أخبار عريب المأمونية
قال أبو الفرج الأصفهاني: كانت عريب مغنيةً محسنة، وشاعرةً صالحة الشعر، وكانت مليحة الخط والمذهب في الكلام، ونهايةً في الحسن والجمال والظرف وحسن الصوت وجودة الضرب وإتقان الصنعة والمعرفة بالنغم والأوتار والرواية للشعر، لم يتعلق بها أحدٌ من نظرائها، ولا رئي في النساء - بعد القيان الحجازيات مثل جميلة وعزة الميلاء وسلامة الزرقاء ومن جرى مجراهن على قلة عددهن - نظيرٌ لها.قال: وكان فيها من الفضائل التي وصفناها ما ليس لهن مما يكون في مثلها من جواري الخلفاء ومن نشأ في قصور الخلفاء وغذي برقيق العيش الذي لا يدانيه عيش الحجاز والمنشأ بين العرب العامة والعرب الجفاة.قال: وقد شهد لها من لا تحتاج مع شهادته إلى غيره، فروي عن حماد بن إسحاق قال قال أبي: ما رأيت امرأةً أضرب من عريب، ولا أحسن صنعةً ووجهاً، ولا أخف روحاً، ولا أحسن خطاباً بارعاً، ولا أسرع جواباً، ولا ألعب بالشطرنج والنرد، ولا أجمع لخصلةٍ حسنةٍ لم أرها في امرأةٍ غيرها قط. قال حماد: فذكرت ذلك ليحيى بن أكثم، فقال: صدق أبو محمد، هي كذلك.قلت أفسمعتها ؟ قال: نعم، هناك يعني في دار المأمون.قلت: أفكانت كما ذكر أبو محمد في الحذق ؟ قال يحيى: هذه مسئلةٌ الجواب فيها على أبيك، هو أعلم مني بها.فأخبرت أبي بذلك، فضحك ثم قال: أما استحييت من قاضي القضاة أن تسأله عن مثل هذا !وقال إسحاق بن إبراهيم الموصلي: استدعاني المأمون يوماً فدخلت عليه، فسألني عن صوتٍ وقال لي: أتدري لمن هو ؟ فقلت: أسمعه ثم أخبر أمير المؤمنين إن شاء الله بذلك.فأمر جاريةً من وراء الستارة أن تغنيه، فضربت فإذا هي قد شبهته بالقديم، فقلت: زدني معها عوداً آخر.فإنه اثبت لي، فزادني عوداً آخر.فقلت: يا أمير المؤمنين، هذا صوتٌ محدثٌ لامرأةٍ ضاربة.قال: من أين قلت ذلك ؟ فقلت: إني لما سمعت لينه عرفت أنه محدثٌ من غناء النساء، ولما رأيت جودة مقاطعه علمت أن صاحبته ضاربةٌ حفظت مقاطعه وأجزاءه، ثم طلبت عوداً آخر فلم أشك.قال: صدقت، الغناء لعريب. وقال ابن المعتز: قال علي بن يحيى: أمرني المعتمد على الله أن أجمع غناء عريب الذي صنعته، فأخذت منها دفاترها وصحفها التي كانت قد جمعت فيها غنائها، فكتبته فكان ألف صوت، وقد قيل أكثر من ذلك.وقد وصفها أبو الفرج الأصفهاني وأطنب في وصفها وتفضيلها، واستدل على ذلك وبسط القول فيه. وأما ما قيل في نسبها وسنها وكيف تنقلت بها الحال إلى أن اتصلت بالمأمون، فقد روي عن إسماعيل بن الحسين خال المعتصم أنها ابنة جعفر بن يحيى، وأن البرامكة لما نهبوا سرقت وهي صغيرةٌ فبيعت.قال أحمد بن عبد الله بن إسماعيل المراكبي: إن أم عريب كانت تسمى فاطمة، وكانت يتيمة، فتزوجها جعفر بن يحيى بن خالد، فأنكر عليه أبوه، وقال له: تتزوج بمن لا يعرف لها أمٌ ولا أب ! اشتر مكانها ألف جارية.فأخرجها جعفر وأسكنها في دارٍ في ناحية باب الأنبار سراً من أبيه، ووكل بها من يحفظها، وكان يتردد إليها، فولدت عريب في سنة إحدى وثمانين ومائة.وكانت سنوها إلى أن ماتت ستاً وتسعين سنة.