أخبار الملك العادل
وما اعتمده بدمشقوما كان من أمره الى أن انتقل الى صرخدلما فارق الملك العادل الدهليز والأمراء، توجه الى دمشق.وقدم قبله أحد مماليكه ليعلم مملوكه الأمير سيف الدين أغرلوا نائب السلطنة بدمشق ما تجدد، ويخبره بوصول السلطان.فوصل أمير شكار في بكرة نهار الأربعاء، سلخ المحرم.فجمع نائب السلطنة بدمشق الأمراء، وركب جماعة من العسكر، وأمرهم بالوقوف خارج باب النصر. ثم وصل الملك العادل الى دمشق، في وقت العصر من اليوم المذكور، ومعه أربعة أو خمسة من مماليكه.ودخل الى القلعة، واستقر بها، وحضر الى خدمته الأمراء، وخلع على جماعة.وأمر بإيقاع الحوطة على حواصل الأمير حسام الدين لاجين ونوابه.ثم وصل الأمير زين الدين غلبك العدلي في يوم الخميس، مستهل صفر، بجماعة يسيرة من المماليك العادلية.وجلس شهاب الدين الحنفي وزير الملك العادل في الوزارة بالقلعة.ورتب أحوال السلطنة.وأمّر العادل جماعة من دمشق، ووضع بعض المكوس، وقرئ بذلك توقيع في يوم الجمعة سادس عشر صفر. وفي يوم السبت رابع عشرين الشهر، وصل الأمير سيف الدين كجكن وجماعة من الأمراء، كانوا معه بالرحبة مجردين، فلم يدخلوا دمشق، وتوجهوا الى جهة ميدان الحصا.وأعلن باسم السلطان الملك المنصور حسام الدين لاجين، وخرج إليه الأمراء بدمشق، طائفة بعد طائفة.فلما علم الملك العادل بذلك، وتحقق انحلال أمره، وتخاذل الناس عنه، وثبات قدم الملك المنصور في السلطنة، وانضمام الناس إليه، أذعن الى الطاعة، والدخول فيما دخل الناس فيه.وقال للأمراء: السلطان الملك المنصور، هو خوشداشي، وأنا في خدمته وطاعته، وأنا أكون في بعض القاعات بالقلعة الى أن يكاتب السلطان، ويرد جوابه بما يقتضيه رأيه في أمري.فعند ذلك اجتمع الأمراء بباب الميدان، وحلفوا بأجمعهم للسلطان الملك المنصور، وكتبوا إليه بذلك. وتوجه البريد إليه بالخبر، ودخل الأمير سيف الدين جاغان الى القلعة ورتب من يحفظ الملك العادل بها، الى أن يرد جواب السلطان المنصور في أمره، وغلق أبواب دمشق، في يوم السبت خلا باب النصر.وركب عسكر دمشق بالسلاح، وأحاطوا بالقلعة حفظاً لها، وخوفاً أن يخرج الملك العادل منها، ويقصد جهة أخرى قبل ورود جواب السلطان في أمره.ثم دقت البشائر في وقت العصر من يوم السبت المذكور، وأعلن باسم السلطان الملك المنصور.وقرأ المؤذنون في ليلة الأحد الخامس والعشرين من الشهر بالمآذن 'قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء' الى آخر الآية.ودعوا للملك المنصور، ودعا له قارئ المصحف، بعد صلاة الصبح وضربت البشائر على أبواب الأمراء، وأظهروا الفرح والسرور بسلطنته، وفتحت أبواب البلد وزينت، وفتح الناس حوانيتهم. وفي يوم الأحد المذكور، اجتمع القضاة بدار السعادة، وحضر الأمراء والعساكر، وحلفوا للملك المنصور.وتولى التحليف القاضي شمس الدين بن غانم، بحضور الأمير سيف الدين أغرلوا، نائب السلطنة، وحلف هو أيضاً، وأظهر السرور بسلطنة الملك المنصور.وقال: السلطان، أعز الله تعالى نصره، هو الذي عينني لنيابة السلطنة، وأستاذي كان قد استصغرني، فأشاد هو بي، فأنا نائب السلطان الملك المنصور.ثم توجه هو والأمير سيف الدين جاغان الى الأبواب السلطانية. وخطب للملك المنصور حسام الدين لاجين، بجوامع دمشق، في يوم الجمعة، مستهل شهر ربيع الأول، سنة ست وتسعين وستمائة.وكان الأمير شمس الدين سنقر الأعسر، قد حضر من جهة السلطان الملك المنصور الى ظاهر دمشق، في ليلة الأحد رابع صفر.وأرسل الى الأمراء كتباً كانت معه، وحلف جماعة منهم.وتوجه الى قارا في ليلته، وكان بها جماعة من الأمراء المجردين، فاجتمع بهم، وقرر الأمر معهم، وكتب الى السلطان بذلك.ثم رجع وأقام بلد بجماعته، حفظاً للبلاد بتلك الجهة.فلما بلغه استقرار الأمور بدمشق، توجه إليها، ودخلها في يوم الخميس، سابع عشرين صفر.فتلقاه الناس، واشتعلت الشموع لمقدمه نهاراً، وحضر الأكابر والأعيان الى خدمته.ونودي بدمشق، من له مظلمة، فليحضر الى دار الأمير شمس الدين سنقر الأعسر. ثم وصل الأمير حسام الدين أستاذ الدار الى دمشق، بجماعة من العسكر.وجمع الأمراء بدار السعادة، بحضور القضاة.وقرئ فيهم عليهم كتاب السلطان، يتضمن استقراره في الملك، وجلوسه على تخت السلطنة، بقلعة الجبل، واجتماع الكلمة عليه، وركوبه بالخلع الخليفية، والتقليد من أمير المؤمنين، الحاكم بأمر الله، أبي العباس أحمد. ثم وصل الأمير سيف الدين جاغان الحسامي، من الأبواب السلطانية، في عشية يوم الإثنين، حادي عشر شهر ربيع الأول.ودخل في كبرة نهار الثلاثاء، الى قلعة دمشق، هو والأمير حسام الدين أستاذ الدار، والأمير سيف الدين كجكن، وقاضي القضاة بدر الدين بن جماعة، واجمتعوا بالملك العادل.فحلف للسلطان الملك المنصور يميناً مستوفاة مغلظة، أنه في طاعة السلطان الملك المنصور وموافقته، وإخلاص النية له، وأنه رضي بالمكان الذي عينه له، وهو قلعة صرخد، وأنه لا يكاتب ولا يستفسد أحداً، الى غير ذلك، مما اشترط عليه.ثم وصل الأمير سيف الدين قبجاق المنصوري، نائب السلطنة بالشام، الى دمشق في يوم السبت سادس عشر شهر ربيع الأول، ونزل بدار السعادة، على عادة النواب. وخرج الملك العادل من قلعة دمشق، وتوجه الى صرخد، في ليلة الثلاثاء تاسع عشر شهر ربيع الأول.وتوجه معه مماليكه، وجرد معه جماعة من العسكر الشامي، الى أن وصل الى قلعة صرخد. فكانت مدة سلطنة الملك العادل، منذ جلس على تخت السلطنة، بقلعة الجبل، في يوم الأربعاء حادي عشر المحرم سنة أربع وتسعين وستمائة، والى أن فارق الدهليز بمنزلة العوجا، وتوجه الى دمشق، في يوم الإثنين الثامن والعشرين من المحرم، سنة ست وتسعين وستمائة، سنتين وسبعة عشر يوماً، والى أن خلع نفسه من السلطنة بدمشق، في يوم السبت رابع عشرين صفر، شهراً واحداً، وأحد عشر يوماً. ولما وصل الأمير سيف الدين جاغان الى دمشق، أحضر على يديه توقيعاً للصاحب تقي الدين توبة، بوزارة دمشق على عادته، وتوقيعاً للقاضي أمين الدين بن هلال، بنظر الخزانة، عوضاً عن تقي الدين توبة، وتوقيعاً للشيخ أمين الدين العجمي بنظر الحسبة بدمشق.فباشر كل منهم ما فوض إليه.ثم خلع على الأمراء والمقدمين، والقضاة، وأعيان الدولة بدمشق، في يوم الإثنين ثاني شهر ربيع الآخر.فيقال إن عدة التشاريف التي فرقت ستمائة تشريف.
