نهاية الأرب في فنون الأدب/أرباب الوظائف

من موسوعة الأدب العربي
اذهب إلى:تصفح، ابحث

أرباب الوظائف

وما يلزم كلا منهم مع حضور رفقته ومع غيبتهم وما يسترفعه كل مباشر عند مباشرته وما يلزمه عملهأما المشد أو المتولي - فالذي يحتاج إلى استرفاعه عند مباشرته ضرائب أصول الأموال والمرتب عليها ليعلم حال المعاملة، وما بها من الخالص، أو عليها من الفائض ؛ ويسترفع أوراقا بالحاصل والباقي والفائض والمتأخر، ليعلم أحوال الناس ومحاسباتهم، ويعلم ممن يطلب وإلى من يصرف ؛والذي يلزمه عمارة البلاد، واستجلاب من نزح منها، وإقامة السطوة، وإظهار المهابة والحرمة، وتسهيل السبل، وإقامة الخفراء عليها، وتشييد منار الشرع الشريف، والتسوية بين القوي والضعيف ؛ويلزمه استخراج الأموال من سائر جهاتها ووجوهها المستحقة في مباشرته، والبواقي التي رفعت إليه بعد تحقيقها بحيث لا ينطرد إلى الباقي الدرهم الفرد ؛ ومتى انساق في مباشرته شيءٌ لزمه ؛ويلزمه تقرير الجنايات والتأديبات على أرباب الجرائم لتنحسم بذلك مواد المفسدين. وأما الناظر على ذلك - فيحتاج عند مباشرته إلى استرفاع ضرائب أصول الأموال ومضافاتها، والمستأدى من الحقوق، وضرائب بما استقر إطلاقه، وأوراق الحاصل والباقي، وأوراق الفائض والمتأخر، وتقدير الارتفاع، والكشوف الجيشية، ويطالب بمخازيم المياومة لاستقبال مباشرته، والختم والتوالي عند مضي المدة، والأعمال وسائر الحسبانات المتقدم ذكرها في أوقاتها، وما لعله يقترحه مما يسوغ اقتراحه ويمكن عمله ؛والذي يلزمه الاجتهاد في عمارة نواحي الخاص، وتمييز الجهات ونموها، والنظر في أحوال المعاملات، وإزاحة أعذارها، وتقدير قواعدها، واختبار من بها من المباشرين، والكشف عن أحوالهم، وكتب كل واحد منهم بما يلزمه مباشرةً وعملا، ويتصفح ما يرد عليه من الحسبانات الصادرة عنهم ؛ وينظر فيما يتجدد من أحوال المعاملات وما يطرأ من الحوادث على اختلافها مما لا يحصره ضبط، بل هو بحسب ما يقع ؛ وإنما جعلنا هذه الإشارات أنموذجا يستدل بها على ما بعدها ؛ويقيد بخطه الاستدعاءات والإفراجات والمراسيم والتواقيع وغير ذلك مما جرت به العادة: من الكتابة بالمقابلة والثبوت والتمحية والاعتماد وغير ذلك. وأما صاحب الديوان - فإنه يسترفع ما يسترفعه الناظر من المعالم خاصة، وليس له أن يسترفع الارتفاعات ولا شواهدها ؛ فإن استرفعها لزمه من دركها ما يلزم المستوفي ؛ وهو يكتب على ما يكتب عليه الناظر، وله زيادةٌ على ذلك: وهي الترجمة على التذاكر والاستدعاءات، والكتابة على تواقيع المباشرين بأخذ خطوطهم عند استخدامهم، والكتابة على محرراتهم بالتخليد، والكتابة على تذاكر المخرج والمردود الصادرة عن مستوفي العمل بأن يجيب المباشرون عنها بما يسوغ قبوله، والكتابة بقبول الجواب عند عوده إن كان سائغا، والكتابة على الحساب الصادر عن المباشرين بتخليده في ديوان الاستيفاء بعد أن يتصفحه وتظهر له سياقة أوضاعه ؛ وكل عمل لا يكون له صاحب ديوانٍ قام الناظر بهذه الوظيفة إلا الكتابة بقبول الحساب. وأما مقابل الاستيفاء - وهو بمنزلة الشاهد في ديوان الأصل - فله أن يسترفع المعالم لنفسه في كل