قال: وماتت أم عريب في حياة جعفر، فدفعها إلى امرأةٍ نصرانيةٍ وجعلها دايةً لها.فلما حدثت بالبرامكة تلك الحادثة باعتها من سنبس النخاس، فباعها من المراكبي. قال ابن المعتز: وأخبرني يوسف بن يعقوب قال: كنت إذا نظرت قدمي عريبٍ شبهتها بقدمي جعفر بن يحيى.قال: وسمعت من يحكي أن بلاغتها في كتبها ذكرت لبعض الكتاب، فقال: وما يمنعها من ذلك وهي بنت جعفرٍ بن يحيى ! هذا ملخص ما حكاه أبو الفرج في نسبها. وأما أخبارها مع من ملكها وكيف تنقلت بها الحال، فقد حكى ابن المعتز عن الهاشمي أن مولاها خرج بها إلى البصرة فأدبها وخرجها وعلمها الخط والنحو والشعر والغناء، فبرعت في ذلك أجمع، وتزايدت حتى قالت الشعر.وكان لمولاها صديقٌ يقال له حاتم بن عدي من قواد خراسان، وقد قيل: إنه كان يكتب لعجيفٍ على ديوان العرض، فكان مولاها يدعوه كثيراً ويخالطه.فركبه دينٌ فاستتر عنده، فمد عينه إلى عريبٍ وكاتبها فأجابته، ودامت المواصلة بينهما وعشقته، ثم انتقل من منزل مولاها.فلم تزل تحتال حتى أخذت سلماً من سب، وقيل: من خيوطٍ غلاظ، وكان قد اتخذ لها موضعاً، ثم لفت ثيابها وجعلتها في فراشها بالليل ودثرتها بدثرها، ثم تسورت الحائط وهربت، وأتته فمكثت عنده، ومولاها لا يتهمه بشيءٍ من أمرها.فقال عيسى بن عبد الله بن إسماعيل المراكبي يهجو أباه ويعيره بها - وكان كثيراً ما يهجوه -:
قاتل الله عريباً
فعلت فعلاً عجيباً
ركبت والليل داجٍ
مركباً صعباً مهيباً
فارتقت متصلاً بالن
جم أو منه قريباً
صبرت حتى إذا ما
أقصد النوم الرقيبا
مثلت بين حشايا
ها، لكي لا تستريبا
خلفاً منها إذا نو
دي لم يلف مجيباً
ومضت يحملها الخو
ف قضيباً وكثيبا
محةٌ لو حركت خف
ت عليها أن تذوبا
فتدلت لمحبٍ
فتلقاها حبيبا
جذلاً قد نال في الدن
يا من الدنيا نصيبا
أيها الظبي الذي تس
حر عيناه القلوبا
والذي يأكل بعضاً
بعضه حسناً وطيبا
كنت نهباً لذئابٍ
فلقد أطعمت ذيبا
وكذا الشاة إذا لم
يك راعيها لبيبا
لا يبالي وبأ المر
ععى إذا كان خصيبا
ولقد أصبح عبد الل
ه كشخاناً جريبا
قد لعمري لطم الخد
وقد شق الجيوبا
وجرت منه دموعٌ
بلت الذقن الخضيبا
وقال ابن المعتز: وحدثني محمد بن موسى بن يونس: أنها ملته بعد ذلك فهربت منه، فكانت تغني عند أقوامٍ عرفتهم ببغداد وهي مستترةٌ متخفية.فلما كان يومٌ من الأيام اجتاز ابن أخي المراكبي ببستانٍ كانت فيه مع قومٍ تغني، فسمع غناءها فعرفه، فبعث إلى عمه وأقام هو مكانه، فلم يبرح حتى جاء عمه وكبسها، فأخذها وضربها مائة مقرعةٍ وهي تصيح: يا هذا، لم تقتلني ! لست أصبر عليك، أنا امرأةٌ حرة، فإن كنت مملوكةً فبعني، لست أصبر على الضيق.فلما كان من الغد ندم على فعله وصار إليها فقبل رأسها ويدها ورجلها ووهب لها عشرة آلاف درهم.ثم بلغ محمداً الأمين خبرها فأخذها.قال: وكان الأمين في حياة أبيه طلبها منه فلم يجبه إلى ذلك.