الألغاز والأحاجي
قالوا: واشتقاق اللغز من ألغز اليربوع ولغز: إذا حفر لنفسه مستقيما، ثم أخذ يمنةً ويسرة ليواري بذلك ويعمي على طالبه.وللغز أسماءٌ فمنها: المعاياة، والعويص، والرمز، والمحاجاة، وأبيات المعاني، والملاحن، والمرموس، والتأويل، والكناية، والتعريض، والإشارة، والتوجيه، والمعمي، والممثل، ومعنى الجميع واحد، واختلافها بحسب اختلاف وجوه اعتبارات، فإنك إذا اعتبرته من حيث إن واضعه كأنه يعابيك، أي يظهر إعياءك وهو التعب، سميته: معاياة، وإذا اعتبرته من حيث صعوبة فهمه واعتياص استخراجه، سميته: عويصا، وإذا اعتبرته من حيث إنه قد عمل على وجوه وأبواب، سميته: لغزاً، وفعلك له: إلغازا، وإذا اعتبرته من حيث إن واضعه لم يفصح عنه قلت: رمز، وقريب منه الإشارة، وإذا اعتبرته من حيث إن غيرك حاجاك أي استخرج مقدار عقلك، سميته: محاجاة، وإذا اعتبرته من حيث إنه استخرج كثرة معانيه، سميته: أبيات المعاني، وإذا اعتبرته من حيث إن قائله قد يوهمك شيئا ويريد غيره، سميته: لحنا وسميت فعلك: الملاحن، وإذا اعتبرته من حيث إنه سترعنك ورمس فهو: المرموس، والرمس: القبر، وإذا اعتبرته من أن معناه يؤول إليك، سميته: مؤولا، وسميت فعلك: تأويلا، وإذا اعتبرته من حيث إن صاحبه لم يصرح بغرضه، سميته: تعريضا وكناية، وإذا اعتبرته من حيث إنه ذو وجوه، سميته: الموجه، وسميت فعلك: التوجيه، وإذا اعتبرته من حيث إنه مغطى عليك، سميته: معمى. قال الحكيم أمير الدولة المعروف بابن التلميذ في الميزان:
ما واحد مختلف الأسماء
يعدل في الأرض وفي السماء
يحكم بالقسط بلا رياء
أعمى يرى الرشاد كل رائي
أخرس لا من علة وداء
يغني عن التصريح بالإيماء
يجيب إن ناداه ذو امتراء
بالرفع والخفض عن النداء
يفصح إن علق في الهواء
قوله: مختلف الأسماء يعني ميزان الشمس، والآصطرلاب، وسائر آلات الرصد، وهو معنى قوله: يحكم في السماء.وميزان الكلام: النحو، وميزان الشعر: العروض، وميزان المعاني: المنطق، وهذه الميزان والذراع والمكيال. وقال آخر فيه:ما تقولون ؟ فيما نزل من السماء، وعلق في الهواء، له عينٌ عمياء، وكفٌ شلاء، ليس له إن عدل ثواب، ولا عليه إن جار عقاب، خلق من ثلاثة أجناس، تضعضعه الأنفاس، جسمه عارٍ من غير لباس، أخرس اللسان، في أذنه خرصان، مكرر الذكر في القرآن، ينطوي إذا نام كالصل، وفعله المستقبل معتل، وله في الآخرة أكبر محل. وقال أبو نصر الكاتب في الخاتم:
ومنكوحٍ إذا ملكته كفٌ
وليس يكون في هذا مراء
له عينٌ تخللها ضياءٌ
فإن كحلت فللميل العماء
يظل طليعةً للوصل هونا
وللخاشي بزورته احتماء
وقد أوضحته وأبنت عنه
ففسره فقد برح الخفاء
أراد بقوله: تخللها ضياءٌ أي أنها مفتوحة وكحلها بالإصبع، وقد يبعث المحبوب بخاتمه علامةً للزيارة أو رهنا عليها وهو أمانٌ للجاني. وقال ابن الرومي في فتيلة السراج:
ما حيةٌ في رأسها درة
تسبح في بحرٍ قليل المدى
إن غيبت كان العمى حاضرا
وإن بدت لاح طريق الهدى
وقال السري الرفاء في شبكة الصياد:
وكثيرة الأحداق إلا أنها
عمياء ما لم تنغمس في ماء
وإذا هيي انغمست أفادت ربها
ما لا ينال بأعين البصراء
وقال آخر في النوم:
وحاملٍ يحملني
وما له شخصٌ يرى
إذا حصلت فوقه
وهو لذيذ الممتطى
سريت لا أدري أفي
أرض سريت أم سما
وقال أبو العلاء المعري في ركابي السرج:
خليلان نيطا في جوانب مجلسٍ
جداراه قدام له ووراء
متى يضع الرجلين ماشٍ عليهما
يزل عنه في شكٍ حفاً وحفاء
قوله: خليلان لتشابههما، والمجلس: السرج، وجداراه: قربوسه ورادفته، والحفا مقصور: وجع الرجل، وممدود: من مشى الرجل حافيا بغير نعل. وقال ابن القاسم عبد الصمد بن نائ في القفل:
مجامعٌ يعقد عقد الكلبه
إن رامه غيرك جر نكبه
ينام كالأمرد لا كالقحبه
حتى إذا شك القمد جنبه
وعالج الجذبة بعد الجذبه
وانحل بالحقنة لا بالشربه
ألقي جنينا نتجته العزبه
ثم إذا عاد إليه أشبه
بعض حروف المعجم المنكبه
يبغض وهو صادق المحبه
يعتقد السلم وينوي حربه
وهو على ذاك طويل الصحبه
شبهه بالمجامع: لدخول الفراش في بطنه، وقوله: يعقد عقد الكلبة: في عسر المفارقة، وإن فتحه غيرك جر نكبة عليك لسرقة ما فيه، ينام كالأمرد: لانكبابه، والقمد: الذكر وهو المفتاح، والجنين: الفراش، وإذا عاد إليه أشبه حرف الكاف. وقال في اسم سعيد:
يبسم عن أول اسمه حبي
ثم بثاني حروفه يسبي
ثم بحرفين لو بدا بهما
أسدي يدا صورة اسمها تنبي
أربعة نصفها كجملتها
في العد لم تنتقص ولم تربي
هذا وفيه اسم يومٍ اتفقت
مفاخر العجم فيه والعرب
فأعمل الفكر في تأمله
واركب به كل مركب صعب
شبه السين بالثغر، وثانيه العين وهي تسبي القلوب، والحرفان يد وهي أربعة في العدد وستة في الصورة، وإذا أخذت السين والعين فهي أربعة وهي جملة العدد، وفيه عيد وهو يوم التفاخر بالزينة واللبوس. وقال ابن أبي البغل الكاتب في القلم:
اصم عن المنادي لا يجيب
به تخبو وتشتعل الخطوب
ضئيل الجسم أعلم ليس تخفى
عليه غيوب ما تخفى القلوب
تراه راجلاً لا روح فيه
ويحييه وينطقه الركوب
يبين لسانه ما كن سوداً
معارفه ويخرسه المشيب
يقسم في الورى بؤسى ونعمى
ويحكم والقضاء له مجيب
عجبت لسطوة فيه وضعف
وكل أموره عجبٌ عجيب
أراد بقوله: أعلم: مشقوق الشفة. وقال أبو العلاء المعري في الملح:
وبيضاء من سر الملاح ملكتها
فلما قضت إربي حبوب بها صحبي
فباتوا بها مستمتعين ولم تزل
تحثهم بعد الطعام على الشرب
قوله: سر أي خالصة، والملاح جمع ملح، والإرب: الحاجة. وقال آخر في عودي الغناء والبخور:
وما شيئان إسمهما سواءٌ
وأصلهما معا عند انتساب
إذا حضراك بت قرير عين
بلا طعم يلذ ولا شراب
وما أن يوجدان النفع إلا
بضرب أو بضرب من عذاب
معنى اسمهما سواء ظاهرٌ، وأصلهما خشب، والضرب الأول: ضرب العود، والثاني: من العذاب وهو الإحراق. وقال آخر في الحرب:
ما ذات شوكٍ لها جناح
يختطف الناس عن قريب
وهي عقيم ترى بنيها
من بين مردٍ وبين شيب
يأكل بعض البنين بعضا
طلوع شمس إلى غروب
تصحيفها الداء غير شك
قد يحسم الداء بالطيب
والداء معكوسه مكان
يصلح للطائر النجيب
يعرفها من يكون طبا
بالشعر والنحو والغريب
هذا لغز معمي في الحرب، وشوكها: السلاح، وجناحاها: جانباها، وعقيم: لأنها لا تلد، وبنوها: رجالها، وأكلهم: قتلهم، وتصحيفها: الجرب، وعكسه: برج. وقال آخر في الثدي:
وما أخوان مشتبهان جداً
كما اشتبه الغرابة والغراب
يضمهما على مر الليالي
وما اجتمعا ولا افترقا إهاب
لذاك وذا دموع هاملات
ولكن كل دمعهما شراب
يصونهما عن الأبصار دين
ويضرب دون نيلهما حجاب
هما: ثديا المرأة، ويضمهما إرهاب: وهو الجلد. وقال آخر في الفخ:
وما ميت كفنته ودفنته
فقام إلى حي صحيح فأوثقه
وقال آخر وهو لغز:
حلف الحبيب علي لا سميته
فكنيته ولطفت خوف تغاضبه
ظبي إذا ما زارني حل اسمه
قلبي وذلك من عجيب عجائبه
ويكون إن رخمته وخرمته
وقلبته ما تشتهي من صاحبه
ويكون إن صحفت مبدأه الذي
أصبحت تهواه لعين مراقبه
وتراه بعد الجزم إن ميزت في الت
صحيف مقلوبا أشد معائبه
وحروفها فالنصف منها جذرها
وحساب ذلك غير متعب حاسبه
فاطلبه سادس سادس ثانيه ثا
نيه وثالثه كذاك لطالبه
وتمامه من بعد مثل حروفه
في البيت صح اسم الحبيب لقالبه
هو لغز في فرحةٍ، والترخيم: حذف الآخر، والخرم: حذف الأول، فإذا رخم وخرم وقلب بقي: حر، وإذا قلبت الفاء قافا بقي: قرحة لعين المراقب، وإذا صحفته مقلوبا، جزمت آخره صار: هجر، والنصف من حروفه اثنان، وهما جذر جميع حروفه، وقوله: فاطلبه سادس سادس: يعني البيت السادس. وقال آخر في سلمى:
سل ماهراً بالقريض والأدب
ما اسم فتاةٍ قعيدة النسب
قد صرح الشعر باسمها فمتى
فكرت فيها ظفرت بالعجب
الاسم: سلمى، وهو ظاهر في أول البيت. وقال آخر في الكرة:
ومضروبةٍ تحيا إذا ما ضربتها
وإن تركت من شدة الضرب ماتت
وقال أبو عبد الله بن المغلس بن السراج:
وداع إلى نفسه في الظلام
وما سمعت أذنه صوته
إذا هو بيض وجه الطري
ق سود في وجهه بيته
وقال آخر في الصدى:
وساكنٍ يسكن في الفلاة
ليس في الوحش ولا النبات
ولا من الجن ولا الحيات
ولا الخيام الشعر والأبيات
ولا بذي جسم ولا حياة
كلا ولا يدرك بالصفات
بلى له صوت من الأصوات
يسمع في الأحيان والأوقات
وقال ابن المغلس في النخلة:
وقائمة أبدا لا تنام
وما قعدت قط مذ قامت
تعيش إذا غسلوا رجلها
وإن حلقوا رأسها ماتت
وقال آخر:ما يقول سيدنا الشيخ: في شيء نزل من السماء، وركض في الهواء، وخيم في البيداء، نطق على نفسه فأفصح، وتكلم فبين وأوضح، أفقر وأغنى، وأمات وأحيا، له شوارق من غير غضب، ورقصات على غير طرب، يسبق الفرس السريع، ويسبقه الطفل الرضيع، مختلف الألوان، يوجد في كل زمان، ما أكثر لغاته ! وأعم في البشر ذكر صفاته ! وهو خفيف ثقيل، كثير قليل، كبير صغير، طويل قصير، غال رخيص، قوي ضعيف، سريع بطيء، بارد حار، نافع ضار، أبيض أسود أزرق، قريب بعيد، قديم جديد، متحرك ساكن، ظاهر باطن، يتجسر ويتكسر، ويتعوج ويتدور، سلطانه في الشمال وبه يذل، وضعفه في الجنوب وبه يعز، نحيل يخفي جثة الفيل في طيه وعطفه، ويتخلل جفن العين الرمدة برفقه ولطفه، يمشي على الحدق فلا يؤلمها، ويطأ القلوب فلا يكلمها، على أنه يقطع الطريق، ويخيف الفريق، كم أهلك من قوم وما راق ولا سفك ! يحمل ألف قنطار، ويعجز عن حمل دينار، وهو ليليٌّ نهاري، عربيٌّ عجميٌ، بريٌّ بحريٌّ، سهليٌّ جبليٌّ، روميٌّ نوبيٌّ، هنديٌّ حبشيٌّ، صينيٌّ جاهليٌّ إسلاميٌّ، كان مع آدم في الجنة، وصحب نوحا في السفينة، وتوسط النار مع إبراهيم، كم له مع موسى من خبر ! ولموسى فيه من آية وأثر ! حمل المسيح على غير ظهر، وما سار في بر ولا بحر، أخرجه النبي صلى الله عليه وسلم من جسده، وفرقه على صحابته، إذا نطقت به كان بعض أحد خلفاء بني العباس السبعة وهو 1431. وقال آخر:ما شيءٌ وجهه قمر، وقلبه حجر إن علقته ضاع، وإن أدخلته السوق أبي أن يباع، وإن فككته دعا لك، وإن ركبت نصفه هالك، وربما كثر أموالك، وإن حذفت آخره، وشددت ثانيه، أورثك الألم عند الفجر، والضجر عند العصر: هو الدملج الفضة.