سنة، ويسترفع نتيجة الحسبانات اللازمة التي تصدر إلى الديوان العالي بالباب الشريف، ويضبط مياومة المجلس، ويكتب على ما يكتب عليه المستوفي، ويكتب على الحسبانات الواصلة من جهة المباشرين بتاريخ حضورها إلى الديوان قبل تخليدها في ديوان الاستيفاء، ويسد بقلمه تواريخ التذاكر والمراسيم، ويتصفح ما يصدر عن المستوفي من المخرج والمردود ويطالب بحمل ما ثبت منه، ويطالب أرباب الخطوط والبذول بما يستحق عليهم وينيب شاد الدواوين عنه، ويكتب في كل يوم بما يطالب به ؛ وإذا لم يكن للديوان مقابل قام المستوفي بوظيفته. وأما المستوفي - فله أن يسترفع سائر الحسبانات اللازمة، وما تدعو إليه حاجته من المقترحات في المدد الماضية والحاضرة مما يمكن عمله، فإذا صار الحساب إليه مشمولا بخط صاحب الديوان بتخليده ومؤرخا حضوره بخط المقابل تصفحه واستوفى تفاصيله على جمله أصلا وخصما، وشطب ما يحتاج إلى شطبه - كل عملٍ على شواهده - وخرج ورد ما يتعين تخريجه ورده، وكتب بذلك مطالعةً تعرض على المقابل، فإذا وافقه عليها عرضت على صاحب الديوان وكتب بالإجابة عنها، ثم يطالب المباشر بالإجابة عما تجب الإجابة سعنه، وإضافة ما تجب إضافته إلى حساب المدة التالية لتلك المدة، وحمل ما يجب حمله ؛ وتكون إضافته في الحساب منسوبةً إلى قلم مستدركه ؛ فإن أخر استيفاء الحسبانات وشطبها وتخريج ما يلوح فيها ومضت عليها مدة يمكن فيها العمل، كان ما يتعين فيها لازما له إذا عنت، إعادة ما تناوله من الجامكية عن تلك المدة، ويطالب من صدر عنه الحساب بما يلزمه ؛ويتعين على المستوفي أنه إذا رفع إليه حساب معاملة تأمل خطوط المباشرين على عاداتهم، ونظر فيه بعد ذلك، فإن تغيرت عن العادة، فإن كان بزيادة تأكيد فلا بأس، وإن كان بإخلال مثل أن يكتب الشاهد على الحساب بالمقابلة، وعادته أن يكتب: الأمر على ما شرح يلزمه الكشف عن موجب ذلك ؛ويلزم المستوفي ضبط مياومة المجلس، وكتابة الكشوف بخطه والتذاكر ونسخ المحررات، وتعيين الجهات لأربابها بعد كاتبة الناظر بتعيين الجهة، وعليه نظم جوامع التقدير بعد عمل موازينها وتحريرها وشطبها على التقادير الصادرة عن المباشرين وجوامع الحواصل: من العين والغلال والكراع والأصناف المعدودة والموزونة والمذروعة والسلاح خاناه والعدد والآلات وغير ذلك، يسد على ما أمكن سده جملة، وما لا يمكن نثره أقلاما يستشهد فيها بما رفع إليه من جهة المباشرين ؛ وكذلك يعتمد في جملة البواقي، يعقد عليها جملة، ويفصلها بمعاملاتها وجهاتها وسنيها وأسماء مباشريها، وما يرجى بمقتضى أوراق المباشرين ؛ وكذلك يعتمد في جامعة الفائض والمتأخر وغير ذلك من الجوامع ؛وعليه عمل ما يطلب من الأبواب من المقترحات والمطاولات ؛ويلزمه علم المقايسات وفوائد المتأخر، وغير ذلك من لوازم قلم الاستيفاء ؛ ويلزمه محاسبات أرباب النقدوالكيل المرتبين على ما تعين بقلم الاستيفاء، فيحاسبهم على استحقاقهم، ويعتد عليهم بما ثبت مما عينه لهم بقلمه ؛ويلزمه التنبيه على خوالص المعاملات وطلبها: حملا إلى بيت المال، أو حوالةً على ما يعينه بقلمه ؛ويلزمه تخريج تفاوت المدد والمحلولات وغير ذلك ؛ويلزمه التفريع بما يصل