فلما أفضت إليه الخلافة جاء المراكبي و محمدٌ راكبٌ ليقبل يده، فأمر بمنعه ودفعه، ففعل ذلك الشاكري، فضربه المراكبي وقال: أتمنعني من تقبيل يد مولاي ! فجاء الشاكري لما نزل محمد الأمين فشكاه، فأمر بإحضار المراكبي فأمر بضرب عنقه، فسئل في أمره فعفا عنه وحبسه، وطالبه بخمسمائة ألف درهم مما اقتطعه من نفقات الكراع، وبعث فأخذ عريب من منزله مع خدمٍ كانوا له.فلما قتل محمد الأمين هربت عريب إلى المراكبي فكانت عنده. قال ابن المعتز: وأما رواية إسماعيلٍ بن الحسن خال المعتصم فإنها تخالف هذا، وذكر أنها إنما هربت من دار مولاها المراكبي إلى محمد بن الحامد الخاقاني المعروف بالخشن أحد قواد خراسان، وكان أشقر أصهب أزرق العينين.وفيه تقول عريب ولها فيه غناء:
بأبي كل أصهبٍ
أزرق العين أشقر
جن قلبي به ولي
س جنوني بمنكر
وقال إسحاق بن إبراهيم: لما نمي إلى الأمين خبر عريبٍ بعث في إحضارها وإحضار مولاها فأحضرا، فغنت بحضرة إبراهيم بن المهدي، فطرب الأمين واستعادها، وقال لإبراهيم: كيف سمعت ؟ قال: سمعت يا سيدي حسناً، وإن تطاولت بها الأيام وسكن روعها ازداد غناؤها حسناً وطيباً.فقال للفضل بن الربيع: خذها إليك وساوم بها ففعل، فاشتط مولاها بالسوم ثم أوجبها له بمائة ألف درهم.وانتقض أمر الأمين وشغل عنها فلم يأمر لمولاها بشيءٍ حتى قتل بعد أن افتضها، فرجعت إلى مولاها، ثم هربت منه إلى ابن حامد، فأمر المأمون بإحضاره وسئل عنها فأنكرها.فقال له المأمون: كذبت، وقد سقط إلي خبرك، وأمر صاحب الشرط أن يجرده في مجلس الشرط ويضع عليه السياط حتى يردها فأخذه.فبلغها الخبر، فركبت حمار مكارٍ وجاءت وقد جرد ليضرب، وهي مكشوفة الوجه وهي تصيح: إن كنت مملوكةً فبعني، وإن كنت حرةً فلا سبيل علي.فرفع خبرها إلى المأمون، فأمر بتعديلها عند قتيبةٍ بن زيادٍ القاضي فعدلت عنده.وتقدم إليه المراكبي مطالباً بها، فسأله البينة عن ملكه إياها فعاد متظلماً إلى المأمون وقال: قد طولبت بما لم يطالب به أحدٌ في رقيق.وتظلمت زبيدة بنت جعفر إليه وقالت: من أغلظ ما جرى علي، بعد قتل ابني، هجوم المراكبي على داري وأخذ عريبٍ منها.فقال المراكبي: إنما أخذت ملكي، لأنه لم ينقذني الثمن.فأمر المأمون بدفعها إلى محمدٍ بن عمر الواقدي، وكان قد ولاه القضاء بالجانب الشرقي، فأخذها من قتيبة بن زياد وأمر ببيعها ساذجةً، فاشترها المأمون بخمسين ألف درهم، وقيل اشتراها بخمسة آلاف درهم.ودعا عبد الله بن إسماعيلٍ وقال له: لو لا أني حلفت ألا أشتري مملوكاً بأكثر من هذا لزدتك، ولكني سأوليك عملاً تكسب فيه أضعاف هذا الثمن، ورمي إليه بخاتمين من ياقوتٍ أحمر قيمتهما ألف دينار، وخلع عليه خلعاً سنية.فقال: يا أمير المؤمنين، إنما ينتفع بهذا الأحياء، وأما أنا فإني لا محالة ميت، لأن هذه الجارية كانت حياتي.وخرج فاختلط وتغير عقله ومات بعد أربعين يوماً.وذهبت بالمأمون كل مذهبٍ ميلاً إليها ومحبةً لها، حتى قيل: إن المأمون قبل رجلها في بعض الأيام وإنها قالت أثر ذلك: والله يا أمير المؤمنين، لولا ما شرفها الله به من وضع فمك الكريم لقطعتها ! ولكن لله علي ألا اغسلها لغير وضوءٍ أو طهرٍ إلا بماء الورد ما عشت.