الإفراج عن جماعة من الأمراء
وفي هذه السنة، أفرج السلطان الملك المنصور عن جماعة من الأمراء المعتقلين، وهم الأمير ركن الدين بيبرس الجاشنكير، والأمير سيف الدين برلغي الأشرفي، والأمير شمس الدين الركن السلاح دار، وغيرهم من المماليك السلطانية.وأعطى الأمير ركن الدين بيبرس الجاشنكير إمرة بالديار المصرية، والأمير سيف الدين برلغي إقطاعاً بدمشق، فتوجه إليها. وفيها، أمّر السلطان الملك المنصور جماعة من مماليكه، وهم الأمير سيف الدين منكوتمر، والأمير علاء الدين ايدغدي شقير، والأمير سيف الدين بيدوا، والأمير سيف الدين جاغان، والأمير سيف الدين بهادر المعزي.
تجديد عمارة الجامع الطولوني وترتيب الدروس به، والوقف على ذلك
وفي هذه السنة، أمر السلطان الملك المنصور حسام الدين لاجين بتجديد عمارة الجامع الطولوني.وندب لذلك الأمير علم الدين سنجر الدواداري.وأقر لعمارته من خالص ماله، عشرين ألف دينار عيناً.فاهتم الأمير علم الدين، المشار إليه، بعمارته وعمارة أوقافه.وابتاع السلطان من بيت المال منية أندونه، من الأعمال الجيزية، ووقفها على المدرسين والمشتغلين وأرباب الوظائف بالجامع.ورتب فيه درساً لتفسير كتاب الله العزيز، ودرساً لحديث رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ودروساً للفقه على المذاهب الأربعة.وجعل لهذه الدروس مدرساً لكل طائفة، ومعيدين وطلبة.ورتب دروساً للطب، وميعاداً للرقائق، وشيخاً للسبحة، ومكتب سبيل، وغير ذلك من أنواع البر.ورتب لهم الجامكيات المتوفرة، واستمر ذلك الى الآن. وفي هذه السنة، نقل السلطان، الخليفة الحاكم بأمر الله أبا العباس أحمد العباس أمير المؤمنين، من البرج الذي كان يسكنه بقلعة الجبل الى مناظر الكبش.وأجرى عليه وعلى أولاده الأرزاق الواسعة، ووصله بالصلات الجزيلة، وصار يركب معه في الموكب.والتمس الخليفة من السلطان الإذن في الحج، فأذن له في سنة سبع وتسعين وستمائة، وجهزه بما يحتاج إليه.
تفويض القضاء بالديار المصرية والشام لمن يذكر
وفي هذه السنة، حضر الى الأبواب السلطانية جماعة من قضاة الضاة والأعيان بدمشق، منهم قاضي القضاة حسام الدين الحنفي الرومي، وقاضي القضاة جمال الدين المالكي، والقاضي إمام الدين القزويني، والرئيس عز الدين حمزة بن القلانسي وغيرهم.فلما وصلوا، أكرمهم السلطان، وأحسن إليهم، وخلع عليهم.وفوض الى قاضي القضاة حسام الدين الحنفي قضاء القضاة بالديار المصرية، وعامله بما لم يعامل به أحداً من الإكرام والتقريب والبر والتشاريف.وأقر ولده القاضي جلال الدين على قضاء الشام.وفوض الى القاضي إمام الدين القزويني الشافعي، قضاء القضاة بدمشق على مذهب الإمام الشافعي.وكتب تقليده في رابع جمادى الأولى، عوضاً عن قاضي القضاة بدر الدين محمد بن جماعة.واستقر بيد القاضي بدر الدين الخطابة بالجامع الأموي بدمشق، وتدريس المدرسة القيمرية، وأعيد القاضي جمال الدين الزواوي المالكي الى دمشق على عادته، وخلع عليهما، فكان وصولهما الى دمشق في ثامن شهر رجب.وجلس القاضي إمام الدين للحكم بالمدرسة العادلية، وامتدحه الشعراء.فكان ممن امتدحه الشيخ كمال الدين بن الزملكاني بقصيدته التي أولها:
تبدّلت الأيام من عسرها يسرا
فأضحت ثغور الشام تفتر بالبشرى
وأما الرئيس عز الدين حمزة بن القلانسي، فإنه تأخر بالديار المصرية مدة، ثم عاد الى دمشق، فوصلها في الخامس والعشرين من شهر رمضان.وقد خلع عليه خلع الوزراء، تشريفاً كاملاً بطرحة ومنديل هنكري مزركش، وخلع على ولديه.واستعاد له من ورثة السلطان الملك المنصور، ما كان قد صودر به، وأُخذ منه في الأيام المنصورية.وأثبت ذلك في وجه وكيل الورثة المنصورية، وتعوض عنها أملاكاً، من الأملاك المنصورية.فذكر أن قيمتها أضعاف ما أخذ منه، منها حصة بقرية الرمثا وغير ذلك. وفيها، ولي الأمير سيف الدين جاغان الحسامي شد الشام، وباشر ذلك في يوم الإثنين العشرين من شهر رجب، عوضاً عن الأمير فتح الدين بن صبره.
تفويض الوزارة بالديار المصرية للأمير شمس الدين سنقر الأعسر
وفي هذه السنة، تقدم أمر السلطان بطلب الأمير شمس الدين سنقر الأعسر المنصوري، من دمشق، على خيل البريد.فركب منها في سابع عشر جمادى الآخرة.ووصل الى الأبواب السلطانية في الشهر المذكور، فأكرمه السلطان وأحسن إليه، وشرّفه وأمّره بالديار المصرية.ثم فوض إليه الوزارة، وتدبير الدولة، بالديار المصرية والممالك الشامية. وكان جلوسه في دست الوزارة، في السادس والعشرين من شهر رجب.وعزل الصاحب فخر الدين بن الخليلي، وسلّم إليه، ليستخرج منه مالاً.واستمر في الوزارة الى يوم السبت ثالث عشرين ذي الحجة، فقبض عليه لأمور أنكرها السلطان، وظهرت له منه.
