أخبار محبوبة
قال أبو الفرج: كانت مولدةً من مولدات البصرة، شاعرةً، سريعة الخاطر، مطبوعةً، لا تكاد فضل الشاعرة اليمانية تتقدمها، وكانت أجمل من فضلٍ وأعف، وكانت تغني غناءً غير فاخر. وقال علي بن الجهم: كانت محبوبة لعبد الله بن طاهر أهداها إلى المتوكل في جملة أربعمائة جارية.وكانت بارعة الحسن والظرف والأدب، مغنيةً محسنةً، فحظيت عند المتوكل حتى كان يجلسها خاف الستارة وراء ظهره إذا جلس للشرب، فيدخل رأيه إليها فيراها ويحدثها في كل ساعة. وقال علي بن يحيى المنجم: كان علي بن الجهم يقرب من أنس المتوكل جداً، فلا يكتمه شيئاً من سره مع حرمه وأحاديث خلواته.فقال له يوماً: إني دخلت على قبيحة فوجدتها قد كتبت اسمي على خدها بغالية، فلا والله ما رأيت شيئاً أحسن من سواد تلك الغالية على بياض ذلك الخد، فقل في هذا شيئاً - قال: وكانت محبوبةً حاضرة الكلام من وراء الستارة - فدعا علي بن الجهم بدواة، فإلى أن أتي بها وابتدأ يفكر قالت محبوبة على البديهة من غير فكرة ولا روية:
وكاتبةٍ في الخد بالمسك جعفرا
بنفسي مخط المسك من حيث أثرا
لئن كتبت في الخد سطراً بكفها
لقد أودعت قلبي من الحب أسطرا
فيا من لملوكٍ لملك يمينه
مطيعٌ له فيما أسر وأظهرا !
ويا من هواها في السريرة جعفرٌ
سقى الله من سقيا ثناياك جعفرا
قال: فبقى علي الجهم واجماً لا ينطق بحرف، وأمر المتوكل بالأبيات فبعث إلى عريبٍ وأمرها أن تغني فيها.قال علي بن الجهم: فتحيرت والله وتقلبت خواطري، فو الله ما قدرت على حرفٍ واحدٍ أقوله. وقال أيضاً: غاضب المتوكل يوماً محبوبة وهجرها ومنع جواريها جميعاً من كلامها، ثم نازعته نفسه إليها وأراد ذلك، ثم نازعته العزة منها وامتنع من ابتدائها، وامتنعت من ابتدائه دلالاً عليه لمحلها منه.قال علي: فبكرت إليه يوماً، فقال لي: يا علي، إني رأيت البارحة في نومي كأني صالحت محبوبة.فقلت: أقر الله عينك يا أمير المؤمنين وأنامك على خيرٍ وأيقظك على سرورٍ ! أرجو أن يكون هذا الصلح في اليقظة.فبينا هو يحدثني وأحدثه إذا بوصيفةٍ قد جاءت فأسرت إليه شيئاً، فقال: أتدري ما أسرت إلي هذه ؟ قلت: لا.قال: حدثتني أنها اجتازت بمحبوبة الساعة وهي في حجرتها تغني، أفلا تعجب من هذا ؟ أنا مغاضبها وهي متهاونةٌ بذلك، لا تبدؤني بصلحٍ ثم لا ترضى حتى تغني في حجرتها، فقم بنا نسمع ما تغنني.ثم قام وتبعته حتى انتهى إلى حجرتها، وإذا هي تغني:
أدور في القصر لا أرى أحداً
أشكو إليه ولا يكلمني
حتى كأني أتيت معصيةً
ليست لها توبةٌ تخلصني
فهل لنا شافعٌ إلى ملكٍ
قد زراني في الكرى وصالحني
حتى إذا ما الصباح لاح لنا
عاد إلى هجره فصارمني
فعجب المتوكل، وأحست بمكانه فأمرت بخدمها فخرجوا وتنحينا، وخرجت إليه فحدثته أنها رأته في منامها فانتبهت وقالت هذه الأبيات وغنت فيها، فحدثها هو أيضاً رؤياه واصطلحا.فلما قتل المتوكل سلاه جميع جواريه غيرها، فإنها لم تزل حزينةً هاجرةً لكل لذةٍ حتى ماتت.ولها فيه ميراث. حكى أبو الفرج: أن وصيفاً بعد قتل المتوكل أحضرها يوماً وأحضر الجواري، فجئن وعليهن الثياب الملونة المذهبة والحلي وقد تزين وتعطرن، وجاءت محبوبة وعليها ثيابٌ بيضٌ غير فاخرةٍ حزناً على المتوكل.فغنى الجواري جميعاً وشربن، وطرب وصيف وشرب.ثم قال: يا محبوبة، غني، فأخذت العود وغنت وهي تبكي:
أي عيشٍ يطيب لي
لا أرى فيها جعفرا
ملكاً قد رأته عي
ني قتيلاً معفرا
كل من كان ذا هيا
م وحزنٍ فقد برا
غير محبوبة التي
لو ترى الموت يشترى
لاشترته بملكها
كل هذا لتقبرا
إن موت الكثيب أص
لح من أن يعمرا
فاشتد ذلك على وصيفٍ وأمر بقتلها، فاستوهبها بغا منه فوهبها له.فأعتقها وأمر بإخراجها وأن تكون حيث تختار من البلاد.فخرجت إلى بغداد من سر من رأى، وأخملت ذكرها طول عمرها، وما طمع فيها أحد.رحمها الله تعالى.