فكانت تفعل ذلك إلى أن ماتت. وحكى علي بن يحيى المنجم أن المأمون لما مات بيعت في ميراثه - ولم يبع له عبدٌ ولا أمةٌ غيرها - فاشتراها المعتصم بمائة ألفٍ وأعتقها فهي مولاته.وقيل: إنه لما مات محمد الأمين تدلت عريب من قصر الخلد بحبلٍ إلى الطريق وهربت إلى حاتم بن عدي. وحكى إبراهيم بن رباحٍ قال: كنت أتولى نفقات المأمون، فوصف له إسحاق ابن إبراهيم الموصلي عريب، فأمره أن يشتريها له، فاشتراها بمائة ألف درهم، فأمرني المأمون بحملها، وأن احمل إلى إسحاق مائة ألف درهم، ففعلت ذلك، فلم أدر كيف أثبتها، فكتبت في الديوان أن مائة الألف خرجت في ثمن جوهرة، ومائة الألف الأخرى خرجت لصائغها ودلالها.فجاء الفضل بن مروان للمأمون وقد رأى ذلك وأنكره، وسألني عنه فقلت: نعم، هو ما رأيت.فسأل المأمون عن ذلك فقال: وهبت لدلالٍ وصائغٍ ألف درهم ! وغلظ القصة، فأنكرها المأمون، ودعاني فدنوت وأخبرته أن المال الذي خرج في ثمن عريب وصلة إسحاق، وقلت أيما أصوب يا أمير المؤمنين: ما فعلت، أم أثبت بالديوان أنها خرجت ثمن مغنيةٍ وصلة مغن.فضحك المأمون وقال: الذي فعلت أصوب.ثم قال للفضل ابن مروان: يا نبطي، لا تعترض على كاتبي هذا في شيء. ولعريب أخبارٌ قد بسط أبو الفرج الأصفهاني القول بها في كتابه الذي ترجمه 'تحف الوسائد في إخبار الولائد'، وذكر أيضاً نتفاً من أخبارها في كتابه المترجم 'بالأغاني'.منها خبرها مع محمد بن حامد المعروف بالخشن، وأخبارٌ لها مع المأمون، وأخبارٌ مع صالح المنذري الخادم، وإبراهيم بن المدبر، وغير ذلك من أخبارها.وقد رأينا أن نثبت لمعاً من ذلك. أما أخبارها مع محمد بن حامد - وهو أحد من كانت تعشقه وتهواه وتخاطر بنفسها في الاجتماع به - فمنها ما روي عن عبد الملك الضرير أنها لما صارت في دار المأمون احتالت عليه حتى وصلت إليه، وكانت تلقاه في الوقت بعد الوقت حتى حملت منه وولدت بنتاً، فبلغ ذلك المأمون فزوجه إياها.وقال محمد بن موسى: اصطبح المأمون يوماً ومعه ندماؤه وفيهم محمد بن حامد وجماعةٌ من المغنين وعريب معه على مصلاة، فأومأ إليها محمد بن حامد بقبلةٍ، فاندفعت فغنت ابتداء:
رمى ضرع نابٍ فاستمر بطعنةٍ
كحاشية البرد اليماني المسهم
تريد بغنائها جواب محمد بن حامد بان تقول له: طعنة.فقال المأمون للندماء: أيكم أومأ إلى عريب بقبلة ؟ والله لئن لم يصدقني لأضربن عنقه ! فقال محمد بن حامد: أنا يا أمير المؤمنين أومأت إليها، والعفو أقرب للتقوى.فقال: قد عفوت عنك.فقال: كيف استدل أمير المؤمنين على ذلك ؟ فقال: ابتدأت صوتاً، وهي لا تغني ابتداء إلا معنًى، فعلمت أنها لم تبتدئ هذا الصوت إلى لشيءٍ أومئ إليها به، ولم يكن من شرط هذا الموضع إلا إيماءٌ بقبلةٍ، فعلمت أنها أجابته بطعنة.وقد حكي أن المأمون قال في هذه الواقعة عن محمد بن حامد: نكشخنه قبل أن يكشخننا، فزوجه إياها، واشترط عليه أن يحضرها إلى مجلسه في أوقاتٍ عينها له المأمون. وقال حمدون: كنت ليلةً في مجلس المأمون في بلاد الروم بعد العشاء الآخرة في ليلةٍ ظلماءٍ ذات رعودٍ وبروق، فقال لي المأمون: اركب الساعة فرس النوبة وسر إلى عسكر أبي إسحاق، يعني المعتصم، فأد إليه رسالتي وهي كيت وكيت.