القبض على الأمير شمس الدين قراسنقر المنصوري نائب السلطنة
وتفويض نيابة السلطنة للأمير سيف الدين منكوتمروفي هذه السنة، في يوم الثلاثاء منتصف ذي القعدة، قبض السلطان على نائبه وخوشداشه، الأمير شمس الدين قراسنقر المنصوري واعتقله.وأمر بإيقاع الحوطة على موجوده وحواصله، بالديار المصرية والبلاد الشامية.وفوّض السلطان، بعد القبض عليه، نيابة السلطنة بمقر ملكه، لمملوكه الأمير سيف الدين منكوتمر الحسامي. وفي هذه السنة، بعد القبض على الأمير شمس الدين قراسنقر المنصوري، ركب السلطان الملك المنصور الى الميدان، للعب بالكرة، فتقنطر به فرسه، فسقط الى الأرض، وانكسر أحد جانبي يديه وبعض أضلاعه.ووجد شدة عظيمة لذلك.واحتاج المجبرون الى كسر عظم الجانب الآخر من يده، لأجل صحة الجبر، فإنه لا يجبر أحد الجانبين، وإن انجبر قصر عن الجانب الآخر، فتعذر الانتفاع باليد، واضطر الى ذلك، وتوقف عن الإجابة إليه.فدخل عليه الأمير شمس الدين سنقر الأعسر - وكان ذلك قبل القبض عليه - وقال له: أنا حصل لي مثل هذا، فلما احتجت الى كسر النصف الآخر، ضربته بدقماق حديد، فانكسر ثم جبر.وكلمه في ذلك بكلام فيه غلظ واستخفاف.ولم يسلك ما جرت العادة به من الآداب الملوكية.فكان هذا من أسباب القبض عليه كما تقدم. واستمر السلطان على الانقطاع لهذه الحادثة، الى أن كملت صحته، وصح ما جبر من يده وجسده.ثم ركب في حادي عشر صفر، سنة سبع وتسعين وستمائة فاستبشر الناس بذلك، ودقّت له البشائر بمصر والشام. وفي سنة ست وتسعين وستمائة، في الحادي والعشرين من شهر ربيع الأول كانت وفاة الشيخ الإمام، السيد الشريف ضياء الدين مفتي المسلمين، أبي الفضل جعفر ابن الشيخ العارف القطب اتفاقاً، عبد الرحيم بن أحمد بن مجنون الحسيني الشافعي، رحمه الله.وكان قد ولي وكالة بيت المال، في أول الدولة المنصورية، مدة لطيفة، ثم عزل نفسه. وفيها، في ليلة الثلاثاء، سادس عشرين ربيع الأول، توفي الشيخ الإمام الحافظ جمال الدين أبو العباس أحمد ابن الشيخ محمد بن عبد الله الظاهري، وولده محمد، عتيق السلطان الملك الظاهر غازي.ودفن بتربته بمقبرة باب النصر، ظاهر القاهرة، رحمه الله تعالى. وفيها، في يوم الإثنين ثامن عشر شعبان، توفي الصدر سيف الدين أحمد ابن محمد بن جعفر الساوي بدمشق، ودفن بداره، جوار المدرسة الكروسية، داخل دمشق.وكان كبير المحل في النفوس، مشهور المكانة عند الخليفة المستعصم بالله وغيره.وقد تقدم ذكره في الدولة المنصورية.وكان حسن الشعر إلا أنه كان كثير الهجاء.وأهاجيه مشهورة، منها الأرجوزة التي عملها في مباشري الدولة المنصورية الناصرية بدمشق، وهي مشهورة. وفيها، في ليلة الخميس الثالث والعشرين من ذي القعدة، كانت وفاة الأمير عز الدين أزدمر العلائي، أحد الأمراء بدمشق.وهو أخو الحاج علاء الدين طيبرس الوزيري، رحمهما الله تعالى. وفيها، كانت وفاة الصاحب محيي الدين أبي عبد الله محمد بن يعقوب بن ابراهيم بن النحاس الأسدي.وكانت وفاته ببستانه بالمزة، في سلخ ذي الحجة ودفن في مستهل المحرم.ولي الوزارة بالشام مراراً.ولما توفي، كان مدرساً بالمدرسة الريحانية والظاهرية وناظر الخزانة، رحمه الله تعالى.
واستهلت سنة سبع وتسعين وستمائة
1297 - 1298
وصول الملك المسعود نجم الدين خضر
ومن معه من القسطنطينية الى الديار المصريةكان السلطان قد كتب الى الأشكري، صاحب القسطنطينية، في سنة ست وتسعين وستمائة، إذ تُجهّزوا أولاد الملك الظاهر الى الديار المصرية مكرمين، هم ومن معهم.فجهز إليه الملك المسعود نجم الدين خضر ووالدته.وأحضر الملك العادل سلامش في تابوت مصبراً.وكان قد مات بالقسطنطينية.وكان وصولهم في هذه السنة، فأكرمهم السلطان، وأحسن إليهم.وكان قد تزوج إحدى بنات الملك الظاهر، فلذلك كتب بإحضارهم، ودفن الملك العادل بدر الدين سلامش.ثم استأذن الملك المسعود السلطان في الحج، فأذن له، فحج في هذه السنة.وجهزه السلطان بما يحتاج إليه.ولما عاد، سكن القاهرة المعزية. وفي هذه السنة، كتب تقليد الأمير سيف الدين قبجاق المنصوري، بنيابة السلطنة الشريفة بالشام المحروس، وجهز إليه إلى دمشق، فوصل إليه في يوم الأربعاء مستهل شهر ربيع الأول، يزينه التشريف السلطان والسيف والحياصة والفرس.ويقال إنه تولى نيابة دمشق في هذه المدة الماضية بغير تقليد، فوصل إليه الآن، فجدد الحلف للسلطان بحضور القضاة والأمراء.وركب بكرة نهار الخميس، وعليه التشريف، وقبّل عتبة باب السر بقلعة دمشق على العادة.
توجه الملك السلطان الناصر الى الكرك وإقامته بها
وفي هذه السنة، جهز السلطان الملك المنصور حسام الدين الملكَ السلطان الناصر الى الكرك، فتوجه إليها، وتوجه في خدمته الأمير سيف الدين سلار أستاذ الدار، فوصل إليها في رابع شهر ربيع الأول.فأخبرني قاضي القضاة زين الدين علي بن مخلوف المالكي، عن خبر إرساله الى الكرك.قال: طلبني الملك المنصور حسام الدين، وقال لي: إعلم أن السلطان الملك الناصر ابن أستاذي، وأنا والله في السلطنة مقام النائب عنه.ولو علمت أنه الآن يستقل بأعباء السلطنة ولا تنخرم هذه القاعدة، ويضطرب الأمر، أقمته وقمت بين يديه.وقد خشيت عليه في هذا الوقت، وترجح عندي إرساله الى قلعة الكرك.فيكون بها الى أن يشتد عضده، ويكون من الله الخير.والله ما أقصد بإرساله إليها إبعاده ولكن حفظه، وأما السلطنة فهي لي.وأمثال هذا الكلام.قال: فشكرته على ذلك، ودعوت له.ولعل السلطان الملك المنصور، إنما قال هذا القول تطبيباً لقلب قاضي القضاة، لا حقيقة، وكان في طي الغيب كذلك. ولما توجه السلطان الملك الناصر الى الكرك، توجه في خدمته جماعة من مماليكه ومماليك أبيه السلطان الملك المنصور، منهم الأمير سيف الدين بهادر الحموي المنصوري وهو أكبرهم سناً، وهو القائم في خدمته مقام اللالا، والأمير سيف الدين أرغون المنصوري الناصري الدوادار، وكان قد تربى في خدمة السلطان من صغره، وسيف الدين طيدمر جوباش، رأس نوبة الجمدارية وغيرهم. وكان النائب بالكرك يوم ذاك، الأمير جمال الدين أقش الأشرفي المنصوري وكان في خدمة السلطان الملك الناصر بالكرك، وهو باق على نيابته بها.