إليه من الحوطات الجيشية لوقته على ما جرت به العادة. ووظيفة الاستيفاء كبيرة، كثيرة الأعمال، لا تنحصر لوازمها في كتاب، وإنما هي بحسب الوقائع. فإذا انفصل المستوفي من المباشرة فليس له أن يأخذ ورقةً من حسابه الذي استرفعه أو وضعه بقلمه، ويتلقاه المباشر بعده. وأما المشارف - فله أن يسترفع عند مباشرته معالم الجهة ليستعين بها على المباشرة: من ضرائب وتقادير وحاصلٍ وباقٍ وفائضٍ ومتأخرٍ وغير ذلك ؛ وهو مطلوب بتحقيق الحواصل، وله الختم عليها ؛ وهو مطلوب بنظم سائر الحسبانات اللازمة والمقترحة إن تسحب العامل أو مات، ومع وجود العامل إن كان قد التزم عند مباشرته العمل ؛ وتلزمه المقابلة مع العامل على الحساب الصادر عنهما، وسياقة التعليق معه، والكتابة على الوصولات والحسبانات ؛ وهو مطلوب بجميع ما يطلب به العامل من المخرج وغيره. وأما الشاهد - فيلزمه ضبط تعليق المياومة، والكتابة على الوصولات والحسبانات ؛ ومتى فقد العامل والمشارف لزمه رفع الحساب اللازم دون المقترحات ؛ ولا بد له من جريدة مبسوطة على الأصل والخصم. وأما العامل - فقد قدمنا ذكر ما يحتاج إليه كل مباشر من ضبط تعليق المياومة وبسط الجريدة وخدمتها في الأصل والخصم أولا فأولا، والتيقظ لذلك وأن من أهمله فقد قصر في مباشرته وأخل بوظيفته ؛ والعامل أحرى بجميع ذلك ممن سواه من سائر المستخدمين، لما هو مطلوب به من نظم الحسبانات وموقعه من عمل المقترحات والأجوبة عن المخرج والمردود، وأنه هو الملتزم لذلك دون غيره وأنه لا يلزم من سواه شيءٌ من الأعمال مع وجوده. وقد ذكرنا تلخيص قواعد هذه الكتابة والمباشرين وأوضاعهم ولوازمهم والأوضاع الحسابية وغير ذلك من معالم المباشرات، مجملا غير مفصل، وبعضا من كل، وقليلا من كثير، إذ لو استقصينا ذلك لطال ولتعذر لاختلاف المباشرات والوقائع والأوضاع والآراء ؛ ولقد حصل الاجتماع لجماعة من مشايخ أهل هذه الصناعة ممن اتخذها حرفة من مبادئ عمره إلى أن طعن في سنه، وما منهم إلا من يخبر أنه يستجد له في وقت من أحوال المباشرات ما لم يسمع به قبل، ولا طرأ له فيما سلف من عمره، فكيف يمكن حصر ما هو بهذا السبيل ؟ وفيما نبهنا عليه مقنعٌ لطالب هذه الصناعة، والعمدة فيها على الدربة والمباشرة، وقد قيل:

ولا بد من شيخ يريك شخوصها

وإلا فنص العلم عندك ضائع

ذكر كتابة الحكم والشروط وما يتصف به الكاتب ويحتاج إليه

ينبغي أن يكون كاتب الحكم والشروط عدلاً، ديناً، أميناً، طلق العبارة فصيح اللسان، حسن الخط، ويحتاج مع ذلك إلى معرفة علوم وقواعد تعينه على هذه الصناعة، لا بد له منها، ولا غنية له عنها: وهي أن يكون عارفاً العربية والفقه متقناً علم الحساب، محرراً القسم والفرائض، دربا بالوقائع، خبيراً بما يصدر عنه من المكاتبات الشرعية، والإسجالات الحكمية على اختلاف أوضاعها، وأن يكون قد أتقن صناعة الوراقة وعلم قواعدها، وعرف كيفية ما يكتب في كل واقعة وحادثة: من الديون على اختلافها، والحوالات، والشركات، والقراض، والعارية، والهبة والنحلة، الصدقة والرجوع، والتمليك، والبيوع، والرد بالعيب والفسخ، والشفعة والسلم، والمقايلة، والقسمة والمناصفة، والأجائر