الكتابة وأصناف الكتاب
ولنبدأ باشتقاق الكتابة، ولم سميت الكتابة كتابة، ثم نذكر شرفها وفوائدها، ثم نذكر ما عدا ذلك من أخبار المحترفين بها، وما يحتاج كل منهم إليه، فنقول وبالله التوفيق والإعانة. أصل الكتابة مشتق من الكتب وهو الجمع، ومنه سمي الكتاب كتابة، لأنه يجمع الحروف وسميت الكتيبة كتيبة، لأنها تجمع الجيش، وقد ورد في المعارف: أن حروف المعجم أنزلت على آدم عليه السلام في إحدى وعشرين صحيفة، وسنذكر من ذلك طرفا عند ذكرنا لأخبار آدم عليه السلام في فن التاريخ فهذا اشتقاقها. وأما شرفها - فقد نص الكتاب العزيز عليه، فقال - تعالى - وهو أول ما أنزل على رسول الله عليه وسلم من القرآن بغار حراء في شهر رمضان المعظم - 'اقرأ باسم ربك الذي خلق خلق الإنسان من علق اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم' قال تعالى: 'الرحمن علم القرآن خلق الإنسان علمه البيان'وقال تعالى في وصف الملائكة: 'كراماً كاتبين' إلى غير ذلك من الآي. ومن شرف الكتابة نزول الكتب المتقدمة مسطورة في الصحف كما ورد في الصحف المنزلة على شيث وإدريس ونوح وإبراهيم وموسى وداود وغيرهم صلى الله عليهم كما أخبر به القرآن، قال الله تعالى 'إن هذا لفي الصحف الأولى صحف إبراهيم وموسى' وقال تعالى 'وألقى الألواح'وما ورد في الأخبار الصحيحة والأحاديث الصريحة أنه مكتوب على العرش وعلى أبواب الجنة ما صورته:لا إله إلا الله محمد رسول الله.وكفى بذلك شرفا. وأما فوائدها: فمنها رسم المصحف الكريم الموجود بين الدفتين في أيدي الناس ولولا ذلك لاختلف فيه ودخل الغلط وتداخل الوهم قلوب الناس. ومنها رقم الأحاديث المروية عن النبي صلى الله عليه وسلم التي عليها بنيت الأحكام وتميز الحلال من الحرام، وضبط كتب العلوم المنقولة عن أعلام الإسلام وتواريخ من انقرض من الأنام فيما سلف من الأيام. ومنها حفظ الحقوق، ومنع تمرد ذوي العقوق ؛ بما يقع عليهم من الشهادات ويسطر عليهم من السجلات التي أمر الله تعالى بضبطها بقوله تعالى: 'يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجلٍ مسمى فاكتبوه'ومنها المكاتبة بين الناس بحوائجهم من المسافات البعيدة، إذ لا ينضبط مثل ذلك برسول، ولا تنال الحاجة به بمشافهة قاصد، ولو كان على ما عساه علي يكون من البلاغة والحفظ لوجود المشقة، وبعد الشقة. ومنها ضبط أحوال الناس، كمنشير الجند، وتواقيع العمال وإدارات أرباب الصلات في سائر الأعمال، إلى ما يجري هذا المجرى، فكان وجودها في سائر الناس فضيلة وعدمها نقيصة إلا في رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنها إحدى معجزاته لأنه صلى الله عليه وسلم أمي 'أتى' بما أعجز البلغاء، وأخرس الفصحاء، وفل حد المؤرخين من غير مدارسة ولا ممارسة تعليم، ولا مراجعة لمن عرف بذلك واشتهر به. والكتابة العربية أشرف الكتابات لأن الكتاب العزيز لم يرقم بغيرها خلافاً لسائر الكتب المنزلة، وهذه الكتابة العربية أول من اخترعها على الوضع الكوفي سكان مدينة الأنبار، ثم نقل هذا القلم إلى مكة فعرف بها، وتعلمه من تعلمه، وكثر في الناس وتداولوه، ولم تزل الكتابة به على تلك الصورة الكوفية إلى أيام الوزير أبي علي بن مقلة، فعربها تعريباً غير كاف، ونقلها نقلاً غير شاف، فكانت كذلك إلى أن ظهر علي بن هلال الكاتب المعروف بابن البواب، فكمل تعريبها وأحسن تبويبها، وأبدع نظامها، وأكمل التئامها، وحلاها بهجة وجمالاً، وأولاها بل أولى بها منة وإفضالاً، وألبسها من رقم أنامله حللا، وجلاها للعيون فكان أول من أحسن في ترصيعها وترصيفها عملاً، ولا زال يتنوع في محاسنها، ويتنوع في ترصيع عقود ميامنها ؛ حتى تقررت على أجمل قاعدة وتحررت على أكمل فائدة، وسنزيد ما قدمناه من هذه الفصول وضوحاً وتبياناً، ونقيم على تفصيل مجملها وبسط مدمجها أدلة وبرهاناً. 'ثم الكتابة بحسب من' يحترفون بها على أقسام: وهي كتابة الإنشاء، وكتابة الديوان والتصرف، وكتابة الحكم والشروط، وكتابة النسخ، وكتابة التعليم، ومنهم من عد في الكتابة كتابة الشرط، ولم نرد ذكرها تنزيهاً لكتابنا عنها، ولا حكمة في إيرادها. ولنبدأ بذكر كتابة الإنشاء وما يتعلق بها. ذكر كتابة الإنشاء وما اشتملت عليه من البلاغة والإيجازوالجمع في المعنى الواحد بين الحقيقة والمجاز، والتلعب بالألفاظ والمعاني والتوصل إلى بلوغ الأغراض والأماني. ولنبدأ من ذلك بوصف البلاغة وحدها والفصاحة:فأما البلاغة - فهي أن يبلغ الرجل بعبارته كنه ما في نفسه، ولا يسمى البليغ بليغاً إلا إذا جمع المعنى الكثير في الفظ القليل، وهو المسمى إيجازاً. وينقسم الإيجاز إلى قسمين: إيجاز حذف، وهو أن يحذف شئ من الكلام وتدل عليه القرينة، كقوله تعالى: 'وأسأل القرية التي كنا فيها' والمراد أهل القرية وكقوله تعالى: 'ولكن البر من اتقى' والمراد ولكن البر من اتقى، وكقوله تعالى: 'واختار موسى قومه سبعين رجلاً' والمراد من قومه وقوله تعالى: 'وعلى الذين يطيقونه' والمراد لا يطيقونه' ونظائرهم هذا وأشباهه كثير. وإيجاز قصر هو تكثير المعنى وتقليل الألفاظ، كقوله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم مما جمع فيه شرائط الرسالة: 'فاصدع بما تؤمر' وسمع أعرابي رجلاً يتلوها فسجد وقال: سجدت لفصاحته، ذكره أبو عبيد، وقوله تعالى مما جمع فيه مكارم الأخلاق: 'خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين' وقوله تعالى: 'إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم ألا تعلو علي وآتوني مسلمين' فجمع في ثلاث كلمات بين العنوان والكتاب والحاجة وقوله تعالى: 'قالت نملة يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم سليمان وجوده وهم لا يشعرون' فجمع في هذا على لسان النملة بين النداء والتنبيه والأمر والنهي والتحذير والتخصيص والعموم والإشارة والإعذار ؛ ونظير ذلك ما حكي عن الأصمعي أنه سمع جارية تتكلم فقال لها: قاتلك الله، ما أفصحك، فقالت: أو يعد هذا فصاحة بعد قول الله تعالى: 'وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه فإذا خفت عليه فألقيه في اليم ولا تخافي ولا تحزني إنا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين' فجمع في آية واحدة بين أمرين ونهيين وخبرين وبشارتين. ولما سمع الوليد بن المغيرة من النبي صلى الله عليه وسلم قوله تعالى: 'إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون' قال: والله إن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أسفله لمغدق، وإن أعلاه لمثمر، ما يقول هذا بشر. وسمع آخر رجلاً يقرأ: 'فلما استيأسوا منه خلصوا نجيا' فقال: أشهد مخلوقاً لا يقدر على مثل هذا الكلام. وقال أبو عثمان عمرو بن الجاحظ: البيان اسم جامع لكل ما كشف لك من قناع المعنى، وهتك الحجاب عن الضمير، حتى يفضي السامع إلى حقيقة اللفظ ويهجم على محصوله كائناً ما كان. وقيل لجعفر بن يحيى: ما البيان ؟ فقال: أن يكون اللفظ محيطاً بمعناك كاشفاً عن مغزاك، وتخرجه من الشركة، ولا تستعين عليه بطول الفكرة ويكون سليماً من التكلف، بعيداً من سوء الصنعة، بريئاً من التعقيد، غنياً عن التأمل. وقال آخر: خير البيان ما كان مصرحاً عن المعنى ليسرع إلى الفهم تلقيه وموجزاً ليخف على اللسان تعاهده. وقال أعرابي: البلاغة التقرب من معنى البغية، والتبعد من وحشي الكلام وقرب المأخذ، وإيجاز في صواب، وقصد إلى الحجة، وحسن الاستعارة، قال علي رضي الله عنه: البلاغة لإفصاح عن حكمه مستغفلة وإبانة علم مشكل. وقال الحسن بن علي رضي الله عنهما: البلاغة إيضاح الملتبسات وكشف عورات الجهالات، بأحسن ما يمكن من العبارات. وأما الفصاحة - فهي مأخوذة من قولهم: أفصح اللبن إذا أخذت عنه الرغوة.وقالوا: لا يسمى الفصيح فصيحاً حتى تخلص لغته عن اللكنة الأعجمية ولا توجد الفصاحة إلا في العرب.وعلماء العرب يزعمون أن الفصاحة في الألفاظ والبلاغة في المعاني ويستدلون بقولهم: لفظ فصيح ومعنى بليغ. ومن الناس من استعمل الفصاحة والبلاغة بمعنى واحد في الألفاظ والمعاني والأكثرون عليه. ذكر صفة البلاغةقيل لعمر بن عبيد: ما البلاغة ؟ قال: ما بلغك الجنة، وعدل بك عن النار ؛ قال السائل: ليس هذا أريد ؛ قال: فما بصرك مواقع رشدك وعواقب غيك ؛ قال: ليس هذا أريد ؛ قال: من لم يحسن أن يسكت لم يحسن أن يسمع ومن لم يحسن أن يسمع لم يحسن أن يسأل، ومن لم يحسن أن يسأل لم يحسن أن يقول ؛ قال: ليس هذا أريد ؛ قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: 'أنا معشر النبين بكاء' - أي قليلوا الكلام، وهو جمع بكئ - وكانوا يكرهون أن يزيد منطق الرجل على عقله قال السائل: ليس هذا ما أريد ؛ قال: فكأنك تريد تخير اللفظ في حسن إفهام ؛ قال: نعم، قال: إنك أن أردت تقرير حجة الله في عقول المتكلمين، تخفيف المؤونة على المستمعين، وتزيين المعاني في قلوب المستفهمين بالألفاظ الحسنة رغبة في سرعة استجابتهم، ونفي الشواغل عن قلوبهم بالمواعظ الناطقة عن الكتاب والسنة كنت قد أوتيت فصل الخطاب. وقيل لبعضهم: ما البلاغة ؟ قال: معرفة الوصل من الفصل، وقيل لآخر: ما البلاغة ؟ قال: ألا يؤتى القائل من سوء فهم السامع، ولا يؤتى السامع من سوء بيان القائل. وقيل للخليل بن أحمد: ما البلاغة ؟ فقال: ما قرب طرفاه، وبعد منتهاه. وقيل لبعض البلغاء: من البليغ ؟ قال: الذي إذا قال أسرع، وإذا أسرع أبدع وإذا أبدع حرك كل نفس بما أودع. وقالوا: لا يستحق الكلام اسم البلاغة حتى يكون معناه إلى قلبك أسبق من لفظه إلى سمعك. وسأل معاوية صحاراً العبدي: ما هذه البلاغة ؟ قال: أن تجيب فلا تبطئ وتصيب فلا تخطئ. وقال الفضل: قلت لأعرابي: ما البلاغة ؟ قال: الإيجاز في غير عجز والإطناب في غير خطل. وقال قدامة: البلاغة ثلاثة مذاهب: المساواة وهو مطابقة اللفظ المعنى لا زائد ولا ناقصاً ؛ والإشارة وهو أن يكون الفظ كاللمحة الدالة ؛ والدليل وهو إعادة الألفاظ المترادفة على المعنى الواحد، ليظهر لمن يفهمه، ويتأكد عند فهمه. قال بعض الشعراء:
يكفى قليل كلامه وكثيره
بيت إذا طال النضال مصيب
وقال أحمد بن محمد بن عبد ربه صاحب العقد: البلاغة تكون على أربعة أوجه: تكون باللفظ والخط والإشارة والدلالة، وكل وجه منها حظ من البلاغة والبيان وموضع لا يجوز فيه غيره، ورب إشارة أبلغ من لفظ. وقال رجل للعتابي: ما البلاغة ؟ قال: كل ما أبلغك حاجتك وأفهمك معناه بلا إعادة ولا حبسة ولا إستعانة فهو بليغ، قالوا: قد فهمنا الإعادة والحبسة فما معنى الاستعانة ؟ قال: أن يقول عند مقاطع الكلام: اسمع مني، وافهم عني، أو يمسح عثنونه، أو يفتل أصابعه، أو يكثر التفاته، أو يسعل من غير سعلة، أو ينبهر في كلامهقال بعض الشعراء:
ملئ ببهر والتفات وسعلةٍ
ومسحة عثنون وفتل الأصابع
ومن كلام أحمد بن إسماعيل الكاتب المعروف بنطاحة، قال: البليغ من عرف السقيم من المعتل، والمقيد من المطلق، والمشترك من المفرد، والمنصوص من المتأول، والإيماء من الإيحاء والفصل من الوصل، والتلويح من التصريح. ومن أمثالهم في البلاغة قولهم: يقل الحز ويطبق المفصل.وذلك أنهم شبهوا البليغ الموجز الذي يقل الكلام ويصيب نصوص المعاني بالجزار الرفيق الذي يقل حز اللحم ويصيب مفاصله، وقولهم: يضع الهناء مواضع النقب، أي لا يتكلم إلا فيما يجب الكلام فيه، والهناء: القطران.والنقب: الحرب.وقولهم: قرطس فلان فأصاب الغرة، وأصاب عين القرطاس.كل هذه أمثال للمصيب في كلامه الموجز في لفظه. فصول من البلاغةقيل: لما قدم قتيبة بن مسلم خراسان والياً علها، قال: من كان في يده شئ من مال عبد الله ب حازم فلينبذه، ومن كان في فيه فليلفظه ومن كان في صدره فلينفثه.فعجب الناس من حسن ما فصل. وكتب المعتصم إلى ملك الروم جواباً عن كتاب تهدده فيه: الجواب ما ترى لا تسمع 'وسيعلم الكافر لمن عقبى الدار'وقيل لأبي السمال الأسدي أيام معاوية: كيف تركت الناس ؟ قال: تركتهم بين مظلوم لا ينتصف وظالم لا ينتهي.وقيل لشبيب بن شبة عد باب الرشيد:كيف رأيت الناس ؟ قال: رأيت الدخل راجياً والخارج راضياً. وقال حسان بن ثابت في عبد الله بن عباس رضي الله عنهم:
إذا قال لم يترك مقالاً لقائل
بملتقطات لا ترى بينها فضلا
كفى وشفى ما في النفوس فلم يدع
لذي إربة في القول جداً ولا هزلا
قال سهل بن هارون: البيان ترجمان العقول وروض القلوب ؛ البلاغة ما فهمته العامة، ورضيته الخاصة ؛ أبلغ الكلام ما سابق لفظه، خير الكلام ما قل وجل ودل ولم يمل ؛ خير الكلام ما كان لفظه فحلا ومعناه بكرا. وقال ابن المعتر: البلاغة أن تبلغ المعنى ولم تطل سفر الكلام ؛ خير الكلام ما أسفر عن الحاجة ؛ أبلغ الكلام ما يؤنس مسمعه، ويؤنس مضيعه ؛ أبلغ الكلام ما حسن إيجازه، وقل مجازه، وكثر إعجازه، البلاغة ما أشار إليه البحتري حيث قال:
وركبن اللفظ القريب فأدرك
ن به غاية المراد البعيد
جمل من بلاغات العجم وحكمهاقال أبرويز لكاتبه: إذا فكرت فلا تعجل، وإذا كتبت فلا تستعن بالفضول فإنها علاوة على الكفاية، ولا تقصرن عن التحقيق فإنها هجنة في المقالة، ولا تلبسن كلام بكلام، ولا تباعدن معنى عن معنى، وأجمع الكثير مما تريد في القليل مما تقول ووافق كلامه قول ابن المعتر: ما رأيت بليغاً إلا رأيت له في المعاني إطالة وفي الألفاظ تقصيرا.وهذا حث على الإيجاز.وقال أبرويز أيضاً لكاتبه: اعلم أن دعائم المقالات أربع إن التمس إليها خامسة لم توجد، وإن نقص منها واحدة لم تتم وهي: سؤالك الشيء، وسؤالك عن الشيء، وأمرك بالشيء، وخبرك عن الشيء ؛ فإذا طلبت فأنجح، وإذا سألت فأوضح، وإذا أمرت فاحكم، وإذا أخبرت فحقق. وقال بهرام جور: الحكم ميزان الله في الأرض.ووافق ذلك قول الله تعالى: 'والسماء رفعها ووضع الميزان' وقال أبو شروان لابنه هرمز: لا يكون عندك لعمل البر غاية في الكثرة ولا لعمل الإثم غاية في القلة، ووافق من كلام العرب قول الأفوه:
والخير تزداد منه ما لقيت به
والشر يكفيك منه قلما زاد
وقال أزدشير بن بابك: من لم يرض بما قسم الله له طالت معتبته، وفحش حرصه، ومن فحش حرصه ذلت نفسه، وغلب عليه الحسد، ومن غلب عليه الحسد لم يزل مغموماً فيما لا ينفعه حزيناً على ما لا يناله.وقال: من شغل نفسه بالمنى لم يخل قلبه من الأسى. وقال بعضهم: الحقوق أربعة: حق لله وقضاؤه الرضا بقضائه، والعمل بطاعته، وإكرام أوليائه ؛ وحق لنفسك، وقضاؤه تعهدها بما يصلحها ويصحها ويحسم مواد الأذى عنها، وحق للناس، وقضاؤه عمومهم بالمودة، ثم تخصيص مل امرئ منهم بالتوقير والتفضيل والصلة، وحق للسلطان وقضاؤه تعريفه بما خفي عليه من منفعة رعية وجهاد عدو، وعمارة بلد، وسد ثغر.وقال بزر جمهر:إلزام الجمهور الحجة يسير، وإقراره بها عسير. 'صفة الكاتب' وما ينبغي أن يأخذ به نفسهقال إبراهيم بن محمد الشيباني: من صفة الكاتب اعتدال القامة وصغر الهامة وخفة اللهازم وكنافة اللحية، وصدق الحس ولطف المذهب وحلاوة الشمائل وخطف الإشارة، وملاحة الزي، وقال: من كمال آلة الكاتب أن يكون بهي الملبس، نظيف المجلس، ظاهر المروءة، عطر الرائحة، دقيق الذهن، صادق الحس حسن البيان، رقيق حواشي اللسان، حلو الإشارة، مليح الاستعارة، لطيف المسلك مستفره بالمركب، ولا يكون مع ذلك فضفاض الجثة، متفاوت الأجزاء، طويل اللحية عظيم الهامة ؛ فإنهم زعموا أن هذه الصورة لا يليق بصاحبها الذكاء والفطنة. قال بعض الشعراء:
وشمول كأنما اعتصروها
من معاني شمائل الكتاب
هذا ما قيل في صفة الكاتبوأما ما ينبغي للكاتب أن يأخذ به نفسه، فقد قل إبراهيم الشيباني: أول ذلك حسن الخط الذي هو لسان اليد، وبهجة الضمير، وسفير العقول، ووحي الفكر، وسلاح المعرفة، وأنس الإخوان عند الفرقة ومحادثتهم على بعد المسافة ومستودع السر، وديوان الأمور. وقد قيل في قوله تعالى: 'يزيد في الخلق ما يشاء': إنه الخط الحسن. وقد اختلف الكتاب في نقط الخط وشكله، فمنهم من كرههقال سعيد بن حميد الكاتب:لأن يشكل الحرف على القارئ أحب إلي من أن يعاب الكاتب بالشكل. وعرض خط على عبد الله بن طاهر فقال: ما أحسنه لولا أنه أكثرونظر محمد بن عباد إلى أبي عبيد وهو يقيد البسملة فقال: لو عرفته ما شكلته. . ومنهم من حمده فقال: حلو عن عواطل الكتب بالتقييد، وحصنوها من شبه التصحيف والتحريف. وقيل: إعجام الكتب يمنع من استعجامها، وشكلها يصونها عن إشكالها. قال الشاعر:
وكان أحرف خطه شجر
والشكل في أغصانه ثمره
وأما ما قيل في حسن الخط وجودة الكتابة ومدح الكتاب والكتاب. قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: الخط الحسن يزيد الحق وضوحاً. وقال: حسن الخط إحدى البلاغتين. وقال عبيد بن العباس: الخط لسان اليد.وقال جعفر بن يحيى: الخط سمط الحكمة.به تفصل شذورها، وينتظم منثورها ؛ وقال أبو هلال العسكري:
الكتب عقل شوادر الكلم
والخط خيط في يد الحكم
والخط نظم كل منتثر
منها وفصل كل منتظم
والسيف وهو بحيث تعرفه
فرض عليه عبادة القلم
وقد اختلف الناس في الخط واللفظ، فقال بعضهم: الخط أفضل من اللفظ لأن اللفظ يفهم الحاضر، والخط يفهم الحاضر والغائب. قالوا: ومن أعاجيب الخط كثرة اختلافه والأصل فيه واحد كاختلاف صور الناس مع اجتماعهم في الصبغة.قال الصولي: سئل بعض الكتاب عن الخط متى يستحق أن يوصف بالجودة ؟ قال: إذا اعتدلت أقسامه، وطالت ألفه ولامه، واستقامت سطوره وضاهى حدوره، وتفتحت عيونه ولم تشتبه راؤه ونونه، وأشرق قرطاسه، وأظلمت أنفاسه، ولم تختلف أجناسه، وأسرع إلى العيون تصوره، وإلى القلوب ثمره، وقدرت فصوله، 'واندمجت وصوله وتناسبت دقيقه وجليله' وتساوت أطنابه واستدارت أهدابه، وخرج عن نمط الوراقين، وبعد عن تصنيع المحررين ؛ 'وقام لكاتبه مقام النسبة والحلية' وكان حينئذ كما قلت في صفة الخط:
إذا ما تخل قرطاسه
وساوره القلم الأرقش
تضمن من خطه حلة
كمثل الدنانير أو أنقش
حروف تكون لعين الكليل
