نهاية الأرب في فنون الأدب/أخبار بصبص جارية ابن النفيس
أخبار بصبص جارية ابن النفيس
قال أبو الفرج: كانت جاريةً من مولدات المدينة حلوة الوجه حسنة الغناء، قد أخذت عن الطبقة الأولى من المغنين.وكان يحيى بن نفيسٍ مولاها صاحب قيان، يغشاه الأشراف ويسمعون غناء جواريه.ثم اشتريت للمهدي، وهو ولي عهد، بسبعة عشر ألف دينار.وقيل: إنها ولدت له علية بنت المهدي وقيل: أم علية غيرها.قال: وكان عبد الله بن مصعب بن ثابت بن عبد الله بن الزبير يأتيها فيسمع منها، وكان يأتيها فتيان قريشٍ فيسمعون منها.فقال عبد الله بن مصعب حين قدم المنصور منصرفاً إلى الحج ومر بالمدينة يذكر بصبص:
أراحلٌ أنت أبا جعفرٍ
من قبل أن تسمع من بصبصا
هيهات أن تسمع منها إذا
جاوزت العيس بك الأعوصا
فخذ عليها مجلسي لذةٍ
ومجلساً من قبل أن تشخصا
أحلف بالله يميناً ومن
يحلف بالله فقد أخلصا
لو أنها تدعو إلى بيعةٍ
بايعتها ثم شققت العصا
فبلغ الشعر أبا جعفرٍ المنصور، فغضب ودعاه، فقال: أما إنكم يا آل الزبير قديماً ما قادتكم النساء وشققتم معهن العصا، حتى صرت أنت آخر الحمقى تبايع المغنيات ! فدونكم يا آل الزبير هذا المرتع الوخيم. وقال هارون بن محمد بن عبد الملك وهو ابن ذي الزوائد فيها:
بصبص أنت الشمس مزدانةً
فإن تبدلت فأنت الهلال
سبحانك اللهم ما هكذا
فيما مضى كان يكون الجمال
إذا دعت بالعود في مشهدٍ
وعاونت يمنى يدها الشمال
غنت غناءً يستفز الفتى
حذقاً وزان الحذق منها الدلال
قال: وهوى محمد بن عيس الجعفري بصبص فهام بها وطال ذلك عليه، فقال لصديقٍ له: قد شغلتني هذه عن صنعتي وكل أمري، وقد وجدت مس السلو عنها، فاذهب بنا إليها حتى أكاشفها ذلك وأستريح.فأتياها، فلما غنتهما قال لها محمد بن عيسى: أتغنين:
وكنت أحبكم فسلوت عنكم
عليكم في دياركم السلام
فقالت: لا، ولكني أغني:
تحمل أهلها عنها فبانوا
على آثار من ذهب العفاء
قال: فاستحيا وازداد بها كلفاً ولها عشقاً، فأطرق ساعةً ثم قال لها: أتغنين:
وأخضع بالعتبى إذا كنت مذنباً
وإن أذنبت كنت الذي أتنصل
قال: نعم، وأغني أحسن منه:
فإن تقبلوا بالود نقبل بمثله
وننزلكم منا بأقرب منزل
فتقاطعا في بيتين وتواصلا في بيتين، وما شعر بهما أحد. قال: وحضر أبو السائب المخزومي مجلساً فيه بصبص، فغنت:
قلبي حبيسٌ عليك موقوف
والعين عبرى والدمع مذروف
والنفس في حسرةٍ بغصتها
قد شف أرجائها التساويف
إن كنت بالحسن قد وصفت لنا
فإنني بالهوى لموصوف
يا حسرتا حسرةً أموت بها
إن لم يكن لي إليك معروف
قال: فطرب أبو السائل ونعر وقال: لا عرف الله من لا يعرف لك معروفك، ثم أخذ قناعها ووضعه على رأسه وجعل يبكي ويلطم ويقول لها: بأبي أنت ! والله إني لأرجو أن تكوني عند الله أفضل من الشهداء لما توليناه من السرور، وجعل يصيح: واغوثاه ! يا لله ما يلقى العاشقون !. وقال عثمان بن محمد الليثي: كنت يوماً في منزل ابن النفيس، فخرجت إلينا جاريته بصبص، وكان في القوم فتًى يحبها، فسألته حاجةً فقام ليأتيها بها، فنسي أن يلبس نعله ومضى حافياً.فقالت له: يا فلان، نسيت نعلك، فرجع فلبسها وقال: أنا والله كما قال الأول:
وحبك ينسيني عن الشيء في يدي
ويشغلني عن كل شيءٍ أحاوله
فأجابته فقالت:
وبي مثل ما تشكوه مني وإنني
لأشفق من حبٍ لذاك تزايله