على اختلافها، والمسافاة، والوصايا والشهادة على الكوافل بالقبوض، والعتق، والتدبير، وتعليق العتق، والكتابة، والنكاح وما يتعلق به، وإقرار الزوجين بالزوجية عند عدم كتاب الصداق، واعتراف الزوج بمبلغ الصداق، والطلاق، وتعليق الطلاق، وفسخ النكاح، ونفي ولد الجارية والإقرار باستيلاد الأمة، والوكالات، والمحاضر، والإسجالات، والكتب الحكيمة والتقاليد، والأوقاف، وغير ذلك، على ما نوضحه ونبينه إن شاء الله تعالى.فنقول وبالله التوفيق:أما اشتراط العدالة والديانة والأمانة - فلأنه يتصرف بشهادته في الأموال والدماء والفروج، فإذا لم يكن فيه من الديانة والعدالة والأمانة ما يستمسك به، ويقف عند أوامر الشرع الشريف نواهيه بسببه، تولاه - والعياذ بالله تعالى - الشيطان بالغرور، وأوقعه في محظور يتوقع في الدار الآخرة منه وقوع المحذور، وربما انكشفت في الدنيا عورته، وبدت سريرته، وإذن هو المعنى والمشار إليه بقولهم: 'شاهد الزور قتل ثلاثة: نفسه والمشهود له والمشهود عليه فلم يفز مما ارتكبه بطائل، بل جمع لنفسه بين نكالٍ عاجلٍ وعقابٍ آجل، 'خسر الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين. وأما طلاقة العبارة وذلاقة اللسان - فلأنه يجلس بين يدي الحاكم في مجلسه العام، ويحضره من يحضره: من العلماء والفقهاء، وذوي المناصب، وأصحاب الضرورات، وخصوم المحاكمات على اختلاف طبقاتهم وأديانهم، وهو المتصدي لقراءة ما يحضر في المجلس: من إسجالات حكمية، ومكاتيب شرعية، وكتب مبايعات، ووثائق إقرارات، وقصص وفتاوي، وغير ذلك مما يتفق في المجلس، فمتى لم يكن الكاتب طلق العبارة فصيح اللسان، جيد القراءة حسن البيان، تعذرت قراءة ذلك عليه ولكن في المجلس، فرمقته العيون شزراً، وتلمظت به الألسن سراً، ونظر بعض القوم بسببه بعضا، وكان عندهم في الرتبة سماءً فغدا أرضاً، ثم تتعدى هذه المفسدة إلى إفساد المكتوب، والتباس المعنى المراد والأمر المطلوب، وذلك لأنه إذا توقف في القراءة أحتاج إلى إعادة اللفظة وتكريرها، وترديد الكلمة وتدويرها، فتشكل قراءته على سامعه ومستكتبه، ويكون قد أخل برتبته ومنصبه. وأما حسن الخط - فلأنه مندوب إليه في مثل ذلك، وله من الفوائد ما لا يحصى، ولأن المكتوب إذا كان حسن الخط قبلته النفوس، وانشرحت له ومالت إليه، وإذا كان على خلاف ذلك كرهته وملته وسئمته، وقد ذكرنا ما قيل في حسن الخط وما وصفت به الكتابة عند ذكرنا لكتابة الإنشاء، فلا فائدة في إعادته هنا. وأما معرفة العربية - فلأنه إنما يكتب عن حاكم المسلمين في الأمور الشرعية، فلا يجوز أن يصدر عنه لحن بلفظه، فكيف إذا سطره بقلمه ! ؟ فإن وقع ذلك كان من أقبح العيوب وأشنعها، وربما أخل بالمقصود، وحرف المعنى المراد وأخرجه عن وضعه، ونقله إلى غير ما أريد به، سيما في شروط الأوقاف. وأما معرفة الفقه - فلأنه يجلس بين يدي حاكم عالم، لا يكاد يخلو مجلسه غالباً من الفقهاء والعلماء، فيوردون المسائل أو تورد عليهم، فيحصل البحث فيها فيتكلم كل من القوم بما علمه بقدر اشتغاله ونقله، فإذا كان الكاتب عارياً من الفقه والمدارسة ومطالعة الشرعية اقتضى ذلك عدم مشاركته لهم فيما هم فيه