك حتى شكا ذلك إلى كاتبه أبن أبي فروة.فقال له: أنا أكفيك هذا إن أذنت لي.قال: نعم ! افعل ما شئت.فأتاها ليلاً ومعه أسودان فأستأذن عليها.فقالت: أفي مثل هذه الساعة ؟ قال نعم ؛ فأذنت له فدخل.فقال للأسودين: أحفرا ها هنا بئرا.فقالت له جاريتها: وما تصنع بالبئر ؟ قال: شؤم مولاتك، أمرني هذا الظالم أن أدفنها حية، وهو أسفك خلق الله لدمٍ حرام.قالت عائشة: فأنظرني أذهب إليه ؛ قال: هيهات لا سبيل إلى ذلك، وقال للأسودين: أحفرا.فلما رأت الجد منه بكت وقالت: يا أبن أبي فروة، إنك لقاتلي ما منه بد ؟ قال: نعم، وإني لأعلم أن الله عز وجل سيخزيه بعدك، ولكنه قد غضب وهو كافر الغضب.قالت: وفي أي شيء غضبه ؟ قال: من أمتناعك عليه وقد ظن أنك تبغضينه وتتطلعين إلى غيره، فقد جن.فقالت: أنشدك الله إلا عاودته.قال: أخاف أن يقتلني ؛ فبكت وبكى جواريها.فقال لها: قد رققت لك وحلف لها إنه يغرر بنفسه، وقال لها: فما أقول ؟ قالت: تضمن له عني أني لا أعود أبداً.قال: فمالي عندك ؟ قالت: قيامٌ بحقك ما عشت.قال: فأعطيني المواثيق فأعطته.فقال للأسودين: مكانكما.أتى مصعباً فأخبره.فقال: أستوثق منها بالأيمان ؛ فأستوثق منها ففعلت، وصلحت بعد ذلك لمصعب. قال: وكان مصعب من أشد الناس إعجاباً بها.ولم يكن لها شبيه في زمانها حسنا وديانةً وجمالا وهيئةً وشارةً وعفة، وإنها دعت يوماً نسوةً من قريش، فلما جئنها أجلستهن في مجلس قد نضد فيه الريحان والفواكه والطيب والمجامر، وخلعت على كل أمرأة منهن خلعة من الوشي والحز ونحو ذلك، ودعت عزة الميلاء ففعلت بها مثل ذلك وأضعفته ؛ ثم قالت لعزة: هات يا عزة فغنينا.فغنتهن في شعر أمرئ القيس فقالت:
وثغر أغرّ شنيب اللّثات
لذيذ المقبّل والمبتسم
وما ذقته غير ظنٍّ به
وبالظنّ يقضي عليك الحكم
وكان مصعب قريباً منهن ومعه إخوانٌ له، فقام فأنتقل حتى دنا منهن والستور مسبلةٌ، فصاح بها: يا هذه، إنا قد ذقناه فوجدناه على ما وصفت، فبارك الله فيك يا عزة.ثم أرسل إلى عائشة: أما أنت فلا سبيل لنا إليك مع من عندك، وأما عزة فتأذنين لها أن تغنينا هذا الصوت ثم تعود إليك، ففعلت وخرجت عزة إليهم فغنتهم هذا الصوت مراراً، وكاد مصعب أن يذهب عقله فرحا.ثم قال لها: يا عزة، إنك لتحسنين القول والوصف، وأمرها بالعود إلى مجلسها. قال: ولم تزل عند مصعب حتى قتل عنها.فخطبها بشر بن مروان، وقدم عمر أبن عبيد الله بن معمر التيمي من الشام فنزل الكوفة، فبلغه أن بشراً خطبها، فأرسل إليها جارية لها وقال: قولي لأبنة عمي: ابن عمك يقرئك السلام ويقول لك: أنا خير لك من هذا المبسور المطحول، وأنا أبن عمك أحق بك، وإن تزوجت بك ملأت بيتك خيراً.فتزوجته فبني عليها بالحيرة، فمهدت له سبعة أفرشة عرضها أربع أذرع ؛ فأصبح ليلة بني بها عن تسعة.فلقيته مولاة لها فقالت: أبا حفص، فديتك ! قد كملت في كل شيء حتى في هذا.وقيل إنه لما تزوجها حمل إليها ألف ألف درهم، خمسمائة ألف مهر، وخمسمائة ألف هدية، وقال لمولاتها: لك علي ألف دينار إن دخلت بها الليلة، وأمر بالمال فحمل فألقي في الدار وغطى بالثياب ؛ وخرجت عائشة فقالت لمولاتها: ما هذا ؟ أفرشٌ أم ثيابٌ ؟ قالت: انظري إليه ؛ فنظرت فإذا هو مال، فتبسمت.فقالت الجارية: أجزاء من حمل هذا المال أن يبيت عزبا ! قالت: لا والله، ولكن لا يجوز دخوله إلا بعد أن أتزين له وأستعد.قالت: وماذا ؟ فوالله لوجهك أحسن من كل زينة وما تمدين يديك إلى طيب أو ثوب أو مال أو فراش إلا وهو عندك، وقد عزمت عليك أن تأذني له.فقالت: أفعلي.فذهبت إليه فقالت له: بت بنا الليلة.فجاءهم عند العشاء الآخرة فأدني إليه طعام فأكل الطعام كله حتى أعرى الخوان وغسل يده وسأل عن المتوضأ فأخبر به، فقام فتوضأ وقام يصلي حتى ضاق صدري ونمت، ثم قال: أعليكم آذن ؟ قلت: نعم فأدخل، فأدخلته وأسبلت الستر عليهما.فلما أصبحنا وقفت على رأسه فقال: أتقولين شيئا ؟ قلت: نعم والله ما رأيت مثلك ! فضحك وضرب بيده على منكب عائشة وقال لها: كيف رأيت أبن عمك ؟ فضحكت وغطت وجهها وقالت:
قد رأيناك فلم تحل لنا
وبلوناك فلم نرض الخبر
ومكثت عائشة عند عمر بن عبيد الله ثماني سنين حتى مات سنة أثنتين وثمانين.ولما مات ندبته قائمةً، ولم تندب أحداً قبله من أزواجها إلا جالسة.فقيل لها في ذلك فقالت: إنه كان أكرمهم علي وأمسهم بي رحماً، فأردت ألا أتزوج بعده.وكانت المرأة إذا ندبت زوجها قائمةً لا تتزوج بعده أبدا.ولم تتزوج عائشة بنت طلحة بعد زوجها عمر بن عبيد الله. ومن أخبار عائشة بنت طلحة أيضا ما رواه أبو الفرج الأصفهاني بسنده إلى يزيد أبن عياض، قال:استأذنت عاتكة بنت يزيد بن معاوية عبد الملك في الحج، فأذن لها وقال: أرفعي حوائجك وأستظهري، فإن عائشة بنت طلحة تحج، ففعلت وتجهزت بهيئة جهدت فيها.فلما كانت بين مكة والمدينة إذا موكبٌ قد جاء فضغطها وفرق جماعتها ؛ فقالت: أرى هذه عائشة بنت طلحة، فسألت عنها، فقالوا: هذه جاريتها.ثم جاء موكب آخر أعظم من ذلك، فقالوا: عائشة عائشة، فضغطهم فسألت عنها، فقالوا: هذه ما شطتها.ثم جاءت مواكب على هذا لحاشيتها، ثم اقبلت في ثلثمائة راحلة عليها القباب والهوادج ؛ فقالت عاتكة: ما عند الله خير وأبقى.قال: ووفدت عائشة بنت طلحة على هشام بن عبد الملك، فقال لها: ما أوفدك ؟ قالت: حبست السماء مطرها ومنع السلطان الحق.قال: فأنا أصل رحمك وأعرف حقك.ثم بعث إلى مشايخ بني أمية فقال: إن عائشة عندي فأسمروا عندي الليلة فحضروا ؛ فما تذاكروا شيئا من أخبار العرب وأشعارها وآثارها إلا أفاضت معهم فيه، وما طلع نجمٌ ولا غار إلا أسمته.فقال لها هشام: أما الأول فلا أنكره، وأما النجوم فمن أين لك ؟ قالت: أخذته عن خالتي عائشة رضي الله عنها ؛ فأمر لها بمائة ألف درهم وردها إلى المدينة. قال: ولما تأيمت عائشة كانت تقيم بمكة سنة وبالمدينة سنة، وتخرج إلى مال لها بالطائف عظيم وقصرٍ لها هناك فتتنزه وتجلس فيه بالعشيات، فتتناضل بين يديها الرماة.فمر بها النميري الشاعر، فسألت عنه فأنتسب لها ؛ فقالت: أئتوني به، فجيء به.فقالت له: أنشدني مما قلت في زينب ؛ فأمتنع وقال: بنت عمي وقد صارت عظاما بالية.قالت: أقسمت عليك لما فعلت ؛ فأنشدها قوله:
نزلن بفخٍّ ثم رحن عشيّةً
يلبيّن للرحمن معتمرات
يخمّرن أطراف الأكفّ من التّقى
ويخرجن جنح اللّيل معتجرات
ولما رأت ركب النّميريّ راعها
وكنّ من أن يلقينه حذرات
تضوع مسكا بطن نعمان أن مشت
به زينبٌ في نسوةٍ خفرات
وزينب هذه هي زينب بنت يوسف الثقفي أخت الحجاج، وكان النميري يهواها ويشبب بها، وله معها أخبارٌ يطول شرحها ليس هذا موضع إيرادها قال: فقالت له عائشة لما أنشدها هذا الشعر: والله ما قلت إلا جميلا، ولا وصفت إلا كرما وطيباً ودينا وتقىً، أعطوه ألف درهم.فلما كانت الجمعة الأخرى تعرض لها، فقالت: علي به ؛ فجاء فقالت له: أنشدني من شعرك في زينب ؛ قال: فأنشدك من قول الحارث فيك.فوثب مواليها إليه، فقالت: دعوه فإنه أراد أن يستقيد لأبنة عمه، هات ؛ فأنشدها:
ظعن الأمير بأحسن الخلق
وغدا بلبّك مطلع الشرق
وتنوء تثقلها عجيزتها
نهض الضعيف ينوء بالوسق
ما صبّحت زوجاً بطلعتها
إلا غدا بكواكب الطّلق
بيضاء من تيم كلفت بها
هذا الجنون وليس بالعشق
فقالت: والله ما ذكر إلا جميلا، ذكر أني إذا صبحت زوجا بوجهي غدا بكواكب الطلق، وأني غدوت مع أمير تزوجني إلى الشرق، أعطوه ألف درهم وأكسوه حلتين ولا تعد لإنياننا يا نميري ؛ والله أعلم ولنرجع إلى أخبار المغنين.