نهاية الأرب في فنون الأدب/أخبار سلامة القس

من موسوعة الأدب العربي
اذهب إلى:تصفح، ابحث

أخبار سلامة القس

كانت سلامة القس هذه مولدةً من مولدات المدينة، وبها نشأت، وأخذت الغناء عن معبد وابن عائشة وجميلة ومالك بن أبي السمح ومن دونهم، فمهرت فيه.وإنما سميت سلامة القس لأن رجلاً يعرف بعبد الرحمن بن أبي عمار بن جشم بن معاوية - وكان منزله بمكة، وهو من قراء أهل المدينة، كان يلقب بالقس لعبادته - شغف بها وشهر بحبها.وكان سبب ذلك أنه سمع غناءها على غير تعمدٍ منه فبلغ منه كل مبلغ.فرآه مولاها فقال: هل لك أن تدخل فتسمع ؟ فأبى.فقال له مولاها: أنا أقعدها حيث تسمع غناءها ولا تراها.فلم يزل بها حتى دخل، فأسمعه غناءها فأعجبه.فقال: هل لك أن أخرجها إليك ؟ قال: لا.فلم يزل به حتى أخرجها فأقعدها بين يديه، فغنت فشغف بها وشغفت به وعرف ذلك أهل مكة.فقالت له يوماً: أنا والله أحبك.فقال: وأنا والله الذي لا إله إلا هو أحبك.فقالت: والله أشتهي أن أعانقك وأقبلك.فقال: والله وأنا أشتهي مثل ذلك.قالت: وأشتهي والله أن أضاجعك واضع بطني على بطنك وصدري على صدرك قال: وأنا والله كذلك.قالت: فما يمنعك من ذلك ؟ والله إن المكان لخال.قال: يمنعني منه قوله عز وجل: 'الأخلاء يومئذٍ بعضهم لبعضٍ عدوٌ إلا المتقين'، فأنا أكره أن تحول مودتي إياك عداوةً يوم القيامة.ثم قام وانصرف وعاد إلى ما كان عليه من النسك، ولم يعد إليها بعد ذلك.وكان يشبه بعطاء بن أبي رباج.وكان له فيها أشعارٌ كثيرة، منها قوله:

إن التي طرقتك بين ركائبٍ

تمشي بمزهرها وأنت حرام

لتصيد قلبك أو أجزاء مودةٍ

إن الرفيق له عليك ذمام

باتت تعللنا وتحسب أننا

في ذاك أيقاظٌ ونحن نيام

حتى إذا سطع الضياء لناظرٍ

فإذا وذلك بيننا أحلام

قد كنت أعذل في السفاهة أهلها

فأعجب لما تأتي به الأيام

فاليوم أعذرهم وأعلم أنما

سبل الضلالة والهدى أقسام

وقوله أيضاً فيها:

ألم ترها لا يبعد الله دارها

إذا رجعت في صوتها كيف تصنع !

تمد نظام القول ثم ترده

إلى صلصلٍ من صوتها يترجع

وقوله فيها:

ألا قل لهذا القلب هل أنت مبصر

وهل أنت عن سلامة اليوم مقصر

ألا ليت أني حيث صارت بي النوى

جليسٌ لسلمى كلما عج مزهر

وله من قصيدةٍ طويلةٍ أولها:

سلامٌ هل لي منكم ناصر

أم هل لقلبي عنكم زاجر

قد سمع الناس بوجدي بكم

فمنهم اللائم والعاذر

في أشعارٍ كثيرةٍ يطول الشرح بذكرها.ومدحها الأحوص أيضاً بشعرٍ كثير.وقال فيها أيضاً ابن قيس الرقيات. وروى أبو الفرج الأصفهاني قال: كانت سلامة وريا أختين، وكانتا من أجمل النساء وأحسنهن غناءً، فاجتمع الأحوص وابن قيس الرقيات عندهما.فقال لهما ابن قيس الرقيات: إني أريد أن أمدحكما بأبياتٍ فأصدق فيها ولا أكذب.فإن أنتما غنيتماني بذلك وإلا هجوتكما ولم أقربكما أبداً.قالتا: فما قلت ؟ قال: قلت:

لقد فتنت ريا وسلامة القسا

فلم يتركا للقس عقلاً ولا نفسا

فتاتان أما منهما فشبيهة ال

هلال وأخرى منهما تشبه الشمسا

تكنان أبشاراً رقاقاً وأوجهاً

عتاقاً وأطرافاً مخضبةً ملسا

فغنته سلامة فاستحسنه.وقال ابن قيس الرقيات للأحوص: يا أخا الأنصار، ما قلت ؟ قال قلت:

سلامٌ هل لمتيمٍ تنويل

أم قد صرمت وغال ودك غول

لا تصرمني عني ولاءك إنه

حسنٌ لدي وإن بخلت جميل

أزعمت أن مودتي وصبابتي

كذبٌ وان زيارتي تقليل

فغنت الأبيات.فقال ابن قيس الرقيات: أحسنت والله ! ما أظنك إلا عاشقةً لهذا الجلف.فقال له الأحوص: وما الذي أخرجك إلى هذا ؟ قال: حسن غنائها بشعرك، فلولا أن لك في قلبها محبةً مفرطةً ما جاء هكذا حسناً على هذه البديهة فقال الأحوص: على قدر حسن شعري على شعرك هكذا حسن الغناء به.وما هذا منك إلا حسدٌ، وليس ذلك إلا ما حسدت عليه.فقالت سلامة: لولا أن الدخول بينكما يوجب بغضةً لحكمت بينكما حكومةً لا يردها أحد.قال الأحوص: فأنت من ذلك آمنة.قال قس بن الرقيات: كلا ! قد أمنت أن تكون الحكومة عليك، فلذلك سبقت بالأمان لها.فتفرقا على ذلك.ثم مشى ابن قيس الرقيات إلى الأحوص فاعتذر إليه فقبل عذره.ومن شعر الأحوص فيها:

سلامٌ إنك قد ملكت فأسجحي

قد يملك الحر الكريم فيسجح

مني على عانٍ أطلت عناءه

في الغل عندك والعناة تسرح

إني لأنصحكم وأعلم أنه

سيان عندك من يغش وينصح

وإذا شكوت إلى سلامة حبها

قالت أجدٌ منك ذا أم تمزح

وحكى أبو الفرج قال: لما قدم عثمان بن حيان المري المدينة والياً عليها، قال له قومٌ من وجوه الناس: إنك قد وليت المدينة على كثرةٍ من الفساد، فإن كنت تريد أن تصلح فطهرها من الغناء والرثاء.فصاح في ذلك واجل أهله ثلاثاً يخرجون فيها من المدينة، وكان أبي عتيق غائباً، وكان من أهل الفضل والعفاف والصلاح.فلما كان آخر ليلة من الأجل قدم فقال: لا أدخل منزلي حتى أدخل على سلامة القس.فدخل عليها فقال: ما دخلت منزلي حتى جئتكم لأسلم عليكم.فقالوا: ما أغفلك عن أمرنا ! وأخبروه الخبر.فقال: اصبروا علي الليلة.فقالوا: نخاف ألا يمكنك شيء.قال: إن خفتم شيئاً فأخرجوا في السحر.ثم خرج فاستأذن على عثمان بن حيان فأذن له، فسلم عليه وذكر غيبته وأنه جاء ليقضي حقه، ثم جزاه خيراً على ما فعل من إخراج أهل الغناء والرثاء، وقال: أرجو ألا تكون حملت عملاً هو خيرٌ لك من ذلك.قال عثمان: قد فعلت ذلك وأشار علي به أصحابك.فقال: قد أصبت، ولكن ما تقول في امرأةٍ كانت هذه صناعتها وكانت تكره على ذلك، ثم تركته وأقبلت على الصلاة والصيام والخير، وأنا رسولها إليك تقول: أتوجه إليك وأعوذ بك أن تخرجني من جوار رسول اله صلى الله عليه وسلم ومسجده، قال قال: فإني أدعها لك ولكلامك.فقال ابن أبي عتيق: لا يدعك الناس، ولكن تأتيك وتسمع من كلامها وتنظر إليها، فإن رأيت أن مثلها ينبغي أن يترك تركتها، قال نعم فجاءه بها.وقال: احملي معك سبحةً وتخشعي ففعلت.فلما دخلت على عثمان سلمت عليه وجلست وحدثته، فإذا هي من أعلم الناس بأمور الناس، فأعجب بها، وحدثته عن آبائه وأمورهم ففكه لذلك فقال ابن أبي عتيق: اقرئي للأمير.فقرأت، فقال لها: احدى ففعلت.وكثر عجبه منها.فقال: كيف لو سمعتها في صناعتها ! فلم يزل ينزله شيئاً فشيئاً حتى أمرها بالغناء فغنته.فقام عثمان من مجلسه وقعد بين يديها، ثم قال: لا والله ما مثل هذه تخرج.فقال ابن أبي عتيق: لا يدعك الناس تقر سلامة وتخرج غيرها.قال: فدعوهم جميعاً.فتركهم جميعاً وأصبح الناس يتحدثون بذلك. ثم اشترى يزيد بن عبد الملك سلامة، وكانت لمصعب بن سهيل الزهري، وقيل: لسهيل بن عبد الرحمن بن عوف.وكانت حبابة جارية آل لاحق، فاشتراهما جميعاً، فاشترى سلامة بعشرين ألف درهم، وتسلمها رسل يزيد فخرجوا بها وشيعها الناس.فلما نزلت سقاية سليمان بن عبد الملك قالت للرسل: إن لي قوماً كانوا يغشوني ويسلمون علي، ولا بد لي من وداعهم والسلام عليهم، فأذن للناس عليها، فأتوا حتى ملؤا رحبة القصر والفناء، ووقفت هي بينهم بارزةً ومعها العود فغنت:

فارقوني وقد علمت يقيناً

ما لمن ذاق ميتةً من إياب

إن أهل الحصاب قد تركوني

موزعاً مولعاً بأهل الحصاب

أهل بيتٍ تتابعوا للمنايا

ما على الدهر بعدهم من عتاب

كم بذاك الحجون من حي صدقٍ

من كهولٍ أعفةٍ وشباب

سكنوا الجزع جزع بيت أبي مو

سى إلى النخل من صفي السباب

فلي الويل بعدهم وعليهم

صرت فرداً وملني أصحابي

قال: فلم تزل تردد هذا الصوت حتى راحت، وانتحب الناس بالبكاء عند ركوبها، فما شئت أن ترى باكياً نبيلاً إلا رأيته. قالوا: وكانت حبابة عند يزيد متقدمةً على سلامة، وكانت حبابة تنظر إلى سلامة بتلك العين الجميلة المتقدمة وتعرف فضلها عليها، فلما رأت أثرةً يزيد لها ومحبته إياها استخفت بها.فقالت لها سلامة: أي أخية، نسيت فضلي عليك ! ويلك ! أين تأديب الغناء ! أين حق التعليم ! أنسيت قول جميلة لك وهي تطارحنا: خذي إحكام ما أطارحك من أختك سلامة، فلا تزالين بخيرٍ ما بقيت لك وكان أمركما مؤتلفاً !.فقالت: صدقت: والله لا عدت لشيءٍ تكرهينه أبداً.وماتت حبابة وعاشت سلامة بعدها دهراً.ولما مات يزيد أحضرها ابنه الوليد وأمرها بالغناء، فتنغصت من ذلك وبكت، ثم غنته.فقال: رحم الله أبي وأطال عمري وأمتعني بحسن غنائك !.يا سلامة، بم كان أبي يقدم حبابة عليك ؟ قالت: لا أدري والله.قال: لكنني أدري ذلك، بما قسم الله عز وجل لها، قالت: يا سيدي أجل، وهي إحدى من اتهم بهن الوليد من جواري أبيه.

شارك هذه الصفحة:

تابع موسوعة الأدب العربي على شبكات التواصل الإجتماعي