فيصير بمثابة الأجنبي من المجلس، وهو في ذلك بين أمرين: إما أن يسكت، فلا فرق بينه وبين جماد شغلت به تلك البقعة التي جلس فيها، أو يتكلم بما لا يعلم، فيرد عليه قوله، فيحصل له الخجل في ذلك المجلس الحفل، ويستزريه القوم، هذا من هذا الوجه، ثم هو فيما يكتبه عن الحاكم أو في أصل المكتوب بين أمرين: إما أن يجيد ويبرز المكتوب وهو محرر على مقتضى قواعد الفقه، فلا بد له فيه من الاستعانة بالغير وتقليده، بحيث إنه لو سئل عن معنى أجاد فيه وأحسن لعجز عن الجواب، وإما أن يستقل بنفسه فيكتب غير الواجب، فيكون قد أفسد المكتوب على أهله ولزمه غرم ما أفسد من القراطيس والرقوق، وكلتاهما خطة خسفٍ ما فيهما حظ لمختار، وربما اغتر جاهل ممن تلبس بالكتابة لوثوقه من نفسه بمعرفة مصطلح الوراقة دون الفقه، فيظن أنه استغنى بذلك عنه، وهذا غلط وجهل، لأنه قد يقع له من الوقائع ما لم يعلمه، فلا يخلصه منه إلا تصريفه على القواعد الشرعية، ولا يعتمد الكاتب على اطراد قاعدة الأشباه والنظائر، فيقبس الشيء على ما يظن أنه شبهه أو نظيره، وقد لا يكون كذلك، فإن الفقه أمر نقلي لا عقلي، فلا بد للكاتب من معرفته، والله أعلم. وأما علم الحساب والفرائض - فلأنه لو وقع في المجلس قسمة شرعية بين ورثة أو شركةٍ، ولم تكن له معرفة بهذا العلم، كان ذلك عجزاً منه وتقصيراً ونقصاً في صناعته، ويقبح به أن يعتمد على غيره فيه ويقلده، ويرجع إليه في المجلس الذي هو ممن يشار إليه فيه، فيصير في ذلك المجلس تابعاً بعد أن كان متبوعاً، ومقلداً لغيره، ومسطراً بقلمه ما لم يعرفه وما هو أجنبي عنه، هذا إن أتفق أن يحضر المجلس من له معرفة بهذا العلم، فأما إن خلا المجلس ممن يعلم ذلك جملة كان أشد لتوقيف الأمر وتعطيله، ودفعه من وقت إلى آخر، وفي هذا من النقص والتقصير والإخلال برتبته، وعدم الإنصاف بالكمال في صناعته، ما لا يخفى على متأمل. وأما معرفة صناعة الوراقة في الأمور التي ذكرناها - فلذلك من الفوائد ما لا يخفى على ذي لب، لأن الكاتب إذا أخرج المكتوب من يده بعد إتقانه وتحرير ألفاظه على ما استقر عليه الاصطلاح: من التقديم والتأخير ومتابعة الكلام وسياقته، وترصيعه وترصيفه، حسن موقعه، وعذبت ألفاظه، وأشرأبت له النفوس، ولو بلغ الكاتب في الفقه والعربية واللغة ما عساه أن يبلغ ولم يدر المصطلح، وخرج الكتاب من يده وقد حرره على قواعد الفقه والعربية من غير أن يسلك فيه طريق الكتاب واصطلاحهم، مجته الأسماع، ولم تقبله النفوس كل القبول، وثقل على قارئه وسامعه، والله أعلم. فهذه لمعة كافية من فوائد ما قدمناه مما يحتاج الكاتب الشروطي إلى معرفته، فلنذكر الآن صورة ما اصطلح عليه الكاتب من أوضاع الوراقة في الأمور التي قدمنا ذكرها على ما استقر عليه الحال في زماننا هذا، مما يضطر إليه المبتدئ، ولا يكاد يستغني عنه المنتهى، فنقول:أول ما ينبغي أن يبدأ به الكاتب فيما يصدر عنه من جميع المكاتيب الشرعية حين ابتدائه بكتابه شيء منها أن يكتب:'بسم الله الرحمن الرحيم' ثم يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم يكتب لقب المشهود عليه وكنيته واسمه، ولقب أبيه وجده وكنيتيهما