القبض على الأمير بدر الدين بيسري الشمسي وغيره
وفي هذه السنة، في سادس شهر ربيع الآخر، قبض السلطان على الأمير بدر الدين بيسري الشمسي الصالحي.واعتقله بالقاعة الصالحية، بقلعة الجبل.وكان مكرماً في اعتقاله، وأحضر إليه زوجته المنصورية، والدة أحمد ابن السلطان الملك المنصور.وكان سبب ذلك أن السلطان ندبه في هذه السنة لكشف جسور الجيزية وإتقانها.وهذه الوظيفة بالنسبة له إطراح كثير له ولعظامته، وإن كانت كثيرة في حق غيره.فتوجه الى الجيزية بسائر مماليكه وألزامه.فاجتمع معه جمع كثير، يقال إنهم كانوا نحو سبعمائة.وكان يحضر الى الخدمة في يومي الإثنين والخميس.ويعود الى مخيمه.فلما تكامل إتقان الجسور، استأذن في عمل ضيافة للسلطان هناك.فأذن له واهتم لها اهتماماً كثيراً.وحصل بسببها جملة من الأغنام والأصناف وغير ذلك.وقرر مع السلطان أنه يحضر هذه الضيافة.فأوهم نائبه الأمير سيف الدين منكوتمر، السلطان من خروجه وحذره منه.وأحضر بهاء الدين أرسلان، أستاذ دار الأمير بدر الدين بيسري، وهو ابن مملوكه بدر الدين بيليك، أمير مجلس.وكان قد ربى أرسلان هذا كالولد.فلما كبر قدّمه على جماعة من أكابر مماليكه الذين كانوا في منزلة أبيه، وجعله أستاذ داره، وأحسن إليه إحساناً كثيراً، فخدعه الأمير سيف الدين منكوتمر ولاطفه ووعده بإمرة طبلخاناة، إن هو أنهى الى السلطان، أن مخدومه الأمير بدر الدين بيسري يقصد اغتياله.فأطمعت أرسلان نفسه، بما وعده منكوتمر، ووافقه على ما قصده.وحضر الى السلطان وأوهمه من أستاذه أنه إن حضر ضيافته قبض عليه وقتله.ثم عضّد ذلك أن الأمير بدر الدين بيسري، أرسل الى منكوتمر يطلب منه الدهليز السلطاني، ليُنصب في مكان المهم، ولم يشعر بما وقع.فرُسم بتسليم الدهليز لمماليك الأمير بدر الدين بيسري، وأن يتوجه مقدم الفراشين السلطانية ومن معه لنصبه، ولم يطلع السلطان على ذلك.فلما حُمل الدهليز السلطاني على الجمال، ومرّ به المماليك والغلمان، تحت القلعة ليتوجهوا به الى الجيزية، رآه السلطان من القلعة.فأرسل الى الأمير سيف الدين منكوتمر، وسأله عن أمره، فأنكر أن يكون اطلع على شيء من حاله.وقال إن مماليك بيسري أخذوه من الفراش خاناة السلطانية من غير استئذان.ثم قال للسلطان، هذا مما يحقق صدق ما نقل عنه، وأغراه به.فأمر السلطان بإعادة الدهليز الى الفراش خاناة. وكان الحامل للأمير سيف الدين منكوتمر على ذلك أن أستاذه الملك المنصور حسام الدين، كان قد عزم على أن يجعله ولي عهده بعده، كما فعل السلطان الملك المنصور، والملك الظاهر بأولادهما، ويقرن اسمه مع اسمه في الخطبة، لأن لاجين لم يكن له ولد ذكر.فتحدث في ذلك مع الأمير بدر الدين بيسري، فأنكره غاية الإنكار وأجاب عنه بأقبح جواب، وردّه بأشنع ردّ.فكان مما حكى أنه قال للسلطان: اعلم أن مملوكك هذا الذي أشرت إليه، لا يصلح للجندية، وقد أمّرته وقدمته، فصبر الناس لك على هذا.وجعلته نائب السلطنة، ومشّيت الأمراء والجيوش في خدمته، فأجابوا الى ذلك، طاعة لك، وطلباً لرضاك، مع ما تقدم من أيمانك عند السلطنة، أنك لا تقدم مماليكك على الأمراء، ولا تمكنهم منهم.ثم لم تقنع له بما خوّلته فيه، ومكنته منه، ورفعته من قدره، حتى تقصد أن تجعله سلطاناً مثلك، هذا لا يوافقك الناس عليه أبداً.وحذره من ذلك غاية التحذير، ونهاه عنه، وعن الحديث فيه مع غيره.ولعمري لقد بالغ في النصيحة له.فأعلم السلطان منكوتمر، بما دار بينه وبين الأمير بدر الدين بيسري في أمره، وبما أجاب به في معناه.فرأى منكوتمر أنه منعه مُلكاً عظيماً، وسلبه أمراً جسيماً.وعلم أنه لا يتم له هذا الأمر، الذي أشار به السلطان، ولا يتمكن منه، مع بقاء بيسري وأمثاله من الأمراء.فشرع في التدبير عليهم، وأغرى مخدومه بهم.وابتدأ بالتدبير على بيسري.وعلم أنه إن ينقل عنه أمراً، ربما أن السلطان لا يتلقاه بقبول، فأخذه من مأمنه.وتحيّل على أستاذ داره أرسلان، حتى أنهى عنه ما أنهاه.ثم عضد ذلك بواقعة الدهليز، فتحقق ما نقل عنه.ولما وقع ذلك، أطلع عليه بعض الأمراء الأكابر، فراسلوا الأمير بدر الدين بيسري، وأعلموه، بما اطلعوا عليه وكان ممن راسله في ذلك، الأمير سيف الدين طقجي الأشرفي وغيره من الأمراء، وحذروه من السلطان، وحلفوا له على الموافقة والمعاضدة.فلم يرجع الى قولهم، ولا أصغى إليهم.ثم أرسل إليه سيف الدين أرغون، أحد مماليك الملك المنصور، وخاصكيته وأقربهم عنده، يخبره أن السلطان قد عزم على القبض عليه، ويحذره من الحضور الى الخدمة، وإنه إن حضر يكون في أهبة واستعداد.وكان الحامل لأرغون على ذلك، أن أستاذه أمّر غيره من مماليكه، ولم يؤمره بطبلخاناة مع اختصاصه به، وإنما أعطاه إمرة عشرة، فوجد في نفسه.ومن العجب أن كل واحد، من السلطان وبيسري، أُتي في هذا الأمر من مأمنه، وأذاع سره أخص الناس به.فإن أرسلان كان من بيسري بالمكان الذي ذكرناه، كأعز أولاده عنده، وأرغون هذا كان من أخص المماليك المنصورية الحسامية، حتى لقد بلغني أنه أعطاه في يوم واحد، سبعين فرساً، وغير ذلك.فحمل أرسلان الطمع بالإمرة، وحمل أرغون الغيرة من تقديم أمثاله عليه.ففعلا ما فعلا، ونقلا ما نقلا. وحضر الأمير بدر الدين بيسري الى الخدمة، في يوم الإثنين السادس من شهر ربيع الآخر.فأخبرني ركن الدين بيبرس الجمدار، أحد المماليك البدرية، الذين كانوا معه، يوم القبض عليه، أنه لما عبر الى الخدمة، تلقاه السلطان قائماً على عادته.وجلس إلى جانبه، وبالغ السلطان في إكرامه.ولما قدم السماط، امتنع الأمير بدر الدين من الأكل، واعتذر بالصوم.فأمر السلطان برفع مجمع من الطعام لفطوره، فرفع له.وبقي السلطان يحادثه سراً، ويؤانسه ويشغله عن القيام، الى أن رفع السماط.وخرج الأمراء، وقام الأمير بدر الدين معهم على عادته.فلما انتهى الى بعض الإيوان، استدعاه السلطان، فعاد إليه.فقام له أيضاً وجلس معه، وحدّثه طويلاً.والحجاب والنقباء يستحثون الأمراء على الخروج.ثم قام بيسري، فاستدعاه السلطان أيضاً، فعاد إليه.وقام السلطان له، وجلس معه وتحدثا. قال الحاكي لي: ورأيت السلطان قد ناوله شيئاً من جيبه، ما أعلم ما هو، فتناوله الأمير بدر الدين، ووضعه في جيبه، وقبّل يد السلطان وفارقه.وقد خلى المجلس والدهاليز إلا من المماليك السلطانية.فلما خرج، أتاه الأمير سيف الدين طقجي، والأمير علاء الدين ايدغدي شقير الحسامي، وعدلا به الى جهة أخرى.وقبض ايدغدي شقير على سيفه، وأخذه من وسطه، ونظر إليه طقجي وبكى عند القبض عليه.وتوجها به الى المكان الذي جهز لاعتقاله به.ولم يزل الأمير بدر الدين معتقلاً الى أن مات، في الدولة الناصرية على ما نذكره إن شاء الله تعالى. وقبض السلطان أيضاً على الأمير سيف الدين الحاج بهادر الحلبي الحاجب، ونُقل الأمير سيف الدين كرد أمير آخور الى الحجبة.وقُبض على الأمير شمس الدين سنقر شاه الظاهري.وقبض أيضاً في أواخر السنة على الأمير عز الدين أيبك الحموي الظاهري. وفي جمادى الأولى، أمر السلطان بمصادرة القاضي بهاء الدين بن الحلي ناظر الجيوش المنصورة، وأخذ خطه بألف ألف درهم، وعزله عن الوظيفة.وأُحضر عماد الدين بن المنذر، ناظر جيش الشام، فولاه النظر.وكان قد جلس في نظر الجيش، فيما بين عزل بهاء الدين وحضور ابن المنذر، القاضي أمين الدين المعروف بابن الرفاقي.فلما وصل ابن المنذر، فوض إليه النظر.ومرض أمين الدولة، وانقطع في داره لما حصل له من الألم. وفي هذه السنة، أقيمت الخطبة وصلاة الجمعة بالمدرسة المعظمية بسفح قاسيون، ولم تكن قبل ذلك، وخطب بها مدرسها شمس الدين بن الشرف بن العز الحنفي، في يوم الجمعة عاشر ربيع الآخر، باتفاق الملك الأوحد ناظر المدرسة.
