نهاية الأرب في فنون الأدب/أخبار عنان جارية الناطفي
أخبار عنان جارية الناطفي
قال أبو الفرج الأصفهاني: كانت عنان مولدةً من مولدات اليمامة، وبها نشأت وتأدبت، واشتراها الناطفي ورباها.وكان صفراء جميلة الوجه شكلةً مليحة الأدب والشعر سريعة البديهة، وكان فحول الشعراء يساجلونها ويعارضونها فتنتصف منهم.ولها مع أبي نواسٍ الحسن بن هانئ وغيره من الفضلاء والشعراء ماباةٌ ومراجعات، نذكر منها طرفا. قال أبو الحبش: قال لي الناطفي: لو جئت إلى عنان فطارحتها ! فعزمت على الغدو إليها، وبت ليلتي أحوك بيتين، ثم غدوت عليها فأنشدتها:
أحب الملاح البيض قلبي وربما
أحب الملاح الصفر من ولدا الحبش
بكيت على صفراء منهن مرةً
بكاءً أصاب العين مني بالعمش
فقالت عنان:
بكيت عليها إن قلبي يحبها
وإن فؤادي كالجناحين ذو رعش
تعنيتنا بالشعر لما أتيتنا
فدونك خذه محكماً يا أبا حبش
وقال مروان بن أبي حفصة: لقيني الناطفي فدعاني إلى عنان، فانطلقت معه.فدخل إليها قلبي فقال: جئتك بأشعر الناس مروان بن أبي حفصة، فوجدها عليلةً فقالت: إني عن مروان لفي شغل.فأهوى إليها بسوطٍ فضربها، وقال لي: ادخل، فدخلت وهي تبكي، فرأيت الدموع تتحدر من عينيها، فقلت:
بكت عنان فجرى دمعها
كالدر إذ يسبق من خيطه
فقالت مسرعةً:
فليت من يضربها ظالماً
تيبس يمناه على سوطه
قال مروان: فقلت: أعتق ما أملكك إن كان في الجن والإنس أشعر منها. وقال أحمد بن معاوية قال لي رجلٌ: تصفحت كتباً فوجدت فيها بيتاً جهدت جهدي أن أجد من يجيزه فلم أجد.فقال لي صديقٌ لي: عليك بعنان جارية الناطفي، فأتيتها فأنشدتها البيت وهو:
وما زال يشكو الحب حتى رأيته
تنفس من أحشائه وتكلما
فلم تلبث أن قالت:
ويبكي فأبكي رحمةً لبكائه،
إذا ما بكى دمعاً بكيت له دما
وقال موسى بن عبد الله التميمي: دخل أبو النواس على الناطفي وعنان جالسةٌ تبكي، وقد كان الناطفي ضربها، فأومأ إلى أبي نواس أن حركها بشيء، فقال أبو نواس:
عنان لو وجدت لي فإني من
عمري في آمن الرسول بما
فقالت:
فإن تمادى ولا تماديت في
قطعك حبلي أكن كمن ختما
فقال أبو نواس:
علقت من لو أتى على أنفس ال
ماضين والغابرين ما ندما
فقالت:
لو نظرت عينها إلى حجرٍ
ولد فيه فتورها سقما
وقال أبو جعفر النخعي: كان العباس بن الأحنف يهوى عنان جارية الناطفي.فجاءني يوماً فقال لي: امض بنا إلى عنان.فصرنا إليها، فرأيتها كالمهاجرة له، فجلسنا قليلاً، ثم ابتدأ العباس فقال:
قال عباسٌ وقد أج
هد من وجدٍ شديد
ليس لي صبرٌ على الهج
ر ولا لذع الصدود
لا ولا يصبر للهج
ر فؤادٌ من حديد
فقالت عنان:
من تراه كان أغنى
منك عن هذا الصدود
بعد وصلٍ لك مني
فيه إرغام الحسود !
فاتخذ للهجر إن شئ
ت فؤاداً من حديد
ما رأيناك على ما
كنت تجني بجليد
فقال عباس:
لو تجودين لصبٍ
راح ذا وجدٍ شديد
وأخي جهلٍ بما قد
كان يجني بالصدود
ليس من أحدث هجراً
لصديقٍ بسديد
ليس منه الموت إن لم
تصليه ببعيد
قال: فقلت للعباس: ويحك ! ما هذا الأمر ؟ قال: أنا جنيت على نفسي بتتايهي عليها.فلم أبرح حتى ترضيتها له. وقال الأصمعي: بعثت إلي أم جعفر أن أمير المؤمنين قد لهج بذكر هذه الجارية عنان، فإن صرفته عنها فلك حكمك.قال: فكنت أربع لأن أجد للقول فيها موضعاً فلا أجده ولا أقدم عليه هيبةً له، إذ دخلت يوماً فرأيت في وجهه أثر الغضب فانخزلت.فقال: مالك يا أصمعي ؟ قلت: رأيت في وجه أمير المؤمنين أثر الغضب، فلعن الله من أغضبه ! فقال: هذا الناطفي، والله لو لا أني لم أجر في حكمٍ قط متعمداً لجعلت على كل جبلٍ منه قطعة ! ومالي في جاريته من رأب غير الشعر.قال الأصمعي: فذكرت رسالة أم جعفر فقلت: أجل، والله ما فيها غير الشعر، أفيسر أمير المؤمنين أن يجامع الفرزدق ! فضحك حتى استلقى.واتصل قولي بأم جعفر فأزجلت لي الجائزة. وقال يعقوب بن إبراهيم: طلب الرشيد من الناطفي جاريته، فأبى أن يبيعها بأقل من مائة ألف دينار.فقال الرشيد: أعطيك مائة ألف دينارٍ على أن تأخذ الدينار بسبعة دراهم، فامتنع عليه، فأمر أن تحمل إليه.فذكروا أنها دخلت مجلسه في هيئتها، فقال الرشيد ويلك ! إن هذا قد اعتاص علي في أمرك.فقالت: ما منعك أن توفيه وترضيه ؟ فقال: ليس يقنع بما أعطيه، وأمرها بالانصراف.فتصدق الناطفي حين رجعت إليه بثلاثين ألف درهم.فلم تزل في قلب الرشيد حتى مات مولاها.فلما مات بعث الرشيد مسروراً الخادم، فأخرجها إلى باب الكرخ وأقامها على سريرٍ وعليها رداءٌ سندي قد جللها، فنودي عليها فيمن يزيد بعد أن شاور الفقهاء فيها، فقالوا: هذه كبدٌ رطبة وعلى الرجل دين، فأشاروا بيعها.وكانت تقول وهي على المصطبة: أهان الله من أهانني وأرذل من أرذلني ! فوكزها مسرورٌ بيده.وبلغ بها مسرورٌ مائتي ألف درهم، فجاء رجلٌ فقال: علي زيادة خمسةٍ وعشرين ألف درهم، فوكزه مسرور وقال: أتزيد على أمير المؤمنين ! فبلغ بها مائتين وخمسين ألف درهم وأخذ مالها.قال: ولم يكن فيها عيبٌ يعاب، فطلبوا لها عيباً لا تصيبها العين، فأوقعوا بخنصر رجلها في ظفره شيئاً.قال: وأولدها الرجل الذي اشتراها ولدين، ثم خرج بها إلى خراسان فمات هناك وماتت بعده.