نهاية الأرب في فنون الأدب/أخبار عمرو بن أبي الكنات

من موسوعة الأدب العربي
اذهب إلى:تصفح، ابحث

أخبار عمرو بن أبي الكنات

قال أبو الفرج الأصفهاني: هو أبو عثمان، وقيل: أبو معاذ عمرو بن أبي الكنات، مولى بني جمح.وهو مكيٌ مغن حسن الصوت، من طبقة أبن جامع وأصحابه.وفيه يقول الشاعر:

أحسن الناس فأعلموه غناءً

رجلٌ من بني أبي الكنات

قال محمد بن عبد الله بن فروة: قلت لإسماعيل بن جامع يوماً: هل غلبك أحدٌ من المغنين قط ؟ قال: نعم، كنت ليلة ببغداد إذ جاءني رسول أمير المؤمنين هارون الرشيد فأمرني بالركوب، فركبت حتى صرت إلى الدار، فإذا أنا بالفضل بن الربيع ومعه زلزل العواد وبرصوما ؛ فسلمت وجلست يسيرا.فطلع خادمٌ فقال للفضل: هل جاء ؟ قال لا.قال: فابعث إليه.ولم يزل المغنون يدخلون واحداً واحداً حتى كنا ستةً أو سبعةً.ثم طلع الخادم فقال: هل جاء ؟ فقال لا ؛ فقال: قم فابعث في طلبه ؛ فقام فغاب غير طويلٍ فإذا هو قد جاء بعمرو بن أبي الكنات.فسلم وجلس إلى جنبي، فقال لي: من هؤلاء ؟ قلت: مغنون، هذا زلزلٌ وهذا برصوما.فقال: لأغنينك غناءً يخرق هذا السقف وتجيبه الحيطان.ثم طلع الخصى فدعا بكراسي، وخرج الجواري.فلما جلسن قال الخادم: شدوا فشدوا عيدانهم ؛ ثم قال: يغني أبن جامع، فغنيت سبعة أو ثمانية أصوات ؛ قال: أسكت، وليغن إبراهيم الموصلي ؛ فغنى مثل ذلك أو دونه ثم سكت، وغنى القوم كلهم واحدا بعد واحد حتى فرغوا.ثم قال لأبن أبي الكنات: غن ؛ فقال لزلزل: شد طبقتك فشدح ثم قال له: شد فشد، ثم أخذ العود من يده فجسه حتى وقف على الموضع الذي يريده، ثم قال: على هذا.وأبتدأ الصوت الذي أوله ألالا ؛ فوالله لقد خيل إلأي أن الحيطان تجاوبه ؛ ثم رجع النغمة فيه ؛ فطلع الخصى فقال: أسكت لا تتم الصوت فسكت.ثم قال: يجلس عمرو بن أبي الكنات وينصرف سائر المغنين ؛ فقمنا بأسوأ حال وأكسف بال، ولا والله ما زال كل واحد منا يسأل صاحبه عن كل ما يرويه من الغناء الذي أوله ألالا طمعاً في أن يعرفه وأن يوافق غناءه فما عرفه منا أحدٌ.وبات عمرو عند الرشيد ليلته وأنصرف من عنده بجوائز وصلاتٍ وطرفٍ سنية. وقال موسى بن أبي المهاجر: خرج أبن جامع وأبن أبي الكنات حين دفع الإمام من عرفة، حتى إذا كانوا بين المأزمين جلس عمرو على طرف الجبل ثم أندفع يغني، فركب الناس بعضهم بعضاً حتى صاحوا به وأستغاثوا: يا هذا، الله الله ! أسكت عنا يجز الناس ؛ فضبط أبن جامع بيده على فيه حتى مضى الناس إلى مزدلفة. قال علي بن الجهم: حدثني من أثق به قال: واقفت أبن أبي الكنات على جسر بغداد أيام الرشيد فحدثته بحديث أتصل بي عن أبن عائشة أنه وقف في الموسم في أيام هشام، فمر به بعض أصحابه فقال: ما تصنع ؟ فقال: إني لأعرف رجلا لو تكلم لحبس الناس فلم يذهب منهم أحدٌ ولم يجيء.فقلت له: من هذا الرجل ؟ قال: أنا، ثم أندفع فغنى فحبس الناس، فأضطربت المحامل ومدت الإبل أعناقها.فقال أبن أبي الكنات وكان معجبا بنفسه: أنا أفعل كما فعل وقدرتي على القلوب أكثر من قدرته.ثم أندفع فغنى الصوت الذي غنى فيه أبن عائشة، وهو:

جرت سنحاً فقلت لها أجيزي

نوىً مشمولةً فمتى اللّقاء

بنفسي من تذكرّه سقامٌ

أعالجه ومطلبه عناء

قال: فغناه، وكنا إذ ذاك على جسر بغداد، وكان على دجلة ثلاثة جسور، فأنقطعت الطرق وأمتلأت الجسور بالناس فأزدحموا عليها وأضطربت حتى خيف عليها أن تنقطع لثقل من عليها من الناس.فأخذ فأتي به الرشيد ؛ فقال له: يا عدو الله، أردت أن تفتن الناس ! قال: لا والله يا أمير المؤمنين ولكنه بلغني أن أبن عائشة فعل مثل هذا في أيام هشام، فأحببت أن يكون في أيامك مثله.فأعجبه ذلك، وأمر له بمال وأمره أن يغني فغنى ؛ فسمع شيئا لم يسمع مثله، فأحتبسه عنده شهرا يستزيده، وكل يوم يستأذن له في الأنصراف فلا يأذن له حتى تمم شهرا، وأنصرف بأموال جسيمة. وقال عثمان بن موسى: كنا على شراب يوما ومعنا عمرو بن أبي الكنات إذ قال لنا قبل طلوع الشمس: من تحبون أن يجيئكم ؟ قلنا: منصور الحجبي.فقال: أمهلوا حتى يكون الوقت الذي ينحدر فيه إلى سوق البقر، فمكثنا ساعةً ثم أندفع يغني:

أحسن الناس فأعلموه غناءً

رجلٌ من بني أبي الكنّات

عفت الدّار فالهضاب اللّواتي

بين ثور فملتقى عرفات

فلم نلبث أن رأينا منصوراً من بعد قد أقبل يركض دابته نحونا.فلما جلس إلينا قلت له: من أين علمت بنا ؟ قال: سمعت صوت عمرو وأنا في سوق البقر، فخرجت أركض دابتي حتى صرت إليكم.قال: وبيننا وبين ذلك الموضع ثلاثة أميال. وقال يحيى بن يعلى بن سعيد: بينا أنا ليلةً في منزلي في الرمضة بأسفل مكة، إذ سمعت صوت عمرو بن أبي الكنات كأنه معي، فأمرت الغلام فأسرج لي دابتي وخرجت أريده، فلم أزل أتبع الصوت حتى وجدته جالساً على الكثيب العارض ببطن عرفة يغني:

خذي العفو منّي تستديمي مودّتي

ولا تنطقي في سورتي حين أغضب

ولا تنقريني نقرة الدّفّ مرّةً

فإنّك لا تدرين كيف المغيّب

فإني رأيت الحبّ في الصدر والأذى

إذا أجتمعا لم يلبث الحب يذهب

شارك هذه الصفحة:

تابع موسوعة الأدب العربي على شبكات التواصل الإجتماعي