إعادة الصاحب فخر الدين عمر بن الخليلي الى الوزارة
وفي هذه السنة، في جمادى الأولى، رسم السلطان بإعادة الصاحب الوزير فخر الدين عمر ابن الشيخ مجد الدين عبد العزيز الخليلي الى الوزارة فعاد، وصادر ألزام الأمير شمس الدين سنقر الأعسر.
تجريد العساكر الى سيس وما فتح من قلاعها
وفي هذه السنة، جرّد السلطان الأمير بدر الدين بكتاش الفخري الصالحي أمير سلاح، والأمير حسام الدين لاجين الرومي، أستاذ الدار، والأمير شمس الدين آقسنقر كرتاي، ومن معهم من مضافيهم.وأمرهم أن يتوجهوا الى بلاس سيس.فتوجهوا من القاهرة، في جمادى الأولى، والمقدم على الجيش أجمع الأمير بدر الدين بكتاش أمير سلاح. وكان وصولهم الى دمشق في يوم الخميس، خامس جمادى الآخرة، وتوجهوا منها في ثامن الشهر.وجرّد معهم من عسكر دمشق، الأمير ركن الدين بيبرس العجمي الجالق، والأمير سيف الدين كجكن، والأمير بهاء الدين قرا أرسلان المنصوري ومضافيهم.وجرد العسكر الصفدي، ومقدمه الأمير علم الدين أيدغدي الإلْدِكزي.وجرد جماعة من العسكر الطرابلسي، والملك المظفر صاحب حماه بعسكرها. ولما اتصل خبر تجريد العسكر بصاحب سيس، جهز رسله الى الأبواب السلطانية، يستعطف السلطان، ويسأله مراحمه، فلم تجدِ رسالته نفعاً.ووصلت هذه العساكر الى حلب.وأردف السلطان هذه العساكر بالأمير علم الدين سنجر الدواداري، أحد مقدمي العساكر بالديار المصرية، ومضى فيه، فخرج مسرعاً، وأدرك الجيش بحلب.وجرد من العسكر الحلبي الأمير علم الدين المعروف بالزغلي والأمير علم الدين سنجر الحلبي، ومضافيهما.وتوجهت هذه الجيوش بجملتها الى بلاد سيس.فلما نزلوا بالعمق، افترقت العساكر فرقتين.فتوجه الأمير بدر الدين بكتاش، أمير سلاح، والأمير حسام الدين أستاذ الدار، والأمير ركن الدين الجالق، والأمير بهاء الدين قرا أرسلان، والعسكر الصفدي من عقبة بغراس الى باب اسكندرونة، ونازلوا تل حمدون.وتوجه الملك المظفر صاحب حماه، والأمير علم الدين سنجر الدواداري، والأمير شمس الدين آقسنقر كرتاي، وبقية الجيش من عقبة المريت.وصار نهر جهان بين الفريقين وكان دخولهم الى دربند سيس، في يوم الخميس، رابع شهر رجب. ولما صاروا ببلاد سيس، اختلف الأمير بدر الدين أمير سلاح، والأمير علم الدين الدواداري بالإغارة والاقتصار عليها.وقال أنا المقدم على هذه الجيوش كلها، وأنا آخركم عهداً بالسلطان، وإنما رسم السلطان بالإغارة.فاضطر أمير سلاح ومن معه، لموافقة الدواداري، وقطعوا جهات من مخاضة العمودين، وتوجهوا للإغارة.فتوجه صاحب حماه والدواداري، ومن معهما الى سيس نفسها.وتوجه أمير سلاح ومن معه الى ناورزه، وأقاموا عليها يوماً وليلة.ورحلوا الى أذنة، واجتمعت الطائفعتان بها، بعد أن قتلوا من ظفروا به من الأرمن، واستاقوا ما مروا به من الأبقار والجواميس.وعادوا من أذنة الى المصيصة بعد الإغارة، وأقاموا بها ثلاثة أيام، حتى نصبوا جسراً مرت العساكر عليه، ورجعوا الى بغراس، ثم الى مرج أنطاكية.وأقاموا ثلاثة أيام، ورحلوا الى جسر الحديد بأرض الروج، عازمين على العود الى الديار المصرية، بالعساكر المصرية الى مستقرها. وكان الأمير بدر الدين أمير سلاح، لما نازعه الدواداري في التقدمة، ومنعه من الحصار، وصمم على الاقتصار على الإغارة، قد كتب الى الأمير سيف الدين بلبان الطباخي، نائب السلطنة بالمملكة الحلبية، يعلمه بما وقع والتمس منه مطالعة السلطان بذلك.فطالع بصورة الحال، فورد الجواب من السلطان، والعساكر بالروج، يتضمن الإنكار على الأمير علم الدين الدواداري، كونه ادعى التقدمة على الأمير بدر الدين أمير سلاح، واقتصر على الإغارة، وأن الدواداري إنما خرج مقدماً على مضافيه خاصة، وأن التقدمة على سائر الجيوش للأمير بدر الدين أمير سلاح.ورسم السلطان أن العساكر لا تعود، إلا بعد فتح تل حمدون.وإن عادت قبل فتحها، فلا إقطاع لهم بالديار المصرية ؛ الى غير ذلك من الحث على فتحها.فعند ذلك، عطفت العساكر من الروج الى جهة حلب، ووصلوا إليها، وأقاموا بها ثمانية أيام، وتجهزوا منها بما يحتاجون إليه.ودخلوا الى بلاد سيس بأثقالهم، وعبروا بجملتهم من عقبة بغراس.وجرد الأمير بدر الدين بكتاش أمير سلاح، الأميرين سيف الدين كجكن، وبهاء الدين قرا أرسلان، الى إياس، فأكمن لهم الأمن في البساتين، فلم تتمكن العسكر من قتالهم، ورحلوا شبه المنهزمين، فأنكر أمير سلاح وسبهم، فاعتذروا بضيق المسلك والتفاف الأشجار، وعدم التمكن من العدو.ثم رحل بجميع الجيش، ونزل على تل حمدون، فوجدها خالية، وقد انتقل من بها من الأرمن الى قلعة نُجيمة، فتسلمها، في سابع شهر رمضان، وسلمها للأمير علم الدين الشيباني، النائب ببغراس. ولما دخل الجيش الى بلاد سيس، جرّد الأمير سيف الدين الطباخي، نائب السلطنة بحلب، طائفة من عسكرها، ومن انضم إليهم من التركمان وغيرهم، ففتحوا قلعة مرعش، في عاشر شهر رمضان أيضاً.ثم جاء الخبر الى العسكر أن وادياً تحت قلعة نجيمة وحموص قد امتلأ بالأرمن، وأن المقاتلة من قلعة نجيمة يحمونهم.فندب إليه طائفة من العسكر، فرجعوا ولم يبلغوا غرضاً.ثم سيّر طائفة ثانية، فرجعوا كذلك.فرحل الأمراء بجملتهم في نفر من أعيان الجيش وأقويائه، وقاتلوا أهل نجيمة، حتى ردوهم الى القلعة. ثم تقدم الجيش الى الوادي، وقتلوا من به من الأرمن، وأسروا ونهبوا، ونازلوا قلعة نجيمة، ليلة واحدة.