أخبار المختار
ابن أبي عبيد بن مسعود الثقفيكان المختار بن أبي عبيد ممن بايع مسلم بن عقيل لما بعثه الحسين علي رضي الله عنهما إلى الكوفة وأنزله في داره، ودعا إليه.فلما ظهر ابن عقيل كان المختار في قرية تدعى لقفا، فأتاه الخبر بظهوره، فأقبل في مواليه إلى باب الفيل بعد المغرب، وقد أجلس عبيد الله بن زياد عمرو بن حريث بالمسجد ومعه راية، فبعث إلى المختار وأمنه، فجاء إليه. فلما كان من الغد ذكر عمارة بن عقبة أمره لعبيد الله، فأحضره، وقال له: أنت المقبل في الجموع لتنصر ابن عقيل ! قال: لم أفعل، واكني أقبلت ونزلت تحت راية عمرو، فشهد له عمرو بذلك، فضرب ابن زياد وجه المختار بقضيب فشتر عينه وقال: لولا شهادته قتلتك.وحسبه إلى أن قتل الحسين. فبعث المختار إلى عبد الله بن عمر بن الخطاب يسأله أن يشفع له فيه، وكان زوج أخته صفية بنت أبي عبيد، فكتب ابن عمر إلى يزيد بن معاوية يشفع فيه، فأمر يزيد ابن زياد بإطلاقه، فأطلقه وأمره ألا يقيم غير ثلاث. فخرج المختار إلى الحجاز، واجتمع بعبد الله بن الزبير وأخبره خبر العراق، وقال له: ابسط يدك أبايعك، وأعطنا ما يرضينا، وثب على الحجاز، فإن أهله معك، وكان ابن الزبير يدعو لنفسه سراً، فكتم أمره عن المختار ففارقه إلى الطائف، وغاب عنه سنة ثم سأل عنه ابن الزبير، فقيل له: إنه بالطائف، وإنه يزعم أنه صاحب الغضب ومبيد الجبارين، إن يهلك الله الجبارين يكن المختار أولهم. فبينا هو في حديثه إذ دخل المختار، فطاف وصلى ركعتين، وجلس وأتاه معارفه يحدثونه، وما يأت ابن الزبير، فوضع ابن الزبير عليه عباس بن سهل بن سعد، فأتاه، وسأله عن حاله، ثم قال له: مثلك يغيب من الذي قد اجتمع عليه الأشراف من قريش والأنصار وثقيف ؟ ولم تبق قبيلة إلا وقد أتاه زعيمها، فبايع هذا الرجل. فقال: إني أتيه في العام الماضي فكتم عني خبره، فلما استغنى عني أحببت أن أريه أني مستغنٍ عنه، فقال له العباس: ألقه الليلة وأنا معك، فأجابه إلى ذلك، وحضر عند ابن الزبير بعد العتمة، فقال له المختار: أبايعك على ألا تقضي الأمور دوني، وعلى أن أكون أول داخلٍ عليك، وإذا ظهرت استعنت بي على أفضل عملك. فقال ابن الزبير: أبايعك على كتاب الله وسنة رسوله.فقال: وشر غلماني تبايعه على ذلك، والله لا أبايعك أبداً إلا على ذلك، فبايعه وأقام عنده، وشهد معه قتال الحصين، وكان أشد الناس على أهل الشام، فلما مات يزيد وأطاع أهل العراق عبد الله ابن الزبير، أقام المختار عنده خمسة أشهر، فلما رآه لا يستعمله جعل يسأل من يقدم من الكوفة عن حال الناس، فأخبره هانئ بن أبي حية الوداعي باتفاق أهل الكوفة على طاعة ابن الزبير إلا طائفة من الناس، لو كان لهم من يجمعهم على رأيهم أكل بهم الأرض إلى يوم ما. فقال المختار، أنا أبو إسحاق أنا والله لهم، أنا أجمعهم على الحق، وأتقي بهم ركبان الباطل، وأقتل بهم كل جبار عنيد. ثم ركب دابته وسار نحو الكوفة فوصل إليها. واختلفت الشيعة إليه، وبلغت خبر سليمان بن صرد وأنه على عزم المسير، فقام في الشيعة فحمد الله، ثم قال: إن المهدي وابن الرضا، يعني محمد ابن الحنيفة، بعثني إليكم أمنيناً ووزيراً ومنتخباً وأميرا، وأمرني بقتال الملحدين، والطلب بدم أهل بيته. فبايعه إسماعيل بن كثير وأخوه، وعبيدة بن عمرو، وكانوا أول من أجابه، وبعث إلى الشيعة وقد اجتمعوا عند ابن صرد، وقال لهم نحو ذلك، وقال: إن سليمان ليس له تجربة بالحرب ولا بالأمور، إنما يريد أن يخرجكم وفيقتلكم ويقتل نفسه، وأنا أعمل على مثالٍ مثل لي، وأمر بين لي، فيه عز وليكم، وقتل عدوكم، وشفاء صدوركم، فاسمعوا قولي، وأطيعوا أمري، ثم ابشروا. فمازال بهذا ونحوه حتى استمال طائفة من الشيعة، فكانوا يختلفون إليه ويعظمونه، وأكثر الشيعة مع ابن صرد، وهو أثقل خلق الله على المختار. فلما خرج سليمان بن صرد على ما قدمناه قال عمر بن سعد، وشبث بن ربعي، ويزيد بن الحارث بن رويم لعبد الله بن يزيد وإبراهيم بن محمد بن طلحة: إن المختار أشد عليكم من سليمان، إن سليمان إنما خرج يريد قتال عدوكم، والمختار يريد أن يثب عليكم في مصركم، فأتوه، وأخذوه بغتة، وحملوه إلى السجن، فكان يقول في السجن: أما ورب البحار، والنخيل والأشجار، والمهامة، والقفار، والملائكة الأبرار، والمصطفين الأخيار، لأقتلن كل جبار، بكل لدنٍ خطار، ومهند بتار، وجموع الأنصار، وليسوا بميل أغمار، ولا بعزلٍ أشرار، حتى إذا أقمت عمود الدين، ورأبت شعب صدع المسلمين، وشفيت غليل المؤمنين، وأدركت بثأر النبيين، لم يكبر على زوال الدنيا، ولم أحفل بالموت إذا أتى. وقيل في خروج المختار إلى الكوفة غير ما تقدم، وهو أنه قال لعبد الله بن الزبير وهو عنده: إني لأعلم قوما لو أن لهم رجلاً له علم بما يأتي ويذر لاستخرج لك منهم جنداً يقاتل بهم أهل الشام.قال: من هؤلاء ؟ قال: شيعة علي' رضي الله عنه' بالكوفة، قال: فكن أنت ذلك الرجل ؛ فبعثه إلى الكوفة، فنزل ناحيةً منها يبكي على الحسين ويذكر مصابه حتى ألفه الناس وأحبوه، فنقلوه إلى وسط الكوفة، وأتاه منهم بشر كثير' والله أعلم'
ذكر وثوب المختار بالكوفة
كان وثوب المختار بالكوفة في رابع عشر شهر ربيع الأول سنة' 66 ه' ست وستين، وكان سبب ذلك أنه لما قتل سليمان بن صرد قدم من بقي من أصحابه إلى الكوفة، وكان المختار محبوساً كما ذكرنا، فكتب إليهم من السجن يثني عليهم، ويمنيهم الظفر، ويعرفهم أن محمد بن علي بن أبي طالب المعروف بابن الحنفية أمره بطلب الثأر، فقرأ كتابه رفاعة بن شداد والمثنى بن مخربة العبدي، وسعد بن حذيفة بن اليمان، ويزيد بن أنس، وأحمر بن شميط، وعبد الله بن شداد البجلي، وعبد الله بن كامل. فلما قرؤوا كتابه بعثوا إليه ابن كامل يقولون: إننا بحيث يسرك، فأن شئت أن نأتيك ونخرجك من الحبس فعلنا، فقال: إني أخرج في أيامي هذه.وكان المختار قد أرسل إلى عبد الله ابن عمر يقول: إني حبست مظلوماً، وطلب ' منه' أن يشفع فيه إلى عبد الله بن يزيد وإبراهيم بن محمد بن طلحة. فكتب ابن عمر إليهما في أمره، فشفعاه فيه، وأخرجاه من السجن، وحلفاه أن لا يبغيهما غائلة، ولا يخرج عليهما مادام لهما سلطان، فإن فعل فعليه ألف بدنة ينحرها عند الكعبة، ومماليكه أحرار. فلما خرج نزل بداره، وقال لمن يثق به: قاتلهم الله، ما أحمقهم حين يرون أني أفي لهم، أما حلفي بالله فإنني إذا حلفت على يمين فرأيت خيراً منها أكفر عن يميني، وخروجي عليهم خير من كفي عنهم، وأما هدي البدن، وعتق الممليك، فهو أهون علي من بصقة، وددت أني تم لي أمي، ولا أملك بعده مملوكاً أبداً. ثم اختلفت إليه الشيعة، واتفقوا على الرضا به، ولم يزل أصحابه يكثرون وأمره يقوى، حتى عزل عبد الله بن الزبير عبد الله ابن يزيد وإبراهيم بن محمد، واستعمل عبد الله بن مطيع عل عملهما بالكوفة. وقدم ابن مطيع الكوفة لخمسٍ بقين من شهر رمضان سنة'65 ه' خمس وستين، ولما قدم صعد النبر، فخطب الناس وقال: أما بعد، فإن أمير المؤمنين بعثني على مصركم وثغوركم، وأمرني بجباية فيئكم وألا أحمل فضلة عنكم إلا برضا منكم، وأن أتبع فيكم وصية عمر بن الخطاب التي أوصى بها عند وفاته، وسيرة عثمان بن عفان رضي الله عنهما، فاتقوا الله واستقيموا، ولا تختلفوا علي، وخذوا على أيدي سفهائكم، فإن لم تفعلوا فلوموا أنفسكم.