نهاية الأرب في فنون الأدب/أخبار محمد بن عائشة

من موسوعة الأدب العربي
اذهب إلى:تصفح، ابحث

أخبار محمد بن عائشة

يكنى أبا جعفر ولم يكن له أبٌ يعرف فنسب إلى أمه ؛ وكان يزعم أن أسم أبيه جعفر.وعائشة أمه مولاةٌ لكثير بن الصلت الكندي حليف قريش، وقيل: هي مولاة لآل المطلب بن أبي وداعة السهمي.وقال أبن عائشة وقد سأله الوليد بن يزيد فقال: يا محمد ألبغيةٍ أنت ؟: كانت أمي يا أمير المؤمنين ماشطةً وكنت غلاما، وكانت إذا دخلت إلى موضع قالت: أرفعوا هذا لأبن عائشة، فغلبت على نسبي.قالوا: وكان أبن عائشة يفتن كل من سمعه، وكان فتيان من المدينة قد فسدوا في زمانه بمحادثته ومجالسته.وأخذ عن معبد ومالك بن أبي السمح، ولم يموتا حتى ساواهما على تقديمه لهما وأعترافه بفضلهما.وكان تياهاً سيئ الخلق، إن قال له إنسان: تغن قال: ألمثلي يقال هذا ! فإن غنى وقال له إنسان: أحسنت، سكت ؛ فكان قليلا ما ينتفع به. وكان أبن عائشة منقطعاً إلى الحسن بن الحسن، وكان الحسن مكرما له.فسأله الحسن أن يخرج معه إلى البغيبغة، فأمتنع أبن عائشة، فأقسم عليه وأظهر الجد.فلما عاين ما ظهر عليه قال: أخرج طائعا لا كارها ؛ فأمر له ببغلة فركبها ومضيا إلى البغيبغة، فنزلا الشعب ثم أكلوا.وقال له: غنني، فأندفع فغناه صوتا فأستحسنه.فقال ابن عائشة: والله لا غنيتك في يومي هذا شيئا.فأقسم الحسن ألا يفارق البغيبغة ثلاثة أيام.فأغتم أبن عائشة ليمينه وندم.فلما كان في اليوم الثاني قال له: إن فقد برت يمينك ؛ فنظر إلى ناقةٍ تقدم جماعة إبلٍ فأندفع يغني:

تمرّ كجندلة المنجني

ق يرمي بها السّور يوم القتال

وهي أبيات لأمية بن أبي عائذ الهذلي يصف حمارا وحشياً ؛ والبيت يمر بالياء.وقيل: سال العقيق مرةً فدخل عرصة سعيد بن العاص الماء حتى ملأها، فخرج الناس إليها، وخرج أبن عائشة فجلس على قرن البئر.فبينما هم كذلك إذ طلع الحسن على بغلة ومعه غلامان أسودان، فقال لهما: امضيا رويدا حتى تقفا بأصل القرن الذي عليه أبن عائشة، ففعلا ذلك.ثم ناداه الحسن: كيف أصبحت يا بن عائشة قال: بخير.قال: أنظر من تحتك، فنظر فإذا العبدان.قال: أتعرفهما ؟ قال نعم.قال: فهما حران لئن لم تغنني مائة صوت لآمرنهما بطرحك في البئر، وهما حران لئن لم يفعلا لأقطعن أيديهما.فأندفع أبن عائشة وغنى بشعر الهذلي:

ألا لله درّك من

فتى قومٍ إذا رهبوا

وقالوا من فتىً للحر

ب يرقبنا ويرتقب

فكنت فتاهم فيها

إذا تدعى لها تثب

ذكرت أخي فعاودني

صداع الرأس والوصب

كما يعتاد ذات البوّ

بعد سلوّها الطّرب

على عبد بن زهرة بتّ

طول الليل أنتحب

وروى أبو الفرج الأصفهاني ببسند رفيه إلى حماد الراوية:أن الوليد بن يزيد أستقدمه من العراق إلى الشام على دواب البريد.وكان مما حكاه عنه قال: قدمت عليه فأذن لي، فدخلت فإذا هو على سريرٍ ممهد وعليه ثوبان أصفران وعنده معبدٌ ومالك بن أبي السمح وأبو كامل مولاه، فأستنشدني:

أمن المنون وريبها تتوجّع

فأنشدته حتى أتيت على آخرها.ثم قال: يا مالك، غنني:

ألا هل هاجك الأظعا

ن إذ جاوزن مطّلحا

فغناه.ثم قال: غنني:

جلا أميّة عنّي كلّ مظلمةٍ

سهل الحجاب وأوفى بالذي وعدا

فغناه.ثم قال: غنني:

أتنسى إذ تودّعنا سليمى

بفرع بشامةٍ، سقي البشام !