نشاطاً ويقرؤها الأخفش
وقال ابن المعتر:
إذا أخذ القرطاس خلت يمينه
تفتح نوراً أو تنظم جوهرا
وقيل لبعضهم: كيف رأيت إبراهيم الصولي ؟ فقال:
يؤلف اللؤلؤ المنثور منطقه
وينظم الدر بالأقلام في الكتب
وقال آخر:
أضحكت قرطاسك عن جنةٍ
أشجارها من حكم مثمره
مسودة سطحا ومبيضة
أرضاً كمثل الليلة المقمرة
وقال آخر:
كتبت فلولا أن هذا محلل
وذاك حرام قست خطك بالسحر
فوا لله ما أدري أزهر خميلة
بطرسك أم در يلوح على نحر
فإن كان زهراً فهو صنع سحابة
وإن كان دراً فهو من لجج البحر
وقال آخر:
وكاتبٍ يرقم في طرسه
روضاً به ترتع ألحاظه
فالدر ما تنظم أقلامه
والسحر ما تنثر ألفاظه
وقال آخر:
وشادنٍ من بني الكتاب مقتدر
على البلاغة أحلى الناس إنشاء
فلا يجاريه في ميدانه أحد
يريك سحبان في الإنشاء إن شاء
وقال آخر:
إن هز أقلامه يوماً ليعلمها
أنساك كل كمي هز عامله
وإن أمر على رق أنامله
أقر بالرق كتاب الأنام له
وقال أبو الفتح كشاجم:
وإذا نمنمت بنانك خطا
معرباً عن بلاغة وسداد
عجب الناس من بياض معانٍ
تجتني من سواد ذاك المداد
وقال الممشوق الشامي شاعر اليتيمة:
لا يخطر الفكر في كتابته
كأن أقلامه لها خاطر
القول والفعل يجريان معاً
لا أول فيهما ولا آخر
قال أبو عثمان عمرو بن الجاحظ: الكتاب نعم الذخر والعقدة، ونعم الجليس والعمدة، ونعم النشرة والنزهة، ونعم المستغل والحرفة، ونعم الأنيس ساعة الوحدة ونعم المعرفة ببلاد الغربة، ونعم القرين والدخيل، والوزير والنزيل ؛ والكتاب وعاء ملئ علماً، وظرف حشي ظرفا، وإناء شحن مزاجاً وجدا، إن شئت كان أبين من سحبان وائل، وإن شئت كان أعيا من باقل، وإن شئت ضحكت من نوادره وعجبت من غرائب فوائده، وإن شئت ألهتك نوادره، وإن شئت شجتك مواعظه ومن لك مله، وبزاجر مغر وبناسك فاتك، وناطق أخرس، وببادر حار ومن لك بطبيب أعرابي وبرومي هندي، وفارسي يوناني، وبقديم مولد، وبميت ممتع ومن لك بشيء يجمع لك الأول والآخر، والناقص والوافر، والشاهد والغائب والرفيع والوضيع والغث والسمين، والشكل وخلافه، والجنس وضده ؛ وبعد فمتى رأيت بستاناً يحمل في ردن ؟ وروضة تقلب في حجر ؟ ينطق عن الموتى، ويترجم كلام الأحيا، ومن لك بمؤنس لا ينام إلا بنومك، ولا ينطق إلا بما تهوى، 'آمن من الأرض'وأكتم للسر من صاحب السر، واضبط لحفظ الوديعة من أرباب الوديعة وأحضر لما استحفظ من الأميين ومن الأعراب المعربين بل من الصبيان قبل اعتراض الأشغال، ومن العميان قبل التمتع بتمييز الأشخاص، حين العناية تامة لم تنتقص والأذهان فارغة لم تستقم، والإرادات وافرة لم تستعتب، والطينة لينة فهي أقبل ما تكرن للطابع والقضيب رطب فهو أقرب ما يكون للعلوق، حين هذه الخصال لم يلبس جديدها، ولم تتفرق قواها، وكانت كقول الشاعر:
أتاني هواها قبل أن أعرف الهوى
فصادف قلبي فارغاً فتمكنا
وقال ذو الرمة لعيسى بن عمر: أكتب شعري فالكتاب أعجب إلى من الحفظ لأن الأعرابي ينسى الكلمة قد تعب في طلبها يوماً أو ليلةً، فيضع موضعها كلمة في وزنها لم ينشدها الناس، والكتاب لا ينسى ولا يبدل كلام بكلام، قال: ولا أعلم جارا أبرأ، ولاخليطا أنصف، ولا رفيقاً أطوع، ولا معلماً أخضع، ولا صاحباً أظهر كفاية، ولا أقل خيانة ولا أقل إبراماً وإمالاً ولا أقل خلافاً وإجراماً ولا أقل غيبة، ولا أكثر أعجوبة وتصرفاً، ولا أقل صلفاً وتكلفاً، ولا أبعد من مراء، ولا أترك لشغب، ولا أزهد في جدال، ولا أكف عن قتال من كتاب ؛ ولا أعلم شجرة أطول عمراً، ولا أجمع أمراً، ولا أطيب ثمرة، ولا أقرب مجتني ولا أسرع إدراكاً، ولا أوجد في كل إبان من كتاب ؛ ولا أعلم نتاجاً في حداثة سنه وقرب ميلاده، وحضور ذهنه، وإمكان موجوده، يجمع من التدابير العجيبة، والعلوم الغريبة، ومن آثار العقول الصحيحة، ومحمود الأذقان اللطيفة، ومن الأخبار عن القرون الماضية والبلاد المتراخية، والأمثال السائرة، والأمم البائدة ما يجمع الكتاب ؛ وقد قال الله تبارك اسمه لنبيه صلى الله عليه وسلم: 'اقرأ باسم ربك الأكرم الذي علم بالقلم'فوصف نفسه تعالى جده بأن علم بالقلم، كما وصف به نفسه بالكرم، واعتد بذلك من نعمه العظام، وفي أياديه الجسام. ذكر شئ مما قيل في آلات الكتابةقال إبراهيم بن محمد الشيباني فيما يحتاج إليه الكاتب:من ذلك أن يصلح الكاتب آلته التي لا بد منها، وأداته التي لا تتم صناعته إلا بها، وهي دواته، فلينعم ربها وإصلاحها، ثم يتخير من أنابيب القصب أقله عقداً وأكثفه لحماً، وأصلبه قشرا، وأعدله استواءاً، ويجعل لقرطاسه سكيناً حاداً لتكون عوناً له على بري أقلامه، ويبريها من جهة نبات القصبة، فإن محل القلم من الكاتب كمحل الرمح من الفارس.وقد خص الفضلاء القلم بأوصاف كثيرة، ومزايا خطيرة فلنذكر منها طرفا. ذكر شئ مما قيل في القلمقال الله تعالى: 'ن والقلم وما يسطرون' وقال: 'اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم'وقال الحكماء: القلم أحد اللسانين، وهو المخاطب للعيون بسر القلوب. وقالوا: عقول الرجال تحت أسنة أقلامها.بنوء الأقلام يصوب غيث الحكمة. القلم صائغ الكلام يفرغ ما يجمعه القلب، ويصوغ ما يسكبه اللب. وقال جعفر بن يحيى: لم أر باكياً أحسن تبسما من القلم. وقال المأمون: لله در القلم يحوك وشئ المملكة. وقال ثمامة بن أشرس: ما أثرته الأقلام، لم تطمع في درسه الأيام.بالأقلام تدبر الأقاليم، كتاب المرء عنوان عقله، ولسان فضله، عقل الكاتب في قلمه. وقال ابن المعتز: القلم مجهز لجيوش الكلام، يخدم الإرادة كأنه يقبل بساط سلطان أو يفتح نوار بستان. وقال الحسن بن وهب: يحتاج الكاتب إلى خلال: منها جودة بري القلم وإطالة جلفته، وتحريف قطته، وحسن التأني لامتطاء الأنامل، وإرسال المدة بعد إشباع الحروف، والتحرز عند فراغها من الكسوف، وترك الشكل على الخطأ والإعجام على التصحيف. وقال العتابي: سألني الأصمعي في دار الرشيد: أي الأنابيب للكتابة أصلح وعليها أصبر ؟ فقلت له: ما نشف بالهجير ماؤه، وستره من تلويحه غشاؤه ؛ من التبرية القشور، الدرية الظهور، الفضية الكسور ؛ قال: فأي نوع من البري أصوب وأكتب ؟ فقلت: البرية المستوية القطة التي عن يمين سنها برية تؤمن معها المجة عند المدة والمطة، للهواء في شقها فتيق، وللريح في جوفها خريق، والمداد في خرطومها رقيق.قال العتابي: فبقي الأصمعي شاخصاً إلي ضاحكاً لا يحير مسألة ولا جواباً. وكتب علي بن الأزهر إلى صديق له يستدعي منه أقلاماً: أما بعد: فإنا على طول الممارسة لهده الكتابة التي غلبت على الاسم، ولزمت لزوم الوسم، فحلت محل الأنساب وجرت مجرى الألقاب، وجدنا الأقلام الصحرية أجرى في القواعد وأمر في الجلود، كما أن التجربة منها أسلس في القراطيس، وألين في المعاطف وأشد لتعريف الخط فيها، ونحن في بلد قليل القصب رديئه، وقد أحببت في أن تتقدم في اختيار أقلام صحرية، وتتنوق في اقتنائها قبلك، وتطلبها من مظانها ومنابتها من شطوط الأنهار، وأرجاء الكروم، وأن تتيمن باختيارك منها الشديدة الصلبة النقية الجلود، القليلة الشحوم، الكثيرة اللحوم، الضيقة الأجواف، الرزينة المحمل فإنها أبقى على الكتابة، وأبعد من الحفا، وأن تقصد بانتقائك للرقاق القضبان المقومات المتون، الملس المعاقد الصافية القشور، الطويلة الأنابيب، البعيدة ما بين الكعوب الكريمة الجواهر، المعتدلة القوام، المستحكمة يبساً وهي قائمة على أصولها، لم تعجل عن إبان ينعها، ولم تؤخر إلى الأوقات المخوفة عليها من خصر الشتاء وعفن الأنداء ؛ فإذا استجمعت عندك أمرت بقطعها ذراعاً قطعاً رقيقاً، ثم عبأت منها حزماً فيما يصونها من الأوعية، 'ووجهتها مع من يؤدي الأمانة في حراستها وحفظها وإيصالها' وتكتب معها بعدتها وأصنافها بغير تأخير ولا توان، إن شاء الله تعالى. وأهدى ابن الحرون إلى بعض إخوانه أقلاماً وكتب إليه:إنه لما كانت الكتابة - أبقاك الله - أعظم الأمور، وقوام الخلافة، وعمود المملكة اتحفتك من آلتها بما يخف جمله، وتثقل قيمته، ويعظم نفعه، ويحل خطره، وهي أقلام من القصب النابت في الصحراء الذي نشف بحر الهجير 'في قشره' ماؤه، وستره من تلويحه غشاؤه، فهي كاللآلئ المكنونة في الصدف، والأنوار المحجوبة في السدف ؛ تبرية القشور، درية الظهور، فضية الكسور ؛ قد كستها الطبيعة جوهراً كالوشي المحبر، ورونقاً كالديباج المنير. ومن كتاب لأبي الخطاب الصابي - يصف فيه أقلاما أهداها في جملة أصناف - جاء منه:وأضفت إليها سليمة من المعايب، مبرأة من المثالب ؛ جمة المحاسن بعيدة عن المطاعن ؛ لم يربها طول ولا قصر، ولم ينقصها ضعف ولا خور ؛ ولم يشنها لي ولا رخاوة، ولم يعبها - كزازة ولا قساوة ؛ فهذه آخذة بالفضائل من جميع جهاتها مستوفية للممادح بسائر صفاتها صلبة المعاجم لينة المقاطع موفية القدور والألوان، محمودة المخبر والعيان ؛ قد استوى في الملامسة خارجها وداخلها، وتناسب في السلاسة عاليها سافلها، نبتت بين الشمس والظل واختلفت عليها الحرّ والقر ؛ فلفحها وقدان الهواجر، وسفعتها 'سمائم' شهر ناجر، ووقذها الشفان بصرده، وقذفها الغمام ببرده، وصابتها الأنواء بصيبها، واستهلت عليها السحائب بشآبيبها ؛ فاستمرت مرائرها على إحكام واستحصد سحلها بالإبرام ؛ جاءت شتى الشيات متغايرة الهيئات، متباينة المحال والبلدان ؛ تختلف بتباعد ديارها وتأتلف بكرم نجارها ؛ فمن أنابيب باتت رماح الخط في أجناسها، وشاكلت الذهب في ألوانها، وضاهت الحرير في لمعانها، بطيئة الحفا، نمرة القوى، لا يشظيها القط، ولا يشعث بها الخط ؛ ومن مصرية بيض، كأنها 'قباطي مصر نقاء وغرقئ البيض صفاء، غذها الصعيد من ثراه بليه' وسقاها النيل من نميرة وعذبه ؛ فجاءت ملتئمة الأجزاء، سليمة من الالتواء تستقيم شقوقها في أطوالها، ولا تنكب عن يمينها ولا شمالها، تقترن بها صفراء كأنها معها عقيان قرن بلجين، أو ورق خلط بعين، تختال في صفر ملاحفها، وتميس في مذهب مطارفها، بلون غياب الشمس، وصبغ ثياب الورس، ومن منقوشة تروق العين، وتونق النفس ويهدي حسنها الأريحية إلى القلوب، ويحل الطرب لها حبوة الحكيم اللبيب، كأنها اختلاف الزهر اللامع، وأصناف الثمر اليانع 'ومن بحرية موشية الليط' رائقة التخليط ؛ كأن داخلها قطرة دم، أو حاشية رداء معلم وكأن خارجها أرقم، أو متن واد مفعم، نثرت ألواناً تزري بورد الخدود وأبدت قامات تفصح بأود القدود. وقد أكثر الشعراء القول في وصف القلم، فمن ذلك قول أبي تمام الطائي:
لك القلم الأعلى الذي بشباته
تصاب من الأمر الكلي والمفاصل
لعاب الأفاعي القاتلات لعابه
وأرى الجنى اشتارته أيد عواسل
له ريقة طل ولكن وقعها
بآثاره في الشرق والغرب وابل
فصيح إذا استنطقته وهو راكب
وأعجم إن خاطبته وهو راجل
إذا ما امتطى الخمس اللطاف وأفرغت
عليه شعاب الفكر وهي حوافل
أطاعته أطراف القنا وتفوضت
لنجواه قويض الخيام الحجافل
إذا استغزر الذهن الجلي وأقلبت
أغاليه في القرطاس وهي أسافل
وقد رفدته الخنصران وسددت
ثلاث نواحيه الثلاث الأنامل
رأيت جليلاً شأنه وهو مرهف
ضنى وسميناً خطبه وهو ناحل
وقال آخر:
قوم إذا أخذوا الأقلام من غضب
ثم استمدوا بها ماء المنيات
نالوا بها من أعاديهم وإن بعدوا
ما لم ينالوا بحد المشرفيات
وقال ابن المعتر:
قلم ما أراه أم فلك يجر
ي بما شاء قاسم ويسير
خاشع في يديه يلثم قرطا
سا كما قبل البساط شكور
ولطيف المعنى جليل نحيف
وكبير الأفعال وهو صغير
كم منايا وكم حت
ف وعيش تضم تلك السطور
تقشت بالدجى نهاراً فما أدر
ى أخط فيهن أم تصوير
وقال محمد بن علي:
في كفه صارم لانت مضاربه
يسوسنا رغباً إن شاء أو رهبا
السيف والرمح خدام له أبدا
لا يبلغان له جدا ولا لعبا
تجري دماء الأغادي بين أسطره
ولا يحس له صوت إذا ضربا
فما رأيت مداد قبل ذاك دما
ولا رأيت حساما قبل ذا قصبا
وقال ابن الرومي:
لعمرك ما السيف سيف الكمي
بأخوف من قلم الكاتب
له شاهد إن تأتلته
ظهرت على سره الغائب
أداة المنية في جانبيه
فمن مثله رهبة الراهب
ألم تر في صدره كالسنان
وفي الردف كالمرهف القاضب ؟
وقال الرفاء:
أخرس ينبيك بإطراقه
عن كل ما شئت من الأمر
يذري على قرطاسه دمعه
يبدي لا السر وما يدري
كعاشق أخفى هواه وقد
نمت عليه عبرة تجري
تبصره في كل أحواله
عريان يكسو الناس أو يعري
يرى أسيراً في دواة وقد
أطلق أقواماً من الأسر
وقال آخر:
وذي عفاف راكع ساجد
أخو صلاح دمعه جاري
ملازم الخمس لأوقاتها
مجتهد في خدمة الباري
وقال ابن الرومي:
إن يخدم القلم السيف الذي خضعت
له الرقاب ودانت خوفه الأمم
فالموت والموت لا شئ يغالبه
ما زال يتبع ما يجري به القلم
كذا قضى الله للأقلام مذ بريت
أن السيوف لها مذ أرهفت خدم
وقال أبو الطيب الأزدي:
قد قلم أظفار العدى
وهو كالأصبع مقصوص الظفر
أشبه الحية حتى أنه
كلما عمر في الأيدي قصر
وقال أبو الحسن بن عبد الملك بن صالح الهاشمي
وأسمر طاوي الكشح أخرس ناطق
له زملان في بطون المهارق
'ذكر ما يحتاج الكاتب إلى معرفته من الأمور الكلية'قال شهاب الدين أبو الثناء محمود بن سليمان الحلبي في كتابه 'حسن التوسل'فأول ما يبدأ به من حفظ كتاب الله تعالى، ومداومة قراءته، وملازمة درسه وتدبر معانيه حتى لا يزال مصوراً في فكره، دائراً على لسانه، ممثلاً في قلبه، ذاكراً له في كل ما يرد عليه من الوقائع التي يحتاج إلى الاستشهاد به فيها، ويفتقر إلى إقامة الأدلة القاطعة به عليها، وكفى بذلك معيناً له في قصده، ومغنياً له عن غيره، قال الله تعالى: 'ما فرطنا في الكتاب من شئ'وقد أخرج من الكتاب العزيز شواهد لكل ما يدور بين الناس في محاوراتهم ومخاطباتهم مع قصور كل لفظ ومعنى عنه، وعجز الإنس والجن عن الإتيان بسورة من مثله. ومن ذلك أن سائلاً قال لبعض العلماء: أين تجد في كتاب الله تعالى قولهم:الجار قبل الدار ؟ قال: في قوله تعالى: 'وضرب الله مثلاً للذين آمنوا امرأة فرعون إذ قالت رب ابن لي عندك بيتاً في الجنة' فطلبت الجار قبل الدار، ونظائر ذلك كثيرة.وأين قول العرب: 'القتل أنفى للقتل' لمن أراد الاستشهاد في هذا المعنى من قوله عز وجل: 'ولكم في القصاص حياة' وأكثر الناس على جواز الاستشهاد بذلك ما لم يخول عن لفظه، ولم يغير معناه. فمن ذلك ما روي في عهد أبي بكر رضي الله عنه: هذا ما عهد أبو بكر خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم آخر عهده بالدنيا، وأول عهده بالآخرة إني استخلفت عليكم عمر بن الخطاب، فإن بر وعدل فذلك ظني به، وإن جار وبدل فلا علم لي بالغيب، والخير أردت بكم، ولكل امرئ ما اكتسب من الإثم 'وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون'وروي أن علياً رضي الله عنه قال للمغيرة بن شعبة لما أشار عليه بتولية معاوية 'وما كنت متخذ المضلين عضداً'وكتب في آخر كتاب إلى معاوية: وقد علمت مواقع سيوفنا في جدك وخالك وأخيك 'وما هي من الظالمين ببعيد'وقول الحسن بن علي عليه السلام لمعاوية: 'وأن أدري لعله فتنة لكم ومتاع إلى حين' وروي مثل ذلك عن ابن عباس رضي الله عنهما.-وكتب الحسن إلى معاوية: أما بعد، فإن الله بعث محمداً صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين، ورسولاً إلى الناس أجمعين 'لينذر من كان حياً ويحق القول على الكافرين'وكتب محمد بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي إلى المنصور في صدر كتاب لما حاربه: 'طسم تلك آيات الكتاب المبين نتلو عليك من نبأ موسى وفرعون' إلى قوله: 'منهم ما كانوا يحذرون' ونقض عليه المنصور في جوابه عن قوله: 'إنه ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم' بقوله تعالى: 'وما كان محمداً أبا أحدٍ من رجالكم'ونقل عن الحسن البصري رحمه الله ما يدل على كراهية ذلك فقال حين بلغه أن الحجاج أنكر على رجل استشهد بآية: أنسى نفسه حين كتب إلى عبد الملك ابن مروان: بلغني أن أمير المؤمنين عطس فشمته من حضر فرد عليهم 'يا ليتني كنت معهم فأفوز فوزاً عظيماً' وإذا صحت هذه الرواية عن الحسن فيمكن أن يكون إنكاره على الحجاج لأنه أنكر على غيره ما فعله هو، وذهب بعضهم إلى أن كل ما أراد الله به نفسه لا يجوز أن يستشهد به إلا فيما يضاف إلى الله سبحانه وتعالى مثل قوله تعالى: 'ونحن أقرب إليه من حبل الوريد' وقوله تعالى: 'بلى ورسلنا لديهم يكتبون' ونحو ذلك مما يقتضيه الأدب مع الله سبحانه وتعالى. ومن شرف الاستشهاد بالكتاب العزيز: إقامة الحجة وقطع النزاع، وارغام الخصم كما روي أن الحجاج قال لبعض العلماء: أنت تزعم أن الحسين رضي الله عنه من ذرية رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتى على ذلك بشاهد من كتاب الله عز وجل وإلا قتلتك، فقرأ: 'وتلك حجتنا أتيناها إبراهيم' إلى قوله: 'ومن ذريته داود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهارون وكذلك نجزي المحسنين وزكريا ويحيى وعيسى' وعيسى هو ابن ابنته، فأسكت الحجاج وقد تقوم الآية الواحدة المستشهد بها في بلوغ الغرض وتوفية المقاصد ما لا نقوم به الكتب المطولة، والأدلة القاطعة،وأقرب ما تفق من ذلك أن صلاح الدين رحمه الله كتب إلى بغداد كتاباً يعدد فيه مواقفه في إقامة دعوة بني العباس بمصر، فكتب جوابه بهذه الآية: 'يمنون عليك أن أسلموا قل لا تمنوا علي إسلامكم بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان إن كنتم صادقين'وكتب أمير المسلمين يعقوب بن عبد المؤمن إلى الأذفونش ملك الفرنج جواباً عن كتابه إليه - وكان قد أبرق وأرعد فكتب في أعلاه -:'ارجع إليهم فلنأتينهم بجنود لا قبل لهم بها ولنخرجنهم منها أذلة وهم صاغرون'ومما جوزوا الاستشهاد به ما لا يقصد به إلا التلويح إلى الآية دون اطراد الكلام نحو قول القاضي مما كتب به إلى الخليفة عن الملك الناصر صلاح الدين في الاستصراخ 'وتهويل أمر الفرنج': 'ورب إني لا أملك إلا نفسي' وها هي في سبيلك مبذوله، وأخي وقد هاجر إليك هجرة يرجوها مقبوله، وأما تغيير شئ من اللفظ أو إحالة معنى عما