واسميهما، إن كانوا ممن يلقبون ويكنون، وإلا فأسماؤهم كافية، وينسب المشهود عليه إلى قبيلته، أو صناعته وحرفته أو مجموع ذلك، وذلك بحسب ما تقتضيه رتبته وحاله في علو القدر والرفعة، فإن كان من ذوي الأقدار المشهورين ذكر ألقابه وكناه، ونسبة إلى قبيلته وحرفته، إن كانت مما تزيده رفعة وتعريفاً، وإن كان غير مشهورٍ أو منصبه لكنه ممن يعرفه الشهود بالحلية والنسب قال: وشهود هذا المكتوب به عارفون واستغنى بذلك عن وصف حليته، وإن كان ممن عرفه بعضهم ولم يعرفه البعض قال: وبعض شهوده به عارفون وذكر حليته، وإن كان ممن لا يعرفه الشهود جملة ذكر حلاه وضبطها على ما نشرحه عند ذكرنا للحلى، ثم يذكر المشهود له ويسلك في ألقابه ونعوته وكناه وتعريفه نحو ما تقدم في المشهود عليه بحسب ما تقتضيه حالهُ أيضاً ويذكر بعد ذلك ما اتفقا عليه، فإذا انتهى إلى آخر الكلام فيه أرخ المكتوب باليوم من الشهر، وبما مضى من سنين الهجرة النبوية، ولا بأس أن يؤرخه بالساعة من اليوم، الاحتمال تعارض مكتوبٍ آخر في ذلك اليوم يناقض هذا المكتوب، مثال ذلك أن امرأة طلقت في يوم قبل دخول الزوج المطلق بها، فتزوجت في يومها، وتمادى الأمر على ذلك، ثم ادعى مدعٍ أنها تزوجت قبل وقوع الطلاق ولم يكن في الكتاب ما يمنع دعواه، فإنه يحتاج في مثل هذا ونحوه إلى تحديد الطلاق والزواج بالساعات، فإن فيه إزالة للشك، وحسماً لمادة الالتباس،فإذا كملت كتابه المكتوب استوعبه الكاتب قراءة، فإن كان على السداد والتحرير أشهد في ذيله عليهما بما اتفقا عليه، أو على المقر بما أقر به، وذلك بحسب ما تقتضيه الحال. وإن احتاج المكتوب إلى إصلاح: من كشط أو ضرب أو إلحاق حرره، واعتذر في ذيل المكتوب تلو التاريخ قبل وضع رسم الشهادة عما أصلحه فيقول فيه مصلح على كشط كذا وكذا، وفيه ضرب ما بين كلمة كذا إلى كلمة كذا إن كان الضرب قد أخفى ما كان تحته، وإن كانت الأحرف المضروب عليها ظاهرة قال: فيه ضرب على كذا وكذا، وفيه ملحق بين سطوره أو بهامشه كذا وكذا ويشرح ذلك، ثم يقول: وهو صحيح في موضعه، معمول به، معتذر عنه بخط كاتبه. وإن كان المكتوب في درج موصونٍ بالإلصاق، أو رق مخروز الأوصال أشار على فواصل الأوصال بقلمه إشارة له يعرفها وتعرف عنه: إما علامته أو اسمه، ويكتب في آخر أسطره عدد أوصال المكتوب، وعدة أسطره، وقد أهمل الكتاب ذلك في غالب مكاتيبهم، وهو زيادة حسنة في التحرير، والله أعلم. وإن كان المكتوب نسخاً متعددة ككتب الأوقاف كتب عند رسم شهادته في كل نسخة عدد النسخ، والقاعدة عندهم في هذه الصناعة أن الكاتب كلما زادها عرفانا زادته بياناً، فيكون هذا دأبه في كل ما يكتبه أو غالبه، والله أعلم بالصواب. ولنذكر كيفية ما يصنعه الكاتب في كل واقعة على معنى ما أورده أبو عبد الله محمد بن عبد الرحمن المخزومي، المعروف بابن الصيرفي في مختصره الذي ترجمه بمختصر المكاتبات البديعة فيما يكتب من أمور الشريعة الذي قال فيه إنه اختصره من كتابه المترجم بجامع العقود في علم المواثيق والعهود.