أخبار حبابة
كانت حبابة جاريةً مولدةً من مولدات المدينة لرجلٍ من أهلها يعرف بابن دبابة، وقيل: بل كانت لآل لاحق المكيين، وقيل: كانت لرجلٍ يعرف بابن مينا.وكانت تسمى العالية، فسماها يزيد بن عبد الملك لما اشتراها حبابة.وكانت حلوةً جميلة الوجه ظريفةً حسنة الغناء طيبة الصوت ضاربةً بالعود.أخذت الغناء عن ابن سريج وابن محرز ومالك بن أبي السمح ومعبد وعن جميلة وعزة الميلاء. وكان يزيد بن عبد الملك يقول: ما تقر عيني ما أوتيت من الخلافة حتى أشتري سلامة جارية مصعب بن سليم وحبابة جارية ابن لاحق المكية.فأرسل فاشتريتا له.فلما اجتمعنا عنده قال: أنا الآن كما قال الأول:
فألقت عصاها واستقر بها النوى
كما قر عيناً بالإياب المسافر
وكان يزيد بن عبد الملك في خلافة أخيه سليمان قد قدم المدينة فتزوج سعدة بنت عبد الله بن عمرو بن عثمان على عشرين ألف دينار، وربيحة بنت محمد بن علي ابن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب على مثل ذلك، واشترى العالية بأربعة آلاف دينار.فبلغ ذلك سليمان فقال: لأحجرن عليه.فبلغ يزيد ذلك فاستقال مولى حبابة، ثم اشتراها بعد ذلك رجلٌ من أهل إفريقية.فلما ولي يزيد اشترتها سعدة امرأته وعلمت انه لابد طالبها ومشتريها.فلما حصلت عندها قالت له: هل بقي عليك شيءٌ من الدنيا لن تنله ؟ قال: نعم، العالية.قالت: أو رأيتها ؟ قال: نعم، قالت: أفتعرفها ؟ قال: نعم، فرفعت الستر فرآها، فقالت: هذه هي ؟ قال: نعم.قالت: هي لك، وخرجت عنهما.فسماها حبابة وعظم قدر سعدة عنده.ويقال: إنها أخذت عليها قبل أن تهبها له أن توطئ لابنها عنده في ولاية العهد. قال: وارتفع قدر حبابة عند يزيد وتمكن حبها في قلبه تمكناً عظيماً.وكان أول ذلك أنه أقبل يوماً إلى البيت الذي هي فيه فقام من وراء الستر فسمعها تترنم وتغني:
كان لي يا يزيد حبك حينا
كاد يقضي علي لما التقينا
فرفع الستر فوجدها مضطجعةً مقبلةً على الجدار، فعلم أنها لم تعلم به ولم يكن ذلك لمكانه، فألقى نفسه عليها وحركت منه. قال: وأراد يزيد بن عبد الملك أن يشتبه بعمر بن عبد العزيز، وقال: بماذا صار عمر أرجى لربه مني !.وقيل: بل لامه مسلمة بن عبد الملك على الإلحاح على الغناء والشرب، وقال له: إنك وليت بعقب عمر بن عبد العزيز وعدله، وقد تشاغلت بهذه الإماء عن النظر في الأمور، والوفود ببابك وأصحاب الظلامات يصيحون وأنت غافل ! قال: صدقت والله، وهم أن يترك الشرب، ولم يدخل على حبابة أياماً، فشق ذلك عليها فأرسلت إلى الأحوص أن يقول أبياتاً في ذلك، فقال:
ألا لا تلمه اليوم أن يتبلدا
فقد غلب المحزون أن يتجلدا
بكيت الصبا جهدي فمن شاء لامني
ومن شاء آسى في البكاء وأسعدا
وإني وإن فندت في طلب الصبا
لأعلم أني لست في الحب أوحدا
إذا أنت لم تعشق ولم تدر ما الهوى
فكن حجراً من يابس الصخر جلمدا
