أخبار متيم الهشامية
قال أبو الفرج: كانت متيم مولدةً صفراء من مولدات البصرة، وبها نشأت وتدربت وغنت.وأخذت عن إسحاق وأبيه قبله وعن طبقتهما من المغنين.وكانت من تخريج بذلٍ وتعليمها.واشتراها علي ابن هشام بعد ذلك فازدادت أخذاً ممن كان يغشاه من أكابر المغنين.وكانت من أحسن الناس وجهاً وغناءً وأدباً.وكانت تقول: الشعر ليس مما يستجاد ولكنه يستحسن من مثلها.وحظيت عند علي بن هشام حظوةً شديدةً، وتقدمت جواريه جمع عنده، وهي أم ولده كلهم. حكى أبو الفرج قال: كان عند علي بن هشام برذونٌ أشهب قرطاسيٌ في نهايته الحسن والفراهة وكان به معجباً، وكان إسحاق بن إبراهيم يشتهيه شهوةً شديدةً ويعرض لعليٍ مراراً في طلبه فلم يسمح به.فسار إسحاق إلى عليٍ يوماً وقد صنعت متيم:
فلا زلن حسرة ظلعاً، لم حملنها
إلى بلدٍ ناءٍ قليل الأصادق
فاحتبسه عليٌ بعث إلى متيمٍ يأمرها أن تجعل صوتها في صدر غنائها ففعلت، فأطربت إسحاق إطراباً شديداً، وجعل يستعيده ويستوفيه ليزيد في طربه وهو يصغي إليه ويتفهمه حتى صح له.ثم قال لعليٍ: ما فعل البرذون الأشهب ؟ قال: على ما عهدت من حسنه وفراهته.قال: اختر الآن مني خلةً من اثنتين: إما أن طبت لي نفساً به وحملتني عليه، وإما أن أبيت فأدعي والله هذا الصوت لي وقد أخذته، أفتراك تقول: إنه لمتيم وأقول: إنه لي، فيؤخذ قولك ويترك قولي ؟ فقال: لا والله ما أظن هذا ولا أراه، يا غلام، قد البرذون إلى منزل إسحاق، لا بارك الله لك فيه !. وحكى أن علي بن هشام مولاها كلمها بشيءٍ فأجابته جواباً لم يرضه، فدفع يده في صدرها، فغضبت ونهضت وتثاقلت عن الخروج إليه.فكتب إليها:
فليت يدي بانت غداة مددتها
إليك ولم ترجع بكفٍ وساعد
فإن يرجع الرحمن ما كان بيننا
فلست إلى يوم التنادي بعائد
قال: وعتبت عليه مرةً فتمادى عتبها، فترضاها فلم ترض، فكتب إليها: الإدلال يدعو إلى الملال، ورب هجرٍ دعا إلى صبرٍ، وإنما سمي القلب قلباً لتقلبه، وقد صدق عندي العباس بن الأحنف حيث يقول:
ما أراني إلا سأهجر من لي
س يراني أقوى على الهجران
ملني واثقاً بحسن وفائي
ما أضر الوفاء بالإنسان
قال: فخرجت إليه من وقتها ورضيت. وروى عن يحيى المكي قال: قال لي علي بن هشام: لما قدمت جدتي شاهك من خراسان، قالت: اعرض جواريك علي، فعرضتهن عليها.ثم جلسنا على الشراب وغنتنا متيم، فأطالت جدتي الجلوس، فلم أنبسط إلى جواري كما كنت أفعل، فقلت هذين البيتين:
أنبقى على هذا وأنت قريبةٌ
وقد منع الزوار بعض التكلم
سلامٌ عليكم لا سلام مودعٍ
ولكن سلامٌ من حبيبٍ متيم
وكتبت بهما في رقعةٍ ورميتها إلى متيم، فأخذتها ونهضت لصلاة الظهر، ثم عادت وقد صنعت فيه لحناً فغنته.فقالت شاهك: ما أرانا إلا قد ثقلنا عليكم اليوم، وأمرت الجواري فحملوا محفتها، وأمرت للجواري بجوائز ساوت بينهن، وأمرت لمتيم بمائة ألف درهم. قال: ومرت متيم في نسوةٍ وهي متخفيةٌ بقصر علي بن هشام بعد أن قتله المأمون.فلما رأت بابه مغلقاً لا أنيس به وقد علاه التراب والغبرة وطرحت في أفنيته المزابل وقفت عليه وتمثلت:
يا منزلاً لم تبل أطلاله
حاشى لأطلالك أن تبلى
لم أبك أطلالك لكنني
بكيت عيشي فيك إذ ولى
قد كان لي فيك هوىً مرةً
غيبه الترب وما ملا
فصرت أبكي بعده جاهداً
عند ادكاري حيث قد حلا
والعيش أولى ما بكاه الفتى
لا بد للمحزون أن يسلى
قال: ثم بكت حتى سقطت من قامتها، وجعل النسوة يناشدنها ويقلن: الله الله في نفسك ! فإنك الآن تؤخذين.فبعد لأي ما احتملت تتهادى بين امرأتين حتى تجاوزت الموضع. وحكي عنها قالت: بعث إلي المعتصم بعد قدومه بغداد، فلما دخلت أمر بالعود فوضع في حجري، وأمرني بالغناء فغنيت:
هل مسعدٌ لبكائي
بعبرةٍ أو دماء
وذاك شيءٌ قليلٌ
لسادتي النجباء
- وهذا الشعر لمراد جارية علي بن هشام ترثيه - فقال: اعدلي عن هذا الصوت، فغنيت:
ذهبت عن الدنيا وقد ذهبت عني
فدمعت عيناه وقال: غني غير هذا، فغنيت:
أولئك قومي بعد عزٍ وثروةٍ
تفانوا فإلا تذرف العين أكمد
فبكى بكاءً شديداً، ثم قال: ويحك ! لا تغني في هذا المعنى شيئاً.فغنيته:
لا تأمن الموت في حلٍ وفي حرم
إن المنايا يجني كل إنسان
واسلك طريقك هوناً غير مكترثٍ
فسوف يأتيك ما يمني لك الماني
فقال: والله إني لا أعلم أنك أردت بما غنيت ما في قلبك لصاحبك وأنك لم تريديني، ولو أعلم أنك تريدينني لقتلك، ولكن خذوها ! فأخذوا بيدي فأخرجت.وهذه متيم هي التي كان يهواها عبد الصمد بن المعذل، وأظن ذلك قبل اتصالها بعلي بن هشام، وهي إذ ذاك عند رجلٍ من وجوه البصرة. قال: وكانت لا تخرج إلا متنقبة.فحكى المبرد وغيره: أنها قدمت يوماً إلى ابن عبيد الله بن الحسين العنبري القاضي، فاحتاج إلى أن يشهد عليها، فأمر بها أن تسفر ففعلت.فقيل لعبد الصمد: أو رأيت متيم وقد أسفرها القاضي لرأيت شيئاً عجيباً ! فقال:
ولما سرت عنها القناع متيمٌ
تروح منها العنبري متيما
رأى ابن عبيد الله وهو محكمٌ
عليها لها طرفاً عليه محكما
وكان قديماً كالح الوجه عابساً
فلما رأى منها السفور تبسما
فإن يصب قلب العنبري فقبله
صبا باليتامى قلب يحيى بن أكثما
فبلغ قوله يحيى بن أكثم، فكتب إليه: عليك لعنة الله ! أي شيءٍ أردت مني حتى أتاني شرك من البصرة ! فقال لرسوله: قل له: متيم أقعدتك على طريق القافية.