نهاية الأرب في فنون الأدب/أخبار عبد الله بن العباس الربيعي
أخبار عبد الله بن العباس الربيعي
هو أبو العباس عبد الله بن العباس بن الفضل بن ربيع.والربيع، على ما يدعيه أهله، ابن يونس بن أبي فروة.وآل أبي فروة يدفعون ذلك ويزعمون أنه لقيطٌ وجد منبوذاً كفله يونس، فلما خدم المنصور ادعى عليه.قال أبو الفرج الأصفهاني: وكان شاعراً مطبوعاً ومغنياً محسناً جيد الصنعة نادرها.قال: وهو أول من غنى بالكنكلة في الإسلام. وكان سبب دخوله في الغناء على ما رواه أبو الفرج بسنده إليه قال: كان سبب دخولي في الغناء وتعلمي إياه أني كنت أهوى جاريةً لعمتي رقيةٍ بنت الفضل بن الربيع، وكنت لا أقدر على ملازمتها والجلوس معها خوفاً من أن يظهر ما لها عندي، فيكون ذلك سبب منعي منها، فأظهرت لعمتي أني أشتهي أن أتعلم الغناء ويكون ذلك في سترٍ عن جدي - وكان جدي وعمتي على حالٍ من الرقة علي والمحبة لي لا نهاية وراءها، لأن أبي توفي في حياة جدي الفضل - فقالت: يا بني، وما دعاك إلى ذلك ؟ فقلت: شهوةٌ غلبت على قلبي، إن منعت منها مت غماً - قال: وكان لي في الغناء طبعٌ قويٌ - فقالت لي: أنت اعلم وما تختاره، والله ما أحب منعك من شيء، وإني كارهةٌ أن تحذق في ذلك وتشتهر فتسقط ويفتضح أبوك وجدك.فقلت: لا تخافي من ذلك، فإنما آخذ منه مقدار ما ألهو به.ولازمت الجارية لمحبتي إياها بعلة الغناء، فكنت آخذ عنها وعن صواحباتها حتى تقدمت الجماعة حذقاً وأقرت لي بذلك، وبلغت ما كنت أريد من الجارية، وصرت ألازم مجلس جدي.ثم لم يكن يمر لإسحاق ولا لابن جامع ولا للزبير بن دحمان ولا لغيرهم صوتٌ إلا أخذته، وكنت سريع الأخذ، إنما كنت أسمعه مرتين أو ثلاثاً وقد صح لي.وأحسست في نفسي قوةً في الصناعة، فصنعت أول صوتٍ صنعته في شعر العرجي:
أماطت كساء الخز عن حر وجهها
وأدنت على الخدين برداً مهلهلا
ثم صنعت:
أقفر من بعد خلةٍ شرف
فالمنحنى فالعقيق فالجرف
وعرضتهما على الجارية التي كنت أهواها وسألتها عما عندها فيهما، فقال: لا يجوز أن يكون في الصنعة فوق هذا.وكان جواري الحارث بن بسخنر وجواري أبيه يدخلن إلى دارنا فيطرحن على جواري عمتي وجواري جدي ويأخذن أيضاً ما ليس عندهن، فأخذنهما مني، وسألن الجارية عنهما فأخبرتهن أنهما من صنعتي.ثم اشتهرا حتى غني الرشيد بهما يوماً فاستظرفهما، وسأل إسحاق هل تعرفهما ؟ فقال: لا، وإنهما لمن أحسن الصنعة وجيدها ومتقنها.ثم سأل الجارية عنهما فوقفت خوفاً من عمتي وحذراً أن يبلغ جدي أنها ذكرتني، فانتهرها الرشيد فأخبرته القصة، فوجه من وقته فدعا بجدي فقال له: يا فضل، أيكون لك ابنٌ يغني ثم يبلغ في الغناء المبلغ الذي يمكنه أن يصنع صوتين يستحسنهما إسحاق وسائر المغنين ويتداولهما الجواري القيان فلا تعلمني بذلك، كأنك رفعت قدره عن خدمتي في هذا الشأن ! فقال له جدي: وحق ولائك يا أمير المؤمنين ونعمتك وإلا فأنا بريءٌ من بيعتك وعلى العهد والميثاق والعتق والطلاق إن كنت علمت بشيءٍ من هذا قط إلا منك الساعة.فمن هذا من ولدي ؟ قال: عبد الله بن العباس هو، فأحضرنيه الساعة.