فركبت فلم تثبت معي شمعة، وسمعت وقع حافر دابةٍ فرهبت ذلك فجعلت أتوقاه حتى صك ركابي تلك الدابة، وبرقت بارقةٌ فأبصرت وجه الراكب فإذا عريب، فقلت: عريب ؟ قال: نعم، حمدون ؟ قلت نعم.ثم قلت لها: من أين أقبلت في هذا الوقت ؟ قالت: من عند محمد بن حامد.قلت: وما صنعت عنده ؟ قالت: يا نكس، عريب تجيء في هذا الوقت من عند محمد بن حامد خارجةً من مضرب الخليفة راجعةً إليه تقول لها: أي شيءٍ عملت معه ! صليت معه التراويح، أو قرأت عليه أجزاء من القرآن، أو دارسته شيئاً من الفقه ! يا أحمق، تحادثنا وتعاتبنا واصطلحنا ولعبنا وشربنا وغنينا وانصرفنا.قال: فأخجلتني وغاظتني وافترقنا.ومضيت فأديت الرسالة، ثم عدت إلى المأمون وأخذنا في الحديث وتناشدنا الأشعار، فهممت أن أحدثه بحديثها ثم هبته، فقلت: أقدم قبل ذلك تعريضاً بشيءٍ من الشعر فأنشدته:
ألا حي أطلالاً لقاطعه الحبل
ألوفٍ تساوي صالح القوم بالرذل
فلو أن من أمسى بجانب تلعةٍ
إلى جبلي طيٍ فساقطة النعل
جلوسٌ إلى أن يقصر الظل عندها
لراحوا وكل القوم منها على وصل
فقال لي المأمون: اخفض صوتك لا تسمع عريب فتغضب وتظن أنا في حديثها، فأمسكت عما أردت أن أخبره به، وخار الله لي في ذلك. وقال محمد بن عيسى الواثقي: قال لي محمد بن حامد ليلةً: أحب أن تفرغ لي مضربك، فإني أريد أن أجيئك فأقيم عندك، ففعلت وأتاني.فلما جلس جاءت عريب فدخلت وجلسنا، فجعل محمد يعاتبها ويقول: فعلت كذا وفعلت كذا ! فقالت لي: يا محمد، هذا عندك رأي ! ثم أقبلت عليه فقالت: يا عاجز، خذ بنا فيما نحن فيه، واجعل سراويلي مخنقتي وألصق خلخالي بقرطي، فإذا كان غدٌ فاكتب بعتابك في طومارٍ حتى أكتب إليك في مثله، ودع عنك هذا الفضول، فقد قال الشاعر:
دعي عد الذنوب إذا التقينا
تعالي لا نعد ولا تعدي
فأقسم لو هممت بمد شعري
إلى باب الجحيم لقلت مدي
وقال أحمد بن حمدون: وقع بين عريب وبين محمد بن حامد شرٌ حتى كادا يخرجان إلى القطيعة، وكان في قلبها منه أكثر مما في قلبه منها.فلقيته يوماً فقالت: كيف قلبك يا محمد ؟ قال: أشقى ما كان وأقرحه.فقالت: استبدل تسل.فقال لها: لو كانت البلوى باختيار لفعلت ! فقالت: لقد طال إذاً تعبك.فقال: وما يكون ! أصبر مكرها ! أما سمعت قول العباس بن الأحنف:
تعبٌ يطول مع الرجاء لذي الهوى
خيرٌ له من راحةٍ في الياس
لولا كرامتكم لما عاتبتكم
ولكنتم عندي كبعض الناس
قال: فذرفت عيناها، واعتذرت إليه واعتنقته، واصطلحا وعادا إلى ما كانا عليه. وحكى أحمد بن جعفر بن حامدً قال: لما توفي عمي محمد بن حامد، صار جدي إلي منزله، فنظر إلى تركته وجعل يقلب ما خلف، ويخرج إليه منها الشيء بعد الشيء، إلى أن أخرج إليه سفطٌ مختوم، ففض الخاتم وفتحه، فإذا فيه رقاع عريبٍ إليه، فجعل يتصفحها ويبتسم، فوقعت في يده رقعةٌ فقرأها ووضعها بين يديه، وقام لحاجته، فقرأتها فإذا هي:
ويلب عليك ومكنا !
