أخبار علويه
هو أبو الحسن علي بن عبد الله بن سيف.وجده سيف من الصغد الذين سابهم الوليد بن عثمان بن عفان واسترق منهم جماعةً اختصهم لخدمته وأعتق بعضهم ولم يعتق الباقين فقتلوه.قال أبو الفرج الأصفهاني: وكان عليٌ هذا مغنياً حاذقاً، ومؤدباً محسناً، وصانعاً متقناً، وضارباً متقدماً، مع خفة روحٍ وطيب مجالسةٍ وملاحة نوادر.وكان إبراهيم الموصلي علمه وخرجه وعني بتحذيقه جداً، فبرع وغنى لمحمد الأمين وعاش إلى أيام المتوكل ومات بعد إسحاق الموصلي بيسير.وكان سبب وفاته أنه خرج عليه جربٌ، فشكاه إلى يحيى بن ماسويه، فبعث إليه بدواءٍ مسهلٍ وطلاء، فشرب الطلاء وأطلى بالدواء، فقتله ذلك.قال: وكان علويه أعسر، فكان عوده مقلوب الأوتار: ألبم أسفل الأوتار كلها ثم المثلث فوقه ثم المثنى ثم الزير، فكان عوده إذا كان في يد غيره يكون مقلوباً، وإذا أخذه كان في يده اليمنى وضرب باليسرى فيكون مستوياً.وكان إسحاق يتعصب له في أكثر أوقاته على مخارق.وقال حماد ابن إسحاق: قلت لأبي: أيما أفضل عندك مخارق أم علويه ؟ فقال: يا بني، علويه أعرقهما فهماً بما يخرج من رأسه، وأعلمها بما يغنيه ويؤديه، ولو خيرت بينهما من يطارح جواري، أو شاورني من يستنصحني لما أشرت إلا بعلويه، لأنه يؤدي الغناء، وإذا صنع شيئاً صنه صنعةً محكمةً، ومخارق لتمكنه من حلقه وكثرة نغمه لا يقنع بالأخذ منه، لأنه لا يؤدي صوتاً واحداً كما أخذه ولا يغنيه مرتين غناءً واحداً لكثرة زوائده فيه، ولكنهما إذا اجتمعا عند خليفةٍ أو سوقةٍ غلب مخارق على المجلس والجائزة بطيب صوته وكثرة نغمه. وقال أبو عبد الله بن حمدون: حدثني أبي قال: اجتمعت مع إسحاق يوماً في بعض دور بني هاشم، وحضر علويه فغنى أصواتاً ثم غنى من صنعته:
ونبئت ليلى أرسلت بشفاعةٍ
إلي فهلا نفس ليلى شفيعها !
فقال له إسحاق: أحسنت أحسنت والله يا أبا الحسن ! أحسنت ما شئت ! فقام علويه من مجلسه فقبل رأس إسحاق وعينيه وجلس بين يديه وسر بقوله سروراً كثيراً، ثم قال أنت سيدي وابن سيدي وأستاذي وابن أستاذي، ولي إليك حاجةٌ.قال: قل، فوالله إني أبلغ فيها ما تحب.قال: أيما أفضل أنا عندك أم مخارق ؟ فإني أحب أن أسمع منك في هذا المعنى قولاً يؤثر ويحكيه عنك من حضر، فشرفني به.فقال إسحاق: ما منكما إلا محسنٌ مجمل، فلا ترد أن يجري في هذا شيء.قال: سألتك بحقي عليك وبتربة أبيك وبكل حق تعظمه إلا حكمت ! فقال: ويحك والله لو كنت أستجير أن أقول غير الحق لقلته فيما تحب، فأما إذا أبيت إلا ذكر ما عندي، فلو خيرت أنا من يطارح جواري ويغنيني لما اخترت غيرك، ولكنكما إذا غنيتما بين يدي خليفةٍ أو أميرٍ غلبك على إطرابه واستبد عليك بجائزته.فغضب علويه وقام وقال: أف من رضاك وغضبك !وكان الواثق بالله يقول: علويه أصح الناس صنعةً بعد إسحاق، وأطيب الناس صوتاً بعد مخارق، وأضرب الناس بعد زلزل وملاحظ، فهو مصلي كل سابق نادر وثاني كل أول، وأصل كل متقدم.وكان يقول: غناء علويه مثل نقر الطست يبقى ساعةً في السمع بعد سكوته. وقال عبد الله بن طاهر: لو اقتصرت على رجلٍ واحدٍ يغني لما اخترت سوى علويه، لأنه إن حدثني ألهاني، وإن غناني أشجاني، وإن رجعت إلى رأيه كفاني. وقال محمد بن عبد الله بن مالك: كان علويه يغني بين يدي الأمين، فغنى في بعض غنائه:
ليت هنداً أنجزتنا ما تعد
وشفت أنفسنا مما تجد