فقام إليه السائب بن مالك الأشعري، فقال: أما حمل فينا برضانا فإنا نشهد ألا نرضى أن تحمل عنا فضلة وألا تقسم إلا فينا، وألا يسار فينا إلا بسيرة علي بن أبي طالب التي سار بها في بلادنا حتى هلك، ولا حاجة لنا في سيرة عثمان بن عفان في فيئنا ولا في أنفسنا، ولا في أنفسنا، ولا في سيرة في فيئنا، وإن كانت أهون السيرتين علينا، وقد كان يفعل بالناس خيراً. فقال يزيد بن أنس: صدق السائب وبر، فقال ابن مطيع: نسير فيكم بكل سيرة أحببتم، ثم نزل. وجاء إياس بن مضارب إلى مطيع فقال له: إن السائب بن مالك من رءوس أصحاب المختار، فأبعث إلى المختار، فإذا جاءك فاحبسه حتى يستقيم أمر الناس، فإن أمره قد استجمع له، وكأنه قد وثب بالمصر. فبعث ابن مطيع إلى المختار زائدة بن وحسين بن علي البرسمي، فقالا له، أجب الأمير، فعزم على الذهاب فقرأ زائدة: ' وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك. .' الآية.فألقى المختار ثيابه وقال: ألقوا علي قطيفة فإني وعكت، إني لأجد برداً شديداً، ارجعا إلى الأمير فأعلماه حالي، فعادا إليه فأعلماه فتركه. ووجه المختار إلى أصحابه، فجمعهم حوله في الدور، وأراد أن يثب في الحرم، فجاء رجل من أصحابه من شبام، وشبام: حي من همدان، وكان شريفاً، و اسمه عبد الرحمن بن شريح، فلقي سعيد بن منقذ الثوري، وسعر بن أبي سعر الحنفي، والأسود بن جراد الكندي، وقدامة بن مالك الجشمي، فقال لهم: إن المختار يريد أن يخرج بنا، ولا ندري أرسله بن حنيفة أم لا ؟ فانهضوا بنا إلى محمد ابن الحنيفة نخبره بما قدم به علينا المختار، فإن رخص لنا في اتباعه أتبعناه، وإن نهانا عنه اجتنبناه، فو الله ما ينبغي أن يكون شيء من الدنيا آثر عندنا من سلامة ديننا، فأستصوبوا راية، وخرجوا إلى ابن الحنفية، فلما قدموا عليه سألهم عن حال الناس، فأخبروه وأعلموه حال المختار، فقال: والله لوددت أن الله انتصر لنا من عدونا بمن شاء من خلقه، فعادوا. وكان مسيرهم قد شق على المختار، وخاف أن يعودوا بما يخذل الشيعة عنه، فلما قدموا الكوفة دخلوا عليه، فقال: ما وراءكم ؟ فقد فتنتم وأربتم، فقالوا: قد أمرنا بنصرك، فقال: الله أكبر، الله أكبر، أجمعوا الشيعة، فجمع من كان قريباً منه، فقال لهم: إن نفراً أحبوا أن يعلموا مصداق ما جئت به، فرحلوا إلى إمام الهدى، فسألوه عما قدمت به عليكم، فنبأهم أني وزيره وظهيره ورسوله، وآمركم بطاعتي واتباعي فيما دعوتكم إليه من قتال المحلين، والطلب بدماء أهل بيت نبيكم. فقامعبد الحمن بن شريح وأخبرهم بحالهم ومسيرهم، وأن ابن النفية أمرهم بمظاهرته ومؤازرته، وقال لهم: ليبلغ الشاهد منكم الغائب، واستعدوا وتأهبوا، وقام جماعة من أصحابه فقالوا نحواً من كلامه. فاجتمعت له الشيعة، وكان من جملتهم' الشعبي' وأبوه شراحيل، فلما تهيأ أبوه للخروج قال له بعض أصحابه: إن أشراف الكوفة مجمعون على قتالك مع ابن مطيع، فإن أجابنا إبراهيم بن الأشتر رجونا القوة على عدونا، فإنه فتى رئيس وابن رجل شريف، وله عشيرة ذات عز وعدد.فقال المختار: فالقوه وادعوه، فخرجوا إليه ومعهم الشعبي، فاعلموه حالهم، وسألوه مساعدتهم، فقال: على أن تولوني الأمر، فقالوا: أنت لذلك أهل، ولكن ليس إلى ذلك سبيل، هذا المختار قد جاءنا من قبل المهدي، وهو المأمور بالقتال، وقد أمرنا بطاعته، فلم يجبهم إبراهيم، فانصرفوا عنه. وأتوا المختار، فسكت ثلاثاً، ثم صار إلى إبراهيم في بضعة عشر من أصحابه، والشعبي وأبوه فيهم، فدخلوا عليه، فألقى إليهم الوسائد، فجلسوا عليها، وجلس المختار معه على فراشه، فقال: المختار له: هذا كتاب المهدي إليك، يسألك أن تنصرنا وتآزرنا، فقرأه، فإذا هو: ' من محمد المهدي إلى إبراهيم بن مالك الأشتر، سلام عليك، فإني أحمد الله إليك الذي لا إله إلا هو، أما بعد، فإني' قد' بعثت إليكم وزيري وأميني الذي ارتضيته لنفسي، وأمرته بقتال عدوي، والطلب بدماء أهل بيتي، فأنهض بنفيك وعشيرتك ومن أطاعك، فإنك إن نصرتني وأجبت دعوتي كانت لك بذلك عندي فضيلة، ولك أعنة الخيل، وكل جيش غازٍ، وكل مصر ومنبر وثغر ظهرت عليه فيما بين الكوفة وأقصى بلاد الشام'. فلما فرغ من قراءته تأخر عن صدر الفراش، وأجلس المختار عليه، وبايعه.وصار يختلف إلى المختار كل عشية يدبرون أمورهم. واجتمع رأيهم على الخروج ليلة الخميس لأربعة عشر ليلةً من شهر ربيع الأول، فلما كان تلك الليلة، صلى إبراهيم بن الأشتر بأصحابه المغرب، ثم خرج يريد المختار، وعليه وعلى أصحابه السلاح، وكأن إياس بن مضارب قد جاء إلى عبد الله بن مطيع وهو على شرطته، فقال: إن المختار خارج عليك إحدى هاتين الليلتين، وقد بعثت بابني إلى الكناسة، فلو بعثت في كل جبانة عظيمة بالكوفة رجلاً من أصحابك في جماعة من أهل الطاعة لهاب المختار وأصحابه الخروج عليك، فبعث ابن مطيع إلى كل جبانة من يحفظها من أهل الطاعة، وأمر على كل طائفة أميراً، وأوصى كلاً منهم ألا يؤتى من قبله، وقال: إذا سمعت صوت القوم فوجه نحوهم، وكان خروجهم إلى الجبابين يوم الاثنين. وخرج إبراهيم بن الأشتر ليلة الثلاثاء يريد المختار، وقد بلغه أن الجبابين قد ملئت رجالاً، وأن إياس بن مضارب في الشرطة قد أحاط بالسوق والقصر، فأخذ معه من أصحابه نحو مائة دارع، وقد لبسوا عليهم الأقبية، فقال له' أصحابه': تجنب الطريق، فقال: والله لأمرن وسط السوق بجنب القصر، ولأرعبن عدونا، ولأرينهم هوانهم علينا، فسار على باب الفيل، فلقيهم إياس في الشرط مظهرين السلاح، فقال: من أنتم ؟ فقال: أنا إبراهيم بن الأشتر.فقال إياس: ما هذا الجمع الذي معك ؟ وإلى أين تريد ؟ ولست بتاركك حتى آتي بك الأمير، فقال إبراهيم: خل سبيلنا ؛ قال لا أفعل ؛ وكان مع إياس رجل من همدان يقال له أبو قطن، وكان يكرمه، وكان صديقاً لأبن الأشتر، فقال له ابن الأشتر: أدن مني يا أبا قطن، فدنا منه وهو يظن أن إبراهيم يستشفع به عند إياس، فلما دنا منه أخذ رمحاً كان معه فطعن به إياس في ثغره، فصرعه، وأمر رجلاً من أصحابه فقطع رأسه، وتفرق أصحاب إياس، ورجعوا إلى ابن مطيع، فبعث مكانه ابنه راشد بن إياس على الشرط، وأقبل إبراهيم إلى المختار وقال له: إنا تعدنا للخروج القابلة، وقد وقع أمر لا بد من الخروج الليلة، وأخبره الخبر، ففرح المختار بقتل إياس وقال: هذا أول الفتح إن شاء الله. ثم قال لسعيد بن منقذ: قم فأشعل النيران وارفعها، وسر أنت يا عبد الله بن شداد فناد: يا منصور، أمت، وأنت يا سفيان بن ليلى، وأنت يا قدامة بن مالك: ناد يا لثارات الحسين، ثم لبس سلاحه. وكانت الحرب بين أصحابه وبين الذين ندبهم ابن مطيع لحفظ الجبابين في تلك الليلة، فكان الظفر لأصحاب المختار، وخرج المختار في جماعة من أصحابه حتى نزل في ظهر دير هند في السبخة، وانضم إليه ممن تابعه ثلاثة آلاف وثمانمائة من اثني عشر ألفا، واجتمعوا له قبل الفجر، فأصبح وقد فرغ من تعبئته، وصلى بأصحابه بغلس. وقد جمع ابن مطيع أهل الطاعة إليه، فبعث شبث بن ربعى في ثلاثة آلاف، وراشد بن إياس في أربعة آلاف من الشرط، لقتال المختار ومن معه، وأردفهم بالعساكر، واقتتلوا ؛ فكان الظفر لأصحاب المختار ومن معه، وكان الذي صلي الحرب ودبر الأمر إبراهيم بن الأشتر.