أخبار يزيد حوراء
هو رجل من أهل المدينة من موالي بني ليث بن بكر بن عبد مناة بن كنانة ؛ ويكنى أبا خالد.مغن محسنٌ كثير الصنعة، من طبقة أبن جامع وإبراهيم الموصلي.وكان ممن قدم على المهدي في خلافته فغناه.وكان حسن الصوت حلو الشمائل.فحسده إبراهيم الموصلي على شمائله وإشاراته في الغناء، فاشترى عدة جوار وشاركه فيهن، وقال له: علمهن، فما رزق الله تعالى من ربح فيهن فهو بيننا.وأمرهن أن يجعلن وكدهن أخذ إشارته ففعلن ذلك.فكان إبراهيم يأخذها عنهن هو وأبنه ويأمرهن بتعليم كل من يعرفنه ذلك حتى شهرها في الناس، فأبطل عليه ما كان منفرداً به من ذلك. قال عبد الله بن العباس الربيعي:كان يزيد حوراء نظيفاً ظريفاً حسن الوجه شكلاً، لم يقدم علينا من الحجاز أنظف منه ولا أشكل، وما كنت تشاء أن ترى خصلةً جميلة لا تراها في أحد منهم إلا رأيتها فيه.وكان يتعصب لإبراهيم الموصلي على أبن جامع، فكان إبراهيم يرفع منه ويشيع ذكره بالجميل وينبه على مواضع تقدمه وإحسانه، ويبعث بأبنه إسحاق إليه يأخذ عنه. وحكى أبو الفرج بسندٍ رفعه إلى يزيد حوراء قال:كلمني أبو العتاهية في أن أكلم المهدي في عتبة ؛ فقلت: إن الكلام لا يمكنني، ولكن قل شعراً أغنيه به ؛ فقال:
نفسي بشيء من الدنيا معلّقةٌ
الله والقائم المهديّ يكفيها
إني لأيأس منها ثم يطمعني
فيها أحتقارك للدّنيا وما فيها
قال: فعملت فيه لحناً وغنيته.فقال: ما هذا ؟ فأخبرته خبر أبي العتاهية ؛ فقال: ننظر فيما سأل ؛ فأخبرت بذلك أبا العتاهية.ثم مضى شهر فجاءني فقال: هل حدث خبرٌ ؟ قلت لا.قال: فأذكرني للمهدي.فقلت: إن أحببت ذلك فقل شعرا تحركه به وتذكره وعده حتى أغنيه به ؛ فقال:
ليت شعري ما عندكم ليت شعري
فلقد أخّر الجواب لأمر
ما جوابٌ أولى بكل جميلٍ
من جوابٍ يردّ من بعد شهر
قال يزيد: فغنيت المهدي، فقال: علي بعتبة فأحضرت ؛ فقال: إن أبا العتاهية كلمني فيك، فما تقولين ولك عندي وله ما تحبان مما لا تبلغه أمانيكما ؟ فقالت: قد علم أمير المؤمنين ما أوجب الله علي من حق مولاتي، وأريد أن أذكر هذا لها.قال: فأفعلي.قال: فأعلمت أبا العتاهية.ومضت أيام فسألني معاودة المهدي ؛ فقلت: قد عرفت الطريق، فقل ما شئت حتى أغنيه به ؛ فقال:
أشربت قلبي من رجائك ما له
عنقٌ يخبّ إليك بي ورسيم
وأملت نحو سماء جودك ناظري
أرعى مخايل برقها وأشيم
ولقد تنسّمت الرّياح لحاجتي
فإذا لها من راحتيك نسيم
ولربما أستيأست ثم أقول لا
إن الذي وعد النّجاح كريم
قال يزيد: فغنيته الشعر، فقال: علي بعتبة فجاءت ؛ فقال: ما صنعت ؟ فقالت: ذكرت ذلك لمولاتي فكرهته وأبت أن تفعل، فليفعل أمير المؤمنين ما يريد.قال: ما كنت لأفعل شيئا تكرهه.فأعلمت أبا العتاهية بذلك، فقال:
قطّعت منك حبائل الآمال
وأرحت من حلّ ومن ترحال
ما كان أشأم إذ رجاؤك قاتلي
وبنات وعدك يعتلجن ببالي
ولئن طمعت لربّ برقة خلّبٍ
مالت بذي طمع ولمعة آل
وقد حكى أبو الفرج أيضا هذه الحكاية وأختصرها، ولم يذكر الأبيات منها
أشربت قلبي من رجائك ما له
إلا أنه غير قوله: أشربت قلبي بقوله: أعلمت نفسي من رجائك.وقال: فصنع فيه يزيد لحناً وغناه المهدي.فدعا بأبي العتاهية وقال له: أما عتبة فلا سبيل إليها، لأن مولاتها قد منعت منها، ولكن هذه خمسون ألف درهم فأشتر ببعضها خيراً من عتبة فحملت إليه، فأخذها وأنصرف. وحكى عن حماد بن إسحاق قال:قال يزيد حوراء: كنت أجلس بالمدينة على أبواب قريش، وكانت تمر بي جاريةٌ تختلف إلى الزرقاء تتعلم منها الغناء.فقلت لها يوما: افهمي قولي وردي جوابي وكوني عند ظني ؛ فقالت: هات ما عندك.فقلت: بالله ما أسمك ؟ فقالت: ممنعة.فأطرقت طيرةً من أسمها مع طمعي فيها، ثم قلت: بل باذلةٌ ومبذولةٌ إن شاء الله فأسمعي مني.فقالت وهي تتبسم: إن كان عندك شيء فقل.فقلت:
ليهنك منّي أنّني لست مفشياً
هواك إلى غيري ولو متّ من كربي
ولا مانحاً خلقاً سواك محبّةً
ولا قائلاً ما عشت من حبكم حسبي
فنظرت إلي طويلا ثم قالت: أنشدك الله، أعن فرط محبة أم أهتياج غلمةٍ تكلمت ؟ فقلت: لا والله إلا عن فرط محبة.فقالت:
فوالله ربّ الناس لا خنتك الهوى
ولا زلت مخصوص المحبّة من قلبي
فثق بي فإني قد وثقت ولا تكن
على غير ما أظهرت لي يا أخا الحبّ
قال: فوالله لكأنما أضرمت في قلبي ناراً.فكانت تلقاني في الطريق الذي كانت تسلكه فتحدثني فأتفرج بها ؛ ثم أشتراها بعض أولاد الخلفاء، وكانت تكاتبني وتلاطفني دهرا طويلا.