أوقعت في الحق شكا
زعمت أني خؤونٌ
جواراً علي وإفكاً
إن كان ما قلت حقاً
أو كنت أزمعت تركاً
فأبدل الله ما بي
من ذلة الحب نسكا
قال: وهذا الشعر لعريب. وأما أخبارها مع المأمون وإخوته وغير ذلك من أخبارها.قال صالح بن علي بن الرشيد المعروف بزعفرانة: تمارى خالي أبو عليٍ والمأمون في صوت، فقال المأمون: أين عريب ؟ فجاءت وهي محمومة، فسألها عن الصوت، فقالت فيه بعلمها.فقال لها: غنيه.فولت لتجئ بالعود، فقال: غنيه بلا عود.فاعتمدت من الحمى على الحائط وغنت، وأقبلت عقربٌ فرأيتها وقد لسبت يدها مرتين أو ثلاثاً، فما نحت يدها ولا سكتت حتى فرغت من الصوت، ثم سقطت وقد غشي عليها. قال عثمان بن العلاء عن أبيه: عتب المأمون على عريبٍ فهجرها أياماً، ثم اعتلت فعاد فقال: كيف وجدت طعم الهجر ؟ فقالت: يا أمير المؤمنين، لو لا مرارة الهجر ما عرفت حلاوة الوصل، ومن ذم بدء الغضب حمد عاقبة الرضا.فخرج المأمون إلى جلسائه فحدثهم بالقصة، ثم قال: أترى لو كان هذا من كلام النظام لم يكن كثيراً !وقال أحمد بن أبي دواد: جرى بين المأمون وبين عريب كلام، فكلمها المأمون بشيءٍ فغضبت منه فهجرته أياماً.فدخلت على المأمون، فقال: يا أحمد، اقض بيننا.فقالت عريب: لا حاجة لي في قضائه ودخوله بيننا، وأنشأت تقول:
ونخلط الهجر بالوصال ولا
يدخل في الصلح بيننا أحد
وكانت قد تمكنت من المأمون وأخذت بمجامع قلبه، وذهب به حبها كل مذهب، وقد قدمنا أنه قبل رجلها. وكانت عريب تهوى أبا عيسى بن الرشيد أخا المأمون، وكان المثل يضرب بحسنه وحسن غنائه، وكانت تزعم أنها ما عشقت أحداً من بني هاشم وأصفته من الخلفاء وأولادهم سواه.ولم تزل عريب مبجلةً عند الخلفاء محبوبةً إليهم مكرمةً لديهم إلى أن غضب عليها المعتصم والواثق وانحرفا عنها.وكان سبب ذلك أن المعتصم وجد لها كتاباً إلى العباس بن المأمون ببلد الروم تقول فيه: اقتل أنت العلج حتى أقتل أنا الأعور الليلي هاهنا - تعني الواثق، وكان المعتصم استخلفه ببغداد - ولعمري إن هذا من الأمور العظيمة التي لا تحتمل من الأولاد والأخوة فكيف من أمةٍ مغنية ! ولو لم تكن لها عندهم المكانة العظمى والمحل الكبير لما أبقوها بعد الاطلاع من باطن حالها على هذه الطوية.وكانت عريبٌ تكايد الواثق فيما يصوغه من الألحان، وتصوغ في ذلك الشعر تغنيه لحناً فيكون أجود من لحنه. قال: وكانت عريب تتعشق صالحاً المنذري الخادم، فتزوجته سراً.فحكي عنها أن بعض الجواري دخلت عليها يوماً، فقالت لها عريب: ويحك ! تعالي إلي ! فجاءت، فقالت: قبلي هذا الموضع مني، فإنك تجدين ريح الجنة، وأومأت إلى سالفتها، ففعلت ثم قالت لها: ما السبب في هذا ؟ قالت: قبلني الساعة صالح المنذري في هذا الموضع.قال: ووجهه المتوكل إلى مكانٍ بعيدٍ في حاجةٍ، فقالت عريب فيه:
أما الحبيب فقد مضى
بالرغم مني لا الرضى
أخطأت في تركي لمن
لم ألق منه عوضا
