أخبار القرامطة
وابتداء أمرهم وما كان من أخبارهم وما استولوا عليه من البلاد وغير ذلك من أخبارهموالقرامطة منسوبون إلى قرمط، وقد اختلف فيه: فمن الناس من يقول إنه حمدان بن الأشعث، وأنه إنما سمي قرمطاً لأنه كان رجلاً قصيراً قصير الرجلين متقارب الخطو فسمي بذلك، وقيل قُرْمط: ثور كان لحمدان بن الأشعث هذا، وأنه كان يحمل غلات السواد على أثوار له بسواد الكوفة، والله تعالى أعلم. قال ابن الأثير في تاريخه الكامل في حوادث سنة ثمان وسبعين ومائتين:وفيها تحرك بسواد الكوفة قوم يعرفون بالقرامطة، وكان ابتداء أمرهم: أن رجلاً يقال له حمدان يظهر الدين والزهد والتقشف، ويأكل من كبسه، وأقام على ذلك مدة، فكان إذا جالسه رجل ذاكره الدين وزهده في الدنيا، وأعلمه أن الصلاة المفروضة على الناس خمسون صلاة في كل يوم، حتى فشا ذلك بموضعه، ثم أعلمهم أنه يدعو إلى إمام من أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستجاب له جمع كثير وكان يقعد إلى بقال هناك، فجاء رجل إلى البقال يطلب منه من يحفظ له ما صرم من نخله، فدله عليه وقال لعله يجيب، فكلموه في ذلك فاتفق معه على أجرة معلومة، فكان يحفظ لهم ويصلي أكثر نهاره، ويصوم ويأخذ عند إفطاره من البقال رطل تمر، يفطر عليه ويجمع نواه ويعطيه للبقال، فلما حمل التجار تمرهم جلسوا عند البقال وحاسبوه وأعطوه أجرته، وحاسب هو البقال على ما أخذ من التمر وحط ثمن النوى فضربوه، وقالوا ألم يكفك أن تأكل تمرنا حتى تبيع نواه ؟ ! فأوقفهم البقال على الخبر فاعتذروا واستحلوا منه، وازداد بذلك عند أهل القرية، ودعا أهل تلك الناحية إلى مذهبه فأجابوه، وكان يأخذ من الرجل إذا أجابه ديناراً واحداً، ويزعم أنه للإمام، واتخذ منهم اثني عشر نقيباً أمرهم أن يدعو الناس إلى مذهبه وقال: أنتم كحواري عيسى بن مريم، فاشتعل أهل تلك الناحية عن أعمالهم، وكان للهيصم في تلك الناحية ضياع، فرأى تقصير الأكارة في عمارتها، فسأل عن ذلك فقيل له خبر الرجل فحسبه، وحلف ليقتلنه لما اطلع على مذهبه، وأغلق عليه الباب ليقتله في غد، وجعل المفتاح تحت رأسه، فسمع بعض جواريه خبره فرقت له، فسرقت المفتاح وأخرجته وأعادت المفتاح إلى موضعه، فلما أصبح الهيصم فتح الباب ليقتله فلم يجده، فشاع ذلك في الناس فافتتنوا به وقالوا رفع، ثم ظهر في ناحية أخرى، ولقي جماعة من أصحابه فسألوه عن قصته فقال: لا يمكن أن ينالني أحد بسوء، فعظم في أعينهم ثم خاف على نفسه فخرج إلى ناحية الشام، فلم يوقف له على خبر، هذا ما حكاه عز الدين بن الأثير الجزري في تاريخه الكامل. وحكى الشريف أبو الحسين محمد بن علي بن الحسين بن أحمد بن إسماعيل بن محمد بن إسماعيل بن جعفر الصادق بن محمد ابن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب - وهو المعروف بأخي محسن - في كتاب ألفه ذكر فيه عبيد الله الملقب بالمهدي، الذي استولى على بلاد المغرب واستولى بنوه من بعده على الديار المصرية والشام وغير ذلك، وذكر الشريف أصل عبيد الله هذا ونفاه عن النسب إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه، واستدل على ذلك بأدله يطول شرحها أجاد في تبيانها، وقال في أثناء ما حكاه أنه لما صار الأمر إلى محمد بن عبد الله بن ميمون بن ديصان بعد أبيه - وأحمد هذا جد عبيد الله الملقب بالمهدي - بعث - وهو بسلمية - الحسين الأهوازي داعية إلى العراق، فلقي حمدان بن الأشعث قرمطاً بسواد الكوفة ومعه ثور ينقل عليه، فقال له الحسين الأهوازي: كيف الطريق إلى قس بهرام ؟ فعرفه حمدان أنه قاصد إليه، وسأله الأهوازي عن قرية تعرف ببانبورا من قرى السواد، فذكر أنها قريبة من قريته وكان حمدان هذا من قرية تعرف بالدور على نهر هد من رستاق مهروسا من طسوج فرات باقلي، قال: فتماشيا ساعة، فقال له حمدان: إني أراك جئت من سفر بعيد، وأنت معي فاركب ثوري هذا، فقال له الحسين: لم أومر بذلك، فقال له حمدان: كأنك تعمل بأمر أمر لك ؟ قال نعم، قال: من يأمرك وينهاك ؟ قال: مالكي ومالكك من له الدنيا والآخرة، قال: فبهت حمدان قرمط مفكراً، وأقبل ينظر إليه ثم قال له: يا هذا ما نملك ما ذكرته إلا الله تعالى ! قال: صدقت، والله يهب ملكه لمن يشاء، قال له حمدان: فما تريد في القرية التي سألتني عنها ؟ قال: دفع إليّ جراب فيه علم سر من أسرار الله تعالى، وأمرت، أن أشفي هذه القرية وأغني أهلها واستنقذهم وأملكهم أملاك أصحابهم. وابتدأ يدعوه فقال له حمدان: يا هذا نشدتك الله إلا دفعت إلي من هذا العلم الذي معك وأنقذتني ينقذك الله ! ! قال له: لا يجوز ذلك أو آخذ عليك عهداً وميثاقاً أخذه الله تعالى على النبيين والمرسلين وألقى عليك ما ينفعك، قال: فما زال حمدان يضرع إليه حتى جلسا في بعض الطريق وأخذ عليه العهد، ثم قال له: ما اسمك ؟ قال: قرمط، ثم قال له قرمط: قم معي إلى منزلي حتى تجلس فيه، فإن لي إخواناً أصير بهم إليك لتأخذ عليهم العهد للمهدي، فصار معه إلى منزله، فأخذ على الناس العهد هناك، وأقام في منزل حمدان وأعجبه أمره وعظمه وكرمه، وكان على غاية ما يكون من الخشوع، صائماً نهاره قائماً ليله، وكان المغبوط من أخذه إلى منزله ليلة، وكان ربما خاط لهم الثياب وتكسب بذلك، وكانوا يتبركون به وبخياطته.قال: وأدرك التمر فاحتاج أبو عبد الله محمد بن عمر بن شهاب العدوى إلى عمل تمره، وكان من وجوه أهل الكوفة ومن أهل العلم والفضل والتوحيد، فوصف له هذا الرجل فنصبه لحفظ تمره والقيام في حظيرته، فأحسن حفظها واحتاط في أداء الأمانة، وظهر منه من التشديد في ذلك ما خرج به عن أحوال الناس في تساهلهم في كثير من الأمور، وذلك في سنة أربع وستين ومائتين، فاستحكمت ثقة الناس به، وثقته بحمدان قرمط وسكونه إليه، فأظهر له أمره وكشف له الغطاء. قال: وكل ما كان هذا الداعية يفعله من الثقة والأمانة وإظهار الخشوع والنسك إنما كان حيلة ومكراً وخديعة وغشاً، قال: فلما حضرت هذا الطاغية الوفاة جعل مقامه حمدان بن الأشعث قرمطاً، فأخذ على أكثر أهل السواد وكان ذكياً خبيثاً، قال: وكان ممن أجابه من أصحابه الذين صار لهم ذكر زكرويه بن مهرويه السلماني وجلندي الرازي، وعكرمة البابلي، وإسحاق السوراني، وعطيف النيلي وغيرهم، وبث دعاته في السواد يأخذون على الناس، وكان أكبر دعاته عبدان متزوجاً أخت قرمط أو قرمط متزوجاً أخته، وكان عبدان رجلا ذكياً خفيفاً فطناً خبيثاً، خارجاً عن طبقة نظرائه من أهل السواد ذا فهم وخبث، فكان يعمل عند نفسه على حد قد نصب له، ولا يرى أنه يجاوزه إلى غيره من خلع الإسلام، ولا يظهر غير التشيع والعلم ويدعو إلى الإمام من آل رسول الله صلى الله عليه وسلم، محمد بن إسماعيل بن جعفر، وكان أحد من تبع عبدان زكرويه بن مهرويه، وكان زكرويه شاباً فيه ذكاء وفطنة، وكان من قرية بسواد الكوفة يقال لها المنسانية تلاصق قرية الصوان، وهاتان القريتان على نهرهد نصبه عبدان على إقليم نهرهد وطسوج السالحين وإقليم نهر يوسف داعية، ومن قبله جماعة دعاة متفرقون في عمله، يدور كل واحد منهم في عمله في كل شهر مرة، وكل ذلك بسواد الكوفة، ودخل في دعوته من العرب من بني ضبيعة بن عجل - وهم من ربيعة - رجلان، أحدهما يعرف برباح والآخر يعرف بعلي بن يعقوب القمر، فأنفذهما دعاة إلى العرب في أعمال الكوفة وسورا وبربسما وبابل، ودخل في دعوته من العرب أيضاً رفاعة من بني يشكر، ثم من بكر بن وائل رجل يعرف بسند وآخر يعرف بهارون، فجعلهما دعاة نخيلة وما والاها في العرب خاصة إلى حدود واسط، فمال إليه هذان البطنان ودخلا في دعوته فلم يكد يختلف رفاعي ولا ضبعي، ولم يبق من البطون المتصلة بسواد الكوفة بطن إلا دخل في الدعوة منه ناس كثير أو قليل، من بني عايش وذهل وغيره وبني عنز وتيم الله وثعل وغيرهم، وفيهم نفر يسير من بني شيبان، فقوى قرمط بهم وزاد طعمه فأخذ في جمع أموالهم.