أريد به فلا يجوز وينبغي العدل عنه ما أمكن. ويتلو ذلك الاستكثار من حفظ الأحاديث النبوية - صلوات الله وسلامه على قائلها - وخصوصاً في السير والمغازي والأحكام والنظر في معانيها وغريبها وفصاحتها وفقه ما بد من معرفته من أحاكمها، ليحتج بها في مكان الحجة، ويستدل بموضع الدليل، فإن الدليل على المقصد إذا استند إلى النص سلم له، والفصاحة إذا طلبت غايتها فإنها بعد كتاب الله في كلام من أوتي جوامع الكلم، وينبغي أن يراعى في الحل لفظ الحديث ما أمكن وإلا فمعناه. ويتلو ذلك قراءة ما يتفق من كتب النحو التي يحصل بها المقصود من معرفته العربية، فإنه لو أتى الكاتب من البلاغة بأتم ما يكون ولحن ذهبت محاسن ما أتى به وانهدمت طبقة كلامه، وألغي جميع 'ما حسنه' ووقف به عند ما جهله. ويتعلق بذلك 'قراءة' ما يتهيأ من مختصرات اللغة، كالفصيح وكفاية المتحفظ وغير ذلك من كتب الألفاظ ليتسع عليه مجال العبارة، وينفتح له باب الأوصاف فيما يحتاج إلى وصفه، ويضطر إلى نعته. ويتصل بذلك حفظ خطب البلغاء من الصحابة وغيرهم ومخاطباتهم ومحاوراتهم ومراجعاتهم ومكاتباتهم، وما ادعاه كل منهم لنفسه أو لقوله وما نقصه عليه خصمه، لما في ذلك من معرفة الوقائع بنظائرها، وتلفي الحوادث بما شاكلها والإقتداء بطريقة من فلج على خصمه، واقتفاء آثار من اضطر إلى عذر، أو إبطال دعوى أو إثباتها، والأجوبة الدامغة فتأمله في موضعه فإنك ستقف منه على ما استغنى به عن ذلك. ثم النظر في أيام العرب ووقائعهم وحروبهم وتسمية الأيام التي كانت بينهم، ومعرفة يوم كل قبيلة على الأخرى، وما جرى بينهم في ذلك من الأشعار والمنافسات، لما في ذلك من العلم بما يستشهد به من واقعة قديمة، أو يرد عليه في مكاتبة من ذكر يوم مشهور، أو فارساً معيناً، وستذكر من ذلك إن شاء الله تعالى في فن التاريخ على ما ستقف عليه، فإن صاحب هذه الصناعة إذا لم يكن عارفاً بأيام العرب عالماً بما جرى فيها لم يدر كيف يجيب عملا يرد عليه من مثلها ولا يقول إذا سئل عنها، وحسبه ذلك نقصاً في صناعته وقصوراً. ثم النظر في التواريخ ومعرفة أخبار الدول، لما في ذلك من الإطلاع على سير الملوك وسياساتهم، وذكر وقائعهم ومكايدهم في حروبهم، وما اتفق لهم من التجارب، فإن الكاتب قد يضطر إلى السؤال عن أحوال من سلف، أو يرد عليه في كتاب ذكر واقعة بعينها، أو يحتج عليه بصورة قديمة فلا يعرف حقيقتها من مجازها، وقد أوردنا في فن التاريخ ما لا يحتاج الكاتب معه إلى غيره من هذا الفن. ثم حفظ أشعار العرب ومطالعة شروحها، واستكشاف غوامضها والتوفر على ما اختاره العلماء بها منها، كالحماسة، والمفضليات، والأصمعيات وديوان الهذليين، وما أشبه ذلك، لما في ذلك من غزارة المواد، وصحة الاستشهاد، الإطلاع على أصول اللغة، ونوادر العربية، وقد كان الصدر الأول يعتنون بذلك غاية الاعتناء، وقد حكي أن الإمام الشافعي رحمه الله كان يحفظ ديوان هذيل ؛ فإن أكثر المترشح للكتابة من حفظ ذلك وتدبر معانيه سها عليه حلة، وظهرت له مواضع الاستشهاد به، وساقه الكلام إلى إبراز ما في ذخيرة حفظه منه، ووضعه في مكانه ونقله في الاستشهاد والتضمين إلى ما كأنه وضع له، كما اتفق للقاضي أبي بكر الأرجاني في تضمين أنصاف أبيات العرب في بعض قصائده فقال:
أهد إلى الوزير المدح يجعل
'لك المرباع منها والصفايا'
ورافق رفقه حلوا إليه
'فأبو بالنهاب وبالسبايا'
وقل للراحلين إلى ذراه
'ألستم خير من ركب المطايا'
ولا تسلك سوى طرقي فإني
'أنا ابن جلا وطلاع الثنايا'
وقال بديع الزمان الهمذاني:أنا لقرب دار مولاي كما طرب النشوان مالت به الخمر ومن الارتياح إلى لقائه كما انتقص العصفور بلله القطر ومن الامتزاج بولائه كما التقت الصهباء والبارد العذب ومن الابتهاج بمزاره كما اهتز تحت البارح الغصن الرطب'وكما قال ابن القرطبي وغيره في رسائلهم على ما نذكره إن شاء الله تعالى. وكذلك حفظ جانب جيد من شعر المحدثين، كأبي تمام ومسلم ابن الوليد والبحتري وابن الرومي والمتنبي، للطف مأخذهم، ودوران الصناعة في كلامهم، ودقة توليد المعاني في أشعارهم وقرب أسلوبهم من أسلوب الخطابة والكتابة. وكذلك النظر في رسائل المتقدمين دون حفظها لما في النظر فيها من تنقيح القريحة، وإرشاد الخاطر، وتسهيل الطرق، والنسخ على منوال المجيد، والافتداء بطريقه المحسن واستدراك ما فات القاصر والاحتراز مما أظهره النقد، ورد ما بهرجه السبك، فأما النهي عن حفظ ذلك فلئلا يتكل الخاطر على ما في حاصله، ويستند الفكر إلى ما في مودعه، ويكتفي بما ليس له، ويتلبس بما لم يعط كلابس ثوبي زور ؛ وأما من قصد المحاضرة بذلك دون الإنشاء فالأحسن به حفظ ذلك وأمثاله. وكذلك النظر في كتب الأمثال الواردة عن العرب نظماً ونثرا كأمثال الميداني والمفضل بن سلمة الضبي وحمزة الأصبهاني وغيرهم، وأمثال المحدثين الواردة في إشعارهم كأبي العتاهية وأبي تمام والمتنبي وأمثلب المولدين، وقد أوردنا من ذلك في باب الأمثال جملا. وكذلك النظر في الأحكام السلطانية، فإنه قد يأمر بأمر فيعرف منها كيف يخلص قلمه على حكم الشريعة المطهرة من تولية القضاء والحبسة وغير ذلك، وقد قدمنا في هذا الكتاب من ذلك طرفاً جيداً قال: فهذه أمور كلية لا بد للمترشح لهذه الصناعة من التصدي للإطلاع عليها، والأكباب على مطالعتها، والاستكثار منها لينفق من تلك المواد، وليسلك في الوصول إلى صناعته تلك الجواد وإلا فليعلم أنه في واد والكتابة في وادٍ. قال: وأما الأمور الخاصة التي تزيد معرفتها قدره، ويزين العلم بها نظمه ونثره، فإنها من المكملات لهذا الفن وإن لم يضطر إليها ذو الذهن الثاقب، والطبع السليم، والقريحة المطاوعة، والفكرة المنقحة، والبديهة المجيبة، والروية المتصرفة، لكن العالم بها متمكن من أزمة المعاني، يقول عن علم ويتصرف عن معرفة، وينتقد بحجة، ويتخير بدليل، ويستحسن ببرهان، ويصوغ الكلام بترتيب، فمن ذلك المعاني والبيان والبديع والكتب المؤلفة في إعجاز الكتاب العزيز، ككتب الجرجاني والرماني والإمام فخر الدين السكاكي والخفاجي وابن الأثير وغيرهم، وذكر في كتابه جملاً بهذه المعاني 'وأورد أيضاً أمور أخرى تتصل بذلك من خصائص' الكتابة وهي الاقتباس والاستشهاد والحل، وأتى على ذلك بشواهد وأمثلة، وسأذكر في هذا الكتاب ملخص ما أورده في ذلك باختصار وزيادة عليه. فأما علوم المعاني والبيان والبديع، فمنها: ذكر الفصاحة، والبلاغة والحقيقة والمجاز، والتشبيه والاستعارة، والكتابة، والخبر وأحكامه، والتقديم والتأخير والفصل والوصل، والحذف والإضمار، ومباحث إن وإنما والنظم والتجنيس، والطباق، والمقابلة، والسجع، ورد العجز على الصدر، والإعتاب والمذهب الكلامي، وحسن التعليل، والالتفات والتمام، والاستطراد وتأكيد المدح بما يشبه الذم، وتأكيد الذم بما يشبه المدح، وتجاهل العارف، والهزل الذي يراد به الجد، والكنايات والمبالغة، وإعتاب المرء نفسه، وحسن التضمين والتلميح وإرسال المثل، وإرسال مثلين، والكلام الجامع، واللف والنشر والتفسير، والتعديد - ويسمى سياقة الإعداد - وتنسيق الصفات والإيهام - ويقال له: التورية - والتخيل، وحسن الابتداءات، وبراعة التلخيص، وبراعة الطلب وبراعة المقطع والسؤال والجواب، وصحة الأقسام، والتوشيح، والإيغال، والإشارة والتذبيل، والترديد، والتفويف، والتسهيم، والاستخدام والعكس، والتبديل والرجوع والتغاير، والطاعة والعصيان، والتسميط، والتشطير، والتطريز، والتوشيع والإغراق، والغلو، والقسم والاستدراك، والمؤتلفة والمختلفة، والتفريق المفرد والجمع مع التفريق، والتقسم المفرد، والجمع مع التقسيم، والتزاوج، والسلب والإيجاب والاطراد، والتجريد، والتكميل، والمناسبة، والتفريع، ونفي الشيء بإيجابه والإيداع والإدماج، وسلامة الاختراع، وحسن الاتباع، والذم في معرض المدح والعنوان، والإيضاح والتشكيل، والقول بالموجب، والقلب، والتنديد، والإسجال بعد المغالطة، والافتنان، والإبهام وحصر الجزئي وإلحافه بالكلي، والمقارنة والإبداع، والانفصال، والتصرف، والاشتراك، والتهكم، والتدبيج، والموجه وتشابه الأطراف، هذا مجموع ما أورده منها، واستشهد عليه بأدلة، وأورد أمثلة سنشرح منها ما يكتفي به اللبيب، ويستغني به اللبيب. أما الفصاحة والبلاغة، فقد تقدم الكلام فيها في أول الباب، فلا فائدة في إعادته. وأما الحقيقة والمجاز - فالحقيقة في اللغة فعيلة بمعنى مفعولة، من حق الأمر يحقه بمعنى أثبته، أو من حققته إذا كنت منه على يقين، والمجاز من جاز الشيء يجوزه إذا تعداه، فإذا عدل باللفظ عما يوجبه أصل اللغة وصف بأنه مجاز على أنهم قد جازوا به موضعه الأصلي، أو جاز هو مكانه الذي وضع فيه أولاً، لأنه ليس بموضع أصلي لهذا اللفظ ولكنه مجازه ومتعداه يقع فيه كالواقف بمكان غيره ثم يتعداه 'إلى' مكانه الأصلي.ولهما حدود في المفرد والجملة، فحدها في المفرد، أن كل كلمة أريد بها ما وضعت له فهي حقيقة، كالأسد للحيوان المفترس، واليد للجارحة ونحو ذلك، وأن أريد بها غيره لمناسبة بينهما فهي مجاز، كالأسد للرجل الشجاع واليد للنعمة أو للقوة، فإن النعمة تعطى باليد، والقوة تظهر بكمالها في اليد وحدهما في الجملة، أن كل جملة كان الحكم الذي دلت عليه كما هو في العقل فهي حقيقة كقولنا: خلق الله الخلق ؛ وكل جملة أخرجت الحكم المفاد بها عن موضعه في العقل بضرب من التأويل فهي مجاز، كما إذا أضيف الفعل إلى شئ يضاهي الفاعل، كالمفعول به في قوله عز وجل: 'في عيشة راضية' و 'من ماء دافق' أو المصدر، كقولهم: شعر شاعر ؛ أو الزمان، كقول النعمان بن بشير لمعاوية:
وليلك عما ناب قومك نائم
أو المكان كقولك: طريق سائر، أو المسيب، كقولهم: بني الأمير المدينة ؛ أو السبب، كقوله تعالى: 'وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيماناً' فمجاز المفرد لغوي ويسمى مجاز في المثبت ومجاز في الإثبات. قال: فالمجاز قد يكون في الإثبات وحده، وهو أن يضيف الفعل إلى غير الفاعل الحقيقي كما ذكرناه وقد يكون في المثبت وحده، كقوله تعالى: 'فأحيينا به الأرض بعد موتها' جعل خضرة الأرض ونضرتها حياة، وقد يكون فيهما جميعاً، كقولك: أحيتني رؤيتك، تريد سرتني، فقد جعلت المسرة حياة وهو مجاز في المثبت وأسندتها إلى الرؤية وهو مجاز في الإثبات. قال: واعلم أنهم تعرضوا في اعتبار كون اللفظ مجازاً إلى اعتبار شيئين:الأول أن يكون منقولا عن معنى وضع اللفظ بإزائه، وبهذا يتميز عن اللفظ المشترك. الثاني أن يكون هذا النقل لمناسبة بينهما، فلا توصف الأعلام المنقولة بأنها مجاز إذ ليس نقلها لتعلق نسبة 'بين' المنقول عنه ومن له العلم وإذا تحقق الشرطان سمي مجاز، وذلك مثل تسمية النعمة والقوة باليد، لما بين اليد وبينهما من التعلق وكما قالوا: رعينا الغيث يريدون النبت الذي الغيث سببه، وصابتنا السماء، يريدون المطر، وأشباه ذلك ونظائره. وأما التشبيه - فهو الدلالة على اشتراك شيئين في وصف هو من أوصاف الشيء في نفسه، كالشجاعة في الأسد، والنور في الشمس.وهو ركن من أركان البلاغة لإخراجه الخفي وإدنائه البعيد من القريب.وحكم إضافي لا يوجد إلا في الشيئين بخلاف الاستعارة.ثم التشبيه على أربعة أقسام: تشبيه محسوس 'بمجسوس' وتشبيه معقول 'بمعقول' وتشبيه معقول بمحسوس، وتشبيه محسوس بمعقول. فأما تشبيه محسوس بمحسوس فلاشتراكهما إما في المحسوسات الأولى: وهي مدركات السمع والبصر والذوق والشم واللمس، كتشبيه الخد بالورد والوجه بالنهار، 'وأطيط الرحل بأصوات الفراريح' والفواكه الحلوة بالسكر والعسل ورائحة بعض الرياحين بالمسك والكافور، واللين الناعم بالحرير، والخشن بالمسح، أو في المحسوسات الثانية: وهي الأشكال المستقيمة والمستديرة، والمقادير والحركات كتشبيه المستوى المنتصب بالرمح، والقد اللطيف بالغصن والشيء المستدير بالكرة والحلقة، والعظيم الجثة بالجبل، والذاهب على الاستقامة بنفوذ السهم، أو في الكيفيات الجمسانية، كالصلابة والرخاوة، أو في الكيفيات النفسانية، كالغرائز والأخلاق. أو في حالة إضافية، كقولك: هذه حجة كالشمس، وألفاظ كالماء في السلالة وكالنسيم في الرقة، وكالعسل في الحلاوة.وربما كان التشبيه بوجه عقلي، كقول فاطمة بنت الخرشب الأنمارية حين وصفت بينها الكملة فقالت: هم كالحلقة المفرغة لا يدري أين أطرفاها. وأما تشبيه المعقول بالمعقول فهو كتشبيه الوجود العاري عن الفوائد بالعدم، وتشبيه الفوائد التي تبقى بعد عدم الشيء بالوجود كقول الشاعر:
رب حي كميت ليس فيه
أمل يرتجى لنفع وضر
وعظام تحت التراب وفوق الأرض منها آثار حمد وشكر
وأما تشبيه المعقول بالمحسوس فهو كقوله تعالى: 'مثل الذين كفروا بربهم أعمالهم كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصفٍ'وأما تشبيه المحسوس بالمعقول فهو غير جائز، لأن العلوم العقلية مستفادة من الحواس ومنتهية إليها، ولذلك قيل: من فقد حساً فقد علما، فإذا كان المحسوس أصلاً للمعقول فتشبيه به يكون جعلا للفرع أصلا والأصل فرعاً ولذلك لو حاول محاول المبالغة في وصف الشمس بالظهور والمسك بالثناء فقال: الشمس كالحجة في الظهور، والمسك كالثناء في الطيب، كان ذلك سخفاً من القول. فأما ما جاء في الشعر من تشبيه المحسوس بالمعقول فوجهه أن يقدر المعقول محسوساً، ويجعل كالأصل المحسوس على طريق المبالغة، فيصح التشبيه حينئذ كما قال الشاعر:
وكأن النجوم بين دجاها
سنن لاح بينهن ابتداع
فإنه لما شاع وصف السنة بالبياض والإشراق، واشتهرت البدعة وكل ما ليس بحق بالظلمة تخيل الشاعر أن السنن كأنها من الأجناس التي لها إشراق ونور، وأن البدع نوع من الأنواع التي لها اختصاص بالسواد والظلمة، فصار ذلك كتشبيه محسوس بمحسوس، فجاز له التشبيه، وهو لا يتم إلا بتخيل ما ليس بمتلون 'متلوناً' ثم يتخيله أصلاً فيشبه به، وهذا هو الذي تؤول في قول أبي طالب الرقي:
ولقد ذكرتك والظلام كأنه
يوم النوى وفؤاد من لم يعشق
فإنه لما كانت الأوقات التي تحدث فيها المكاره توصف بالسواد كما يقال: اسودت الدنيا في عينه، جعل يوم النوى كأنه أشهر بالسواد من الظلام، فعرفه به وشبهه، ثم عطف عليه فؤاد من لم يعشق لأن من لم يعشق عندهم قاسي القلب والقلب القاسي يوصف بشدة السواد، فأقامه أصلاً، فقس على هذا المثال.قال: واعلم أن ما به المشابهة قد يكون مقيداً بالانتساب إلى شئ، وذلك إما إلى المفعول به كقولهم: 'أحذ القوس باريها' وإلى ما يجري مجرى المفعول به وهو الجار والمجرور كقولهم لمن يفعل ما لا يفيد: كالراقم على الماء وإما إلى الحال، كقولهم: 'كالحادي وليس له بعير' وإما إلى المفعول والجار والمجرور معاً، كقولهم: هو كمن يجمع السيفين في غمد وكمبتغي الصيد في عرينة الأسد' ومن ذلك قوله تعالى: 'مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفاراً' فإن التشبيه لم يحصل من مجرد الحمل بل لأمرين آخرين، لأن الغرض توجيه الذم إلى من أتعب نفسه في حمل ما يتضمن المنافع العظيمة ثم لا ينتفع به لجهله، وكقول لبيد:
وما الناس إلا كالديار وأهلها
بها يوم حلوها وغدوا بلاقع
فإنه لم يشبهه الناس بالديار، وإنما شبه وجودهم في الدنيا وسرعة زوالهم بحلول أهل الديار فيها، ووشك رحيلهم منها، قال: وكلما كانت التقييدات أكثر كان التشبيه أوغل في كونه عقلياً كقوله تعالى: 'إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض مما يأكل الناس والأنعام حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وازينت وظن أهلها أنهم قادرون عليها أتاها أمرنا ليلاً أو نهاراً فجعلناها حصيداً كأن لم تغن بالأمس'فإن التشبيه متنزع من مجموع هذه الجمل من غير أن يمكن فصل بعضها عن بعض، فإنك لو حذفت منها جملة واحدة من أي موضع كان أخل ذلك بالمغزى من التشبيه قال:ثم ما به المشابهة إن كان مركباً فإنه على قسمين:الأول ما لا يمكن إفراد أحد أجزائه بالذكر، كقول القاضي التنوخي:
كأنما المريخ والمشتري
قدامه في شامخ الرفعه
منصرف بالليل من دعوة
قد أسرجت قدامه شمعه
فإنك لو اقتصرت على قوله: كأن المريخ منصرف من دعوة أو كأن المشتري شمعة لم يحصل ما قصده الشاعر، فإنه إنما قصد الهيئة التي يلبسها المريخ من كون المشتري أمامه. الثاني ما يمكن إفراده بالذكر ويكون إذا أزيل منه التركيب صحيح التشبيه في طرفيه إلا أن المعنى يتغير، كقول أبي طالب الرقي:
وكأن أجرام النجوم لوامعاً
درر نثرن على بساط أزرق
فلو قلت: كأن النجوم درر، وكأن السماء بساط أزرق وجدت التشبيه مقبولاً ولكن المقصود من الهيئة المشبه بها قد زال.قال: وربما كان التشبيه في أمور كثيرة لا يتقيد بعضها ببعض، وإنما يكون مضموماً بعضها إلى بعض وكل واحد منها منفرد بنفسه، كقولك: زيد كالأسد بأسا، والبحر جودا، والسيف مضاء والبدر بهاء، وله خاصيتان: إحداهما أنه لا يحب فيه الترتيب، والثانية أنه إذا سقط البعض لم يتغير حكم الباقي. ومن المتأخرين من ذكر في التشبيه سبعة أنواع:الأول التشبيه المطلق، وهو أن يشبه شيئاً بشيء من غير عكس ولا تبديل كقوله تعالى: 'والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم' وقوله تعالى: 'وله الجوار المنشآت في البحر كالأعلام' وقوله تعالى: 'كأنهم أعجاز نخل خاوية'وقول النبي صلى الله عليه وسلم: 'الناس كأسنان المشط'الثاني التشبيه المشروط، وهو أنه يشبه شيئاً بشيء لو كان بصفة كذا، ولولا أنه بصفة كذا، كقوله: أشبه وجه مولانا بالعيد المقبل لو كان العيد تبقى ميامنه وتدوم محاسنه، وكقوله: وجه هو كالشمس لولا كسوفها، والقمر لولا خسوفه. وكقول البديع:
قد كان يحيك صوت الغيث منسكباً
لو كان طلق المحيا يمطر الذهبا
والدهر لو لم يخن والشمس لو نظقت
والليث لو لم يصد والبحر لو عذبا
وكقول الآخر:
عزماته مثل النجوم ثواقبا
لو لم يكن للثاقبات أفول
الثالث تشبيه الكناية، وهو أن يشبه شيئاً بشيء من غير أداة التشبيه، كقول المتنبي.
