أخبار شنشول ومقتله
قال: وأما شنشول فإنه لما بلغه الخبر - وكان قد انتهى إلى طليطلة - عاد إلى قلعة رباح وقد تخاذل عنه الناس ؛ فعزم على استجلاب الناس لنفسه فامتنعوا وقالوا: قد خلفنا مرة ولا يخلف أُخرى ! فعلم أنهم خاذلوه، فدعا محمد بن يعلى الزناتي وكان عزم على خذلانه فقال له: ما ترى فيما نحن فيه ؟ فقال له: أصدقك عن نفسي وعن الجند ليس والله يقاتل معك أحدٌ منهم ! قال ما الدليل على ذلك.قال: تأمر بتقديم مطبخك إلى طريق طليطلة وتظهر الرحيل إليها فتعلم مَنْ يتبعك ومن يتخّف عنك ! قال: صدقت. وكان ابن عومس القومس مع شنشول يريد قرطبة معاقداً له يستنصر به على مَنْ يناوئه من القمامسة.فلما رأى اضطراب حال شنشول أشار عليه أن يرحل معه إلى بلده، ويكونوا يداً واحدة، ويلجأوا إلى مكان، فأبى ذلك وقال: لا بُدّ من الإشراف على قرطبة فإني أرجو أنني إذا طلعت عليا اختلفت كلمة محمدٍ، ولي أنصارٌ يميلون إلى سلطاني ويحبون ظهوري ! فقال له القومس: خذ باليقين ودع الظن، أمرك والله مختلٌّ وجندك عليك لا لك ! فقال: لا بد من المسير إلى قرطبة ! فقال: أنا معك على كراهية لرأُيك وعلم بخطاياك. وسار شنشول من قلعة رباح والأخبار تتواتر بتظاهر أهل قرطبة مع ابن عبد الجبار، فلما بلغ منزل هانئٍ فارقه عامة البربر ليلاً، وذلك في سلخ جمادى الآخرة، ثم فارقه الناس بعد ذلك وبقي في نفر يسيرٍ من خدمه، وابن عومس في مفر من النصارى، فقال له: سر بنا من هنا قبل أن يدهمنا ما يمنعنا من ذلك ! فأبى شنشول وقال: قد بعثت القاضي في طلب الأمان لي.ثم تجبر في أمره وسار إلى دير يعرف بدير شَوْس ليلة الجمعة لثلاث خلون من شهر رجب. وبلغ خبره محمد، فأرسل إليه حاجبه في مائتي فارس، فأرسل الحاجب ابن ذري مولى الحكم فسبقه إلى الدير فصبحه في يوم الجمعة، فقال شنشول لما عاينه ومن معه: ما لكم عليّ سبيل، أنا في طاعة المهدي ! فاستنزلوه من الدير ومعه ابن عومس ومن تبعهما، وأخذ نساء شنشول - وهن سبعون جارية - فبعث بهن إلى قرطبة، ولحق الحاجب بابن ذري قبل العصر من يوم الجمعة.فلما أقبل عليهم نزل شنشول فقبّل الأرض بين يدي الحاجب مراراً، فقيل له: قَبِّل حافر فرسه ! ففعل وقبّل رجله ويده، ثم حُمل على غير فرسه وابن عومس ساكت لم ينطق، وأشار إلى الحاجب بانتزاع قلنسوة شنشول عن رأس فانتزعت. ورجع يريد قرطبة، فسار إلى أن غربت الشمس، فنزل وأمر أن يكتف شنشول فعطفت يده عطفاً شديداً فقال: نفِّسوا عني وأطلِقوا يدي لأستريح ساعة ! فنفسوا عن يده، فأخرج من خُفّه سكيناً كالبرق فعوجل قبل أن يصنع شيئاً، ثم أضجعه الحاجب وذبحه.وقتل ابن عومس وأخذ رأسيهما، وحمل جثة شنشول، وسار بها إلى القصر بقرطبة.فأمر محمد بشق بطنه ونزع ما فيه وحُشي بعقاقير تحفظه، ثم نصب رأسه على قناة ووقف به على باب السدة ثم رُكِّب على جسده، وكُسي قميصاً وسراويل، وأخرج فسُمّر على خشبة على باب السدة.وأمر الرّسّان صاحب شرطه شنشول أن ينادي: هذا شنشول المأمون ! ثم يلعنه ويلعن نفسه، وذلك في يوم السبت لأربع خلون من شهر رجب. وكانت مدة ولاية شنشول أربعة أشهر وأياماً، وكان قبيح الفعال كثير التخليط متجاهراً بالفِسْق، شُهد عليه بأشياء لا تصدر عن مسلم، منها أنه سمع المؤذن يقول 'حيّ علي الصلاة' فقال: لو قال حيّ على الكبير لكان خيراً له ! وكثيرٍ من هذا القول وما يناسبه، وانقرضت الدولة العامرية بمقتل شنشول. قال إبراهيم بن الرقيق: ومن أعجب ما رأيناه أنه كان من نصف نهار يوم الثلاثاء لأربع عشرة بقيت من جمادى الآخرة إلى نصف نهار الأربعاء الذي يليه، فُتحت مدينة قرطبة وهُدِمت مدينة الزاهرة، وخُلع خليفة وهو هشام بن الحكم، وولى خليفةٌ وهو محمد بن هشام بن عبد الجبار، وزالت دولة بني عامر، وحدثت دولة بني أمية، وقُتل وزيرٌ وهو ابن عُسفلاجة، وأُقيمت جيوش من العامة، ونُكب خلْقٌ من الوزراء، وولى الوزارة آخرون، وكان ذلك على أيدي عشرة رجال حجّامين وجزارين وحاكة وزبالين، وهم جند ابن عبد الجبار !قال: وفي يوم الخميس لسبعٍ خلون من شهر رجب وصل كتابُ واضحٍ من مدينة سالم إلى محمد وطاعته وإظهار الاستبشار بمقت شنشول، فسُرّ به محمدٌ وشكر ذلك لواضح، وحمل إليه مالاً كثيراً وكساء وفُرشاً وطرائف، وولاّه سائر الثغر. قال: ولما استوثق الأمر لمحمد أسقط من جنده نحواً من سبعة آلاف وعادوا إلى بنيهم فانتفع بهم الناس، ثم نفى جماعةٌ من الصقالبة العامرية، ثم أخرج بعد ذلك صقالبة القصر وسدّ أبوابه.وأظهر محمدٌ من الخلاعة واللهو والشُّرب ما كان بفعله شنشول، واستعمل مائة عود ومائة بوق.وفي شعبان توفي رجل يهوديٌّ فأخذه محمد وأوقف عليه رجالاً من أصحابه، وكان يشبه بهشام فشهدوا عند العامة أنهم وقفوا على هشام ميتاً لا جُرحٌ به ولا أثرٌ وأنه مات حتف أنفه.وحضر الفقهاء والعدول وخلْقٌ من العامة إلى القصر وصلّوا عليه يوم الاثنين لأربع بقين من شعبان وأخفاه عند وزيره الحسن بن حيّ. وفي شهر رمضان سجن محمد سليمان بن عبد الرحمن - وكان قد جعله وليّ عهده - وسجن جماعةً من قريش، وأظهر بُغْض البربر فكان يسبّهم في مجلسه.