نهاية الأرب في فنون الأدب/أخبار معبد

من موسوعة الأدب العربي
اذهب إلى:تصفح، ابحث

أخبار معبد

هو معبد بن وهب، وقيل: أبن قطني مولى أبن قطن ؛ وقيل: إن قطنا مولى العاص بن واقصة المخزومي، وقيل: مولى معاوية بن أبي سفيان.غنى معبد في أيام بني أمية في أوائلها، ومات في أيام الوليد بن يزيد بدمشق. قال أبو الفرج الأصفهاني:إنه لما مات خرجت سلامة جارية الوليد بن يزيد بن عبد الملك وأخذت بعمود السرير والناس ينظرون إليها وهي تندبه وتقول شعر الأحوص:

قد لعمري بتّ ليلي

كأخي الداء الوجيع

ونجىّ الهمّ منّي

بات أدنى من نجيعي

كلما أبصرت ربعاً

خالياً فاضت دموعي

قد خلا من سيّدٍ كا

ن لنا غير مضيع

لا تلمنا إن خشعنا

أو هممنا بخشوع

وكان معبد قد علمها هذا الصوت فندبته به.قال إسحاق بن إبراهيم الموصلي: كان معبد من أحسن الناس غناءً، وأجودهم صنعة، وأحسنهم حلقاً ؛ وهو إمام أهل المدينة في الغناء، وأخذ عن سائب خاثرٍ ونشيط الفارسي مولى عبد الله بن جعفر، وعن جميلة مولاة بهز بطن من بني سليم.وفي معبدٍ يقول الشاعر:

أجاد طويسٌ والسّريجيّ بعده

وما قصبات السّبق إلا لمعبد

وحكى أبو الفرج أيضا:أن الوليد بن يزيد أشتاق إلى معبد، فوجه إليه البريد إلى المدينة فأحضره.فلما بلغ الوليد قدومه أمر ببركة ملئت ماء ورد وخلط بمسك وزعفران، ثم جلس الوليد على حافة البركة وفرش لمعبدٍ مقابله وضرب بينهما سترٌ ليس معهما ثالث.وجيء بمعبد فقيل له: سلم على أمير المؤمنين وأجلس في هذا الموضع ؛ فسلم فرد عليه من خلف السجف، ثم قال له: أتدري لم وجهت إليك ؟ قال: الله أعلم وأمير المؤمنين.قال: ذكرتك فأحببت أن أسمع منك.فقال له معبد: أأغني ما حضر أو ما يقترحه أمير المؤمنين ؟ قال: بل غن:

ما زال يعدو عليهم ريب دهرهم

حتى تفانوا وريب الدهر عدّاء

فغناه.فرفع الجواري السجف، ثم خرج الوليد فألقى نفسه في البركة فغاص فيها، ثم خرج منها، فأستقبله الجواري بثياب غير الثياب التي كانت عليه، ثم شرب وسقى معبداً ثم قال له: غنني يا معبد:

يا ربع مالك لا تجيب متيّماً

قد عاج نحوك زائراً ومسلّما

جادتك كلّ سحابةٍ هطّالةٍ

حتى ترى عن زهرةٍ متبسّما

لو كنت تدري من دعاك أجبته

وبكيت من حرقٍ عليه إذاً دما

قال: فغناه.وأقبل الجواري فرفعن الستر، وخرج الوليد فألقى نفسه في البركة فغاص فيها ثم خرج، فلبس ثياباً غير تلك الثياب، ثم شرب وسقى معبداً وقال له: غنني يا معبد:

عجبت لمّا رأتني

أندب الربع المحيلا

واقفاً في الدار أبكي

لا أرى إلاّ الطلولا

كيف تبكي لأناسٍ

لا ميلّون الذّميلا

كلما قلت أطمأنت

دارهم جدّوا الرحيلا

قال: فلما غناه ألقى نفسه في البركة ثم خرج فردوا عليه ثيابه، ثم شرب وسقى معبدا وقال له: يا معبد، من أراد أن يزداد حظوةً عند الملوك فليكتم أسرارهم.فقال: ذلك مما لا يحتاج أمير المؤمنين إلى إيصائي به.فقال الوليد: يا غلام أحمل إلى معبد عشرة آلاف دينار تحصل له في بلده وألفي دينار لنفقة طريقه ؛ فحملت إليه كلها، وحمل على البريد من وقته إلى المدينة.وقد قيل: إنه أعطاه في ذلك المجلس خمسة عشر ألف دينار. وقال أبو الفرج بسند رفعه:إن معبدا كان قد علم جاريةً من جواري الحجاز الغناء تدعى طيبة وعنى بتخريجها ؛ فأشتراها رجل من أهل العراق وأخرجها إلى البصرة وباعها هناك، فأشتراها رجل من أهل الأهواز فأعجب بها وذهبت به كل مذهبٍ وغلبت عليه، ثم ماتت بعد أن أقامت عنده برهةً من الزمان ؛ فأخذ جواريه أكثر غنائها عنها.فكان لمحبته إياها وأسفه عليها لا يزال يسأل عن وأين مستقره، ويظهر التعصب له والميل إليه والتقديم لغنائه على سائر الأغاني من أهل عصره، إلى أن عرف ذلك منه وبلغ معبداً خبره.فخرج من مكة حتى أتى البصرة ؛ فلما وردها صادف الرجل قد خرج عنها في ذلك الوقت واليوم إلى الأهواز.فجاء معبدٌ في طلب سفينة تحمله إلى الأهواز، فلم يجد غير سفينة الرجل، فركب فيها وكلاهما لا يعرف الآخر ؛ وأنحدرت السفينة.فلما صاروا بفم نهر الأبلة، أمر الرجل جواريه بالغناء فغنين، إلى أن غنت إحداهن صوتا من غناء معبد فلم تجد أداءه ؛ فصاح بها معبد: يا جارية، إن غناءك هذا ليس بمستقيم.فقال مولاها وقد غضب: وأنت ما يدريك الغناء ما هو ! ألا تمسك وتلزم شأنك ! فأمسك.ثم غنت أصواتا من غناء غيره وهو ساكتٌ لا يتكلم حتى غنت من غنائه فأخلت ببعضه ؛ فقال لها معبد: يا جارية، قد أخللت بهذا الصوت إخلالا كثيرا.فغضب الرجل وقال له: ويلك ! ما أنت والغناء ! ألا تكف عن هذا الفضول ! فأمسك معبدٌ.وغنى الجواري ملياً ؛ ثم غنت إحداهن صوتاً من غنائه فلم تصنع فيه شيئاً.فقال لها معبد: يا هذه، أما تقومين على أداء صوتٍ واحد ! فغضب الرجل وقال له: ما أراك تدع هذا الفضول بوجهٍ ولا حيلةٍ ! فأقسم بالله إن عاودت لأخرجنك من السفينة.فأمسك معبدٌ، حتى سكتت الجواري سكتةً، فاندفع يغني الصوت الأول حتى فرغ منه.فصاح الجواري: أحسنت والله يا رجل، فأعده.قال: لا والله ولا كرامة.ثم أندفع يغني الثاني ؛ فقلن لسيدهن: ويحك ! هذا والله أحسن الناس غناءً، فسله أن يعيده علينا ولو مرة واحدة لعلنا نأخذه منه، فإنه إن فاتنا لم نجد مثله أبدا.قال: قد سمعتن سوء رده عليكن وأنا خائف مثله منه، وقد أستقبلناه بالإساءة، فأصبر، حتى نداريه.قال: ثم غنى الثالث فزلزل عليهم الأرض.فوثب الرجل فقبل رأسه، وقال: يا سيدي أخطانا عليك ولم نعرف موضعك.فقال له: وهبك لم تعرف موضعي، قد كان ينبغي لك أن تتثبت ولا تسرع إلى سوء العشرة وجفاء القول.فلم يزل يرفق به حتى نزل إليه، وكان معبدٌ قد أجلس في مؤخر السفينة.فقال له الرجل: ممن أخذت هذا الغناء ؟ قال: من بعض أهل الحجاز، فمن أين أخذه جواريك ؟ قال: أخذنه من جارية كانت لي، كانت قد أخذت الغناء عن أبي عباد معبد وكانت تحل مني مكان الروح من الجسد، ثم أستأثر الله بها وبقي هؤلاء الجواري وهن من تعليمها، فأنا إلى الآن أتعصب لمعبد وأفضله على المغنين جميعا، وأفضل صنعته على كل صنعة.فقال له معبد: وإنك لأنت هو ! أفتعرفني ؟ قال لا.قال: فصك معبد بيده صلعته ثم قال: فأنا والله معبدٌ وإليك قدمت من الحجاز ووافيت البصرة ساعة نزلت السفينة لأقصدك بالأهواز، ووالله لا قصرت في جواريك هؤلاء ولأجعلن لك في كل واحدة خلفاً من الماضية.فأكب الرجل والجواري على يده ورجليه يقبلونها ويقولون: كتمتنا نفسك حتى جفوناك في المخاطبة وأسأنا عشرتك وأنت سيدنا ومن نتمنى أن نلقاه.ثم غير الرجل أثواب معبد وخلع عليه عدة خلع وأعطاه في ذلك الوقت ثلثمائة دينار وطيباً وهدايا مثلها، وأنحدر معه إلى الأهواز فأقام عنده حتى رضي حذق جواريه، ثم ودعه وأنصرف إلى الحجاز.

شارك هذه الصفحة:

تابع موسوعة الأدب العربي على شبكات التواصل الإجتماعي