وكانت عريب تهوى إبراهيم بن المدبر ويهواها، ولها معه أخبارٌ وحكايات، وبينهما أشعارٌ وفكاهات.فمن مكاتباتها إليه ما روي عن ابن المعتز فقال: كتبت إليه تدعو له في شهر رمضان: أفديك بسمعي وبصري، وأهل الله عليك هذا الشهر باليمن والمغفرة، وأعانك على المفترض منه والمتنفل، وبلغك مثله أعواماً، وفرج عنك وعني فيه.وكتبت في شيءٍ بلغها عنه: وهب الله لنا بقاءك ممتعاً بالنعم.ما زلت أمس في ذكرك، فمرةً بمدحك، ومرةً بأكلك وبذكرك بما فيك لوناً لونا.اجحد ذنبك الآن، وهات حجج الكتاب ونفاقهم.فأما خبرنا أمس فإنا شربنا من فضل نبيذك على تذكارك رطلاً، وقد رفعنا حسابنا إليك، فارفع حسابك إلينا، وخبرنا من زارك أمس وألهاك، وأي شيءٍ كانت القصة على جهتها.ولا تخطرف فتحوجنا إلى كشفك والبحث عليك وعن حالك، وقل الحق، فمن صدق نجا.وما أحوجك إلى تأديبٍ، فإنك لا تحسن أن تود.والحق أقول إنه يعتريك كزازٌ شديدٌ يجوز حد البرد.وكفاك بهذا من قولي عقوبةً.وإن عدت سمعت أكثر منه.والسلام. ولما نكب عبد الله بن يحيى بن خاقان ابن المدبر وحبسه، كتبت إليه كتاباً تتشوقه وتخبره استيحاشها له واهتمامها بأمره، وأنها قد سألت الخليفة في أمره فوعدها ما تحب.فأجابها عن كتابها، وكتب في آخر الجواب:
لعمرك ما صوتٌ بديعٌ لمعبدٍ
بأحسن عندي من كتاب عريب
تأملت في أثنائه خط كاتبٍ
ورقة مشتاقٍ ولفظ خطيب
وراجعني من وصلها ما استفزني
وزهدني في وصل كل حبيب
فصرت لها عبداً مقراً بملكها
ومستمسكاً بودها بنصيب
وقال أبو عبد الله بن حمدون: اجتمعت أنا وإبراهيم المدبر وابن ميادة.القاسم بن زرزر في بستانٍ بالمطيرة في يوم غيمٍ ورذاذٍ يقطر أحسن قطرٍ ونحن في أطيب عيشٍ وأحسن يوم، فلم نشعر إلا بعريبٍ قد أقبلت من بعيد، فوثب إبراهيم من بيننا فخرج حافياً حتى تلقاها، وأخذ بركابها حتى نزلت، وقبل الأرض بين يديها.وكانت قد هجرته مدةً لشيءٍ أنكرته عليه.فجاءت وجلست وأقبلت عليه مبتسمة، ثم قالت: إنما جئت إلى من هاهنا لا إليك.فاعتذر وشفعنا له فرضيت.وأقامت عندنا يومئذٍ وباتت، واصطبحنا من غدٍ وأقامت عندنا.فقال إبراهيم:
بأبي من حقق الظن به
وأتانا زائراً مبتدياً
كان كالغيث تراخى مدةً
وأتى بعد قنوطٍ مرويا
طاب لنا يومان في قربه
بعد شهرين لهجرٍ مضيا
فأقر الله عيني وشفى
سقماً كان لجسمي مبلياً
وقال فيها أيضاً:
ألا يا عريب وقيت الردى
وجنبك الله صرف الزمن
فإنك أصبحت زين النساء
وواحدة الناس في كل فن
فقربك يدنيني لذيذ الحياة
وبعدك ينفي لذيذ الوسن
فنعم الأنيس ونعم الجليس
ونعم السمير ونعم السكن
وقال أيضاً فيها وفي جاريتها بدعة وتحفة:
إن عريباً خلقت وحدها
في كل ما يحسن من أمرها
ونعمةٍ لله في خلقه
يقصر العالم في شكرها
أشهدني جاريتها على
أنهما محسنتا دهرها
فبدعةٌ تبدع في شجوها
وتحفةٌ تتحف في زمرها
يا رب أمتعها بما خولت
وامدد لها يا رب في عمرها
وقال علي بن العباس بن طلحة الكاتب: كنت عند إبراهيم المدبر، فزارته بدعة وتحفة، وأخرجتا رقعةً من عريب، فقرأها فإذا فيها: بنفسي أنت وسمعي وبصري، وقل ذلك لك.أصبح يومنا هذا طيباً - طيب الله عيشك - قد احتجبت سماؤه، ورق هواؤه، وتكامل صفاؤه، وكأنه أنت في رقة شمائلك وطيب محضرك ومخبرك، لا فقدت ذلك أبداً منك ! ولم يصادف حسنه وطيبه منا نشاطاً ولا طرباً لأمورٍ صدتني عن ذلك، أكره تنغيص ما أشتهيه لك من السرور بشرحها.وقد بعثت إليك ببدعةٍ وتحفةٍ ليؤنساك وتسر بهما، سرك الله وسرني بك !.فكتب إليها:
كيف السرور وأنت نازحةٌ
عني ! وكيف يسوغ لي الطرب !
