العقاب
يقال: إنّ جميعه أنثى وليس فيه ذكر.ويسمى عند أهل اللغة العنقاء.وهي عقابٌ وزمّجٌ.فأما فيقال: إنّ ذكورها من طيرٍ آخر لطيف الجرم.وهي تبيض في الغالب ثلاث بيضاتٍ فيخرج لها فرخان.قال الجاحظ: ثم اختلفوا، فقال بعضهم: لأنها لا تحضن إلاّ بيضتين ؛ وقال آخرون: قد تحضن ويخرج لها ثلاثة أفراخ ولكنها ترمي بالواحد استثقالاً للتكليف على ثلاثة ؛ وقال آخرون: ليس ذلك إلاّ لما يعتريها من الضعف عند الصيد، كما يعتري النّفساء من الوهن والضعف.وهي تحضن ثلاثين يوماً.وما عداها من الجوارح تبيض بيضتين في كل سنة وتحضن عشرين يوماً. قالوا: وفي طبع الذكر انه يمتحن أنثاه هل هي محافظة له أو مؤاتية لغيره من غير جنسه، بأن يصوّب نظر فرخيه إلى شعاع الشمس، فإن ثبت عليه تحقّق أنها فراخه وأمسكها، وإن نبا بصره عن شعاع الشمس ضرب الأنثى كما يضرب الرجل المرأة الزانية وطردها من ووكره ورمى الفرخين. و خفيفة الجناح، سرية الطيران، فهي إن شاءت ارتفعت على كل شيءٍ وإن شاءت كانت بقربه.يقال: إنها تتغذى بالعراق وتتعشى باليمن.وربما صادت حمر الوحش، وذلك أنها إذا نظرت الحمار رمت نفسها في الماء حتى يبتل جناحاها، ثم تتمرّغ في التراب وتطير حتى تقع على هامة الحمار، ثم تصفّق على عينيه بجناحيها فتملؤهما تراباً، فلا يرى الحمار أين يذهب فيؤخذ.وهي مولعة بصيد الحيّات.وفي طبعها قبل أن تتدرّب أنها لا تراوغ صيداً ولا تعنى فيطلبه، ولا تزال موفيةً على شرفٍ عالٍ ؛ فإذا رأت سباع الطير قد صادت شيئاً انقضّت عليه، فتتركه لها وتنجو بنفسها.ومتى جاعت لم يمتنع عليها الذئب.وهي شديدة الخوف من الإنسان.ويقال: إنها إذا هرمت وثقل جناحها وأظلم بصرها التمست غديراً ؛ فإذا وجدته حلّقت طائرةٌ في الهواء ثم تقع من حالقٍ في ذلك الغدير فتنغمس فيه مراراً، فيصحّ جسمها ويقوى بصرها ويعود ريشها ناشئاً إلى حالته الأولى.وهي متى ثقلت عن النهوض أو عميت حملتها الفراخ على ظهورها ونقلتها من مكان إلى آخر لطلب الصيد وتعولها إلى أن تموت.ومن عجيب ما ألهمت أنها إذا اشتكت كبدها رفعت الأرانب والثعالب في الهواء وأكلت أكبادها فتبرأ.وهي تأكل الحيّات إلاّ رءوسها، والطّير إلا قلوبها.قال امرؤ القيس:
كأنّ قلوب الطير رطباً ويابساً
لدى وكرها العنّاب والحشف البالي
ومنسرها الأعلى يعظم ويتعقّف حتى يكون ذلك سبب هلاكها ؛ لأنها لا تنال به الطّعم إذا كان كذلك.وأوّل من صاد بها أهل المغرب.وحكي أنّ قيصر أهدى إلى كسرى عقاباً، وكتب إليه: علّمها فإنها تعمل عملاً أكثر من الصقور التي أعجبتك.فأمر بها فأرسلت على ظبيٍ عرض لها فقدّته، فأعجبه ما رأى منها ؛ ثم جوّعها ليصيد بها، فوثبت على صبيّ من حاشيته فقتلته ؛ فقال كسرى: غزانا قيصر في بلادنا بغير جيش.ثم أهدى له نمراً وكتب إليه: قد بعثت إليك بما تقتل به الظّباء وما قرب منها من الوحش ؛ وكتم عنه ما صنعت .فأعجب به قيصر.فغفل عنه يوماً فافترس بعض فتيانه ؛ فقال: صادنا كسرى ؛ فإن كنّا صدناه فلا بأس.فلمّا اتّصل ذلك بكسرى قال: أنا أبو ساسان. وأجود ما جلب من سرت وبلاد المغرب. وقد وصفها الشعراء فمن ذلك ما قاله أبو الفرج الببّغاء:
ما كلّ ذات مخلبٍ وناب
من سائر الجارح والكلاب
بمدركٍ في الجدّ والطّلاب
أيسر ما يدرك
شريفة الصّبغة والأنساب
تطير من جناحها في غاب
وتستر الأرض عن السّحاب
وتحجب الشمس بلا حجاب
يظلّ منها الجوّ في اغتراب
مستوحشاً للطير كالمرتاب
ذكيّةٌ تنظر من شهاب
ذات جرانٍ واسع الجلباب
ومنكبٍ ضخمٍ أثيثٍ رابي
ومنسرٍ موثّق النّصاب
وراحتي ليث شرىً غلاّب
نيطت إلى براثنٍ صلاب
مرهفةٍ أمضى من الحراب
وكلّ ما حلّق في الضّباب
لملكها خاضعة الرّقاب