فلما رأى بن مطيع أمر المختار وأصحابه قد قوي خرج بنفسه إليهم، فوقف بالكنائس واستخلف شبث بن ربعى على القصر، فبرز إبراهيم بن الأشتر لابن مطيع في أصحابه وحمل عليه، فلم يلبث ابن مطيع أن أنهزم أصحابه، يركب بعضهم بعضاً على أفواه السكك، وابن الأشتر في آثارهم، حتى بلغ المسجد، وحصر ابن مطيع ومن معه في أشراف الكوفة في القصر ثلاثاً، فقال شبث لأبن مطيع: انظر لنفسك ولمن معك ؛ فقال: أشيروا علي ؛ فقال شبث: الرأي أن تأخذ لنفسك ولنا أماناً، وتخرج ولا تهلك نفسك ومن معك ؛ فقال ابن مطيع: إني لأكره أن أخذ منه أماناً، والأمور لأمير المؤمنين مستقيمة بالحجاز والبصرة ؛ فتخرج ولا تشعر بك أحداً، فتنزل بالكوفة عند من تثق إليه حتى تلحق بصاحبك.فأقام حتى أمسى، وخرج وأتى دار أبي موسى، وترك القصر، ففتح أصحابه الباب، وقالوا: يا ابن الأشتر، آمنون نحن ؟ فقال: أنتم آمنون ؛ فخرجوا ؛ فبايعوا المختار.ودخل'المختار' القصر فبات به، وأصبح أشراف الناس في المسجد وعلى باب القصر، وخرج المختار فصعد المنبر وخطب الناس، ثم نزل. ودخل أشراف الكوفة فبايعوه على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، والطلب، بدماء أهل البيت وجهاد المحلين والدفع عن الضعفاء، وقتال من قاتلنا، وسلم من سالمنا. وكان ممن بايعه المنذر بن حسان الضبى وابنه حسان، فلما خرجا من عنده استقبلهما سعيد بن منقذ الثوري في جماعة من الشيعة، فقالوا: هذان والله رءوس الجبارين، فقتلوهما، ونهاهم سعيد عن قتلهما إلا بأمر المختار، فلم ينتهوا. فلما سمع المختار ذلك كرهه، وأقبل يمني الناس ويود الأشراف، ويحسن السيرة، فبلغه أن ابن مطيع في دار أبي موسى، فسكت، فلما أمسى بعث إليه بمائة ألف درهم، وقال: تجهز بهذه، فقد علمت مكانك، وأنك لم يمنعك الخروج إلا عدم النفقة. ووجد المختار في بيت المال' بالكوفة' تسعة آلاف وخمسة مائة ألف، فأعطى لكل رجل خمسمائة درهم، وأعطى لستة آلاف من أصحابه أتوه بعد ما أحاط بالقصر، لكل منهم مائتي درهم، واستقبل الناس بخير.واستعمل على شرطته عبد الله بن كامل الشاكري، وعلى حرسه كيسان. ' والله أعلم بالصواب'.
ذكر عمال المختار بن أبي عبيد
كانت أول راية عقدها المختار لعبد الله بن الحارث أخي الأشتر على أرمينية، وبعث محمد بن عمير بن عطارد على أذربيجان، وبعث عبد الرحمن بن سعيد بن قيس على الموصل، وبعث إسحاق ابن مسعود على المدائن، وأرض جوخى، وبعث قدامة بن أبي عيسى ابن أبي ربيعة النصري حليف ثقيف على بهقاذ الأعلى، وبعث محمد بن كعب بن قرظة على بهقاذ الأوسط، وبعث سعد ابن حذيفة بن اليمان على حلوان، وأمره بقتال الأكراد، وإقامة الطرق.وكان ابن الزبير قد استعمل على الموصل محمد بن الأشعث بن قيس، فلما بعث المختار عبد الرحمن إليها، سار محمد عنها إلى تكريت، ينتظر ما يكون من الناس، ثم سار إلى المختار فبايعه، فلما فرغ من ذلك أقبل يجلس للناس ويقضي بينهم، ثم قال: إن لي فيما أحاول شغلاً عن القضاء، ثم أقام شريحاً يقضي بين الناس، فتمارض، فجعل المختار مكانه عبد الله بن عتبة بن مسعود، ثم مرض، فجعل مكانه عبد الله بن مالك الطائي.
قتل المختار
قتلة الحسين وخروج أهل الكوفة على المختار وقتالهم إياه ووقعة السبيعكان سبب ذلك أن مروان بن الحكم لما أستتب له الأمر بعث عبيد الله بن زياد إلى العراق، وذكرنا ما كان من أمره مع التوابين.ثم توفي مروان بن الحكم وولى ابن عبد الملك، فأقر ابن زياد على ولايته، و أمر بالجد، فأقبل إلى الموصل، فكتب عبد الرحمن بن سعيد عامل المختار إليه يخبره بدخول ابن زياد أرض الموصل، وأنه قد تنحى له عنها إلى تكريت، فندب المختار يزيد بن أنس الأسدي، فانتخب ثلاثة آلاف، وسار بهم نحو الموصل، وكتب المختار إلى عبد الرحمن: أن خل بين يزيد وبين البلاد، فسار يزيد حتى بلغ أرض الموصل، فنزل بنات تلى، وبلغ خبره ابن زياد، فقال: لأبعثن إلى كل ألف ألفين، فأرسل ربيعة بن المخارق الغنوى في ثلاثة آلاف، وعبد الله بن جملة الخثعمي في ثلاثة آلاف، فسار ربيعة قبل عبد الله بيوم، فنزل بيزيد بن أنس بنات تلى فخرج، وقد اشتد به المرض، وعبأ أصحابه، وقال: إن هلكت فأميركم ورقاء بن عازب الأسدي، فأن هلك فأميركم عبد الله بن ضمرة العذري، فإن هلك فأميركم سعر الحنفي ثم نزل فوضع على سرير، وقال: قاتلوا عن أميركم إن شئتم أو فروا عنه. واقتتل القوم، فأنهزم أصحاب بن زياد، وقتل ربيعة بن المخارق، قتله عبد الله بن ورقاء، فيا المنهزمون ساعة، ولقيهم عبد الله ابن جملة فردهم معه، فباتوا ليلتهم ببنات تلى يتحارسون، فلما أصبحوا خرجوا إلى القتال فاقتتلوا قتالاً شديداً، وذلك في اليوم الأضحى سنة ست وستين، فانهزم أهل الشام، ونزل ابن جملة في جماعة، فقاتل حتى قتل، وحوى أهل الكوفة عسكرهم، وقتلوا فيهم قتلاً ذريعاً، وأسروا ثلاثمائة، فأمر يزيد بقتلهم، وهو بآخر رمق، فقتلوا، ثم مات آخر النهار، فقال ورقاء بن عازب لأصحابه: إن بلغني أن عبيد الله بن زياد قد أقبل إليكم في ثمانين ألفاً، وأشار إليهم بالرجوع إلى المختار، فصوبوا رأيه، ورجعوا، فبلغ ذلك أهل الكوفة، فأرجفوا بالمختار، وقالوا: إن يزيد قتل ولم يمت، فندب إبراهيم بن الأشتر في سبعة آلاف، وقال له: سر فإذا لقيت جيش يزيد فأنت الأمير عليهم، فأردهم معك حتى تلقى ابن زياد فناجزه. فسار إبراهيم لذلك، فأجتمع أشراف الكوفة على شبث بن ربعى وقالوا: والله، إن المختار تأمر بغير رضاً منا، وقد أدنى موالينا، فحملهم على الدواب، وأعطاهم فيئنا. فقال: دعوني حتى ألقاه، فذهب إليه فكلمه، فلم يدع شيئاً أنكره إلا ذكره له، والمختار يقول في كل خصلة: أنا أرضيهم في هذا وآتي كل ما أحبوه، فلما ذكر المالي ومشاركتهم في الفيء قال: إن أنا تركت لكم مواليكم وجعلت فيئكم لكم، أتقاتلون معي بني أمية وابن الزبير وتعطوني على هذا الوفاء عهد الله وميثاقه وما أطمئن إليه من الأيمان.فقال شبث: حتى أخرج إلى أصحابي فأذكر ذلك لهم. فخرج إليهم ولم يعد إلى المختار، وأجتمع رأيهم على قتله، فأجتمع شبث، ومحمد بن الأشعث، وعبد الرحمن بن سعيد بن قيس، وشمر بن ذي الجوشن، ودخلوا على كعب بن أبي كعب الخثعمي، فكلموه في ذلك، فأجابهم إليه، فخرجوا من عنده، ودخلوا على عبد الرحمن بن مخنف الأزدي، فدعوه إلى ذلك، فقال: إن أطعتموني لم تخرجوا، فقالوا: لم ؟ إني أخاف أن تتفرقوا وتختلفوا ومع الرجل شجعانكم وفرسانكم مثل فلان وفلان، ثم معه عبيدكم ومواليكم، وكلمة هؤلاء واحدة، ومواليكم أشد حنقاً عليكم من عدوكم، فهم يقاتلوكم بشجاعة العرب وعداوة العجم، وإن انتظرتموه قليلاً كفيتموه بغيركم، ولا تجعلوا بأسكم بينكم ؛ فقالوا: ننشدك الله ألا تخالفنا وتفسد علينا رأينا، وما أجمعنا عليه.فقال: إنما أنا رجل منكم، فإذا شئتم فأخرجوه، فوثبوا بالمختار بعد مسير ابن الأشتر، وخرج كل رئس بجبانة، فأرسل المختار إلى ابن الأشتر يأمره بسرعة العودة إليه، وبعث إليهم وهو يلاطفهم ويقول: إني صانع ما أحببتم، وهو يريد بذلك مداهنتهم حتى يقدم إبراهيم ابن الأشتر، فوصل الرسول إليه وهو بساباط، فرجع لوقته، وسار حتى أتى الكوفة ومعه أهل القوة من أصحابه، وأجتمع أهل اليمن بجبانة السبيع، فلما حضرة الصلاة كره كل رأس من أهل اليمن أن يتقدمه صاحبه، فقال ابن مخنف: هذا أول الاختلاف، قدموا الرضى منكم سيد القراء رفاعة بن شداد البجلى، فلم يزل يصلي بهم حتى كانت الواقعة. ثم نزل المختار فعبأ أصحابه وأمر ابن الأشتر فسار إلى مضر وعليهم شعب بن ربعى، ومحمد بن عمير، وهم بالكناسة، وسار المختار نحو أهل اليمن بجبانة السبيع، فاقتتلوا أشد قتال، ثم كانت الغلبة للمختار وأصحابه، وأنهزم أهل اليمن وأخذ من دور الوادعيين خمسمائة أسير، فأتى بهم إلى المختار، فعرضهم، فقتل منهم من شهد مقتل الحسين، فكانوا مائتين وثمانية وأربعين. ونادى منادي المختار: من أغلق بابه فهو آمن إلا من شرك في دماء آل محمد صلى الله عليه وسلم، وكان عمر بن الحجاج الزبيدي ممن شهد قتل الحسين، فركب راحلته وأخذ طريق الواقصة، فعدم فقيل: أدركه أصحاب المختار، وقد سقط من شدة العطش، فذبحوه. وبعث المختار غلاماً له يدعى زريباً في طلب شمر ابن ذي الجوشن، فأدركه فقتله شمر، وسار حتى نزل قرية يقال لها الكلتانية، فأخذ منها علجاً، فضربه، وقال: امض بكتابي هذا إلى مصعب بن الزبير ؛ فمضى العلج حتى دخل قريةً فيها أبو عمرة صاحب المختار، فلقي ذلك العلج علجاً أخر من تلك القرية، فشكا إليه ما لقي من شمر، فبينما هو يكلمه إذ مر رجل من أصحاب أبي عمرة اسمه عبد الرحمن بن أبي الكنود، فرأى الكتاب، عنوانه لمصعب بن شمر، فسألوا العلج عنه، فأخبرهم بمكانه، فإذا هو منهم على مسيرة ثلاثة فراسخ، فساروا إليه وأدركوه، فهرب أصحابه، وأعجله القوم عن لبس سلاحه، فقام وقد أتزر ببرد، وكان أبرص، فظهر بياض برصه، فطاعنهم بالرمح ثم ألقاه، وأخذ السيف فقاتل به حتى قتل، والذي قتله عبد الرحمن ابن أبي الكنود، وألقى جيفته للكلاب. قال: وأقبل المختار إلى القصر من جبانة السبيع ومعه سراقة ابن مرادس البارقي أسيراً، فناداه سراقة:
أمنن على اليوم يا خير معاً
وخير من حل بشحرٍ والجند
وخير من لبى وحيى وسجدفأمر به إلى السجن، ثم أحضره من الغد، فأقبل وهو يقول:
ألا أبلغ أبا إسحاق أنا
نزونا نزوة كانت علينا
خرجنا نرى الضعفاء شيئا
وكان خروجنا بطراً وحيناً
لقينا منهم ضرباً طلحفاً
وطعناً صائباً حتى أنثنينا
نصرت على عدوك كل يوم
نكل كتيبة تنعى حسيناً
كنصر محمد في يوم بدر
ويوم الشعب إذ وافى حيناً
فأسجح إذ ملكت فلو ملكنا
لجرنا في الحكومة واعتدينا
تقبل توبة مني فإني
سأشكر إذ جعلت النقد دينا
فلما انتهى إلى المختار قال: أصلح الله الأمير، أحلف بالله الذي لا إله إلا هو لقد رأيت الملائكة تقاتل معك على الخيول البلق بين السماء والأرض ؛ فقال له المختار: اصعد على المنبر فأعلم الناس، فصعد، فأخبرهم بذلك، ثم نزل فخل به فقال له: إني قد علمت أنك لم تر شيئاً، وإنما أردت ما قد عرفت، فأذهب' عني' حيث شئت، لا تفسد علي أصحابي. فخرج إلى البصرة، فنزل عند مصعب وقال:
ألا أبلغ أبا إسحاق أني
رأيت الخيل بلقا مصمتات
كفرت بوحيكم وجعلت نذراً
على قتالكم حتى الممات
أرى عيني ما لم تبصراه
كلانا عالم بالترهات
وقتل يومئذ عبد الرحمن بن سعيد بن قيس الهمذاني، وأدعى قتلة سعر بن أبي سعر، وأبو الزبير الشبامي، وشبام من همذان، وانجلت الوقعة عن سبعمائة وثمانين قتيلاً من قومه، وكانت الوقعة لست ليال بقين من ذي الحجة سنة ست وستين. وخرج أشراف الناس فلحقوا بالبصرة، وتجرد المختار لقتل قتلة الحسين، وقال: ما من ديننا أن نترك قتلة الحسين أحياءً، بئس ناصر آل محمد أنا إذاً' في الدنيا، أنا إذاً' الكذاب كما سموني، وإني أستعين بالله تعالى عليهم، فسموهم لي ثم تتبعوهم حتى تقتلوهم، فإني لا يسوغ لي الطعام والشراب حتى أطهر الأرض منهم، فدل على عبد الله بن أسيد الجهني، ومالك بن النسير البدي وحمل بن مالك المحاربي، فبعث المختار إليهم، فأحضرهم من القادسية، فلما رآهم قال: يا أعداء الله ورسوله، أين الحسين ابن علي ؟ أدوا إلى الحسين.قتلتم ابن من أمرتم بالصلاة عليهم.فقالوا رحمك الله، بعثنا كارهين، فأمنن علينا واستبقنا، فقال: هلا مننتم على ابن بنت نبيكم واستبقيتموه وسقيتموه ؟ فأمر بمالك ابن النسير البدي فقطع يديه ورجليه وتركه يضطرب حتى مات، وقتل الآخرين، وأحضر زياد بن مالك الضبعي، وعمران بن مالك العنزي، وعبد الرحمن بن أبي خشكارة البلجي، وعبد الله بن قيس الخولاني، فلما رآهم قال: يا قتلة الصالحين، وقتلة سيد شباب أهل الجنة، قد أقاد الله منكم اليوم، لقد جاءكم الورس، بيوم نحس، وكانوا نهبوا من الورس الذي كان مع الحسين رضي الله عنه، ثم أمر بهم فقتلوا. وقتل عبد الله وعبد الرحمن بن صلحت، وعبد الله بن وهيب الهمداني، وأحضر عثمان بن خالد بن أسيد الدهماني الجهني، وأبا أسماء بشر بن سوط القابضي، وكانا قد اشتركا في قتل عبد الرحمن بن عقيل وفي سلبه، فضرب أعناقهما وأحرقا بالنار. وأرسل إلى خولي بن يزيد الأصبحي وهو صاحب رأس الحسين فاختبأ في مخرجه، فدخل أصحاب المختار يطلبونه، فخرجت امرأته، وهي العيوف بنت مالك، وكانت تعاديه منذ جاءها برأس الحسين، فقالت: ما تريدون ؟ فقالوا لها: أين زوجك ؟ قالت: لا أدري، وأشارت بيدها إلى المخرج، فدخلوا، فوجدوه وعلى رأسه قوصرة، فأخرجوه وقتلوه إلى جانب أهله، وحرقوه بالنار. وقتل عمر بن سعد بن أبي وقاص، وكان الذي تولى قتله أبو عمرة، وأحضر رأسه عند المختار، وعنده ابنه حفص ابن عمر فقال له المختار: أتعرف هذا ؟ قال: نعم، ولا خير في العيش بعده، فأمر به فقتل، وقال: هذا بحسين، وهذا بعلي ابن حسين، ولا سواء، والله لو قتلت به ثلاثة أرباع قريش ما وفوا أنملة من أنامله. وأرسل المختار إلى حكيم بن طفيل الطائي - وكان أصاب صلب سلب العباس بن علي، ورمى الحسين بسهم، وكان يقول: تعلق سهمي بسرباله وما ضره، فأتاه أصحاب المختار فأخذوه، وذهب أهله فتشفعوا بعدي بن حاتم، فكلمهم عدي فيه، فقالوا: ذلك إلى المختار يشفع فيه، وكان قد شفعه في نفر من قومه أصابهم يوم جبانة السبيع، فقالت الشيعة: إنا نخاف أن يشفعه فيه، فقتلوه رميا بالسهام كما رمي الحسين حتى صار كالقنفذ، ودخل عدي بن حاتم على المختار، فأجلسه معه، فشفع فيه، وقال: إنه مكذوب عليه، إذاً ندعه لك، فدخل ابن كامل فأخبره المختار بقتله. وبعث المختار إلى مرة بن منقذ، وهو قاتل علي بن الحسين، وكان شجاعاً، فأحاطوا بداره، فخرج إليهم على فرسه وبيده رمحه، فطاعنهم، فضرب على يده، فهرب فنجا، ولحق بمصعب بن الزبير، وشلت يده بعد ذلك. وبعث المختار إلى زيد بن رقاد الجنبي، وهو قاتل عبد الله ابن مسلم بن عقيل، فخرج إليهم بالسيف، فقال ابن كامل: لا تطعنوه' برمح'، ولا تضربوه بسيف، ولكن أرموه بالنبل والحجارة، ففعلوا ذلك به، فسقط، فأحرقوه حياً. وطلب المختار سنان بن أنس الذي كان يدعي قتل الحسين، فهرب إلى البصرة، فهدم داره. وطلب عبد الله بن عقبة الغنوي فوجده قد هرب إلى الجزيرة، فهدم داره. وطلب رجلاً من خثعم اسمه عبد الله بن عروة فهرب ولحق بمصعب، فهدم داره. وطلب عمرو بن صبيح الصدائي، وكان يقول: لقد طعنت فيهم وجرحت وما قتلت، فأحضره إلى المختار، فأمر به فطعن بالرماح حتى مات. وأرسل إلى محمد بن الأشعث وهو في قرية إلى جنب القادسية، فهرب إلى مصعب فهدم داره، وبني بلبنها وطينها دار حجر ابن عدي الكندي، وكان زياد قد هدمها. وكان الذي هيج المختار على قتل قتلتة الحسين أن يزيد بن شراحيل الأنصاري أتى محمد ابن الحنيفة فسلم عليه، وجرى الحديث إلى أن تذاكروا أمر المختار، فقال ابن الحنيفة: إنه يزعم أن لنا شيعة، وقتلة الحسين عنده على الكراسي يحدثونه، فلما عاد يزيد أخبر المختار بذلك، فقتل عمر بن سعد، وبعث برأسه ورأس ابنه إلى الحنيفة، وكتب إليه يعلمه أنه قتل من قدر عليه، وأنه في طلب الباقين ممن حضر قتل الحسين، ' رضي الله عنه'.
بيعةالمثنى العبدي للمختار بالبصرة
وإخراجه منها ولحاقه بالمختار بالكوفةوفي سنة ست وستين دعا المثنى بن مخربة العبدي بالبصرة لبيعة المختار، وكان قد بايع المختار بعد مقتل سليمان بن صرد، فسيره المختار إلى البصرة يدعو بها إليه، ففعل، فأجابه رجال من قومه وغيرهم. ثم أتى مدينة الرزق فعسكر عندها، فوجه إليهم الحارث بن أبي ربيعة المعروف بالقباع، وهو أمير البصرة، عباد بن حصين، وهو على شرطته، وقيس بن الهيثم في الشرط والمقاتلة، فخرجوا إلى السبخة، ولزم الناس بيوتهم، فلم يخرج أحد، وأقبل عباد فيمن معه فتواقف هو والمثنى وأنشبوا القتال، فأنهزم المثنى، وأتى قومه عبد القيس، وكف عنه عباد، فأرسل القباع عسكراً إلى عبد القيس ليأتوه بالمثنى ومن معه، فلما رأى زياد بن عمر العتكي ذلك أقبل إلى القباع فقال: لتردن خيلك عن إخواننا أو لنقاتلهم، فأرسل القباع الأحنف بن قيس، وعبد الرحمن المخزومي ليصلحا بين الناس، فأصلح الأحنف الأمر على أن يخرج المثنى وأصحابه عنهم، فأجابوه إلى ذلك وأخرجوهم عنهم، فسار المثنى إلى الكوفة في نفر يسير من أصحابه.
ذكر مخادعة المختار ومكره بعبد الله بن الزبير
وظهور ذلك لهقال: لما أخرج المختار ابن مطيع عامل ابن الزبير من الكوفة سار إلى البصرة وكره أن يأتي ابن الزبير مهزوماً، فلما أستجمع للمختار أمر الكوفة، أخذ يخادع ابن الزبير، فكتب إليه: ' قد عرفت مناصحتي إياك، وجهدي على أهل عداوتك، وما كنت أعطيتني إن أنا فعلت ذلك، فلما وفيت لك' وقضيت الذي كان لك على خسة بي ولم تف بما عاهدتني عليه'، فإن ترد مراجعتي ومناصحتي، فعلت والسلام'. وإنما قصد المختار بذلك أن يكف ابن الزبير عنه ليتم أمره، ولم تعلم الشيعة بذلك، فأراد ابن الزبير أن يعلم حقيقة ذلك، فدعا عمر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام المخزومي فولاه الكوفة، وقال: إن المختار سامع مطيع، فتجهز عمر وسار نحو الكوفة، وأتى الخبر المختار، فدعا زائدة بن قدامة وأعطاه سبعين ألف درهم وقال له: هذه ضعف ما أنفق عمر في طريقه إلينا، وأمره أن يأخذ معه خمسمائة فارس، ويسير حتى يلقاه بالطريق فيعطيه النفقة ويأمره بالعودة، فإن فعل وإلا فيريه الخيل، فأخذ زائدة المال والخيل وسار حتى لقي عمر، فأعطاه المال، وأمره بالانصراف، فقال: إن أمير المؤمنين قد ولاني الكوفة، ولا بد من إتيانها، فدعا زائدة الخيل، وكان قد أكمنها ؛ فلما رآها عمر قد أقبلت أخذ المال وسار نحو البصرة. ُم أن عبد الملك بن مروان بعث عبد الملك بن الحارث بن الحكم ابن أبي العاص إلى وادي القرى، وكان المختار قد وادع ابن الزبير ليكف عنه ويتفرغ لأهل الشام، فكتب المختار لأبن الزبير: بلغني أن ابن مروان قد بعث إليك جيشاً، فإن أحببت أمددتك بمدد. فكتب إليه ابن الزبير: ' إن كنت على طاعتي فبايع لي الناس قبلك، وعجل بإنفاذ الجيش ومرهم فليسيروا إلي من بوادي القرى من جند ابن مروان فليقاتلوهم، والسلام'. فدعا المختار شرحبيل بن ورس الهمذاني، فسيره في ثلاثة آلاف أكثرهم من الموالي، وليس فيهم إلا سبعمائة من العرب، وقال له: سر حتى تدخل المدينة، فإن دخلتها فاكتب إلي بذلك حتى يأتيك أمري، وهو يريد إذا دخل الجيش المدينة أن يبعث عليهم أميراً لمحاصرة ابن الزبير بمكة، وخشي ابن الزبير أن المختار إنما يكيده، فبعث من مكة' إلى المدينة'عباس بن سهل بن سعد في ألفين، وأمره أن يستنفر العرب، وقال له: إن رأيت القوم في طاعتي وإلا فكايدهم حتى تهلكهم، فأقبل عباس حتى لقي ابن ورس بالرقيم وقد عبأ أصحابه، وأتى عباس وقد تقطع أصحابه، فرأى ابن ورس على الماء في تعبئته فدنا وسلم عليهم، ثم قال لأبن ورس سراً: ألستم في طاعة ابن الزبير ؟ قال: بلى.وقال: فسر بنا إلى عدوه الذي بوادي القرى، فقال: إنما أمرت أن أتي المدينة وأكتب إلى صاحبي، فيأمره بأمره، فقال عباس: رأيك أفضل، وفطن لما يريد، وقال أما أنا فسائر إلى وادي القرى، ونزل عباس أيضاً، وبعث إلى ابن ورس بجزائر وغنم، وكانوا قد ماتوا جوعاً، فذبحوا واشتغلوا بها، واختلطوا على الماء، وجمع عباس من شجعان أصحابه نحو ألف رجل، وأقبل إلى فسطاط ابن ورس، فلما رآهم نادى في أصحابه، فلم يجتمع إليه مائة رجل، حتى انتهى إليهم عباس، فاقتتلوا يسيراً، فقتل ابن ورس في سبعين من أهل الحفاظ. ورفع عباس راية أمان، فأتوها إلا نحو ثلاثمائة مع سليمان بن حمير الهمداني، وعباس بن جعدة الجدلي، فظفر عباس بن سهل منهم بنحو من مائتين فقتلهم، وأفلت الباقون فرجعوا ومات أكثرهم في الطريق. وكتب المختار إلى بن حنيفة: ' إني أرسلت إليك جيشاً ليذلوا لك الأعداء، ويحرزوا لك البلاد، فلما قاربوا طيبة فعل بهم كذا وكذا، فإن رأيت أن أبعث إلى المدينة جيشاً كثيفاً وتبعث إليهم من قبلك رجلاً فافعل'. فكتب إليه ابن الحنفية: ' أما بعد، فقد قرأت كتابك، وعرفت تعظيمك لحقي، وما تؤثره من سروري ؛ وإن أحب الأمور كلها إلي ما أطيع الله فيه، فأطع الله ما استطعت، وإني لو أردت القتال لوجدت الناس إلي سراعاً، والأعوان لي كثيرة، ولكني أعتز لهم وأصبر حتى يحكم الله' لي' وهو خير الحاكمين'.