أما الإقرارات وما يتصل بها من الرهن والضمان - فسبيل الكاتب فيها أنه إذا أقر رجل لرجل بدين كتب: أقر فلان عند شهوده طوعاً إقراراً صحيحاً شرعياً بأن في ذمته بحق صحيح شرعي لفلان من الذهب المسكوك، أو من الدراهم النقرة المتعامل بها يومئذ كذا وكذا، إن كان نقداً. وإن كان غلة أو صنفاً من الأصناف الموزونة أو المعدودة أو غير ذلك قال: من الغلال الطيبة النقية السالمة من العيوب والغلث، ويعين الغلة، وينسبها إلى جهتها فيقول إن كان بالديار المصرية: الصعيدية، أو البحرية، أو الفيومية، وإن كان بالشأم أو بغيره نسبها إلى جهتها فيقولك البلقاوية، أو الحورانية أو السوادية أو الجبلية أو المرجية، أو غير ذلك من النواحي، يعينها بناحيتها وبأصنافها، وبأكيالها، ويذكر الجملة وينصفها فيقول: النصف من ذلك تحقيقاً لأصله وتصحيحاً لجملته كذا وكذا، ثم يقول: يقوم له بذلك على حكم المحلول وسبيله، أو التنجيم، أو يقول: على ما يأتي ذكره وبيانه، فمن ذلك ما يقوم به على حكم الحلول كذا، وما يقوم به في التاريخ الفلاني كذا على حسب ما يقع عليه الاتفاق، ثم يقول: وأقر المقر المذكور بأنه ملئ بالدين المعين، قادر عليه وأنه قبض العوض عنه، فإن كان ذلك على حكم الحلول اكتفى فيه بالشهادة على المقر دون المقر له، وإن كان لأجل فلا غنية عن الشهادة على المقر له بأنه صدقه على ذلك فإنه لو أدعى الحلول فيما وقعت الشهادة فيه على المقر بمفرده بأنه إلى أجل، كان القول قوله مع يمينه، وكذلك في الشهادة بالغلة أو الصنف، هل ذلك محمول إلى منزل المقر له، أو هو موضوع بمكان آخر، فإن في الشهادة عليهما معاً قطعاً للنزاع والاختلاف، والله سبحانه وتعالى أعلم. ولا يجوز أن يشهد في الإقرار إلا على حرٍّ بالغ عاقل، أو مريض مع حضور حسه وفهمه، ويجوز أن يكتب على العبد البالغ وتتبع به ذمته بعد عتقه.وإن كان الدين المقر به ثمن مبيع كتب في آخر المكتوب: وهذا الدين هو ثمن ما ابتاعه القمر من المقر له، وتسلمه، وهو جميع الشيء الفلاني، أو جميع الحصة التي مبلغها كذا وكذا، الجاري ذلك في يد البائع وملكه وتصرفه على ما ذكرا - ويذكر المبيع ويصفه - وذلك بعد النظر والمعرفة، والمعاقدة الشرعية، والتفرق بالأبدان عن تراض، وضمان الدرك في صحة البيع حيث يجب شرعاً.ويؤرخ المكتوب، ويشهد عليهما معاً. وإن كان الدين لرجل واحد أو اثنين أو جماعة على اثنين أو على جماعة قال: أقر كل واحد من فلان وفلان وفلان إقرارا صحيحاً شرعياً بأن في ذمتهم بحق صحيح شرعي السوية بينهم أو على مقتضى ما وجب عليهم، لكل واحد من فلان وفلان، ويعين المقر به نقداً كان أو صنفاً على حكمه في الحلول والأجل والمدد، ويعين لكل واحد من المقرب لهم ما يخصه، إن كان بينهم تفاوت، أو بالسوية بينهم، ويشهد على من أقر بالملاءة وقبض للعوض على ما تقدم. وإن تضامنوا وتكافلوا قال: وكل واحد منهم ضامن في ذمته ما في ذمة الآخر من ذلك للمقر لهم بإذن كل واحد منهم للآخر في الضمان والأداء والرجوع، وأقروا بأنه مليئون بما ضمنوه، ويؤرخ. وإن كان كل واحد من المقرين يقوم بما عليه من الدين من غير ضمان ولا كفالة لغيره فلا بأس بأن يبرهن الكاتب على ذلك بأن يقول: من غير ضمان ولا كفالة.

شارك هذه الصفحة:

تابع موسوعة الأدب العربي على شبكات التواصل الإجتماعي