أخبار سيف الدولة
هو أبو الحسن على بن أبي الهيجاء عبد الله بن حمدان بن حمدون.كان في ابتداء أمره في خدمة أخيه ناصر الدولة إلى أن دخلت سنة خمس وعشرين وثلاثمائة، فانفرد سيف الدولة بديار بكر، والسبب في ذلك أن علي بن أبي جعفر الديلمي لما استأمن إلى ناصر الدولة كما ذكرناه، وخرج على علَّي بن خلف بن طياب سأله أن يولِّيه الجزيرة عند إخراج ما كرد منها، فاعتذر عنها، وكان أحمد بن نصر القنسوري بديار بكر في عدّة قليلة، فجهز ناصر الدولة مع علي ابن أبي جعفر جيشاً، وأمره أن يسير إلى ديار بكر، فانصرف أحمد ابن نصر عنها، ودخلها عليّ بن أبي جعفر، وسكن أرزن، وأقام الدعوة لناصر الدولة، وهو في خلال ذلك يحصِّن البلد، ويستكثر من الرجال والأجناد، فنمى الخبر إلى ناصر الدولة، فلم يأمن شرِّه، وأمره بالقدوم عليه، فأبى ذلك، وأظهر العصيان، فندب ناصر الدولة عند ذلك أخاه سيف الدولة لحربه، وقال له: إن فتحت ديار بكر، وقبضت على علّي الديلمى، ملَّكتك بلادها وقلاعها من غير أن تحمل عنها شيئاً لخليفة، ولا لغيره، فسار سيف الدولة في ألف فارس، فتحصَّن منه في قلعة أرزن وهي المعروفة بحصن العيون، فنزل سيف الدولة تحتها على النهر المعروف بسربط، وحصر عليا بها، فبعث الديلمىّ حاجبه بدر الجستاني إلى ابن يرنيق ملك أرمينية، وإلى سائر بطارقتها يستنجد بهم على سيف الدولة، فاتَّصل خبر الحاجب بسيف الدولة، فرصده عند عوده، فقبض عليه، فسأله الديلمى الأمان على أن يمضي إلى بغداد، أو يبقى في خدمته، فأجابه إلى ذلك، وحلف له، ونزل إليه وسلَّم القلعة، فوفّى له سيف الدولة، وأقام عليّ في خدمته إلى أن استأمن إلى ابن رائق، وملك سيف الدولة بعد ذلك جميع بلاد أرمينية وما جاور بلاد بكر، ثم ملك حلب وانتزعها من يد الأخشيدية، ثم قلِّد بعد ذلك الثغور الجزيرية، وهي طرسوس، وعين زربة، والمصيصة، وما جاورهم من الثغور، من غير أداء مال عن شيء مما بيده من الأعمال ؛ لأنه كفى المسلمين أمر الروم نحواً من أربعين وقعة له وعليه.وكان بعيد الهمة شجاعاً يلقى الأمور بنفسه. وكان شاعره أبو الطيب المتنبي يمدحه في كل غزاة، ويذكر وقائعه، فكان الدمستق يقول: بلينا بشاعر كذاَّب، وأميرٍ خفيف الركابوكان لسيف الدولة خمسمائة غلام أقران لهم بأس شديد، إذا حمل بهم في جيش حزقه.وكان سنه عند ولايته خمس عشرة سنة، فظهرت شجاعته.وكان أديباً فاضلاً وله شعر ذكره الثعالبي في يتيمة الدهر، ومن جملة غزواته أنه خرج غازياً في ذي القعدة سنة ست وعرين وثلاثمائة، فانتهى إلى حصن دادم وسار إلى حصن زياد، فشارف فتحه، وأقام عليه تسعة أيام، فوافاه الدمستق في مائتي ألف، فانكفأ راجعاً يريد شمشاط، وخيول الروم تسايرة، فلما كان يوم النحر وصل إلى موضع بين حصنى زياد، ودادم وسلام، فوقف، وأقبلت عساكر الروم، فناجرهم القتال، فهزم الله الروم، وأسر سيف الدولة منهم سبعين بطريقاً، ولم يزل القتل والأسر فيهم إلى الليل، وأخذ سرير الدمستق وكرسيه.