ثم خرج العسكر الى الوطاة، وبقي صاحب حماه وأمير سلاح، في مقابلة من بالقلعة، حتى خرج العسكر، خشية أن يخرج أهل نجيمة، فينالوا من أطراف العسكر.ثم خرجوا بجملتهم واجتمعوا بالوطاة.فوصل البريد بكتب السلطان، يتضمن أنه بلغه أن تل حمدون أخليت، وأنها أخذت بغير قتال ولا حصار، وانتقل من بها الى قلعة نجيمة.وأمر بمنازلة قلعة نجيمة وحصارها، الى أن تفتح، فعادت العساكر إليها وحاصروها.واختلف أمير سلاح والدواداري أيضاً، فقال الدواداري: إن هذا الجيش بجملته إذا نازل هذه القلعة، لا يظهر من اجتهد وقاتل، ممن تخاذل وعجز.والقتال عليها إنما هو من وجه واحد.والرأي أن يتقدم في كل يوم مقدم ألف، ويزحف بجماعته ليظهر فعله، واستقل القلعة واستصغرها وحقّر أمرها.وكان في جملة كلامه أن قال: أنا آخذ هذه القلعة في حجري.فاتفق الأمر على أن يتقدم الدواداري بألفه، للزحف في أول يوم.فزحف بمن معه حتى لاحف السور.فأصابه حجر منجنيق في مشط رجله، فقطعه وسقط الى الأرض.فتبادر الأرمن بالنزول إليه، وكادوا يأسرونه.فحمل أمير سلاح بجماعته، حتى حجزهم عنه.وأخرج الدواداري على جنوية، وحمل الى وطاقه.وعادوا الى حلب، ثم توجه منها الى الديار المصرية.وقد سكنت نفسه، ونقصت حرمته عما كانت عليه، وكان قبل ذلك له حرمة وافرة.وقتل الأمير علم الدين سنجر طقصها الناصري، على هذه القلعة.وزحف الأمير شمس الدين آقسنقر كرتاي في اليوم الثاني، وانتهى الى سور القلعة ونقبه، وخلّص منه ثلاثة أحجار.واستشهد من مماليكه وأجناده أحد عشر رجلاً، ونفران من الحجارين. ثم زحف أمير سلاح، وصاحب حماه، وبقية الجيش.ورتّبهم أمير سلاح طوائف، طائفة تتلو أخرى.وقرر معهم، أن يردف بعضهم بعضاً.وتقدموا بالجنويات، حتى وصلوا الى السور، وأخذوا مواضع النقوب، وأقاموا الستائر.ولازموا الحصار عليها واحداً وأربعين يوماً.وقد اجتمع بها جمع كثير من الفلاحين والنساء والصبيان من أهل القرى المجاورة لها، فقلّت المياه بالقلعة.فاضطر الأرمن الى إخراجهم منها، فأخرجوهم في ثلاث دفعات.فأخرجوا في المرة الأولى مائتي رجل، وثلاثمائة امرأة ومائة وخمسين صبياً.فقتل العسكر الرجال، وتفرقوا النساء والصبيان.ثم أخرجوا في المرة الثانية مائة وخمسين رجلاً، ومائتي امرأة، وخمسة وسبعين صبياً، ففعلوا بهم كذلك.ثم أخرجوا جماعة أخرى في المرة الثالثة.ولم يتأخر بالقلعة إلا المقاتلة، وقلّت عندهم المياه، حتى اقتتلوا بالسيف على الماء، فسألوا الأمان فأعطوه، وسلموا القلعة في ذي القعدة من السنة.وخرجوا منها، وتوجهوا الى مأمنهم. وفي أثناء هذا الحصار، وصلت الى العسكر مفاتيح النقير وحجر شغلان وسرقند كار وزنجفره وحموص، وتتمة أحد عشر حصناً من حصون الأرمن.وسلم الأمير بدر الدين أمير سلاح هذه الفتوح الى الأمير سيف الدين استدمر كرجي أحد الأمراء بدمشق، وجعله نائباً بها.فلم يزل استدمر بهذه الحصون، الى أن بلغه حركة التتار وقربهم، فأباع ما بها من الحواصل وتركها خالية، فاستولى الأرمن عليها. ولما تكامل هذا الفتح، عادت العساكر الى حلب، ونزلوا بها، ليريحوا خيولهم.وترادف عليهم الأمطار وتزايدت، حتى سكنوا الخانات والدور.ثم أردفهم السلطان بتجريدة أخرى، من الديار المصرية، صحبة الأمير سيف الدين بكتمر السلاح دار، والأمير سيف الدين طقطاي، والأمير مبارز الدين أوليا ابن قرمان، والأمير علاء الدين ايدغدي شقير الحسامي.فوصلوا الى دمشق، في ذي القعدة، وتوجهوا الى حلب، وأقاموا بها مع العسكر.وجهز صاحب سيس رُسلاً الى الأبواب السلطانية يسأل عواطف السلطان ومراحمه.واستمر العسكر بحلب ينتظرون ما يرد عليهم، من أبواب السلطان.فأقاموا عليها شهوراً، إلا الأمير حسام الدين أستاذ الدار، فإنه توجه الى الأبواب السلطانية، على خيل البريد.وكان عود هذا العسكر الى الديار المصرية، ووصوله الى القاهرة، في منتصف شهر ربيع الآخر، سنة ثمان وتسعين وستمائة، بعد مقتل السلطان بثلاثة أيام على ما نذكره إن شاء الله تعالى.
حادثة غريبة ظهر فيها آية من آيات الله عز وجل
وفي سنة سبع وتسعين وستمائة، في العشر الأول، من جمادى الأولى، ورد على السلطان الملك المنصور حسام الدين لاجين، مطالعة مضمونها: أن شخصاً بقرية جينين، من الساحل الشامي، كانت له زوجة، فتوفيت الى رحمة الله تعالى.فحملت بعد تغسيلها وتكفينها ودفنت.فلما عاد زوجها من المقبرة، تذكر أن منديله وقع في القبر، وفيه جملة من الدراهم.فأتى الى فقيه القرية، فاستفتاه في نفش القبر.فقال له في ذلك يجوز نبشه وأخذ المال منه.ثم تداخل الفقيه المفتي في ذلك شيء في نفسه.فقام وحضر معه الى القبر، فنبش الزوج القبر ليأخذ المال، والفقيه على جانب القبر.فوجد الزوج زوجته مقعدة مكتوفة بشعرها، ورجليها متكوفتين بشعرها، فحاول حل كتافها، فلم ينحل له ذلك، فأمعن في ذلك، فخسف به وبزوجته.ولم يوجد أو لم يعلم للخسف منتهى.وأما الفقيه فإنه أقام مغشياً عليه يوماً وليلة أو ليلتين.- نسأل الله أن يسترنا ولا يفضحنا، وأن لا يؤاخذنا بسوء أفعالنا - ولما وردت المطالعة على السلطان بهذه الحادثة، عرضها على شيخنا قاضي القضاة تقي الدين ابن دقيق العبد وغيره.وكتب يستعلم عن سيرة هذه المرأة والزوج المخسوف بهما، فما علمت ما وردت عليه من الجواب في ذلك.