إن غبت غاب العيش وانقطعت
أسبابه وألحت الكرب
وأنفذ الجواب إليها.فلم تلبث أن جاءت على حمارٍ مصري، فبادر إليها وتلقاها حافياً حتى جاء بها إلى صدر المجلس، يطأ الحمار بساطه وما عليه، حتى أخذ بركابها فأجلسها في مجلسه وجلس بين يديها.ثم قال:
ألا رب يومٍ قصر الله طوله
بقرب عريبٍ، حبذا هو من قرب
بها تحسن الدنيا وينعم عيشها
وتجتمع للسراء للعين والقلب
وقال إبراهيم بن اليزيدي: كنت مع المأمون في بلد الروم.فبينما أنا أسير في ليلةٍ مظلمةٍ شاتيةٍ ذات غيمٍ وريحٍ وغلى جانبي قبة، إذ برقت برقةٌ فإذا بالقبة عريب.فقالت: يا إبراهيم بن اليزيدي.فقلت: لبيك ! قالت: قل في هذا البرق أبياتاً ملاحاً لأغني فيها.فقلت:
ماذا بقلبي أليم الخفق
إذا رأيت لمعان البرق
من قبل الأردن أو دمشق
لأن من أهوى بذاك الأفق
فارقته وهو أعز الخلق
علي والزور خلاف الحق
ذاك الذي يملك مني رقي
ولست أبغي ما حييت عتقي
فتنفست نفساً ظننته قد قطع حياز يمها، فقلت: ويحك ! على من هذا التنفس ؟ فضحكت ثم قالت: على الوطن.فقلت هيهات ! ليس هذا كله على الوطن.فقالت: ويلك ! أظننت أنك تستفزني ! والله لقد نظرت نظرةً مريبةً في مجلسٍ فادعاها أكثر من ثلاثين رئيساً، والله ما علم أحدٌ منهم لمن كانت إلى هذا الوقت. وقال أبو العبيس بن حمدون: غضبت عريبٌ على بعض جواريها، فجئت إليها وسألتها أن تعفو عنها، فقالت - في بعض ما تقوله مما تعتد به عليها من ذنوبها -: يا أبا العباس، إن كنت تشتهي أن ترى زناي وصفاقة وجهي وجرأتي على كل عظيمةٍ أيام شبابي، فانظر إليها واعرف أخبارها.فقال: وكانت في شبابها يقدم إليها البرذون فتطفر عليه بلا ركاب. وقال أبو العباس بن الفرات: حدثتني بدعة جارية عريب: أن عريب كانت تجد في رأسها برداً وكانت تغلف رأسها بستين مثقالاً مسكاً وعنبراً، وتغسله من جمعةٍ إلى جمعة، فإذا غسلته جددت غيره، وتقتسم الجواري غسالة رأسها. وقال علي بن المنجم: دخلت يوماً على عريب مسلماً عليها، فلما جلست هطلت السماء بمطرٍ عظيم.فقالت: أقم عندي اليوم حتى أغنيك أنا وجواري، وابعث إلى من أحببت من إخوانك، فأمرت بدوابي فردت، وجلسنا نتحدث.فسألتني عن خبرنا بالأمس في مجلس الخليفة ومن كان يغنينا، وأي شيءٍ استحسناه من الغناء.فأخبرتها أن صوت الخليفة كان لحناً صنعه بنان من الماخوري.فقالت: وما هو ؟ فقلت:
تجافي ثم تنطبق
جفونٌ حشوها الأرق
وذي كلفٍ بكى جزعاً
وسفر القوم منطلق
به قلقٌ يململه
وكان ما به قلق
جوانحه على خطرٍ
بنار الشوق تحترق
فوجهت رسولاً إلى بنان، فحضر وقد بلته السماء، فأمرت بخلعٍ فاخرةٍ فخلعت عليه، وقدم له طعامٌ فأكل، وجلس يشرب معنا.فسألته عن الصوت فغناه إياه.فأخذت دواةً ورقعةً وكتبت:
أجاب الوابل الغدق
وصاح النرجس الغرق
وقد غنى بنان لنا:
جفونٌ حشوها الأرق
فهاك الكأس مترعةً
كأن ختامها حدق
قال: فما شربنا بقية يومنا إلا على هذه الأبيات. وأخبار عريب كثيرةٌ، قد وضع عبد الله بن المعتز فيها ديواناً.وفيما أوردناه من أخبارها كفايةٌ لا تحتمل المختصرات أكثر منها.والله تعالى أعلم.