ذكر امتناع محمد ابن الحنفية من مبايعة عبد الله بن الزبير
وما كان من أمره وإرسال المختار الجيش إلى مكة وخبر ابن الحنفيةقال: ثم أن عبد الله بن الزبير دعا محمد بن الحنفية ومن معه من أهل بيته، وسبعة عشر رجلاً من وجوه أهل الكوفة منهم أبو الطفيل عامر بن وائلة له صحبة، ليبايعوه فامتنعوا وقالوا: لا نبايع حتى تجتمع الأمة، فأكثر الوقيعة في ابن الحنفية وذمه، فأغلظ له عبد الله بن هانئ الكندي، وقال: لئن لم يضرك إلا تركنا بيعتك لا يضرك شيء، فلم يراجعه ابن الزبير، فلما استولى المختار على الكوفة وصارت الشيعة تدعي لأبن الحنفية، ألح ابن الزبير عليه وعلى أصحابه في البيعة حتى حبسهم بزمزم، وتوعدهم بالقتل والإحراق إن لم يبايعوا، وضرب لهم في ذلك أجلاً. فكتب ابن الحنفية إلى المختار يعرفه الحال، ويطلب النجدة. فقرأ المختار كتابه على أهل الكوفة، وقال: هذا مهديكم وصريح أهل بيت نبيكم قد تركوا محظوراً عليهم كما يحظر على الغنم ينتظرون القتل والتحريق في الليل والنهار، لست أبا إسحاق إن لم أنصرهم نصراً مؤزراً، وإن لم أسر بالخيل في أثر الخيل، كالسيل يتلوه السيل، حتى يحل بابن الكاهلية الويل، يريد عبد الله بن الزبير. فبكى الناس وقالوا: سرحنا إليه وعجل، فوجه أبا عبد الله الجدلي في سبعين من أهل القوة، ووجه ظبيان بن عمارة أخا بني تميم في أربعمائة، وبعث معه أربعمائة ألف درهم لأبن الحنفية، ووجه أبن المعتمر في مائة، وهانئ بن قيس في مائة، وعمير بن طارق في أربعين، و يونس بن عمران في أربعين، فوصل أبو عبد الله الجدلي إلى ذات عرق، فأقام بها حتى أتاه عمير ويونس في ثمانين، فبلغوا مائة وخمسين راكباً، فساروا حتى دخلوا المسجد الحرام وهم ينادون: يالثارات الحسين، حتى انتهوا إلى زمزم، فكسروا الباب ودخلوا على ابن الحنفية، فقالوا: خل بيننا وبين عدو الله ابن الزبير، فقال إني لا أستحل القتال في الحرم.فقال ابن الزبير: واعجباه لهذه الخشبية ينعون حسيناً كأني أنا قتلته، والله لو قدرت على قتلهم لقتلتهم، وإنما سماهم ابن الزبير الخشبية لأنهم دخلوا مكة وبأيديهم الخشب كراهة إشهار السلاح في الحرم، وقال: أتحسبون أني أخلي سبيلهم، دون أن نبايع ويبايعوا. فقال: الجدلي: ورب الركن والمقام لتخلين سبيلنا أو لنجالدنك بأسيافنا جلاداً يرتاب منه المبطلون، فكفهم ابن الحنفية وحذرهم الفتنة. ثم قدم باقي الجند ومعهم المال، فدخلوا المسجد الحرام فكبروا، وقالوا: يالثارات الحسين، فخافهم ابن الزبير، وخرج ابن الحنفية ومعه أربعة آلاف رجل إلى شعب علي، فعزوا وامتنعوا، فقسم فيهم المال، فلما قتل المختار ضعفوا واحتاجوا، ثم استوثق البلاد لأبن الزبير بعد قتل المختار، فبعث إلى أبن الحنفية أن أدخل في بيعتي، وإلا نابذتك. وبلغ الخبر عبد الملك بن مروان، فكتب إلى ابن الحنفية: أنه إن قدم عليه أحسن إليه، وإنه ينزل أي الشام أحب حتى يستقيم أمر الناس. فخرج ابن الحنفية ومن معه إلى الشام، فلما وصل إلى مدين بلغه غدر عبد الملك بعمرو بن سعيد، فندم على إتيانه إلى الشام ونزل أيلة، وتحدث الناس بفضل ابن الحنفية، وكثرة عبادته وزهده، فندم عبد الملك على إذنه في القدوم إلى بلده، فكتب إليه: ' إنه لا يكون في سلطاني من لا يبايعني'. فارتحل إلى مكة، ونزل شعب أبي طالب، فأرسل إليه ابن الزبير يأمره بالرحيل عنه، فسار إلى الطائف وألتحق به عبد الله بن عباس، ومات بن عباس بالطائف، حتى قدم الحجاج لحصار ابن الزبير، فعاد إلى الشعب، فطلبه الحجاج ليبايع عبد الملك، فامتنع حتى يجتمع الناس، ثم بايع بعد قتل ابن الزبير.هذا ما كان من أمره، فلنعد إلى ، ' والله أعلم'.
ذكر مسيرة إبراهيم بن الأشتر لحرب عبيد الله بن زياد
وقتل ابن زيادوفي سنة ست وستين لثمان بقين من ذي الحجة، سار إبراهيم بن الأشتر لقتال عبيد الله بن زياد، وذلك بعد فراغه من وقعة السبيع بيومين، وأخرج المختار معه فرسان أصحابه ووجوههم وأهل البصائر منهم، وشيعه ووصاه، وخرج معه لتشيعه أصحاب الكرسي بكرسيهم، وهم يدعون الله له بالنصر، وسنذكر خبر الكرسي إن شاء الله تعالى. قال: ولما انتهى إبراهيم إلى أصحاب الكرسي وهم عكوف عليه، ' وقد' رفعوا أيديهم إلى السماء يدعون الله، فقال إبراهيم: اللهم لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا، هذه سنة بني إسرائيل، وسار إبراهيم مجداً ليلقى ابن زياد قبل أن يدخل أرض العراق، وكان ابن زياد قد سار في عسكر عظيم وملك الموصل كما ذكرنا، فلما انتهى إبراهيم إلى نهر الخازر من أرض الموصل نزل بقرية باربيثا، وأقبل عبيد الله بن زياد حتى نزل قريباً منهم على شاطئ خازر، وأرسل عمير بن الحباب السلمي إلى ابن الأشتر أن القني ؛ وكانت قيس كلها مضطغنة على بني مروان بسبب وقعة مرج راهط، وجند عبد الملك يومئذ كلب، واجتمع عمير وابن الأشتر فأخبره عمير أنه على ميسرة بن زياد، وواعده أن ينهزم بالناس، وأشار عليه بمناجزة القوم، وعاد عمير إلى أصحابه، وصلى بهم صلاة الفجر بغلس، ثم صفهم وسار بهم رويداً حتى أشرف على تل عظيم مشرف على القوم، فإذا هم لم يتحرك منهم أحد، فتقدم ابن الأشتر وهو يحرض أصحابه على القتال، يذكرهم بمقتل الحسين وسبي أهل بيته، فلما تدانى الصفان حمل الحصين بن نمير بميمنة أهل الشام على ميسرة ابن الأشتر، وعليها علي بن مالك الجشمي، فقتل بن مالك، فأخذ الراية ابنه قرة بن علي وقاتل بها فقتل في رجالٍ من أهل البأس، وانهزمت ميسرة إبراهيم، فأخذ الراية عبد الله بن ورقاء بن جنادة السلولي، ورد المنهزمين، وقاتلوا، وحملت ميمنة إبراهيم وعليها سفيان بن يزيد الأزدي على ميسرة بن زياد، وهم يظنون أن عمير بن الحباب ينهزم لهم كما زعم، فقاتلهم أشد قتال، وأنفت نفسه الهزيمة، فلما رأى إبراهيم ذلك قال لأصحابه: اقصدوا أهل السواد الأعظم، فوالله لئن هزمناه لنجعلن من ترون يمنة ويسرة، فتقدم أصحابه وقاتلوا أشد قتال، وصدقهم إبراهيم القتال، فأنهزم أصحاب بن زياد، وبعد أن قتل من الفريقين قتلى كثيرةً. وقيل: إن عمير بن الحباب أول من أنهزم، وإنما كان قتاله أولاً تعذيراً. فلما انهزموا قال إبراهيم بن الأشتر: إني قتلت رجلاً تحت رايةٍ منفردةٍ على شط نهر خازر، فالتمسوه فإني شممت منه رائحة المسك، شرقت يداه وغربت رجلاه، فالتمسوه، فإذا هو عبيد الله بن زياد، فأخذ رأسه وحرقت جثته. وأقام إبراهيم بالموصل، وأنفذ رأس عبيد الله إلى المختار، ورءوس القواد، وكانت هذه الوقعة في سنة سبعٍ وستين. وروى الترمذي رحمه الله قال: لما جاءت الرءوس إلى المختار ألقيت في القصر فجاءت حية دقيقة فتخللت الرءوس حتى دخلت فم عبيد الله وخرجت من منخره ودخلت في منخره وخرجت من فمه، فعلت ذلك مراراً.
