أذى قريشٍ للصحابة
وعذابهم ليفتنوهم عن دينهمقال محمد بن إسحاق: ثم انهم عدوا علي من أسلم واتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم من أصحابه، فوثبت كل قبيلة من فيها من المسلمين، فجعلوا يحبسونهم ويعذبونهم بالضرب والجوع والعطش، وبرمضاء مكة إذا اشتد الحر ؛ من استضعفوا منهم يفتنونهم عن دينهم، فمنهم من يفتتن من شدة البلاء الذي يصيبه، ومنهم من يعصمه الله، فكان بلال بن رباح مولى أبي بكر الصديق رضي الله عنهما لبعض بني جح مولداً من مولديهم، وكا صادق الإسلام، طاهر القلب، فكان أمية بن خلف يخرجه إذا حميت الظهيرة فيطرحه على ظهره في بطحاء مكة، ثم يأمر بالصخرة العظيمة فتوضع على صدره، ثم يقول له: لا تزال هكذا حتى تموت أو تكفر بمحمد، وتعبد اللات والعزى ؛ فيقول - وهو في ذلك البلاء - أحد أحد، فكان ورقة بن نوفل يمر به وهو يعذب بذلك وهو يقول: أحد أحد، فيقول: أحد أحد والله يا بلال ؛ ثم يقبل على أمية بن خلف وهو يصنع به ذلك فيقول: أحلف بالله لئن قتلتموه على هذا لأتخذنه حنانا ؛ حتى مر به أبو بكر الصديق رضي الله عنه يوماً وهم يصنعون به ذلك، فقال لأمية: ألا تتقي الله في هذا المسكين، حتى متى ! فقال: انت أفسدته فانفذه مما ترى، قال: أفعل، عندي غلام أسود أجلد منه وأقوى، وهو على دينك، أعطيكه به.قال: قد قبلت ؛ قال: هو لك.فأعطاه أبو بكر غلامه ذلك، وأخذه فأعتقه، ثم أعتق معه على الإسلام قبلايهاجر إلى المدينة ست رقاب ؛ وهم عامر بن فهيرة، شهد بدرا وأحدا وأم عميس، وزنيرة - وكانت رومية لبني عبد الدار - فأصيب بصرها حين أعتقها فقالت قريش: ما أذهب بصرها إلا اللات والعزى، وما ينفعان.فرد الله إليها بصرها ؛ وأعتق النهدية وابنتها وكانتا لأمرة من بني عبد الدار، فمر بهما وقد بعثتهما سيدتهما بطحين لها وهي تقول: والله لا أعتقكما أبدا ؛ فقال أبو بكر: حلٌ يا أم فلأن ؛ فقالت: حلٌ انت ؛ أفسدتهما فاعتقهما قال فبكم هما ؟ قالت: بكذا وكذا ؛ قال: أخذتهما وهما حرتان، ارجعا إليها طحينها ؛ قالتا: أو نفرغ منه يا أبا بكر ثم نرده إليها ؛ قال: وذاكاشئتما.ومر بجارية من بني مؤمل حي من بني عدي بن كعب - وكانت مسلمة - وكا عمر يعذبها لتترك الإسلام، وعمر يومئذ مشرك، وهو يضربها حتى إذا مل قال: اني أعتذر إليك، لم أتركك إلا ملالة، فيقول: كذا يفعل الله بك.فابتاعها فأعتقها فقال أبو قحافة لأبي بكر: يا بني، أراك تعتق رقاباً ضعافا فلو انك إذ فعلت ما فعلت أعتقت رجالاً جلدا يمنعونك ويقومون دونك ؛ فقال أبو بكر: يا أبت اني انما أريد لله عز وجل ما أريد ؛ فيقال: اهذه الآيات انزلت فيه رضي الله عنه قوله تعالى: 'فَأمَّا مَنْ أعْطَى واتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى' إلى قوله: 'وَلَسَوْفَ يَرْضَى'. قال محمد بن إسحاق: وكا بنو مخزوم يخرجون بعمار بن ياسر وبأبيه وأمه وكانوا أهل بيت إسلام - إذا حميت الظهيرة يعذبونه برمضاء مكة، فيمر بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيقول: صبرا آل ياسر موعدكم الجنة، فأما أمه فقتلوها وهي تأبى إلا الإسلام.قال أبو عمر: وهي سمية، كانت أمةً لأبي حذيفة بن المغيرة بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم، فزوجها من حليفه ياسر بن عامر بن مالك العبسي، فولدت له عمارا فأعتقه أبو حذيفة.وسمية هذه أول شهيدةٍ في الإسلام.وجاءها أبو جهل بحربة في قلبها فقتلها فقال عمار: يا رسول الله، بلغ منا - أو بلغ منها كل مبلغ - فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: صبراً يا أبا اليقظان، اللهم لا تعذب أحداً من آل ياسر بالنار. قال ابن إسحاق: وكا أبو جهل هو الذي يغري بهم في رجال قريش إذا سمع برجل قد أسلم، فا كان له شرف ومنعة انبه وخزاه: فيقول: تركت دين أبيك وهو خير منك، لنسفهن حلمك ولنفيلن رأيك، ولنضعت شرفك ؛ وا كان تاجرا قال: والله لنكسدن تجارتك، ولهلكن مالك ؛ وا كان ضعيفاً ضربه وأغرى به.وروى عن سعيد بن جبير قال: قلت لأبن عباس رضي الله عنهم: أكا المشركون يبلغون من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من العذاب ما يعذرون به في ترك دينهم ؟ قال: نعم، واللهاكانوا ليضربون أحدهم ويجيعونه ويعطشونه ؛ حتى ما يقدرايستوي جالساً من شدة الضر الذي به، حتى يعطيهم ما سألوه من الفتنة حتى يقولوا له: اللات والعزى إلها من دون الله، فيقول: نعم، حتى أن الجعل ليمتر بهم فيقولون له: هذا الجعل إلهك من دون الله ؟ فيقول: نعم، افتداءً منهم مما يبلغون من جهده.والله المعين.