نهاية الأرب في فنون الأدب/أخبار عبد الله بن سريج

من موسوعة الأدب العربي
اذهب إلى:تصفح، ابحث

أخبار عبد الله بن سريج

هو أبو يحيى عبد الله بن سريج، مولى بني نوفل بن عبد مناف.وقال أبن الكلبي: إنه مولى لبني الحارث بن عبد المطلب.وقيل: إنه مولى لبني ليث، ومنزله بمكة.وقال الحسن بن عتبة اللهبي: إنه مولى لبني عائذ بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم.وحكى أبو الفرج الأصبهاني أنه كان آدم أحمر ظاهر الدم سناطا، في عينيه قبلٌ، وبلغ خمسا وثمانين سنة، وكان منقطعا إلى عبد الله بن جعفر. ونقل أيضا عن أبن الكلبي أنه كان مخنثا أحول أعمش، يلقب وجه البا.وكان لا يغني إلا متنقبا، مسبل القناع على وجهه.قال: وكان أحسن الناس غناء، وكان يغني مرتجلا ويوقع بقضيب، وقيل: كان يضرب بالعود.وغنى في زمن عثمان بن عفان، ومات في خلافة هشام بن عبد الملك.وقيل: كان أسمه عبيد بن سريج من أهل مكة.وقال أبن جريج: كان عبيد بن سريج مولى آل خالد بن أسيد، وقيل: كان أبوه تركيا.وقيل: كان عوده على صنعة عيدان الفرس، وهو أول من ضرب به على الغناء العربي بمكة ؛ وذلك أنه رآه مع العجم الذين قدم بهم أبن الزبير لبناء الكعبة، فأعجب أهل مكة غناؤهم.فقال أبن سريج: أنا أضرب به على غنائي، فضرب به فكان أحذق الناس.وأخذ الغناء عن سعيد بن مسجح، وقد تقدم ذكر ذلك.وأول ما أشتهر بالغناء في ختان أبن مولاه عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي حسين.قال أبن سريج لأم الغلام: خفضي عليك بعض المغرم والكلفة، فوالله لألهين نساءك حتى لا يدرين ما جئت به.وكان معبد إذا أعجبه غناء نفسه قال: أنا اليوم سريجي. ومن أخباره أيضا أن عطاء بن أبي رباح لقيه بذي طوىً وعليه ثياب مصبغة وفي يده جرادة مشدودة الرجل بخيط يطيرها ويجنبها كلما تخلفت ؛ فقال له عطاء: يا فتان، ألا تكف عما أنت فيه ! كفى الله الناس مئونتك.فقال له أبن سريج: وما على الناس من تلويني ثيابي ولعبي بجرادتي ! فقال: تغنيهم أغانيك الخبيثة.فقال له أبن سريج: بحق من تبعته من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وبحق رسول الله صلى الله عليه وسلم عليك إلا سمعت مني بيتا من الشعر، فإن سمعت منكراً أمرتني بالإمساك عما أنا عليه، وأنا أقسم بالله وبحق هذه البنية إن أمرتني بعد أستماعك مني بالإمساك عما أنا عليه لأفعلن.فأطمع ذلك عطاءً في أبن سريج وقال له: قل.فأندفع يغني بشعر جرير:

إنّ الذين غدوا بلبّك غادروا

وشلاً بعينك لا يزال معينا

غيّضن من عبراتهنّ وقلن لي

ماذا لقيت من الهوى ولقينا

قال: فلما سمعه عطاء أضطرب أضطرابا شديدا وداخلته أريحيةٌ، فحلف ألا يكلم أحداً بقية يومه إلا بهذا الشعر، وصار إلى مكانه من المسجد الحرام، فكان كل من يأتيه يسأل عن حلال أو حرام أو خبر لا يجيبه إلا بأن يضرب إحدى يديه على الأخرى وينشد هذا الشعر حتى صلى المغرب، ولم يعاود أبن سريج بعدها ولا تعرض له. وحكى عنه أيضا أن عمر بن أبي ربيعة حج في عام من الأعوام ومعه أبن سريج، فلما رموا الجمرات تقدما الحاج إلى كثيب على خمسة أميال من مكة مشرفٍ على طريق المدينة وطريق الشام والعراق، وهو كثيب شامخ مفرد عن الكثبان، فصارا إليه فأكلا وشربا.فلما أنتشيا أخذ أبن سريج الدف فنقره وجعل يتغنى وهم ينظرون إلى الحاج.فلما أمسيا رفع أبن سريج صوته وتغنى بشعر لعمر بن أبي ربيعة، فسمعه الركبان، فجعلوا يصيحون به: يا صاحب الصوت، أما تتقي الله ! قد حبست الناس عن مناكسهم، فيسكت قليلا حتى إذا مضوا رفع صوته فيقف آخرون ؛ إلى أن وقف عليه في الليل رجل حسن الهيئة على فرس عتيق حتى وقف بأصل الكثيب، ثم نادى: يا صاحب الصوت، أيسهل عليك أن تردد شيئا مما سمعته منك ؟ قال: نعم ونعمة عينٍ، فأيها تريد ؟ فأقترح صوتا فغناه.ثم قال له أبن سريج: ازدد إن شئت ؛ فأقترح صوتاً آخر فغناه، فقال له: والثالث ولا أستزيدك، فغناه الثالث.وقال له أبن سريج: أبقيت لك حاجة ؟ قال نعم، تنزل لأخاطبك ؛ فنزل إليه فإذا هو يزيد ابن عبد الملك، فأعطاه حلته وخاتمه وقال: خذهما ولا تخدع فيهما فإن شراءهما ألف وخمسمائة دينار ؛ فعاد أبن سريج بهما فأعطاهما لعمر بن أبي ربيعة وقال: هما بك أشبه منهما بي، فأخذهما وعوضه عنهما ثلثمائة دينار ؛ وغدا فيهما إلى المسجد، فعرفهما الناس وجعلوا يتعجبون ويسألون عمر عنهما، فيخبرهم أن يزيد بن عبد الملك كساه ذلك.وقيل: إن عمر بن عبد العزيز مر به فسمع أبن سريج وهو يغني، فقال: لله در هذا الصوت لو كان بالقرآن !. قال إبراهيم بن المهدي: كان أبن سريج رجلا عاقلا أديبا، وكان يعاشر الناس بما يشتهون فلا يغنيهم بما مدح به أعداؤهم ولا بما فيه عارٌ عليهم أو غضاضة منهم. ومن أخباره ما حكاه أبو الفرج الأصبهاني بإسناده، قال: كتب الوليد بن عبد الملك إلى عامل مكة أن أشخص إلي أبن سريج فأشخصه إليه.فلما قدم مكث أياما لا يدعوه ولا يلتفت إليه، ثم ذكره فأستحضره، فدخل عليه وسلم فأذن له بالجلوس وأستدناه حتى كان قريبا منه ؛ فقال: ويحك يا عبيد ! لقد بلغني عنك ما حملني على الوفادة بك من كثرة أدبك وجودة أختيارك مع ظرف لسانك وحلاوة مجلسك.قال: جعلت فداءك يا أمير المؤمنين ! تسمع بالمعيدي لا أن تراه، قال الوليد: إني لأرجو ألا تكون أنت ذاك، ثم قال: هات ما عندك ؛ فأندفع يغني بشعر الأحوص:

وإنّي إذا حلّت ببيشٍ مقيمة

وحلّ بوجٍّ جالساً أو تتهّما

يمانيةٌ شطّت وأصبح نفعها

رجاءً وظنّاً بالمغيب مرجّما

أحبّ دنوّ الدّار منها وقد أبى

بها صدع شعب الدار إلاّ تثلّما

بكاها وما يدري سوى الظنّ ما بكى

أحيّاً يبكّي أم تراباً وأعظما

فدعها وأخلف للخليفة مدحةً

تزل عنك بؤسي أو تفيدك مغنما

فإن بكفّيه مفاتيح رحمةٍ

وغيث حياً يحيا به الناس مرهما

إمامٌ أتاه الملك عفواً ولم يثب

على ملكه مالا حراماً ولا دما

تخيّره ربّ العباد لخلقه

وليّاً وكان الله بالناس أعلما

ينال الغنى والعزّ من نال ودّه

ويرهب موتاً عاجلا من تشأما

فقال الوليد: أحسنت والله وأحسن الأحوص.ثم قال: يا عبيد هيه ! فغناه بشعر عدي بن الرقاع العاملي يمدح الوليد:

طار الكرى وألمّ الهمّ فأكتنعا

وحيل بيني وبين النوم فأمتنعا

كان الشباب قناعاً أستكنّ به

وأستظّل زماناً ثمّت أنقشعا

وأستبدل الرأس شيباً بعد داجيةٍ

فينانةٍ ما ترى في صدغها نزعا

فإن تكن ميعةٌ من باطل ذهبت

وأعقب الله بعد الصّبوة الورعا

فقد أبيت أراعي الخود رابيةً

على الوسائد مسروراً بها ولعا

برّاقة الثغر يشفي القلب لذّتها

إذا مقبلّها في ريقها كرعا

كالأقحوان بضاحي الروض صبّحه

غيثٌ أرشّ بتنضاحٍ وما نقعا

صلى الذي الصلوات الطيّبات له

والمؤمنون إذا ما جمّعوا الجمعا

على الذي سبق الأقوام ضاحيةً

بالأجر والحمد حتى صاحباه معا

هو الذي جمع الرحمن أمّته

على يديه وكانوا قبله شيعا

عدنا بذي العرش أن نحيا ونفقده

وأن نكون لراعٍ بعده تبعا

إن الوليد أمير المؤمنين له

ملك أعان عليك الله فارتفعا

لا يمنع الله ما أعطى الذي هم

له عباد ولا يعطون ما منعا

فقال الوليد: صدقت يا عبيد، أنى لك هذا ؟ قال: هو من عند الله.قال الوليد: لو غير هذا قلت لأحسنت أدبك.قال أبن سريج: ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء قال الوليد: يزيد في الخلق ما يشاء.قال أبن سريج: هذا من فضل ربي ليبلوني أأشكر أم أكفر.قال الوليد: لعلمك والله أكثر وأعجب إلي من غنائك ! غنني ؛ فغناه بشعر عدي بن الرقاع يمدح الوليد فقال:

عرف الدّيار توهما فأعتادها

من بعد ما شمل البلي أبلادها

إلا رواسي كلهنّ قد أصطلى

جمراً وأشعل أهلها إيقادها

كانت رواحل للقدور فعرّيت

منهنّ وأستلب الزمان رمادها

وتنكرت كلّ التنكّر بعدنا

والأرض تعرف بعلها وجمادها

ولربّ واضحة العوارض حرّة

كالرّيم قد ضربت به أوتادها

تصطاد بهجتها المعلّل بالصبا

عرضاً فتقصده ولن يصطادها

كالظّبية البكر الفريدة ترتعي

من أرضها قفّاتها وعهادها

خضبت لها عقد البراق جبينها

من عركها علجانها وعرادها

كالزّين في وجه العروس تبذّلت

بعد الحياء فلاعبت أرآدها

تزجى أغنّ كأن إبرة روقه

قلمٌ أصاب من الدّواة مدادها

ركبت به من عالج متحيّرا

قفراً تريّث وحشه أولادها

فترى محانيه التي تسق الثرى

والهبر يونق نبتها روّادها

بانت سعاد وأخلفت ميعادها

وتباعدت عنا لتمنع زادها

إني إذا ما لم تصلني خلّتي

وتباعدت عنّي أغتفرت بعادها

إمّا ترى شيبي تقشّع لمّتي

حتى علا وضحٌ يلوح سوادها

فلقد ثنيت يد الفتاة وسادةً

لي جاعلا يسرى يديّ وسادها

وأصاحب الجيش العرمرم فارساً

في الخيل أشهد كرّها وطرادها

وقصيدةٍ قد بتّ أجمع بينها

حتى أقوّم ميلها وسنادها

نظر المثقّف في كعوب قناته

حتى يقيم ثقافه منآدها

فسترت عيب معيشتي بتكرّمٍ

وأتيت في سعة النعيم سدادها

وعلمت حتى ما أسائل واحداً

عن عليم واحدةٍ لكي أزدادها

صلّى الإله على أمرئ ودّعته

وأتمّ نعمته عليه وزادها

وإذا الربيع تتابعت أنواؤه

فسقى خناصرة الأحصّ فجادها

نزل الوليد بها فكان لأهلها

غيثاً أغاث أنيسها وبلادها

أولا ترى أن البريّة كلّها

ألقت خزائمها إليه فقادها

ولقد أراد الله إذ ولاّكها

من أمّةٍ إصلاحها ورشادها

أعمرت أرض المسلمين فأقبلت

وكففت عنها من يروم فسادها

وأصبت في أرض العدة مصيبةً

عمّت أقاصي غورها ونجادها

ظفراً ونصراً ما تناول مثله

أحدٌ من الخلفاء كان أرادها

فإذا نشرت له الثناء وجدته

جمع المكارم طرفها وتلادها

غلب المساميح الوليد سماحةً

وكفى قريش المعضلات وسادها

تأتيه أسلاب الاعزّة عنوةً

قسراً ويجمع للحروب عتادها

وإذا رأى نار العدوّ تضرّمت

سامي جماعة أهلها فأقتادها

بعرمرمٍ تبدو الرّوابي ذي وعىً

كالحرّة أحتمل الضحى أطوادها

أطفأت ناراً للحروب وأوقدت

نارٌ قدحت براحتيك زنادها

فبدت بصيرتها لمن يبغي الهدى

وأصاب حرّ شديدها حسّادها

وإذا غدا يوماً بنفحة نائل

عرضت له الغد مثلها فأعادها

وإذا عدت خيلٌ تبادر غايةً

فالسابق الجالي يقود جيادها

فأشار الوليد إلى بعض الخدم فغطوه بالخلع، ووضعوا بين يديه كيس الدنانير وبدر الدراهم، ثم قال الوليد: يا مولى بني نوفل بن الحارث لقد أوتيت أمراً جليلا فقال أبن سريج: وأنت يا أمير المؤمنين لقد آتاك الله ملكا عظيما وشرفاً عاليا وعزا بسط يدك فيه فلم يقبضه عنك ولا يفعل إن شاء الله، فأدام الله لك ما ولاك وحفظك فيما أسترعاك، فإنك أهل لما أعطاك، ولا ينزعه منك إذ رآك له موضعا.قال: يا نوفلي، وخطيبٌ أيضا ! قال أبن سريج: عنك نطقت، وبلسانك تكلمت، وبعزك بينت، وكان قد أمر بإحضار الأحوص بن محمد الأنصاري وعدي بن الرقاع العاملي، فلما قدما عليه أمر بإنزالهما حيث أبن سريج فأنزلا منزلا بجوار منزله.فقالا: والله لقرب أمير المؤمنين كان أحب إلينا من قربك يا مولى بني نوفل، وإن في قربك لما يلذنا ويشغلنا عن كثير مما نريد.فقال لهما أبن سريج: أو قلة شكر ! فقال له عدي: كأنك يا بن اللخناء تمن علينا، علي وعلي إن جمعنا وإياك سقف بيت أو صحن دار عند أمير المؤمنين، فقال الأحوص: أولا تحتمل لأبي يحيى الزلة والهفوة، وكفارة يمينٍ خيرٌ من لجاج في غير منفعة.فتحول عدي وبقي الأحوص.وبلغ الوليد ما جرى بينهم، فدعا أبن سريج فأدخله بيتاً وأرخى دونه ستراً ثم أمره إذا فرغ الأحوص وعديٌ من كلمتيهما أن يغني، فلما دخلا وأنشداه مدائح لهما فيه، رفع أبن سريج صوته من حيث لا يرونه وضرب بعود.فقال عدي: يا أمير المؤمنين، أتأذن لي أن أتكلم ؟ قال: قل يا عاملي، قال: مثل هذا عند أمير المؤمنين ويبعث إلى أبن سريج يتخطى رقاب قريشٍ والعرب من تهامة إلى الشام ترفعه أرضٌ وتخفضه أخرى ليسمع غناءه ّ قال: ويحك يا عدي ! أولا تعرف هذا الصوت ؟ قال: لا والله ما سمعته قط ولا سمعت مثله، ولولا أنه في مجلس أمير المؤمنين لقلت طائفةٌ من الجن يتغنون، فقال: أخرج عليهم، فخرج فإذا أبن سريج.فقال عدي: حق لهذا أن يحمل ! حق لهذا أن يحمل ! ثلاثا، ثم أمر لهما بمثل ما أمر به لأبن سريج وأرتحل القوم. وروى أبو الفرج أيضا عن سهل بن بركة وكان يحمل عود أبن سريج قال:كان على مكة نافع بن علقمة الكناني فشدد في الغناء والمغنين والنبيذ ونادى في المخنثين.فخرج فتيةٌ من قريش إلى بطن محسر وبعثوا برسول لهم، فجاءهم براويةٍ من شراب الطائف، فلما شربوا وطربوا قالوا: لو كان معنا أبن سريج تم سرورنا، فقلت: هو علي لكم، فقال لي بعضهم: دونك هذه البغلة فاركبها وأمض إليه، فأتيته فأخبرته بمكان القوم وطلبهم إياه ؛ فقال لي: ويحك ! وكيف لي بذلك مع شدة السلطان في الغناء وندائه فيه.فقلت له: أتردهم ؟ قال: لا والله ! فكيف لي بالعود ؛ فقلت: أنا أخبؤه لك فشأنك.فركب وسترت العود فأردفني.فلما كنا ببعض الطريق إذا بنافع بن علقمة قد أقبل ؛ فقال لي: يا أبن بركة، هذا الأمير.فقلت له: لا بأس عليك ! أرسل عنان البغلة وأمض ولا تخف، ففعل.فلما حاذيناه عرفني ولم يعرف أبن سريج، فقال لي.يا أبن بركة، من هذا أمامك ؟ قلت: من ينبغي أن يكون ! هذا أبن سريج ؛ فتبسم ثم تمثل:

فإن تنج منها يا أبان مسلّماً

فقد أفلت الحّجاج خيل شبيب

ثم مضى ومضينا.فلما كنا قريبا من القوم نزل إلى شجرة يستريح.فقلت له: غنني مرتجلا ؛ فرفع صوته فخيل إلي أن الشجرة تنطق معه، فغنى وقال:

كيف الثّواء ببطن مكة بعدما

همّ الذين تحبّ بالإنجاد

أم كيف قلبك إذ ثويت مخمّراً

سقماً خلافهم وكربك بادي

هل أنت إن ظعن الأحبّة غادى

أم قبل ذلك مدلجٌ بسواد

قال: فقلت: أحسنت والذي فلق الحبة وبرأ النسمة ! ولو أن كنانة كلها سمعتك لأستحسنتك، فكيف بنافع بن علقمة ! المغرور من غره نافع.ثم قلت: زدني وإن كان القوم متعلقة قلوبهم بك ؛ فغنى وتناول عودا من الشجرة فوقع به على الشجرة ؛ فكان صوت الشجرة أحسن من خفق بطون الضأن على العيدان إذا أخذتها عيدان الدملى، وغنى:

لا تجمعي هجراً عليّ وغربةً

فالهجر في تلف المحبّ سريع

من ذا فديتك يستطيع لحبه

دفعاً إذا أشتملت عليه ضلوع

فقلت: بنفسي أنت والله، من لا يكلّ ولا يملّ ! والله ما جهل من فهمك، اركب بنا فدتك نفسي.قال: أمهلني كما أمهلتك أقض بعض شأني.فقلت: وهل عما تريد مدفعٌ !.فقام فصلى ركعتين ثم ضرب بيده إلى الشجرة وقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله.ثم مضينا والقوم مستشرفون.فلما دنونا منهم إذا الغريض يغنيهم:

من خيل حيٍّ لا تزال مغيرةً

سمعت على شرف صحيل حصان

فبكى أبن سريج حتى ظننت أن نفسه قد خرجت.فقلت: ما يبكيك يا أبا يحيى ؟ جعلت فداك لا يسوءك الله ولا يريك سوءاً ! قال: أبكاني هذا المهنث بحسن غنائه وشجا صوته، والله ما ينبغي لأحد أن يغني وهذا الصبي حيٌ ؛ ثم نزل وأستراح وركب.فلما سرنا هنيهةً أندفع الغريض يغني لهم بلحنه:

يا خليليّ قد مللت ثوائي

بالمصلّى وقد سئمت البقيعا

بلّغاني ديار هندٍ وسعدى

وأرجعاني فقد هويت الرجوعا

قال: ولصوته دويٌ في تلك الجبال.فقال أبن سريج: يا أبن بركة، أسمعت مثل هذا الغناء قط ؟ ! قال: ونظروا إلينا فأقبلوا نشاوى يسحبون أعطافهم وجعلوا يقبلون وجه أبن سريج.فنزل فأقام عندهم ثلاثاً، والغريض لا ينطق بحرف، وأخذوا في شرابهم وقالوا: يا حبيب النفس وشقيقها، أعطها بعض شأنها.فضرب بيده إلى جيبه فأخرج منه مضراباً ثم أخذه بيده ووضع العود في حجره فما رأيت يداً أحسن من يده ولا خشبةً تخيلت لي أنها جوهرةٌ إلا هي ثم ضرب فلقد ضج القوم جميعا ؛ ثم غنى فكلٌ قال: لبيك لبيك ! فكان مما غنى به واللحن له هزجٌ:

لبّيك يا سيّدتي

لبّيك ألفاً عددا

لبّيك من ظالمةٍ

أحببتها مجتهدا

قومي إلى ملعبنا

نحك الجواري الخرّدا

وضع يدٍ فوق يدٍ

نرفعها يداً يدا

فكلٌ قال: نفعل ذاك ؛ فلقد رأيتنا نستبق أينا تقع يده على يده.ثم غنى:

ما هاج شوقك بالصّرائم

ربعٌ أحال لآل عاصم

ربعٌ تقادم عهده

هاج المحبّ على التقادم

فيه النواعم والشبا

ب النّاعمون مع النواعم

من كل واضحة الجبي

ن عميمةٍ ريّا المعاصم

ثم غنى بقوله:

شجاني مغاني الحيّ وأنشقّت العصا

وصاح غربا البين أنت مريض

ففاضت دموعي عند ذاك صبابةً

وفيهنّ خودٌ كالمهاة غضيض

وولّيت محزون الفؤاد مروّعاً

كئيباً ودمعي في الرداء يفيض

قال: فلقد رأيت جماعةً من الطير وقعن بقربنا وما نحس من قبل ذلك منها شيئا.فقالت الجماعة: يا تمام السرور وكمال المجالس، لقد سعد من أخذ بحظه منك وخاب من حرمك، يا حياة القلوب ونسيم النفوس جعلنا الله فداءك، غننا.فغنى:

يا هند إنك لو علم

ت بعاذلين تتابعا

قال: فبدرت من بينهم فقبلت عينيه، فتهافت القوم عليه يقبلونه، ولقد رأيتني وأنا أرفعهم عنه شفقةً عليه. وكانت وفاة أبن سريج بالعلة التي أصابته من الجذام بمكة في خلافة سليمان ابن عبد الملك أو في خلافة الوليد، ودفن في موضع يقال له دسم.رحمة الله عليه وعفا عنه وغفر له.والحمد لله رب العالمين. حكى أنه لما أحتضر نظر إلى أبنته تبكي فبكى وقال: إنه من أكبر همي أنت وأخشى أن تضيعي بعدي.فقالت: لا تخف فما غنيت شيئا إلا وأنا أغنيه.فقال: هاتي، فأندفعت فغنت وهو مصغ إليها.فقال: قد أصبت ما في نفسي وهونت علي أمرك.ثم دعا سعيد بن مسعود الهذلي فزوجه إياها ؛ فأخذ أكثر غناء أبيها وأنتحله.

شارك هذه الصفحة:

تابع موسوعة الأدب العربي على شبكات التواصل الإجتماعي