روك الإقطاعات بالديار المصرية وتحويل السنة
وفي سنة سبع وتسعين وستمائة أيضاً، رسم السلطان الملك المنصور حسام الدين لاجين، بروك الإقطاعات والمعاملات والنواحي والجهات بالديار المصرية.وندب لذلك من الأمراء، الأمير بدر الدين بيليك الفارسي الحاجب، والأمير بهاء الدين قراقوش الظاهري، المعروف بالبريدي. وتوجه الكشاف الى الأقاليم البرانية، بالوجهين القبلي والبحري، ومسحوا البلاد مساحة روك، وحرروا الجهات وعادوا.وانتصب لهذا جماعة من الكتاب، كان المشار إليه فيهم، تاج الدين عبد الرحمن المعروف بالطويل، وهو أحد مستوفيي الدولة، من مسالمة القبط، وممن يشار إليه في معرفة صناعة الكتابة، ويعتمد على قوله، ويرجع إليه فيها، فرتب ذلك على حسب ما اقتضاه رأي السلطان في تقريره. واستقر في الخاص السلطاني الأعمال الجيزية والأطفيحية وثغر الاسكندرية وثغر دمياط ومنفلوط وكفورها، وهو، والكوم الأحمر من الأعمال القوصية، وفي كل إقليم بلاد. وتقرر إقطاع نيابة السلطنة من أعظم الإقطاعات وأكثرها متحصلاً.فكان من جملته بالأعمال القوصية، مرج بني هميم وكفورها، وسمهود وكفورها، ودواليبها ومعاصرها، وحَرَجَة مدينة قوص وأدفو.وهذه النواحي يزيد متحصلها من الغلال خاصة، على مائة ألف وعشرة آلاف أردب، خارجاً عن الأموال والقنود والأعسال والتمر والأحطاب وغير ذلك.وفي كل إقليم من الديار المصرية نواحي ومعاصر، فكان في خاصه سبع وعشرون معصرة، لاعتصار قصب السكر. وكان نجاز الروك في ذي الحجة سنة سبع وتسعين وستمائة.واستقبل به سنة ثمان وتسعين الهلالية.وحوّلت السنة الخراجية من سنة ست وتسعين الى سنة سبع وتسعين.وهذا التحويل جرت به العادة، بعد انقضاء ثلاث وثلاثين سنة، تحول سنة، وهو التفاوت فيما بين السنة الشمسية والقمرية.فيجمع من ذلك في طول السنة، ما ينغمس به سنة.وهو حجة ديوان الجيش في اقتطاع التفاوت الجيشي.وقيل إن قوله تعالى: 'ولبثوا في كهفهم ثلاث مائة سنين وازدادوا تسعاً'، إن التسعة هي هذا التفاوت، ما بين السنتين، والله تعالى أعلم.وهذا التحويل لا ينقص بسببه شيء من الأموال البتة، وإنما هو تحويل بالأقلام خاصة. ولما نجز هذا الروك، أقطعت البلاد للأمراء والأجناد دربسته، لم يستثن منها غير الجوالي والمواريت الحشرية، فإن ذلك جعل في جملة الخاص السلطاني.واستثنيت الرزق الأحباسية المرصدة لمصالح الجوامع والمساجد، والربط والزوايا، والخطباء والفقراء.واستقرت في سائر البلاد على ما يشهد به ديوان الأحباس.وما عدا ذلك من سائر الأموال وغيرها، دخل في الإقطاع. وفي هذه السنة، كانت وفاة الأمير عز الدين الجناجي، نائب السلطنة ومقدم العسكر بغزة.وكان قبل وفاته قد أودع عند بخر الدين الأعزازي التاجر بقيسارية الشرب بدمشق صندوقاً، ولم يطلع على ذلك إلا خزنداره.وكان الصندوق المودع عنده قبل ذلك وديعه، عند بعض أصحاب الأمير المذكور، فأخذ منه، ثم أودع عند فخر الدين.واتفقت وفاة خزندار الأمير، وهو الذي اطلع على الوديعة قبل وفاة مخدومه بأيام.ثم مات الأمير، فلما اتصلت وفاته بفخر الدين الاعزازي، اجتمع بقاضي القضاة إمام الدين الشافعي بدمشق، وعرفه خبر الوديعة.فأمره بالتأني في أمرها ؛ حتى تثبت وفاة المذكور، ويتحقق أمر ورثته، ففعل ذلك.وفي أثناء ذلك، طلب الأمير سيف الدين جاغان ؛ شاد الدواوين بالشام، الوديع الأول وطالبه بما عنده من الوديعة.فادعى أن الجناجي استعاد ذلك منه، فلم يصدقه، وقصد ضربه وعقوبته، بسبب ذلك.فأتاه فخر الدين المذكور واعترف أن الوديعة عنده، وأحضر الصندوق الى الديوان السلطاني.وفُتح واعتبر ما فيه، فكان فيه من الذهب اثنان وثلاثون ألف دينار، ومائتا دينار، وأربعة وثلاثون ديناراً، وحوائص ذهب، وطرز زركش بتتمة خمسين ألف دينار، هكذا نقل إليّ ثقة. وفيها، توفي الأمير سيف الدين بلبان الفاخري، أمير نقباء العساكر المنصورة بالأبواب السلطانية، وكانت وفاته في رابع عشر ربيع الآخر.وأعطي إقطاعه سيف الدين بكتمر الحسامي الطرنطاي أمير آخور.وكان السلطان، قبل ذلك أمّره بعشرة طواشية، فنقله الآن الى إمرة الطبلخاناة.ثم تنقّل بعد ذلك في المناصب والنيابات عن السلطنة والوزارة وغير ذلك، على ما نذكر ذلك إن شاء الله تعالى في مواضعه. وفيها، في يوم الإثنين حادي عشر جمادى الأولى، كانت وفاة الأمير سعد الدين كوجا الناصري.وكان يتولى نيابة دار العدل، وتولى ثغر الاسكندرية وكان بيده إمرة عشرة طواشية. وفيها، توفيت الخاتون الجليلة الكبرى، نسب خاتون، ابنة الملك الجواد مظفر الدين يونس بن شمس الدين مودود ابن السلطان الملك العادل سيف الدين أبي بكر أيوب، في العشر الأوسط في شهر ربيع الأول.ودفنت عند والدها بقاسيون، رحمهما الله تعالى.
واستهلت ثمان وتسعين وستمائة
في هذه السنة، في أولها جهز السلطان الأمير جمال الدين أقش الأفرم، والأمير سيف الدين حمدان بن صلغاي الى الشام، وأمرهما أن يتوجها الى دمشق، ويخرجا نائب السلطنة الأمير سيف الدين قبجاق وبقية العسكر الى البلاد الحلبية.فوصلا الى دمشق على خيل البريد، في يوم الأربعاء سابع المحرم.فتجهز الأمير سيف الدين قبجاق نائب السلطنة، وخرج بسائر عساكر دمشق حتى بحرية القلعة، وجماعة الأمير علم الدين سنجر أرجواش نائب القلعة، وتأخر بدمشق الأمير سيف الدين جاغان.وكان خروج نائب السلطنة من دمشق، في عشية الأربعاء، رابع عشر المحرم، وبات بالميدان الأخضر.وركب في بكرة النهار ؛ وتوجه بالعساكر الى جهة حمص.وكان سبب هذه الحركة ظاهراً، أن السلطان بلغه أن التتار قد عزموا على الدخول الى البلاد الإسلامية بالشام.وعلم الأمير سيف الدين قبجاق، أن الأمر ليس كذلك.فإن القصاد قبل ذلك بيسير، حضروا إليه من بلاد الشرق، وأعلموه أن التتار كانوا قد تجهزوا وعزموا على الحضور الى الشام.فلما كانوا بأثناء الطريق، وقعت عليهم صواعق كثيرة، وأهلكت منهم خلقاً كثيراً، فتفرقوا في مشاتيهم، ولم يرد خلاف ذلك.والقصاد لا تصل الى الباب السلطاني بالديار المصرية، إلا بعد الاجتماع بنائب السلطنة بدمشق، فاستشعر الأمير سيف الدين قبجاق السوء، وعلم أن هذه الحركة إنما هي تدبير عليه، وعلى غيره من الأمراء.فأوجب ذلك توجههم الى التتار.