وكان الفضل بن ربيع يضطغن عليه شيئاً، فقال للأمين: إنما يعرض بك ويستبطئ المأمون في محاربته إياك، فأمر به فضرب خمسين سوطاً وجر برجله حتى أخرج، وجفاه مدة، حتى سأل كوثراً أن يترضاه له فترضاه له ورده إلى الخدمة وأمر له بخمسة آلاف درهم.فلما قدم المأمون تقرب إليه بذلك فلم يقع له بحيث يحب، وقال: إن الملك بمنزلة الأسد أو النار فلا تتعرض لما يغضبه، فإنه ربما جرى منه ما يتلفك ثم لا يقدر بعد ذلك على تلافي ما فرط منه، ثم قرب من المأمون بعد ذلك. قال علويه: أمرنا المأمون أن نباكره لنصطبح، فلقيني عبد الله بن إسماعيل المراكبي مولى عريب فقال: أيها الظالم المعتدي، أما ترحم ولا ترق ! عريبٌ هائمةٌ من الشوق إليك تدعو الله وتستحكمه عليك وتحلم بك في نومها في كل ليلةٍ ثلاث مرات.قال علويه: فقلت أم الخلافة زانية ومضيت معه.فحين دخلت قلت: أستوثق من الباب فإني أعرف الناس بفضول الحجاب، وإذا عريبٌ جالسةٌ على كرسيٍ تطبخ ثلاث قدورٍ من دجاج.فلما رأتني قامت فعانقتني وقبلتني وقالت: أي شيءٍ تشتهي ؟ فقلت: قدراً من هذه القدور، فأفرغت قدراً بيني وبينها فأكلنا، ودعت بالنبيذ فصبت رطلاً فشربت نصفه وسقتني نصفه، فما زلت أشرب حتى كدت أن أسكر.ثم قالت: يا أبا الحسن، غنيت البارحة في شعرٍ لأبي العتاهية أعجبني، أفتسمعه وتصلحه ؟ فغنت:
عذيرى من الإنسان لا إن جفوته
صفا لي ولا إن صرت طوع يديه
وإني لمشتاقٌ إلى ظل صاحبٍ
يروق ويصفو إن كدرت عليه
فصيرناه مجلسنا.وقالت: قد بقي فيه شيء، فلم أزل أنا وهي حتى أصلحناه.ثم قالت: أحب أن تغني أنت أيضاً فيه لحناً ففعلت، وجعلنا نشرب على اللحنين ثلاثاً.ثم جاء الحجاب فكسروا الباب واستخرجوني، فدخلت على المأمون فأقبلت أرقص من أقصى الإيوان وأصفق وأغني بالصوت، فسمع المغنون والمأمون ما لم يعرفوه فاستطرفوه، وقال المأمون: ادن يا علويه وردده، فرددته عليه سبع مرات، فقال لي في آخرها عند قولي: يروق ويصفو إن كدرت عليه: يا علويه خذ الخلافة وأعطني هذا الصاحب. وقال علويه: قال إبراهيم الموصلي يوماً: إني قد صنعت صوتاً وما سمعه مني أحدٌ بعد، وقد أحببت أن أنفعك به وأرفع منك بأن ألقيه عليك وأهبه لك، ووالله ما فعلت هذا بإسحاق قط، وقد خصصتك به، فانتحله وادعه، فلست أنسبه إلى نفسي، وستكسب به مالاً.فألقى علي:
إذا كان لي شيئان يا أم مالكٍ
فإن لجاري منهما ما تخيرا
فأخذته عنه وادعيته، وسترته طول أيام الرشيد خوفاً من أن أتهم فيه وطول أيام الأمين، حتى حدث عليه ما حدث وقدم المأمون من خراسان، وكان يخرج إلى الشماسية فيتنزه، فركبت يوماً في زلالي وجئت أتبعه، فرأيت حراقة على بن هشام، فقلت للملاح: اطرح زلالي على الحراقة ففعل، واستؤذن لي فدخلت وهو يشرب مع الجواري، وما كانوا يحجبون جواريهم، فغنيته الصوت فاستحسنه جداً وطرب عليه، وقال: لمن هذا ؟ فقلت: هذا صوتٌ صنعته وأهديته لك ولم يسمعه أحدٌ قبلك، فازداد به عجباً وطرباً، وقال للجارية: خذيه عنه، فألقيته عليها حتى أخذته، فسر بذلك وطرب، وقال لي: ما أجد لك مكافأةً على هذه الهدية إلا أن أتحول عن هذه الحراقة بما فيها وأسلمه إليك، فتحول إلى أخرى وسلمت لي بخزانتها وجميع آلاتها وكل شيء فيها، فبعت ذلك بمائة ألفٍ وخمسين ألف درهم، واشتريت ضيعتي الصالحية. وقال علويه: خرج المأمون يوماً ومعه أبياتٌ قد قالها وكتبها في رقعةٍ بخط يده وهي:
خرجت إلى الصيد الظباء فصادني
هناك غزالٌ أدعج العين أحور
غزالٌ كأن البدر حل جبينه
وفي خده الشعرى المنيرة تزهر
فصاد فؤادي إذ رماني بسهمه
وسهم غزال الإنس طرف ومحجر
فيا من رأى ظبياً يصيد، ومن رأى
أخاً قنصٍ يصطاد قهراً ويقسر
قال: فغنيته فأمر لي بعشرين ألف درهم.