أخبار دنانير البرمكية
قال أبو الفرج: كانت دنانير مولاة يحيى بن خالد البرمكي، وكانت صفراء مولدة، من أحسن الناس وجهاً، وأظرفهم وأكملهم أدباً، وأكثرهم روايةً للغناء والشعر، ولها كتابٌ مجردٌ في الأغاني مشهور.وكان اعتمادها في غنائها على ما أخذته من بذل، وهي خرجتها، وقد أخذت أيضاً عن الأكابر الذين أخذت بذل عنهم مثل فليح وإبراهيم وابن الجامع وإسحاق ونظائرهم.وكانت تغني غناء إبراهيم فتحكيه فيه حتى لا يكون بينهما فرق، فكان يقول ليحيى: متى فقدتني ودنانير باقيةٌ فما فقدتني. وقال أحمد بن المكي: كانت دنانير لرجلٍ من أهل المدينة، كان قد خرجها وأدبها، وكانت أروى الناس للغناء القديم، وكانت صفراء صادقة الملاحة.فلما رآها يحيى وقعت من قلبه موقعاً فاشتراها.وشغف بها الرشيد حتى كان يصير إلى منزل مولاها فيسمعها، فألفها واشتد إعجابه بها، ووهب لها هباتٍ سنية.منها أنه وهب لها في ليلةٍ عقداً قيمته ثلاثون ألف دينار، فردته عليه في مصادرة البرامكة بعد ذلك.وعرفت أم جعفر الخبر فشكته إلى عمومته وأهله، فصاروا جميعاً إليه فعاتبوه، فقال: مالي في هذه الجارية أربٌ في نفسها، وإنما أربي في غنائها، فاسمعوها، فإن استحقت أن تؤلف لغنائها وإلا فقولوا ما شئتم.فلما سمعوها عذروه، وعادوا إلى أم جعفرٍ وأشاروا عليها ألا تلح في أمرها، فقبلت ذلك، وأهدت إلى الرشيد عشر جوارٍ منهن أم المأمون وأم المعتصم وأم صالح. وقال عمر بن شبة: إن دنانير أصابتها العلة الكلبية فكانت لا تصبر على الطعام ساعةً واحدة، وكان يحيى يتصدق عنها في كل يومٍ من شهر رمضان بألف دينارٍ لأنها كانت لا تصومه.وبقيت عند البرامكة مدةً طويلة. وقال إسحاق وأحمد بن الطيب: إن الرشيد دعا بدنانير بعد البرامكة، فأمرها أن تغني.فقالت: يا أمير المؤمنين، إني آليت ألا أغني بعد سيدي أبداً.فغضب وأمر بصفعها فصفعت، وأقيمت على رجليها وأعطيت العود، فأخذته وهي تبكي أحر بكاء، واندفعت فغنت:
يا دار سلمى بنازح السند
من الثنايا ومسقط اللبد
لما رأيت الديار قد درست
أيقنت أن النعيم لم يعد
قال: فرق لها الرشيد، وأمر بإطلاقها، فانصرفت. وقال أبو عبد الله بن حمدون: إن عقيداً مولى صالح بن الرشيد خطب دنانير وشغف بها فردته، فاستشفع إليها بمولاه صالح بن الرشيد وببذل والحسن بن محرز فلم تجب، وأقامت على الوفاء لمولاها.فكتب إليها عقيد:
يا دنانير قد تنكر عقلي
وتحيرت بين وعدٍ ومطل
شغفي شافعي إليك وإلا
فاقتليني إن كنت تهوين قتلي
أنا بالله والأمير وما آ
مل من موعد الحسين وبذل
ما أحب الحياة يا حب إن لم
يجمع الله عاجلاً بك شملي
فلم يعطفها ذلك عليه، ولم تزل على حالها حتى ماتت.ولعقيدٍ هذا فيها أشعارٌ فيها غناء.وكان عقيد حسن الغناء، وله فيها أصوات، منها قوله:
هذي دنانير تنساني وأذكرها
وكيف تنسى محباً ليس ينساها
أعوذ بالله من هجران جاريةٍ
أصبحت من حبها أهذي بذكراها
قد أكمل الحسن في تركيب صورتها
فارتج أسفلها واهتز أعلاها
قامت لتمشي فليت الله صورني
ذاك التراب الذي مسته رجلاها
والله والله لو كانت، إذا برزت،
نفس المتيم في كفيه ألقاها