مفارقة من نذكر من نواب السلطنة والأمراء
الخدمة السلطانية، ولحاقهم بقازان ملك التتاروفي هذه السنة، في شهر ربيع الآخر، توجه الأمير سيف الدين قبجاق المنصوري، نائب السلطنة بالشام، والأمير سيف الدين بكتمر السلاح دار، أحد مقدمي الجيوش المنصورية المصرية، والأمير فارس البكي الساقي، نائب السلطنة بالمملكة الصفدية، والأمير سيف الدين بزلار، والأمير سيف الدين عزار الصالحي، الى بلاد التتار، والتحقوا بملكها قازان محمود. وسبب ذلك أن الأمير سيف الدين منكوتمر، نائب السلطنة، ثقلت عليه وطأة الأمراء الأكابر.وقصد القبض عليهم أولاً، وإقامة خوشداشيته ليصفو له الوقت، ويخلص له الأمر، ويتمكن السلطان بما قصده من تفويض ولاية العهد بعده له.فحسّ للسلطان القبض على من تقدم ذكرهم، فقبض عليهم.ثم شرع في التدبير على من بالشام من الأمراء والنواب، الذين يعلم منهم الممالاة والمناوأة.فجهز الأمير علاء الدين ايدغدي شقير الى حلب، كما تقدم، وأردفه بالأمير سيف الدين حمدان بن صلغاي، وعلى يده كتاب الى نائب السلطنة بالمملكة الحلبية، بالقبض على الأمير سيف الدين بكتمر السلاح دار، وعلى الأمير فارس الدين البكي، والأمير سيف الدين طقطاي، والأمير سيف الدين بزلار، والأمير سيف الدين عزار.ومن يعذر عليه القبض عليه، يتحيّل في سقيه.فسقي الأمير سيف الدين طقطاي فمات بحلب، في أول شهر ربيع الأول.واتصل الخبر ببقية الأمراء، فاحتاطوا لأنفسهم، واحترزوا في مأكلهم ومشربهم وملبسهم.وأعمل الأمير سيف الدين الطباخي الحيلة في القبض عليهم، وذلك بعد خروجهم من سيس.فجهز سماطاً، واحتفل به، وتحدث مع الأمراء أن يتوجهوا معه، ويحضروا السماط، فامتنعوا من ذلك، واعتذروا له، وتوجهوا الى خيامهم.فلم تجمع هذه المكيدة.وكان السلطان قد كتب الى الأمير سيف الدين بكتمر السلاح دار، أن يجهز طُلبه وأثقاله الى المملكة الطرابلسية، ويكون نائباً عن السلطنة بها، وذلك بعد وفاة الأمير عز الدين أيبك الموصلي.وأن يحضر هو بنفسه الى الأبواب السلطانية، على خيل البريد، ليوصيه السلطان مشافهة.فأظهر البشر لذلك، وعلم أنه خديعة. ولما كان في مساء النهار، الذي عمل الطباخي فيه السماط، اجتمع الأمير سيف الدين الطباخي النائب بحلب، والأمير سيف الدين كجكن، والأمير علاء الدين ايدغدي شقير، وأرسلوا الى الأمير بكتمر السلاح دار والبكي ومن معهما، يطلبونهم للحضور لمشورة.وأن سبب هذا الاجتماع، أن بطاقة وردت في البيرة في أواخر النهار، تتضمن أن التتار أغاروا على ما حول البيرة، فأجابوا بالامتثال، وأنهم يحضرون الى الخدمة في إثره.فعاد، وركبوا في الوقت على حميّه. فأما بزلار فإنه ساق هو وخمسة نفر، وعبر الفرات الى رأس العين وانتهى الى سنجار فتوفي بها.وأما الأمير سيف الدين بكتمر السلاح دار، والأمير فارس الدين البكي، والأمير سيف الدين عزار، فإنهم توجهوا الى حمص، واجتمعوا بالأمير سيف الدين قبجاق، وأطلعوه على جلية الحال، وحلفوه لأنفسهم، وحلفوا له.وكتب الى السلطان يعلمه بما وقع من الاختلاف، وبوصول الأمراء إليه، ويسأل لهم الأمان وأن يطيب السلطان خواطرهم.وسيّر بذلك الأمير سيف الدين بلغاق ابن الأمير سيف الدين كونجك الخوارزمي على خيل البريد.فوصل الى دمشق، في يوم السبت خامس شهر ربيع الآخر، وتوجه منها الى باب السلطان. وكتب الأمير سيف الدين قبجاق الى الأمير سيف الدين جاغان، وهو بدمشق، يطلب منه أن يرسل إليهم مالاً وخلعاً من الخزانة، لينفق المال على الأمراء، ويخلع عليهم، ويطيب خواطرهم.فلم يجب الى ذلك.وكتب إليه يلومه على إغفاله أمر الأمراء، الذين وصلوا إليه، وهم طلبة السلطان، وكونه تمكن من القبض عليهم، ولم يفعل.وكتب إليه الأميران سيف الدين كجكن، وعلاء الدين ايدغدي شقير، وهما يلومانه وينكران عليه كونه أقر هؤلاء الأمراء عنده، مع تمكنه من القبض عليهم، وقد علم خروجهم على الطاعة وأغلظا له في القول، وتوعداه، أنه متى لم يقبض عليهم، حضروا إليه، وقبضوا عليه وعليهم.وكاشفاه في القول مكاشفة ظاهرة.فتسلل عن الأمير سيف الدين قبجاق من معه من العسكر الشامي، وعادوا الى دمشق، أولاً فأولاً.فكتب الى جاغان في ذلك، وأن يردهم إليه، فلم يفعل.وشكر جاغان من حضر. فرأى الأمير سيف الدين قبجاق أن أمره قد انتقص، وبلغه أن العسكر المجرد بحلب قد توجه نحوه.فركب في ليلة الثلاثاء، ثامن شهر ربيع الآخر من حمص، هو والأمير سيف الدين بكتمر السلاح دار، والأمير فارس الدين البكي، والأمير سيف الدين عزار، وقبضوا على الأمير علاء الدين أقطوان النائب بحمص، واستصحبوه معهم الى القريتين، ثم أخذوا فرسه وأطلقوه.وتوجهوا في جماعة، يقال إن عدة من صحبهم من ألزامهم ومماليكهم خمسمائة فارس.وتوجهوا لا يلوون على شيء، وتعقبهم الأمير سيف الدين كجكن والأمير علاء الدين ايدغدي شقير، في طائفة من العسكر الى الفرات، فما أدركوهم، ووجدوا بعض أثقالهم فأخذوها. ثم ورد عليهم الخبر بقتل السلطان، فانحلت عزائمهم، وتفللت آراؤهم.وساق سيف الدين بلبان القصاص البريدي الى رأس عين، ولحق الأمير سيف الدين قبجاق بها.وأعلمه بمقتل السلطان، وسأله الرجوع بمن معه.وحلف له على صحة ما أخبره به، فظن أن ذلك مكيدة.ثم تحقق الحال بعد ذلك وقد تورط، وصار في بلاد العدو، فلم يمكنه الرجوع. ولما وصل الأمراء الى رأس عين، بلغ مقدم التتار بتلك الجهة خبر وصولهم، فخافهم.ثم تحقق أنهم حضروا الى خدمة الملك قازان، فحضر إليهم وأكرمهم، وخدمهم صاحب ماردين، وقدم لهم أشياء كثيرة.وقصد بولاي مقدم التتار، بتلك الناحية، أن الأمراء يتوجهون الى جهة قازان على خيل البريد.ويتأخر من معهم من أتباعهم وألزامهم عن الوصول الى البلاد، حتى يرد المرسوم.فامتنع قبجاق من ذلك، وأبى إلا الدخول بالطُلب والجماعة الذين معه، فامتنع التتار عليه.فيقال إنه أخرج إليهم كتاب الملك قازان إليه، وهو في بالشت ذهب.فعند ذلك خضعوا له، ومكنوه مما أراد، من الدخول بالطُلب.وتوجهوا كذلك، ودخلوا الى الموصل بطُلبين، والتقاهم أهل البلد.وتوجهوا من الموصل، وانتهوا الى بغداد.فخرج إليهم عسكر المغل والخواتين والتقوهم.ثم توجهوا الى قازان، وهو يومئذ بأرض السيب من أعمال واسط.فأكرمهم وأحسن إليهم، وأوجب ذلك وصول قازان بجيوشه الى الشام على ما نذكره إن شاء الله تعالى.