فجاء جدي وهو يكاد أن ينشق غيظاً، فدعاني، فلما خرجت إليه شتمني وقال: يا كلب بلغ من أمرك أنك تجسر على أن تتعلم الغناء بغير إذني ! ثم زاد ذلك حتى صنعت، ولم تقنع بهذا حتى ألقيت صنعتك على الجواري في داري، ثم تجاوزهن إلى جواري الحارث بن بسخنر، فاشتهرت، وبلغ أمير المؤمنين فتنكر لي ولامني، وفضحت آباءك في قبورهم وسقطت للأبد إلا من المغنين ! فبكيت مما جرى علي وعلمت أنه صدقني، فرحمني وضمني إليه وقال: قد صارت الآن مصيبتي في أبيك مصيبتين، إحداهما به وقد مضى وفات، والأخرى بك وهي موصولةٌ بحياتي، ومصيبةٌ باقية العار علي وعلى أهلي بعدي، وبكى وقال: عز علي يا بني أني أراك أبداً ما بقيت على غير ما أحب، وليست لي في هذا الأمر حيلةٌ لأنه أمرٌ قد خرج عن يدي.وقال: جئني بعودٍ حتى أسمعك وأنظر كيف أنت، فإن كنت تصلح للخدمة في هذه الفضيحة وإلا جئت بك منفرداً وعرفته خبرك واستعفيته لك.فأتيت بعودٍ وغنيت غناءً قديماً، فقال: لا، بل صوتيك الذين صنعتهما، فغنيته إياهما، فاستحسنهما وبكى، ثم قال: بطلت والله يا بني وخاب أملي فيك.فواحزناً عليك وعلى أبيك ! فقلت: ليتني مت قبل ما أنكرته أو خرست ! ومالي حيلة ! لكني وحياتك يا سيدي - وإلا فعلى عهد الله وميثاقه والعتق والطلاق وكل يمينٍ يحلف بها حالف لازمة لي - لا غنيت أبداً إلا لخليفةٍ أو ولي عهدٍ.فقال: قد أحسنت فيما نبهت عليه من هذا.فركب أمر بي فأحضرت، ووقفت بين يدي الرشيد وأنا أرعد، فاستدعاني واستدناني حنى صرت أقرب الجماعة إليه، ومازحني وأقبل علي وسكن مني، وأمر جدي بالانصراف، وأومأ إلى الجماعة فحدثوني وسقيت أقداحاً وغنى المغنون جميعاً، وأومأ إلى إسحاق بعينيه أن أبدأ فغن إذا بلغت النوبة إليك قبل أن تؤمر بذلك ليكون أملح وأجمل بك.فلما جاءت النوبة إلي أخذت عوداً ممن كان إلى جنبي وقمت قائماً واستأذنت في الغناء، فضحك الرشيد وقال: غن جالساً، فغنيت لحني الأول، فطرب واستعاده ثلاث مراتٍ وشرب عليه ثلاثة أنصاف.ثم غنيت الثاني فكانت هذه حاله، فسكر ودعا بمسرورٍ وقال: احمل الساعة مع عبد الله عشرة آلاف دينارٍ وثلاثين ثوباً من فاخر ثيابي وعيبةً مملوءةً طيباً، فحمل ذلك كله معي.قال عبد الله: ولم أزل كلما أراد ولي عهد أن يعلم من الخليفة بعد الخليفة هو أم غيره دعاني وأمرني أن أغني، فأعرفه يميني فيستأذن الخليفة في ذلك، فإن أذن لي في الغناء علم أنه ولي عهدٍ وإلا عرف أنه غيره، حتى كان آخرهم الواثق فدعاني في أيام المعتصم وسأله أن يأذن لي في الغناء، فأذن لي ثم دعاني من الغد فقال: ما كان غناؤك إلا سبباً لظهور سري وأسرار الخلفاء قبلي ! والله لقد هممت أن آمر بضرب رقبتك ! لا يبلغني أنك امتنعت من الغناء عند أحد، فوالله لئن امتنعت لأضربن عتقك ! فأعتق من كنت تملكه يوم حلفت، وطلق من كان عندك يومئذٍ، وأرحنا من يمينك هذه المشئومة.فقمت وأنا لا أعقل جزعاً منه، فأعتقت جميع ما كان بقي عندي من مماليكي الذين حلفت يومئذٍ وهم في ملكي ثم تصدقت بجملة، واستفتيت في يميني أبا يوسف القاضي حتى خرجت منها، وغنيت بعد ذلك إخواني جميعاً حتى اشتهر أمري، وبلغ المعتصم خبري فتخلصت منه. وروى أبو الفرج أيضاً عن الصولي عن الحسين بن يحيى قال: قلت لعبد الله ابن العباس: إنه بلغني لك خبرٌ مع الرشيد أول ما شهرت بالغناء فحدثني به، فقال: نعم ! أول صوتٍ صنعته:
أتاني يؤامرني في الصبو
ح ليلاً فقلت له غادها
فلما دار لي وضربت عليه بالكنكلة، عرضته على جاريةٍ لنا يقال لها راحة، فاستحسنته، وأخذته عني.وكانت تختلف إلى إبراهيم الموصلي، فسمعها يوماً تغنيه وتناغي به جاريةً من جواريه، فاستعادها إياه فأعادته، فقال: لمن هذا الصوت ؟ قالت: صوتٌ قديمٌ.قال: كذبت لو كان قديماً لعرفته.وما زال يداريها ويتغاضب عليها حتى اعترفت له أنه من صنعتي، فعجب من ذلك.ثم غناه يوماً بحضرة الرشيد ليغرب به على المغنين، فاستحسنه الرشيد، فقال له: لمن هذا يا إبراهيم ؟ فأمسك عن الجواب وخشي أن يكذبه فينمى إليه الخبر من غيره، وخاف من جدي إن يصدقه، فقال له: مالك لا تجيبني ؟ قال: ما يمكنني يا أمير المؤمنين.فاستراب بالقصة، فأقسم الرشيد أنه إن لم يعرفه عاقبه عقوبةً توجعه، وتوهم انه لعلية بنت المهدي أو لبعض حرمه فأستطير غضباً.فلما رأى إبراهيم الجد منه صدقه فيما بينه وبينه سراً.فدعا لوقته بالفضل بن الربيع وقال له: أيصنع ولدك غناءً يرويه الناس ولا تعرفني ! فجزع وحلف بحياته وبيعته انه ما عرف ذلك قط ولا سمع به إلا في وقته ذلك.وساق باقي الخبر نحو ما تقدم. قال عبد الله بن العباس: دخل محمد بن عبد الملك الزيات على الواثق وأنا بين يديه أغنيه وقد استعادني صوتاً فأعدته، فاستحسنه محمد بن عبد الملك وقال: هذا والله يا أمير المؤمنين أولى الناس بإقبالك عليه وإصغائك إليه، فقال: أجل ! هذا والله مولاي وابن مولاي لا يعرفون غير ذلك.فقال: ليس كل مولى يا أمير المؤمنين مولى لمواليه، ولا كل مولى يتجمل بولائه يجمع ما جمعه عبد الله من ظرفٍ وأدبٍ وصحة عقلٍ وفضل علمٍ وجودة شعر.فقال له: صدقت يا محمد.فلما كان من الغد جئت محمد بن عبد الملك شاكراً لحسن محضره، فقلت في أضعاف كلامي: وأفرط الوزير، أعزه الله تعالى، في وصفي وتقريظي في كل شيءٍ حتى وصفني بجودة الشعر، وليس ذلك عندي، وإنما أعبث بالبيتين والثلاثة.ولو كان عندي أيضاً شيءٌ من ذلك لصغر عن أن يصفه الوزير ويحكيه في هذا المجلس الرفيع المشهور.فقال: والله يا أخي لو عرفت مقدار قولك:
يا شادناً رام إذ م
ري في الشعانين قتلى
يقول لي: كيف أصبح
ت ؟ كيف يصبح مثلي
لما قلت هذا القول.والله لو لم يكن لك شعرٌ في عمرك إلا قولك: كيف يصبح مثلي لكنت شاعراً مجيداً.وهذا الشعر قاله عبد الله بن العباس في نصرانيةٍ كان يهواها ولا يصل إليها إلا إذا خرجت إلى البيعة ؟ وله معها أخبارٌ وأشعارٌ له فيها أصواتٌ.منها قوله:
إن في القلب من الظبي كلوم
فدع اللوم فإن اللوم لوم
حبذا يوم الشعانين وما
نلت فيه من نعيمٍ لو يدوم
إن أكن أعظمت أن همت به
فالذي تركب من عذلي عظيم
لم اكن أول من سن الهوى
فدع العذل فذا داءٍ قديم