فما العيش إلا ما تلذ وتشتهي
وإن لام فيه ذو الشنان وفندا
قال: فلما كان في يوم الجمعة تعرضت له حبابة عند خروجه إلى الصلاة، فلقيته والعود في يدها، فغنت البيت الأول، فغطى وجهه وقال: مه لا تفعلي.ثم غنت وما العيش إلا ما تلذ وتشتهي فعدل إليها وقال: صدقت، قبح الله من لامني فيك ! يا غلام، مر مسلمة فليصل بالناس.وأقام معها يشرب وهي تغنيه وعاد إلى حاله، وقال لها: من يقول هذا الشعر ؟ قالت: الأحوص.فاستدعاه واستنشده الشعر فأنشده الأبيات.ثم أنشده قصيدته التي أولى:
يا موقدة النار بالعلياء من إضم
أوقد فقد هجت شوقاً غير منصرم
وهي قصيدةٌ طويلة، فقال له يزيد: ارفع حوائجك، فكتب إليه في نحو أربعين ألف درهم من دينٍ وغيره فأمر له بها.وقد قيل في أمر هذه الأبيات: إن حبابة لما بعثت للأحوص في عمل الشعر قالت له: إن رددت أمير المؤمنين عن رأيه فلك ألف دينار، فدخل عليه الأحوص واستأذنه في الإنشاد، فقال: ليس هذا وقتك.فلم يزل به حتى أذن له فأنشده الأبيات.فلما سمعها وثب حتى دخل على حبابة وهو يتمثل:
وما العيش إلا ما تلذ وتشتهي
وإن لام فيه ذو الشنان وفندا
قالت: ما ذاك يا أمير المؤمنين ؟ فقال: أبياتٌ أنشدنيها الأحوص، فسلي ما شئت.قالت: ألف دينارٍ تعطيها الأحوص، فأعطاه ألف دينار. قال: وقال يزيد يوماً لسلامة وحبابة: أيكما غنتني ما في نفسي فلها حكمها.فغنت سلامة فلم تصب ما في نفسه، وغنت حبابة بشعر ابن قيس الرقيات:
حلقٌ من بني كنانة حولي
بفلسطين يسرعون الركوبا
جزعت أن رأت مشيبي عرسيٍ
لا تلومي ذوائبي أن تشيبا
فأصابت ما في نفسه، فقال: احتكمي.قالت: تهب لي سلامة ومالها.قال: اطلبي غيرها، فأبت غيرها، فقال: أنت أولها بها ومالها، فلقيت سلامة من ذلك أمراً عظيماً.فقال حبابة: لا ترين إلا خيراً.فجاءها يزيد فسألها أن تبيعه إياها بحكمها.فقالت: أشهدك الآن أنها حرة، فاخطبها الآن أزوجك مولاتي. قال: وغنت حبابة يوماً يزيد:
ما أحسن الجيد من مليكة وال
لبات إذ زانها ترائبها
يا ليتني ليلةً - إذا هجع النا
س ونام الكلاب - صاحبها
في ليلةٍ لا يرى بها أحدٌ
يسعى علينا إلا كواكبها
فطرب يزيد، وقال: هل رأيت قط أطرب مني ؟ قال: نعم، ابن الطيار معاوية ابن عبد الرحمن بن جعفر.فكتب يزيد إلى عبد الرحمن بن الضحاك فحمله إليه.فلما قدم أرسلت إليه حبابة: إنما بعث إليك لكذا وكذا وأخبرته بالقصة، فإذا أدخلت عليه وتغنيت فلا تظهرن طرباً حتى أغني الصوت الذي غنيته، فقال: سوءةً على كبر السن ! فدعاه يزيد وهو على طنفسة خزٍ، ووضع لمعاوية مثلها، وجاءوا بجامين فيهما مسكٌ، فوضع أحدهما بين يدي يزيد والآخر بين يدي معاوية.قال معاوية: فلم أدر كيف أصنع، فقلت: أنظر كيف يصنع فأصنع مثله، فكان يقلبه فتفوح ريحه وأفعل مثل ذلك.فلما جيء بحبابة وغنت، فلما غنت ذلك الصوت أخذ معاوية الوسادة فوضعها على رأسه وقام يدور ويقول: الدخن بالنوى يعني اللوبيا ! وأمر له يزيد بصلاتٍ في دفعاتٍ مبلغها ثمانية آلاف دينار. وحكى أيضاً أنها غنت يوماً يزيد فطرب، ثم قال: هل رأيت أطرب مني ؟ قالت: نعم، مولاي الذي باعني.فغاظه ذلك، فكتب في حمله مقيداً.فلما وصل أمر يزيد بإدخاله عليه فأدخل يرسف في قيوده، وأمر يزيد حبابة أن تغني فغنت:
تشط بنا دار جيراننا
وللدار بعد غدٍ أبعد
فوثب حتى ألقى نفسه على الشمعة فاحترقت لحيته، وجعل يصيح: الحريق يا أولاد الزنا ! فضحك يزيد وقال: لعمري إن هذا لأطرب الناس ! وأمر بحل قيوده ووصله بألف دينارٍ ووصلته حبابة، ورده إلى المدينة. وروى أبو الفرج الأصفهاني بسنده إلى غانم الأزدي قال: نزل يزيد بن عبد الملك ببيت رأس بالشام ومعه حبابة، فقال: زعموا أنه لا يصفوا لأحدٍ يوماً عيشه إلى الليل لا يكدره شيءٌ عليه، وسأجرب ذلك، ثم قال لمن معه: إذا كان غدٌ لا تخبروني بشيءٍ ولا تأتوني بكتابٍ.وخلا هو وحبابة، فأتيا بما يأكلان، فأكلت رمانة فشرقت بحبة منها فماتت، فأقام لا يدفنها ثلاثاً حتى تغيرت وأنتنت وهو يشمها ويرشفها.فعاتبه على ذلك ذووه وأقرباؤه وصديقه وعابوا عليه ما يصنع، وقالوا: قد صارت جيفةً بين يديك، فأذن لهم في غسلها ودفنها، فأخرجت في نطع، وخرج معها لا يتكلم حتى جلس على قبرها.فلما دفنت قال: أصبحت والله كما قال كثير:
فإن تسل عنك النفس أو تدع الهوى
فباليأس تسلو عنك لا بالتجلد
وكل خليلٍ راءني فهو قائلٌ
من أجلك هذا هامة اليوم أو غد
فما بقي إلا خمس عشرة ليلةً ومات، فدفن إلى جنبها. وروي أيضاً عن مسلمة بن عبد الملك قال: لما ماتت حبابة جزع عليها يزيد، فجعلت أسكنه وأعزيه وهو ضاربٌ بذقنه على صدره ما يكلمني حتى دفنها.فلما بلغ إلى بابه التفت وقال: فإن تسل عنك النفس. . .البيت، ثم دخل بيته فمكث أربعين يوماً ثم هلك. قال: وروي المدائني انه اشتاق إليها بعد ثلاثة أيامٍ من دفنه إياها، فقال: لا بد أن تنبش حتى أنظر إليها، فنبشت وكشف له عن وجهها وقد تغيرت تغيراً قبيحاً، فقيل له: يا أمير المؤمنين، اتق الله تعالى ! ألا تراها كيف صارت ! فقال: ما رأيت قط أحسن منها اليوم، أخرجوها.فجاء مسلمة ووجوه أهله، فلم يزالوا به حتى أزالوه عن ذلك ودفنوها، وانصرف، وكمد كمداً شديداً حتى مات، فدفن إلى جانبها. وروي عن عبد الله بن عروة بن الزبير قال: خرجت مع أبي إلى الشام زمن يزيد بن عبد الملك.فلما ماتت حبابة وأخرجت، لم يستطع يزيد الركوب من الجزع ولا المشي، فحمل على منبر على رقاب الرجال.فلما دفنت قال: لم أصل عليها، انبشوا عنها.فقال له مسلمة: ننشدك الله يا أمير المؤمنين، إنما هي أمةٌ من الإماء وقد واراها الثرى.فلم يأذن للناس بعد حبابة إلا مرةً واحدةً، قال: فو الله ما استتم دخول الناس حتى قال الحاجب: اخرجوا رحمكم الله.ولم ينشب يزيد أن مات كمداً.