ولسيف الدولة مع الروم وقائع كثيرة مشهورة ذكرها كثير من المؤرخين تركناها لاشهارها. وفي سنة ثلاثين وثلاثمائة.ملك سيف الدولة مدينة حلب، وانتزعها من يد أحمد بن سعيد الكلابّي صاحب الإخشيد، واتفق خروج العدوّ إلى تلك النواحي، فسار إليهم، وأوقع بهم وقعة عظيمة، فاعتصموا منه بجبل منيع، فصعد إليهم، فكان منهم من ألقى نفسه من الجبل فمات، وغنم منهم غنيمة عظيمة. ولما بلغ الإخشيد ذلك أنفذ عسكره مع كافور، فهزمهم سيف الدولة، ودخل حمص وأعمالها، فملكها وسار إلى دمشق، ودخلها، فكاتبه الإخشيد، وبذل له الموادعة بعد أن بذل له أن يمل إله من المال نظير ما كان يحمل لابن رائق، فم يجب إلى ذلك، وقال: جوابك إذا دخلت مصر إن شاء الله.ثم جرت بينهما أمور، واتَّفقا على أن يكون لسيف الدولة حمص، وحلب، وما بينهما، وأفرج عن دمشق، وتزوج بابنة أخي الإخشيد.ثم مات الإخشيد عند رجوعه على ما نذكره في أخباره، وذلك في المحرم سنة خمس وثلاثين وثلاثمائة، فمضى سيف الدولة إلى دمشق، واستأمن إيه جماعة منهم: يانس المونسى، وأقام بها.ثم سار لحرب كافور الإخشيدي، فنزل اللَّجون والإخشيدية بقربه، والتقوا، فانهزم جيش سيف الدولة، ورجع هو إلى دمشق، فأخذ والدته وخاصَّته وأمواله، وسار إلى حلب، ثم وقع الصّلح بينهم في سنة ست وثلاثين على ما وقع بينه وبين الأخشيد أولاً. وفي فتح سيف الدولة دمشق يقول الخالديان:
ياسيف الدولة آل النبي
حويت العلا دولة وابتداء
ليهنك أنَّك داني الندا
ومجدك فوق النجوم اعتلاء
وأنَّك لما ملكت الملوك
تكبرَّت أن تلبس الكبرياء
ولما حويت العراق انكفيت
إلى عرصات الشام انكفاء
وجزت دمشق فطهرتها
وأبدلتها بالظلام الضياء
وما مصر عنك بممنوعة
إذا ما استعنت عليها القضاء
وفي سنة ست وثلاثين ظفر سيف الدولة القرمطي الملقب بالهادي، واستنفد أبا وائل. وفي سنة إحدى وأربعين بني سيف الدولة مرعش، فسار إليه الدمستق، فأوقع به سيف الدولة.وفي سنة اثنتين وأربعين فتح حصن العريمة، وأخرب مدينة ملطية، وكان الدمستق قد أخرب الحدث في سنة سبع وثلاثين، فسار إليه سيف الدولة، ونزل به في يوم الأربعاء لاثنتي عشرة ليلة بقيت من جمادى الآخرة سنة ثلاث وأربعين، فحطّ الأساس، وحفر أوله بيده، وحفر الناس وأقام إلى أن بناه ووضع بيده آخر شرافة منه لثلاث عشرة ليلة خلت من شهر رجب من السنة.وفي سنة أربع وأربعين وثلاثمائة.ورد على سيف الدولة من سائر الثغور طرسوس، وأذنة، والمصيصة رسل نوابه، ومعهم رسول ملك الروم في طلب الهدنة، فهادنهم، ولم يزل سيف الدولة في ملكه يوماً له ويوماً عليه إلى أن كبرت سنه.وضعف في آخر عمره واضطرب أمر دولته.