وروى أبو الفرج بسنده إلى محمد بن جبيرٍ قال: كنا عند أبي عيسى بن الرشيد في زمن ربيع وعندنا مخارق وعلويه وعبد الله بن العباس الربيعي و عبد الله بن الحارث بن بسخنر ونحن مصطحبون في طارمةٍ مضروبةٍ على بستانه وقد تفتح فيه ورد وياسمين وشقائق والسماء متغيمة غيماً مطبقاً وقد بدأت ترش رشاً ساكباً، فنحن في أكمل نشاطٍ وأحسن يومٍ، إذ خرجت قيمة دار أبي عيسى فقالت: يا سيدي، قد جاءت عساليج، قال: تخرج إلينا فليس بحضرتنا من تحتشمه.قال: فخرجت إلينا جاريةٌ شكلةٌ حلوةٌ حسنة العقل والهيئة والأدب في يدها عودٌ فسلمت، وأمرها أبو عيسى بالجلوس فجلست.وغنى القوم حتى انتهى الدور إليها، وظننا أنها لا تصنع شيئاً وخفنا أن تهابنا فتحصر، فغنت غناءً حسناً مطرباً متقنا، لم تدع أحداً ممن حضر إلا غنت صوتاً من صنعته فأدته على غاية الإحكام، فطربنا واستحسنا غناءها و خاطبناها بالاستحسان، وألح عبد الله بن العباس من بيننا بالاقتراح عليها والمزاح معها والنظر إليها.فقال أبو عيسى: عشقتها وحياتي يا عبد الله ! فقال: لا والله يا سيدي وحياتك ما عشقتها، ولكن استملحت كل ما شاهدته منها من منظرٍ وشكلٍ وعقلٍ وعشرةٍ وغناء.فقال له: ويحك ! فهذا والله هو العشق وسببه.ورب جدٍ جره اللعب.قال: وشربنا، فلما غلب النبيذ على عبد الله غنى أهزاجاً قديمةً وحديثة، وغنى فيما بينها هزجاً في شعرٍ قاله فيها لوقته، فما فطن له إلا أبو عيسى، وهو:
نطق المكتوم مني فبدا
كم ترى المكتوم مني لا يضح
سحر عينيك إذا ما رنتا
لم يدع ذا صبوةٍ أو يفتضح
ملكت قلباً فأمسى غلقاً
عندها صباً بها لم يسترح
بجمالٍ وغناءٍ حسنٍ
جل عن أن ينتقيه المقترح
أورث القلب هموماً ولقد
كنت مسروراً بمرآه فرح
ولكم مغتبق هماً وقد
باكر اللهو بكور المصطبح
فقال له أبو عيسى: فعلتها والله يا عبد الله، صح والله قولي لك في عساليج وأنت تكابر حتى فضحك السكر.فجحد وقال: هذا غناءٌ كنت أرويه.فحلف أبو عيسى أنه ما قاله وما غناه إلا في يومه، وقال له: احلف بحياتي أن الأمر ليس هو كذلك ! فلم يفعل.فقال أبو عيسى: والله لو كانت لي لوهبتها لك، ولكنها لآل يحيى ابن معاذ، ووالله إن باعوها لأملكنك إياها ولو بكل ما املك ! ووحياتي لتنصرفن قبلك إلى منزلك.ثم دعا بحافظتها وخادماً من خدمه فوجه بها معهما إلى منزله.والتوى عبد الله قليلاً وتجلد ثم انصرف.واتصل الأمر بينهما بعد ذلك فاشترتها عمته رقية بنت الفضل بن الربيع من آل يحيى بن معاذ، وكانت عندهم حتى ماتت.قال: وقالت بذل الكبيرة لعبد الله بن العباس: قد بلغني أنك عشقت جاريةً اسمها عساليج، فاعرضها علي، فإما أن عذرتك أو عذلتك، فوجه إليها فحضرت، وقال لبذل: هذه هي يا سيدتي، فاسمعي وانظري ثم مريني بما شئت أطعك.فأقبلت عليه عساليج وقالت: يا عبد الله، أتشاور في ! فوالله ما شاورت فيك لما حبتك.فقالت بذل: أحسنت والله يا صبية ! ولو لم تحسني شيئاً ولا كانت فيك خصلةٌ تحمد لوجب أن تعشقي لهذه الكلمة.ثم قالت لعبد الله: ما ضيعت، احتفظ بصاحبتك هذه. وقال حمدون بن إسماعيل: دخلت يوماً على عبد الله بن العباس الربيعي وخادمٌ له يسقيه، وبيده عودٌ وهو يغني:
إذا اصطحبت ثلاثاً
وكان عودي نديمي
والكأس تضحك ضحكاً
من كف ظبيٍ رخيم
فما على طريقٌ
لطارقات الهموم
فما رأيت احسن مما حكى حاله في غنائه ولا سمعت أحسن مما غنى.ومن صنعته وشعره قوله
صدع البين والفؤادا
إذ به الصائح نادى
بينما الأحباب مجمو
عون إذ صاروا فرادى
فأتى بعضٌ بلادأً
وأتى بعضٌ بلادا
كلما قلت تناهى
حدثان الدهر زادا