ذكر ولاية مصعب بن الزبير البصرة
ومسيره إلى الكوفة وقتاله المختار وقتل المختار بن أبي عبيدكانت ولايته البصرة وعزل الحارث بن أبي ربيعة الملقب بالقباع عنها في أول سنة سبع وستين، قال: فقدمها مصعب، وصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: بسم الله الرحمن الرحيم.'طسم.تلك آيات الكتاب المبين.نتلوا عليك من نبأ موسى وفرعون بالحق لقوم يؤمنون.إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعاً يستضعف طائفة منهم يذبح آبائها ويستحيي نساءهم إنه كان من المفسدين.'، وأشار بيده نحو الشام، ' ونريد أن نمنن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين.ونمكن لهم في الأرض'، وأشار نحو الحجاز، ' ونرى فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون'، وأشار نحو الشام، وقال: يا أهل البصرة، بلغني أنكم تلقبون أميركم، وقد لقبت نفسي الجزار. قال: ولما هرب أشراف الكوفة من المختار يوم وقعة السبيع، أتى منهم جماعة إلى مصعب، فكان منهم شبث بن ربيعى، أتاه على بغلة قد قطع ذنبها وطرف أذنها، وشق قباءه وهو ينادي: واغوثاه ! وأتاه أشراف الكوفة فدخلوا عليه وسألوه المسير إلى المختار ونصرتهم، وقدم محمد بن الأشعث، واستحثه على المسير فأدناه وأكرمه، وكتب إلى المهلب بن أبي صفرة، وهو عامله على فارس يستدعيه ليشهد معهم قتال المختار، فقدم في جموع كثيرة وأموال عظيمة، فبرز مصعب بالجيوش، وأرسل عبد الرحمن بن مخنف إلى الكوفة، وأمره أن يخرج إليه من قدر عليه، ويثبط الناس عن المختار، ويدعوهم إلى بيعة بن الزبير سراً، فسار ودخل الكوفة مستتراً، وفعل ما أمر به، وسار وقدم أمامه عباد بن الحصين الحبطي التميمي، وجعل عبيد الله بن معمر على ميمنته، والمهلب على ميسرته، ومالك بن مسمع على بكر، ومالك بن المنذر على عبد القيس، والأحنف بن قيس على تميم، وزياد بن عمرو العتكي على الأزد، وقيس بن الهيثم على أهل العالية، وبلغ الخبر المختار فقام في أصحابه فندبهم إلى الخروج مع الأحمر بن شميط، ودعا رءوس الأرباع الذين كانوا مع ابن الأشتر فبعثهم مع ابن شميط، فسار وعلى مقدمته ابن كامل الشاكري، فوصلوا إلى المذار، وأقبل مصعب فعسكر بالقرب منه، وعبأ كل واحد منهما جنده، فتقدم عباد بن الحصين إلى أحمر وأصحابه، وقال: إنا ندعوكم إلى كتاب الله وسنة رسوله، وإلى بيعة أمير المؤمنين عبد الله بن الزبير، فقال الآخرون: إنا ندعوكم إلى كتاب الله وسنة رسوله وإلى بيعة المختار، وأن نجعل هذا الأمر شورى في آل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرجع عباد وأخبر مصعباً، فقال: ارجع فأحمل عليهم، فرجع وحمل على ابن شميط وأصحابه، وحمل المهلب على ابن كامل حملة بعد أخرى، فهزمهم، وثبت ابن كامل ساعةً في رجال من همدان، ثم انصرف، وحمل الناس جميعاً على ابن شميط، فقاتل حتى قتل، وانهزم أصحابه، وبعث مصعب عباداً على الخيل، وقال له: أيما أسير أخذته فأضرب عنقه، وسرح محمد بن الأشعث في خيل عظيمة من أهل الكوفة، وقال: دونكم ثأركم فكانوا' حيث انهزموا' أشد على المنهزمين من أهل البصرة، فلم يدركوا منهزماً إلا قتلوه، فلم ينج من ذلك الجيش إلا طائفة من أصحاب الخيل. ثم أقبل مصعب حتى قطع من تلقاء واسط، ' القصب'، ولم تكن' واسط' قد بنيت بعد، فأخذ في كسكر، ثم حمل الرجال أثقالهم والضعفاء في السفن، فأخذوا في نهر خرشاذ، ثم خرجوا إلى نهر قوسان، ثم خرجوا إلى نهر الفرات، وأتى المختار خبر الهزيمة والقتلى، فقال: ما من الموت بد، وما من ميتة أموتها أحب إلي من أن أموت مثل ابن شميط. ولما بلغه أن مصعب قد أقبل إليه في البر والبحر سار حتى نزل السيلحين، ونظر إلى مجتمع الأنهار، نهر الخريدة، ونهر السيلحين، ونهر القاددسية، ونهر يوسف، فسكر الفرات، فذهب ماؤها في هذه الأنهار، وبقيت سفن أهل البصرة في الطين، فخرجوا من السفن إلى ذلك السكر فأصلحوه، وقصدوا الكوفة، وسار المختار فنزل حوراء، وحال بينهم وبين الكوفة بعد أن حصن القصر والمسجد، وأقبل مصعب وجعل على ميمنه المهلب، وعلى ميسرته عمر بن عبيد الله، وعلى الخيل عباد بن الحصين، وجعل المختار على ميمنته سليم بن يزيد الكندي، وعلى ميسرته سعيد بن منقذ الهمداني، وعلى الخيل عمر بن عبد الله النهدي، وعلى الرجال مالك بن عبد الله النهدي، وأقبل محمد بن الأشعث فيمن كان قد هرب من أهل الكوفة، فنزل بين مصعب والمختار، فلما رأى المختار ذلك بعث إلى كل خمس من أهل البصرة رجلاً من أصحابه، وتدانى الناس، فحمل سعيد بن المنقذ على بكر وعبد القيس وهم في ميمنة مصعب، فاقتتلوا قتالاً شديداً، وبعث المختار إلى عبد الله بن جعدة بن هبير المخزومي، فحمل على من بازائه وهم أهل العالية، فكشفهم' فانتهوا إلى مصعب فجثا مصعب على ركبتيه ونزل الناس عنده فقاتلوا ساعة وتحاجزوا ثم حمل المهلب على من بازائه فكشفهم' واشتد القتال، فقتل ابن الأشعث وذلك عند المساء، قاتل المختار على فم سكة شبث عامة ليلته، وقاتل معه رجالٌ من أهل البأس، وقاتلت معه همدان أشد قتال، ثم تفرق الناس عن المختار، فقال له من معه: أيها الأمير، اذهب إلى القصر، فجاء حتى دخله، فقال له بعض أصحابه: ألم تكن وعدتنا الظفر، وأنا سنهزمهم ؛ فقال: أما قرأت في كتاب الله: ' يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب'. قال: فلما أصبح مصعب أقبل يسير فيمن معه نحو السبخة، فمر بالمهلب، فقال المهلب، ياله فتحاً ما أهناه لو لم يقتل محمد بن الأشعث، فقال: صدقت ؛ ثم قال مصعب للمهلب: إن عبيد الله بن علي بن أبي طالب قد قتل، فاسترجع المهلب، فقال مصعب: إنما قتله من يزعم أنه شيعة لأبيه، ثم نزل مصعب السبخة فقطع عن المختار ومن معه الماء والميرة، وقاتل المختار ومن معه قتالاً ضعيفاً، واجترأ الناس عليهم، فكانوا إذا خرجوا رماهم الناس من فوق البيوت، وصبوا عليهم الماء القذر، وكان أكثر معاشهم من النساء تأتي المرأة متخفية ومعها القليل من الطعام والشراب، ففطن مصعب لذلك، فمنع النساء، فاشتد على المختار وأصحابه العطش، فكانوا يشربون ماء البئر بالعسل، ثم أمر مصعب أصحابه فاقتربوا من القصر، واشتد الحصار، فقال المختار لأصحابه: ويلكم، إن الحصار لا يزيدكم إلا ضعفا، فانزلوا بنا نقاتل حتى نقتل كراماً إن نحن قتلنا، واله ما أنا يائس إن صدقتموهم أن ينصركم الله، فضعفوا ولم يفعلوا، فقال لهم: أما أنا فوالله لا أعطي بيدي ولا أحكمهم في نفسي، ثم تطيب وتحنط وخرج من القصر في تسعة عشر رجلاً منهم السائب بن مالك الأشعري، فتقدم المختار فقاتل حتى قتل، قتله رجلان أخوان من بني حنيفة، وهما طرفة وطراف ابنا عبد الله بن دجاجة، فلما كان الغد من مقتله، دعا بجير بن عبد الله المسلي من معه بالقصر إلى ما دعاهم المختار، فأبوا عليه، وأمكنوا أصحاب مصعب من أنفسهم، ونزلوا على حكمه، فأخرجوا مكتفين، فاستعطفوه، فأراد أن يطلقهم، فقام عبد الرحمن ابن محمد بن الأشعث فقال: أتخلي سبيلهم ؟ اخترنا أو اخترهم.وقال محمد بن عبد الرحمن بن سعيد الهمداني مثله، وقال أشراف الكوفة مثلهما، فأمر بقتلهم، فقالوا: يا ابني الزبير، لا تقتلنا واجعلنا على مقدمتك إلى أهل الشام غداً، فما بكم عنا غداً غنى ؛ فإن قتلنا لم نقتل حتى نضعفهم لكم، وإن ظفرنا بهم كان ذلك لكم، فأبى عليهم وقتلهم برأي أهل الكوفة، وأمر مصعب بكف المختار فقطعت وسمرت إلى جانب المسجد فبقيت حتى قدم الحجاج فأمر بنزعها. وكتب مصعب إلى إبراهيم بن الأشتر يدعوه إلى طاعته، ويقول: إن أطعتني فلك الشام وأعنه الخيل وما غلبت عليه من أرض المغرب ما دام لآل الزبير سلطان. وكتب عبد الملك بن مروان إلى ابن الأشتر أيضاً يدعوه إلى طاعته ويقول: إن أنت أجبتني فلك العراق. فاستشار إبراهيم أصاحبه في ذلك، فاختلفوا، فقال: لو لم أكن أصبت ابن زياد وغيره من أشراف الشام لأجبت عبد الملك، مع أني لا أختار على أهل مصرى وعشيرتي غيرهم، فدخل في طاعة مصعب، وبلغ مصعبا إقباله إليه، فبعث المهلب على عمله بالموصل والجزيرة وإرمينية وأذربيجان. قال: ثم دعا مصعب بن الزبير أم ثابت بنت سمرة بن جندب امرأة المختار، وعمرة بنت النعمان بن بشير الأنصاري امرأته الأخرى، وسألهما عنه، فقالت أم ثابت: أقول فيه بقولك أنت فيه، فأطلقها ؛ وقالت عمرة: رحمة الله عليه، كان عبداً صالحا. فكتب إلى أخيه عبد الله: إنها تزعم أنه نبي، فأمره بقتلها، فقتلت ليلا بين الحيرة والكوفة، فقال عمر بن أبي ربيعة المخزومي:
إن من أعجب العجائب عندي
قتل بيضاء حرة عطبول
قتلت هكذا على غير جرم
إن لله درها من قتيل
كتب القتل والقتال علينا
وعلى المحصنات جر الذيول
وقيل: إن المختار إنما أظهر الخلاف على ابن الزبير عند قدوم مصعب البصرة، وإن مصعباً لما سار إليه فبلغه مسيره أرسل إليه أحمر بن شميط، وأمره أن يواقعه بالمذار، وقال: إن الفتح بالمذار، لأنه بلغه أن رجلاً من ثقيف يفتح عليه بالمذار فتح عظيم، فظن أن هو، وإنما كان الحجاج في فتال عبد الرحمن ابن الأشعث، وأمر مصعب عبادا الحبطي بالمسير إلى جمع المختار، فتقدم وتقدم معه عبيد الله بن علي بن أبي طالب، وبقي مصعب على نهر البصريين، على شط الفرات، وخرج المختار في عشرين ألفا، وزحف مصعب ومن معه فوافوه مع الليل، فقال المختار لأصحابه: لا يبرحن أحد منكم حتى يسمع منادياً ينادي: يا محمد، فإذا سمعتموه فاحملوا، فلما طلع القمر أمر منادياً فنادى: يا محمد ؛ فحملوا على أصحاب مصعب فهزموهم وأدخلوهم عسكرهم، فلم يزالوا يقاتلونهم حتى أصبحوا، وأصبح المختار وليس عنده أحد، وقد أوغل أصحابه في أصحاب مصعب، فانصرف المختار منهزماً حتى دخل قصر الكوفة، وجاء أصحابه حين أصبحوا، فوقفوا ملياً، فلم يروا المختار، فقالوا: قد قتل، فهرب منهم من أطاق الهرب، فاختفوا بدور الكوفة، وتوجه منهم نحو القصر ثمانية آلاف، فوجدوا المختار في القصر، فدخلوا معه وكانوا قد قتلوا تلك الليلة من أصحاب مصعب خلقاً كثيراً، منهم محمد بن الأشعث. وأقبل مصعب فأحاط بالقصر، وحاصرهم أربعة أشهر يخرج المختار كل يوم فيقاتلهم في سوق الكوفة، فلما قتل المختار بعث من في القصر يطلبون الأمان، فأبى مصعب، فنزلوا على حكمه، فقتل من العرب سبعمائة أو نحو ذلك، وسائرهم من العجم، فكان عدة القتلى ستة آلاف رجل، وقيل: سبعة آلاف، وذلك في سنة سبع وستين، وكان عمر المختار يوم قتل سبعا وستين سنة، وكان تارة يدعو لمحمد ابن الحنفية، وتارة لعبد الله بن الزبير. وحكى عبد الملك بن عبدون في كتابه المترجم كمامة الزهر وصدفة الدرر، أن المختار ادعى النبوة وقال: إنه يأتيه الوحي من السماء، وأظهر ذلك في آخر أمره، وكان له كرسي يستنصر به.
خبر كرسي المختار الذي كان يستنصر به
ويزعم أنه في كتاب بني إسرائيلقال الطفيل بن دعدة بن هبيرة: أضقت إضاقة شديدة، فخرجت يوماً فإذا جار لي زيات وعنده كرسي قد ركبه الوسخ، فقلت في نفسي: لو قلت للمختار في هذا شيئاً، فأخذته من الزيات وغسلته، فخرج عود نضار قد شرب الدهن وهو أبيض، فقلت للمختار: إني كنا أكتمك شيئا، وقد بدا لي أن أذكره لك، إن أبى جعدة كان يجلس عندنا على كرسي، ويرى أن فيه أثراً من علم.قال: سبحان الله، أخرته إلى هذا الوقت ! ابعث به إلي، فأحضرته وقد غشيته، فأمر لي اثنى عشر ألفا، ثم أمر فنودي: الصلاة جامعة، فاجتمع الناس، فقال: إنه لم يكن في الأمم الخالية أمر إلا وهو كائن في هذه الأمة مثله، وإنه كان لبني إسرائيل التابوت، وإن هذا فينا مثله، فكشفوا عنه وقامت السبائية فكبروا، ثم لم يلبث أن أرسل المختار الجيش لقتال ابن زياد، وخرج بالكرسي على بغل وقد غشى، فكان من هزيمة أهل الشام وقتل أشرافهم ما ذكرناه، فزادهم ذلك فتنة حتى تعاطوا الكفر. قال الطفيل: فندمت على ما صنعت، فتكلم الناس في ذلك، فغيبه المختار. وقيل: إن المختار قال لآل جعدة بن هبيرة - وكانت أم جعدة هي أم هاني بنت أبي طالب أخت على رضي الله عنه لأبويه - ائتوني بكرسي علي، فقالوا: والله ما هو عندنا، فقال: لا تكونوا حمقى، اذهبوا فائتوني به، فظنوا أنهم لا يأتونه بكرسي إلا قال: هذا هو، فأتوه بكرسي، فأخذه وخرجت شبام وشاكر وفودا، يعني أصحاب المختار، وقد جعلوا عليه الحرير، وكان أول من سدنه موسى ابن أبي موسى الأشعري، فعتب الناس عليه، فتركه فسدنه حوشب البرسمي حتى هلك المختار. وقال أعشى همدان فيه:
شهدت عليكم أنكم سبئية
وإني بكم يا شرطة الشرك عارف
فأقسم ما كرسيكم بسكينة
وإن كان قد لقت عليه اللفائف
وأن ليس كالتابوت فينا وإن سعت
شبام حواليه ونهد وخارف
وإني أمرؤ أحببت آل محمد
وتابعت وحيا ضمنته المصاحف
وبايعت عبد الله لما تتابعت
عليه قريش شمطها والغطارف
وقال المتوكل الليثي:
أبلغ أبا إسحاق إن جئته
أنى بكرسيكم كافر
تنزو شبام حول أعواده
ويحمل الوحي له شاكر
محمرة أعينهم حوله
كأنهن الحامض الحازر
انتهت بن أبي عبيدة، فلنذكر أخبار نجدة الحنفي، والله ولي التوفيق.