نهاية الأرب في فنون الأدب/أخبار مالك بن أبي السمح

من موسوعة الأدب العربي
اذهب إلى:تصفح، ابحث

أخبار مالك بن أبي السمح

هو أبو الوليد مالك بن أبي السمح.وأسم أبي السمح جابر بن ثعلبة الطائي، وأمه قرشيةٌ من بني مخزوم ؛ وقيل: بل أم أبيه منهم ؛ وقيل فيه: مالك بن أبي السمح بن سليمان.وكان أبوه منقطعاً إلى عبد الله بن جعفر بن أبي طالب ويتيماً في حجره أوصى به أبوه إليه.وكان مالكٌ أحول طويلا.وأخذ الغناء عن جميلة ومعبد وعمر، وأدرك الدولة العباسية.وكان منقطعاً إلى بني سليمان بن علي، ومات في خلافة أبي جعفر المنصور. وروى الأصفهاني بسنده إلى الورداني، قال:كان مالك بن أبي السمح المغني من طيء، فأصابتهم حطمة في بلادهم بالجبلين، فقدمت به أمه وبإخوة له وأخواتٍ أيتامٍ لا شيء لهم.وكان يسأل الناس على باب حمزة بن الزبير.وكان معبدٌ منقطعا إلى حمزة يكون عنده في كل يوم.فسمع مالكٌ غناءه فأعجبه وأشتهاه.وكان لا يفارق باب حمزة يسمع غناء معبد إلى الليل ولا يطوف بالمدينة ولا يطلب من أحد شيئا ولا يريم موضعه، فينصرف إلى أمه ولم يكسب شيئا فتضربه، وهو مع ذلك يترنم بألحان معبد فيؤديها نغماً بغير لفظ.وجعل حمزة كلما غدا أو راح رآه ملازما لبابه ؛ فقال لغلامه يوما: أدخل هذا الغلام إلي فأدخله الغلام إليه ؛ فقال له حمزة: من أنت ؟ قال: غلام من طيء أصابتنا حطمة بالجبلين فهبطنا إليكم ومعي أمٌ لي وإخوةٌ، وإني لزمت بابك فسمعت من دارك صوتاً أعجبني ولزمت بابك من أجله.قال: فهل تعرف منه شيئا ؟ قال: أعرف لحنه كله ولا أعرف الشعر.فقال: إن كنت صادقاً إنك لفهمٌ.ودعا بمعبد فأمره أن يغني صوتا فغناه، ثم قال لمالك: هل تستطيع أن تقوله ؟ قال نعم.قال: هاته ؛ فأندفع فغناه فأدى نغمه بغير شعر، يؤدي مداته ولياته وعطفاته ونبراته ومتعلقاته لا يخرم منه حرفا.فقال لمعبد: خذ هذا الغلام إليك وخرجه فليكونن له شأنٌ.قال معبد: ولم أفعل ذلك ؟ قال: لتكون محاسنه منسوبة إليك وإلا عداك إلى غيرك فكانت محاسنه منسوبةً إليه.فقال معبد: صدق الأمير، وأنا أفعل ما أمرتني به.قال حمزة لمالك: كيف وجدت ملازمتك لبابنا ؟ قال: أرأيت إن قلت فيك غير الذي أنت له مستحق من الباطل أكنت ترضى بذلك ؟ قال لا.قال: وكذلك لا يسرك أن تحمد بما لم تفعل ؛ قال نعم.قال: فوالله ما شبعت على بابك شبعةً قط، ولا أنقلبت إلى أهلي منه بخير.فأمر له ولأمه ولإخوته بمنزل وأجرى عليهم رزقاً وكسوةً وأمر لهم بخادم يخدمهم وعبدٍ يسقيهم الماء، وأجلس مالكا معه في مجالسه، وأمر معبداً أن يطارحه فلم ينشب أن مهر.فخرج مالك يوما فسمع أمرأة تنوح على زيادة الذي قتله هدبة بن خشرم والشعر لأخي زيادة:

أبعد الذي بالنّعف نعف كويكب

رهينة رمسٍ ذي ترابٍ وجندل

أذكّر بالبقيا على من أصابني

وذلك أنّي جاهدٌ غير مؤتلي

فلا يدعني قومي لزيد بن مالكٍ

لئن لم أعجّل ضربةً أو أعجّل

وإلاّ أنل ثأري من اليوم أو غدٍ

بني عمّنا فالدّهر ذو متطوّل

أنختم علينا كلكل الحرب مرةً

بني عمّ نا منيخوها عليكم بكلكل

فغنى في هذا الشعر لحنين، أحدهما نحا فيه نحو المرأة في نوحها ورققه وأصلحه، والآخر نحا فيه نحو معبد في غنائه.ثم دخل على حمزة فقال له: أيها الأمير، إني قد صنعت غناءً في شعر سمعت أهل المدينة ينشدونه وقد أعجبني، فإن أذن الأمير غنيته.قال: هات ؛ فغنى اللحن الذي نحا فيه نحو معبدٍ ؛ فطرب حمزة وقال: أحسنت يا غلام، هذا الغناء غناء معبدٍ بطريقته.قال: لا تعجل أيها الأمير وأسمع مني شيئاً ليس من غناء معبد ولا طريقته ؛ فغناء اللحن الذي تشبه فيه بنوح المرأة.فطرب حمزة حتى ألقي عليه حلةً كانت عليه قيمتها مائتا دينار.ودخل معبدٌ فرأى حلة حمزة على مالكٍ فأنكرها.وعلم حمزة بذلك فأخبر معبداً بالسبب، وأمر مالكا فغناه الصوتين.فغضب معبد لما سمع الصوت الأول وقال: قد كرهت أن آخذ هذا الغلام فيتعلم غنائي فيدعيه لنفسه.فقال حمزة: لا تعجل وأسمع غناءً صنعه ليس من شأنك ولا غنائك، وأمره أن يغني الصوت الآخر فغناه، فأطرق معبدٌ.فقال له حمزة: والله لو أنفرد بهذا لضاهاك ثم تزايد على الأيام، وكلما كبر وزاد شخت أنت وأنتقصت، فلأن يكون منسوباً إليك أجمل.فقال له معبدٌ وهو منكسر: صدق الأمير.فأمر حمزة لمعبدٍ بخلعة من ثيابه وجائزة حتى سكن وطابت نفسه.فقام مالكٌ على رجليه وقبل رأس معبد وقال له: يا أبا عباد، أساءك لما سمعت مني ؟ والله لا أغني لنفسي شيئا أبداً ما دمت حياً وإن غلبتني نفسي فغنيت في شعر أستحسنته لا نسبته إلا إليك، فطب نفسا وأرض عني.فقال له معبد: أتفعل هذا وتفي به ؟ قال: إي والله وأزيد.فكان مالك إذا غنى صوتاً وسئل عنه قال: هذا لمعبد، ما غنيت لنفسي شيئاً قط، وإنما آخذ غناء معبد فأنقله إلى الأشعار وأحسنه وأزيد فيه وأنقص منه.وحضر مالكٌ بن أبي السمح عند يزيد بن عبد الملك مع معبد وأبن عائشة فغنوه، فأمر لكل واحد منهم بألف دينار. وحكى عن أبن الكلبي قال: قال الوليد بن يزيد لمعبد:قد آذتني ولولتك هذه، وقال لأبن عائشة: قد آذاني استهلالك هذا، فاطلبا لي رجلا يكون مذهبه متوسطا بين مذهبيكما.فقالا له: مالك بن أبي السمح ؛ فكتب في إشخاصه إليه وسائر من بالحجاز من المغنين.فلما قدم مالك على الوليد بن يزيد فيمن معه نزل على الغمر بن يزيد، فأدخله على الوليد فغناه فلم يعجبه.فلما أنصرف قال له الغمر: إن أمير المؤمنين لم يعجبه شيءٌ من غنائك، فقال له: جعلني الله فداك ! اطلب لي الإذن عليه مرة أخرى، فإن أعجبه شيءٌ مما أغنيه وإلا انصرفت إلى بلادي.فلما جلس الوليد في مجلس اللهو ذكره الغمر له ؛ فأذن له فشرب مالكٌ ثلاث صراحيات صرفا، ودخل على الوليد وهو يخطر في مشيئته، فلما بلغ باب المجلس وقف ولم يسلم وأخذ بحلقة الباب ثم رفع صوته فغنى:

لا عيش إلا بمالك بن أبي السّمح

فلا تلحني ولا تلم

أبيض كالبدر أو كما يلمع ال

بارق في حالك من الظّلم

فليس يعصيك إن رشدت ولا

يهتك حقّ الإسلام والحرم

يصيب من لذّة الكرام ولا

يجهل آي الترخيص في اللّمم

يا ربّ ليلٍ لنا كحاشية ال

برد ويومٍ كذاك لم يدم

نعمت فيه ومالك بن أبي السّمح

الكريم الأخلاق والشّيم

فطرب الوليد ورفع يديه حتى بان إبطاه وقام فأعتنقه، ثم أخذ في صوته ذلك فم يزالوا فيه أياما، وأجزل له العطية حين أراد الأنصراف.قال: ولما أتى مالكٌ على قوله: أبيض كالبدر قال الوليد:

أحول كالقرد أو كما يرقب السّارق

في حالكٍ من الظّلم

قالوا: وكان مالك بن أبي السمح مع الوليد بن يزيد يوم قتل هو وابن عائشة.قال ابن عائشة: وكان مالكٌ من أحمق الخلق، فلما قتل الوليد قال: اهرب بنا ؛ قلت: وما يريدون منا ؟ قال: وما يؤمنك أن يأخذوا رأسينا فيجعلوا رأسه بينهما ليحسنوا أمرهم بذلك.

شارك هذه الصفحة:

تابع موسوعة الأدب العربي على شبكات التواصل الإجتماعي