فغناه ؛ ثم أتاه الحاجب فقال: يا أمير المؤمنين، الرجل الذي طلبت بالباب، فأذن له فدخل شابٌ لم أر أحسن وجهاً منه.فقال له: غنني:

وهي إذ ذاك عليها مئزرٌ

ولها بيت جوارٍ من لعب

فغناه، فنبذ إليه الثوبين، ثم قال: غنني:

طاف الخيال فمرحبا

ألفاً برؤية زينبا

فغضب معبدٌ وقال: يا أمير المؤمنين، إنا مقبلون عليك بأقدارنا وأسناننا وإنك تركتنا بمزجر الكلب وأقبلت على هذا الصبي.فقال: يا أبا عباد، ما جهلت قدرك ولا سنك، ولكن هذا الغلام طرحني في مثل الطناجير من حرارة غنائه.قال حماد: فسألت عن الغلام فقيل لي: هو أبن عائشة. وحكى عن شيخ من تنوخ قال: كنت صاحب ستر الوليد بن يزيد، فرأيت أبن عائشة عنده وقد غناه:

إني رأيت صبيحة النّفر

حوراً نفين عزيمة الصبر

مثل الكواكب في مطالعها

بعد العشاء أطفن بالبدر

وخرجت أبغي الأجر محتسبا

فرجعت موفوراً من الوزر

فطرب الوليد حتى كفر وألحد، وقال: يا غلام، أسقنا بالسماء السابعة، ثم قال: أحسنت والله يا أميري، أعد بحق عبد الشمس فأعاد، ثم قال: أحسنت يا أميري والله، أعد بحق أمية فأعاد، ثم قال: أعد بحق فلان حتى بلغ من الملوك نفسه، فقال: أعد بحياتي فأعاده ؛ فقام فأكب عليه، فلم يبق عضوٌ من أعضائه إلا قبله ؛ ثم نزع ثيابه فألقاها عليه وبقي مجردا إلى أن أتوه بمثلها، ووهب له ألف دينار وحمله على بغلة وقال: أركبها بأبي أنت وأنصرف، فقد تركتني على مثل المقلى من حرارة غنائك.فركبها على بساطه وأنصرف. وحكى أيضا أن أبن عائشة أنصرف من عند الوليد وقد غناه:

أبعدك معقلاً أرجو وحصناً

قد أعيتني المعاقل والحصون

فأمر له بثلاثين ألف درهم وبمثل كارة القصار كسوةً.فبينا أبن عائشة يسير إذ نظر إليه رجلٌ من أهل وادي القرى، وكان يشتهي الغناء ويشرب النبيذ، فقال لغلامه: من هذا الراكب ؟ قال: أبن عائشة المغني، فدنا منه فقال: جعلت فداءك ! أنت أبن عائشة أم المؤمنين ؟ قال: لا أنا مولىً لقريش وعائشة أمي، وحسبك هذا.قال: وما هذا الذي أراه بين يديك من المال والكسوة ؟ قال: غنيت أمير المؤمنين صوتا فأطربه فكفر وترك الصلاة وأمر لي بهذا المال وهذه الكسوة.قال: جعلت فداءك ! فهل تمن علي أن تسمعني ما أسمعته إياه ؟ فقال: ويلك ! أمثلي يكلم بهذا في الطريق ! قال: فما أصنع ؟ قال: ألحقني بالباب.وحرك أبن عائشة بغلته لينقطع عنه، فعدا معه حتى وافيا الباب كفرسي رهانٍ.ودخل أبن عائشة فمكث طويلا طمعاً ان يضجر فينصرف، فلم يفعل حتى أعياه.فقال لغلامه: أدخله، فلما دخل، قال له: ويلك ! من أين صبك الله علي ! قال: أنا رجل من أهل وادي القرى أشتهي هذا الغناء.فقال له: هل لك فيما هو أنفع لك منه ؟ قال: وما ذاك ؟ قال: مائتا دينار وعشرة أثواب تنصرف بها إلى أهلك.فقال له: جعلت فداءك ! والله إن لي بنيةً ما في أذنها علم الله حلقةٌ من الورق فضلا عن الذهب، وإن لي زوجةً ما عليها شهد الله قميصٌ، ولو أعطيتني جميع ما أمر لك به أمير المؤمنين على هذه الحالة والفقر اللذين عرفتكهما وأضعفت لي هذا لكان الصوت أعجب إلي.فتعجب أبن عائشة وغناه الصوت، فجعل يحرك رأسه ويطرب له طرباً شديدا حتى ظن أن عنقه ستنقصف ؛ ثم خرج من عنده ولم يرزأه شيئا.وبلغ الخبر الوليد بن يزيد، فسأل أبن عائشة عنه، فجعل يغيب عن الحديث ؛ فلم يزل به حتى صدقه الحديث، طلب الرجل، فطلب حتى أحضر إليه ووصله صلةً سنيةً وجعله من ندمائه ووكله بالسقي ؛ فلم يزل معه حتى قتل رحمه الله. وعن علي بن الجهم الشاعر قال: حدثني رجل أن أبن عائشة كان واقفا بالموسم مهجرا.فمر به بعض أصحابه فقال: ما يقيمك ها هنا ؟ قال: إني أعرف رجلا لو تكلم لحبس الناس ها هنا فلم يذهب أحدٌ ولم يجئ.فقال له الرجل: ومن ذاك ؟ قال: أنا ؛ ثم أندفع يغني:

جرت سنحاً فقلت لها أجيزي

نوىً مشمولةً فمتى اللّقاء

بنفسي من تذكّره سقامٌ

أعانيه ومطلبه عناء

قال: فحبس الناس وأضطربت المحامل ومدت الإبل أعناقها، فكادت الفتنة أن تقع.فأتي به هشام بن عبد الملك، فقال له: يا عدو الله أردت أن تفتن الناس قال: فأمسك عنه وكان تياهاً ؛ فقال له هشام: ارفق بتيهك.فقال: يحق لمن كانت هذه مقدرته على القلوب أن يكون تياها ! فضحك هشامٌ وخلى سبيله. وأختلف في وفاة أبن عائشة وسببها.فقيل: كانت وفاته في أيام هشام بن عبد الملك، وقيل: في أيام الوليد بن يزيد وهو أشبه، لأنه قد تقدم أنه نادم الوليد وغناه.والذي يقول: إنه توفي في أيام هشام يزعم أنه نادم الوليد في أيام ولايته العهد.وكانت وفاته بذي خشبٍ، وهو على أميال من المدينة.قيل: كان سبب وفاته أن الغمر بن يزيد خرج إلى الشام ؛ فلما نزل قصر ذي خشبٍ جلس على سطحه، فغنى أبن عائشة صوتاً طرب له الغمر، فقال: أعده فأبى، وكان لا يردد صوتا لسوء خلقه.فأمر به فطرح من أعلى السطح فمات.وقيل: بل قام من الليل يبول وهو سكران فسقط من السطح فمات.وقيل: بل كان قد رجع من عند الوليد بن يزيد، فلما قرب من المدينة نزل بذي خشب، وكان والي المدينة إبراهيم بن هشام المخزومي وكان في قصره هناك، فدعاه فأقام عنده ذلك اليوم.فلما أخذوا في الشرب أخرج المخزومي جواريه، فنظر إلى أبن عائشة وهو يغمز جاريةً منهن ؛ فقال لخادمه: إذا خرج أبن عائشة يريد حاجته فأرم به من القصر، وكانوا يشربون في سطح القصر.فلما قام رماه الخادم فمات.وقيل: بل أقبل من الشام فنزل بقصر ذي خشب فشرب فيه ثم صعد إلى أعلى القصر فنظر إلى نسوة يمشين في ناحية الوادي، فقال لأصحابه: هل لكم فيهن ؟ فقالوا: وكيف لنا بهن ! فلبس ملاءةً مدلوكةً ثم قام على شرفة من شرفات القصر وتغنى بشعر أبن أذينة:

وقد قالت لأترابٍ

لها زهرٍ تلاقينا

تعالين فقد طاب

لنا العيش تعالينا

فأقبلن عليه، فطرب وأستدار فسقط فمات، عفا الله تعالى عنه ورحمه.وقيل: بل مات بالمدينة.وأول هذه الأبيات:

سليمى أزمعت بينا

وأين لقاؤها أينا

وقد قالت لأترابٍ

لها زهرٍ تلاقينا

تعالين فقد طاب

لنا العيش تعالينا

فأقبلن إليها مس

رعات يتهادينا

إلى مثل مهارة الرم

ل تكسو المجلس الزّينا

إلى خودٍ منّعمة

حففن بها وفدّينا

تمنّين مناهنّ

فكنّا ما تمنّينا

شارك هذه الصفحة:

تابع موسوعة الأدب العربي على شبكات التواصل الإجتماعي