بدت قمراً وماست خوط بانٍ
وفاحت عنبرا وزنت غزالا
وقول الواو الدمشقي:
فأمطرت لؤلؤاً من نرجس فسقت
ورداً وعضت على العناب بالبرد
الرابع تشبيه التسوية، وهو أن يأخذ صفة من صفات نفسه، وصفة من الصفات المقصودة ويشبهها بشيء واحد، كقوله:
صدغ الحبيب وحالي
كلاهما كالليالي
وثغره في صفاء
وأدمعي كاللآلئ
الخامس التشبيه المعكوس، وهو أن تشبه شيئين كل واحد منهما بالآخر كقول الشاعر:
الخمر تفاح جرى ذائبا
كذلك التفاح خمر جمد
فاشرب على جامد ذوبه
ولا تبع لذة يوم بغد
وكقول الصاحب بن عباد:
رق الزجاج وراقت الخمر
فتشابها فتشاكل كل الأمر
فكأنه خمر ولا قدح
وكأنه قدحٌ ولا خمر
وكقول بعضهم في النثر: كم من دم أهرقناه في البر، وشخص أغرقناه في البحر فأصبح البر بحراً من دمائهم، والبحر براً بأشلائهم. السادس تشبيه الإضمار، وهو أن يكون مقصوده التشبيه بشيء فدل ظاهر لفظه أن مقصوده غيره، كقول المتنبي:
ومن كنت جاراً له عل
ى لم يقبل الدر إلا كبارا
فيدل ظاهره على أن مقصوده الدر، وإنما غرضه تشبيه الممدوح بالبحر. السابع تشبيه التفضيل: وهو أن يشبه شيئاً بشيء ثن يرجع فيرجح المشبه على المشبه به كقوله:
حسبت جماله بدراً مضيئاً
وأين البدر من ذاك الجمال
وكقول ابن هندو:
من قاس جدواك بالغمام فما
أنصف في الحكم بين شيئين
أنت إذا جدت ضاحك أبداً
وذاك إن جاد دامع العين.
قال: وقد تقدم تشبيه شئ بشيء. فأما تشبيه شئ بشيئين فكقول امرئ القيس:
وتعطو برخص غير شتنٍ كأنه
أساريع رمل أو مساويك إسحل
وأما تشبيه شئ بثلاثة أشياء فكقول البحتري:
كأنما يبسم عن لؤلؤ
منضدٍ أو برد أو أقاح
وأما تشبيه شئ بأربعة أشياء فكما قال المولى شهاب الذين أو الثناء محمود الحلبي الكاتب:
يفتر طرسك عن سطوره جادها الس
فكر بصوب مسكٍ أذفر
فكأنما هو روضة أو جدول
أو سمط در أو قلادة عنبر
وأما تشبيه شئ بخمسة أشياء فكقول الحريري:
يفتر عن لؤلؤ رطب وعن برد
وعن أقاح وعن طلع وعن حبيب
وأما تشبيه شيئين بشيئين فكقول امرئ القيس:
كأن قلوب الطير رطباً ويابساً
لدى وكرهاً العناب والحشف البالي
وأما تشبيه ثلاثة بثلاثة فكقول الآخر:
ليل وبدر وغصن
شعر ووجه وقد
خمر ودر وورد
ريق وثغر وخد
وأما تشبيه أربعة بأربعة فكقول امرئ القيس:
له أيطلا ظبيٍ وساقا نعامةٍ
وإخاء سرحان وتقريب تتفل
وكقول أبي نواس:
تبكي فتذرى الدر من نرجس
وتلطم الورد بعناب
وأما تشبيه خمسة بخمسة فكقول أبي الفرج الواوا الدمشقي
قالت متى البين يا هذا فقلت لها
إما غدراً زعمرا أو لا فبعد غد
فأمطرت لؤلؤاً من نرجس فسقت
ورداً وعضت على العناب بالبرد
وشبه قاضي القضاة نجم الدين بن البارزي سبعة أشياء بسبعة أشياء وهي:
يقطع بالسكين بطيخةً ضحى
على طبق في مجلس لان صاحبه
كشمس ببرق قد بدرا أهلةً
لدي هالة في الأفق شتى كواكبه
قال: والغرض من التشبيه قد يكون بيان إمكان وجود الشيء عند ادعاء ما لا يكون إمكانه بينا، كقول ابن الرومي:
وكم أب قد علا بابن ذرى شرف
كما علت برسول الله عدنان
وكقول المتنبي:
فإن تفق الأنام وأنت منهم
فإن المسك بعض دم الغزال
أو بيان مقداره، كما إذا حاولت لفي الفائدة عن فعل إنسان قلت: هذا كالقابض على الماء، لأن الخلو لفعل عن الفائدة مراتب مختلفة في الإفراط والتفريط والوسط، فإذا مثل بالمحسوس عرفت مرتبته، ولذلك لو أرادت الإشارة إلى تنافي الشيئين فأشرت إلى ماء ونار فقلت: هذا وذاك هل يجتمعان ؟ كان تأثيره زائداً على قولك: هل يجتمع الماء والنار ؟ وكذلك إذا قلت في وصف طول يوم: كاطول ما يتوهم أو لا آخر له أو أنشدت قوله:
في ليل صولٍ تناهى العرض والطول
كأنما ليله بالليل موصول
لم تجد فيه من الإنس ما تجده في قوله:
ويوم كظل الرمح قصر طوله
دم الزق عنا واصطفاق المزاهر
وما ذاك إلا للتشبيه بالمحسوس وإلا فالأول أبلغ لأن طول الرمح متناه وفي الأول حكمت أن ليله موصول بالليل، وكذلك لو قلت في قصر اليوم كأنه ساعة، أو كلمح البصر، لوجدته دون قوله:
ظللنا عند دار أبي أنيسرٍ
بيوم مثل سالفه الذباب
وقوله:
ويومٍ كإبهام القطاة مرين
إلى صباه غالب لي باطله
قال: وقد يكون رض التشبيه عائداً على المشبه به، وذلك أن تقصد على عاده التخييل أن توهم في الشيء القاصر عن نظيره أنه زائد فتشبه الزائد به، كقوله:
وبدا الصباح كأن غرته
وجه الخليفة حين يمتدح
وهذا أبلغ وأحسن وأمدح من تشبيه الوجه بالصباح، لأن تشبيه الوجه بالصباح أصل متفق عليه لا ينكر ولا يستكثر، وإنما الذي يستكثره تشبيه الصباح بالوجه. قال: ثم الغرض بالتشبيه إن كان إلحاق الناقص بالزائد امتنع عكسه مع بقاء هذا الغرض، وإن كان الجمع بين شيئين في مطلق الصورة والشكل واللون صح العكس كتشبيه الصبح بغرة الفرس الأدهم لا للمبالغة في الضياء، بل لوقوع منير في مظلم وحصول بياضٍ قليل في 'سواد' كثير. قال: والتشبيه قد يجئ غريباً يحتاج في إدراكه إلى دقة نظر، كقول ابن المعتز:
والشمس كالمرآة في كف الأشل
والجامع الاستدارة والإشراق مع تواصل الحركة التي تراها للشمس إذا أنعمت التأمل في اضطراب نور الشمس، ويقرب منه قول الآخر:
كأن شعاع الشمس في كل غدوة
على ورق الأشجار أول طالع
دنانير في كف الأشل يضمها
لقبض وتهوى 'من' فروج الأصابع
وكقول المتنبي:
الشمس من مشرقها قد بدت
مشرقةً ليس لها حاجب
كأنها بودقة أحيت
يجول فيها ذهب ذائب
ومن لطيف ما جاء في هذا المعنى من التشبيه قول الأخطل في مصلوب:
أو قائم من نعاس فيه لوثته
مواصل لتمطية من الكسل
شبهه بالمتطي لأن المتمطى يمد يديه وظهره ثم يعود إلى حالته الأولى فزاد فيه أنه مواصل لذلك، وعلله بالقيام من النعاس لما في ذلك من اللوثة والكسل. قال: والتشبيه ليس من المجاز، لأنه معنى من المعاني، وله ألفاظ تدل عليه وضعا فليس فيه نقل اللفظ عن موضوعه، وإنما هو نوطئة لمن يسلك سبيل الاستعارة والتمثيل، لأنه كالأصل لهما وهما كالفرع له، والذي يقع منه في حيز المجاز عند أهل هذا الفن هو الذي يجئ على حد الاستعارة كقولك لمن يتردد في الأمر 'بين' أن يفعله أو يتركه: 'أراك تقدم رجلاً وتؤخر أخرى' والأصل فيه أراك في ترددك كم يقدم رجً ويؤخر أخرى. وأما الاستعارة فهي ادعاء معنى الحقيقة في الشيء للمبالغة في التشبيه مع طرح ذكر المشبه من البين لفظاً وتقديراً.وتقديراً.وإن شئت قلت: هو جعل الشيء الشيء 'أو جعل الشيء للشيء' لأجل المبالغة في التشبيه. فالأول كقولك: لقيت أسداً وأنت تعني الرجل الشجاع. والثاني كقول لبيد:
إذ أصبحت بيد الشمال زمامها
أثبت اليد للشمال مبالغة في تشبيهها بالقادر في التصرف فيه على ما يأتي بيان ذلك. وحد الرماني الاستعارة فقال: هي تعليق العبارة على غير ما وضعت له في أصل اللغة على سبيل النقل للإبانة. وقال ابن المعتز: هي استعارة الكلمة من شئ قد عرف بها إلى شئ لم يعرف بها.وذكر الخفاجي كلام الرماني وقال: تفسير هذه الجملة أن قوله عز وجل:'واشتعل الرأس شيباً' استعارة لأن استعارة للنار، ولم يوضع في أصل اللغة للشيب فلما نقل إليه بأن المعنى لما اكتسبه من التشبيه، لأن الشيب لما كان يأخذ في الرأس شيئاً فشيئاً حتى يحيله إلى غير لونه الأول كان بمنزلة النار التي تسري في الخشب حتى تحيله إلى غير 'حالته' المتقدمة ؛ فهذا هو نقل العبارة عن الحقيقة في الوضع للبيان.ولا بد من أن تكون أوضح من الحقيقة لأجل التشبيه العارض فيها لأن الحقيقة لو قامت مقامها لكانت أولى بها، لأنها الأصل، وليس يخفى على المتأمل أن قوله عز وجل: 'واشتعل الرأس شيباً' أبلغ من كثر شيب الرأس، وهو حقيقة هذا المعنى. ولا بد للاستعارة من حقيقة هي أصلها، وهي مستعار منه، ومستعار، ومستعار له، فالنار مستعار منها، والاشتعال مستعار، والشيب مستعار له.قال: وأما قولنا مع طرح ذكر المشبه، فاعلم أننا إذا طرحناه كقولنا: رأيت أسداً، وأردنا الرجل الشجاع فهو استعارة بالإنفاق، وإن ذكرنا معه الصيغة الدالة على المشابهة كقولنا:زيد كالأسد أو مثله أو شبهه فليس باستعارة ؛ وإن لم نذكر الصيغة وقلنا: زيد أسد فالمختار أنه ليس باستعارة إذ في اللفظ ما يدل على أنه ليس بأسد فلم تحصل المبالغة، فإذا قلت: زيد الأسد فهو أبعد عن الاستعارة، فإن الأول خرج بالتنكير عن أن يحسن فيه كاف التشبيه، فإن قولك: زيد كأسد كلام نازل بخلاف الثاني. قال ضياء الدين بن الأثير: وهذا التشبيه المضمر الأداة قد خلطه قوم بالاستعارة ولم يفرقوا بينهما، وذلك خطأ محض. قال: وسأوضح وجه الخطأ فيه وأحقق القول في الفرق بينهما فأقول: أما التشبيه المظهر الأداة فلا حاجة بنا إلى ذكره لأنه لا خلاف فيه، ولكن نذكر التشبيه المضمر الأداة فنقول: إذا ذكر المنقول والمنقول إليه على أنه تشبيه مضمر الأداة قيل فيه: زيد أسد أي كالأسد، فأداة التشبيه فيه مضمرة مقدرة، وإذا أظهرت حسن ظهورها، ولم تقدح في الكلام الذي أظهرت فيه، ولم تزل عنه فصاحته، وهذا بخلاف ما إذا ذكر المنقول إليه دون المنقول فإنه لا يحسن فيه ظهور أداة التشبيه، وإذا ظهرت زال عن ذلك الكلام ما كان متصفاً به من الحسن والفصاحة. قال: ولنضرب لذلك مثالاً يوضحه فنقول: قد ورد هذا البيت لبعض الشعراء وهو:
فرعاء إن نهضت لحاجتها
عجل القضيب وأبطأ الدعص
وهذا لا يحسن تقدير أداة التشبيه فيه، فلا يقال: عجل 'قد' كالقضيب وأبطأ 'ردف' كالدعص، فالفرق إذن بين التشبيه المضمر أداة التشبيه فيه وبين الاستعارة أن التشبيه المضمر الأداة يحسن إظهار أداة التشبيه فيه، والاستعارة لا يحسن ذلك فيها، والاستعارة أخص من المجاز إذ قصد المبالغة شرط في الاستعارة دون المجاز، وأيضاً فكل استعارة من البديع وليس كل مجاز منها.والحق أن المعنى يعار أولاً ثم بواسطته يعار اللفظ ؛ ولا تحسن الاستعارة إلا حيث كان التشبيه مقرراً بينهما ظاهراً، وإلا فلا بد من التصريح بالتشبيه، فلو قلت: رأيت نخلة أو خامة وأنمت تريد مؤمناً إشارة إلى قول النبي صلى الله عليه وسلم: 'مثل المؤمن كمثل النخلة' أو 'كمثل الخامة' لكنت كالملغز التارك لما يفهم وكلما زاد التشبيه خفاء زادت الاستعارة حسناً بحيث تكون ألطف من التصريح بالتشبيه، فإنك لو رمت أن تظهر التشبيه في قول ابن المعتز:
أثمرت أغصان راحته
لجناة الحسن عنابا
احتجت أن تقول: أثمرت أصابع راحته التي هي كالأغصان لطالب الحسن شبه العناب من أطرافها المخضوبة وهذا مما لا خفاء بغثاثته. وربما جمع بين عدة استعارت إلحاقاً للشكل بالشكل لإتمام التشبيه فتزيد الاستعارة به حسناً، كقول امرئ القيس في صفة الليل:
فقلت له لما تمطى بصلبه
وأردف أعجازاً وناء بكلكل
فصل فيما تدخله الاستعارة وما لا تدخلهقال: الأعلام لا تدخلها الاستعارة لما تقدم في المجاز، وأما الفعل فالاستعارة تقع أولاً في المصدر، ثم تقع بواسطة ذلك في الفعل، فإذا قلت: نطقت الحال بكذا فهذا إنمّا يصحّ لأنّك وجدت الحال مشابهة للنطق في الدلالة على الشيء، فلا جرم 'أنك' اسبتعرت النطق لتلك الحالة ثن نقلته إلى الفعل.والأسماء المشتقة في ذلك كالفعل ؛ فظهر أن الاستعارة إنما تقع وقوعاً أولياً في أسماء الأجناس، ثم الفعل إذا كان مستعاراً فاستعارته إما من جهة فاعله، كقوله: نطقت الحال بكذا ولعبت بي الهموم، وقول جرير:
يحي الروامس ربعها فتجده
بعد البلى وتميته الأمطار
وقول أبي حية:
وليلة مرضت من كل ناحية
فما تضئ لها شمس ولا قمر
أو من جهة مفعوله، كقول ابن المعتز:
جمع الحق لنا في إمامٍ
قتل الجوع وأحي السماحا
أو من جهة مفعوليه، كقوله الحريري:
وأقرئ المسامع إما نطقت
بياناً يقود الحرون الشموسا
أو من جهة أحد مفعوليه، كقول الشاعر:
نقريهم لهذميات نقد بها
ما كان خاط عليهم كل زراد
أو من جهة الفاعل والمفعول، كقوله تعالى: 'يكاد البرق يخطف أبصارهم'قال: ويتصل بهذا ترشيح الاستعارة وتجريدها، إما ترشيحها فهو أن ينظر فيها إلى المستعار، ويراعى جانبه، ويوليه ما يستدعيه ويضم إليه ما يقتضيه، كقول كثير.
رمتني بسهم ريشه الهدب لم يصب
بظاهر جسمي وهو في القلب جارح
وكقول النابغة:
وصدرٍ أراح الليل عازب همه
تضاعف فيه الحزن من كل جانب
فالمستعار في كل واحد منهما وهو الرمي والإراحة منطور إليهما في لفظ السهم والعازب، وكما أنشد صاحب الكشاف:
ينازعني ردائي عند عمرو
رويدك يا أخا عمرو بن بكر
لي الشطر الذي ملكت يميني
ودونك فاعتجر منه بشطر
أراد بردائه سيفه، ثم نظر إلى المستعار في لفظ الاعتجار، وأما تجريدها فهو أن يكون المستعار له منظوراً إليه، كقوله تعالى: 'فأذاقها الله لباس الجوع والخوف'فإن الإذاقة لما وقعت عبارة عما يدرك من أثر الضرر والألم تشبيهاً له بما يدرك من الطعم المر البشع، والباس عبارة عما يغشى منهما ويلابس فكأنه قال: فأذاقها الله ما غشيها من ألم الجوع والخوف، وكقول زهير:
لدي أسدٍ شاكي السلاح مقذف
له لبد أظفاره لم تقلم
فلو نظر إلى المستعار لقال: أسد دامي المخالب أو دامي البراثن، ونظر زهير في آخر البيت إلى المستعار أيضاً، ومنه قول كثير:
غمر الرداء إذا تبسم ضاحكاً
غلقت لضحكته رقاب المال
استعار الرداء للمعروف لأنه يصون عرض صاحبه صون الرداء لما يلقى عليه ووصفه بالغمر الذي هو وصف المعروف والنوال لا وصف الرداء. قال: ويقرب من ذلك الاستعارة بالكناية وهي أن لا يصرخ بذكر المستعار بل بذكر بعض لوازمه تنبيهاً به عليه، كقولهم: شجاع يفترس أقرانه، وعالم يغترف منه الناس. وكقول أبي ذؤيب:
وإذا المنية أنشبت أظفارها
ألفيت كل تميمة لا تنفع
تنبيهاً على أن الشجاع أسد، والمنية سبع، والعالم بحر، وهذا وإن كان يشبه الاستعارة المجردة إلا أنه أغرب وأعجب، ويقرب منه قول زهير:
ومن يعص أطراف الزجاج فإنه
يطيع العوالي ركبت كل لهذم
أراد أن يقول: من لم يرض بأحكام الصلح رضى بأحكام الحرب، وذلك أنهم كانوا إذا طلبوا الصلح قلبوا زجاج الرماح وجعلوها قدامها مكان الأسنة، وإذا أرادوا الحرب أشرعوا الأسنة وقد يسمى هذا النوع المماثلة أيضاً. قال: وقد يزلون الاستعارة منزلة الحقيقة وذلك أنهم يستعيرون الوصف المحسوس للشيء المعقول ويجعلون كأن تلك الصفة ثابتة لذلك الشيء في الحقيقة وأن الاستعارة لم توجد أصلاً مثاله استعارتهم العلو لزيادة الرجل على غيره في الفضل والقدر والسلطان ثم وضعهم الكلام وضع من يذكر علو مكانياً كقول أبي تمام:
ويصعد حتى يظن الحسود
بأن له حاجةً في السماء
وكقوله أيضاً:
مكارم لجت في علو كأنما
تحاول ثأرا عند بعض الكواكب
ولذلك يستعيرون اسم شئ لشيء من نحو شمس أو بدر أو أسد ويبلغون إلى حيث يعتقد أه ليس هناك استعارة كقول ابن العميد:
قامت تظللني من الشمس
نفس أعز عليّ من نفسي
قامت تظللني ومن عجبٍ
شمس تظللني من الشمس
وكقول آخر:
أيا شمعاً يضئ بلا إنطفاءٍ
ويا بدراً يلوح بلا محاق
فأنت البدر ما معنى انتقاصي
وأنت الشمع ما معنى احتراقي ؟
'فلولا أنه أنسى نفسه أن ها هنا استعارة لما كان لهذا العجب معنى، ومدار هذا النوع على التعجب'وقد يجئ على عكسه، كقول الشاعر:
لا تعجبوا من بلى غلالته
قد زر أزراره على القمر
فصل في أقسام الاستعارةقال: وهي على نوعين:الأول أن تعتمد نفس التشبيه، وهو أن يشترك شيئان في وصف وأحدهما أنقص من الآخر، فتعطى الناقص اسم الزائد مبالغةً في تحقق ذلك الوصف له كقولك: رأيت أسداً وأنت تعني رجلاً شجاعاً، وعنت لنا ظبية وأنت تريد امرأة. والثاني أن تعتمد لوازمه عند ما تكون جهة الاشتراك وصفاً، وإنما ثبت كماله في المستعار منه بواسطة شئ آخر فثبت ذلك الشيء للمستعار له مبالغة في إثبات المشترك كقول لبيد:
وغداة ريح قد كشفت وقرةٍ
إذ أصبحت بيد الشمال زمامها
وليس هناك مشار إليه يمكن أن يجري اسم اليد عليه كما جرى الأسد على الرجل لكنه خيل إلى نفسه أن الشمال في تصريف الغداة على حكم طبيعة الإنسان المتصرف فيما زمامه ومقادته بيده، لأن تصرف الإنسان إنما يكون باليد في أكثر الأمور فاليد كالآلة التي تكمل بها ع القوة على التصرف، ولما كان الغرض ثبات التصرف - وذلك مما لا يكمل إلا عند ثبوت اليد - أثبت اليد للشمال تحقيقاً للغرض وحكم الزمام في استعارته للغداة حكم اليد في استعارتها للشمال، وكذلك قول تأبط شراً:
إذا هزه في عظم قرن تهلك
نواجذ أفواه المنايا بالضواحك
لما شبه المنايا عند هزة السيف بالمسرور - وكمال الفرح والسرور إنما يظهر بالضحك الذي تتهلل فيه النواجذ - أثبته تحقيقاً للوصف المقصود، وإلا فليس للمنايا ما ينقل إليه اسم النواجذ، وهكذا الكلام في قول الحماسي:
سقاه الردى سيف إذا سل أو مضت
إليه ثنايا الموت من كل مرقب
ومن هذا الباب قولهم: فلان مرخى العنان، وملقى الزمام. قال: ويسمى هذا النوع استعارة تخييلية، وهو كإثبات الجناح للذل في قوله تعالى: 'واخفض لهما جناح الذل من الرحمة' قال: ذا عرف هذا فالنوع الأول على أربعة أقسام:الأول - استعارة المحسوس للمحسوس، وذلك إما بأن يشتركا في الذات ويختلفا في الصفات، كاستعارة الطيران لغير ذي جناح في السرعة، فإن الطيران والعدو يشتركان في 'الحقيقة وهي' الحركة الكائنة إلا أن الطيران أسرع، أو بأن يختلفا في الذات ويشتركا في صفة إما محسوسة كقولهم: رأيت شمساً ويريدون إنساناً يتهلل وجهه، وكقوله تعالى: 'واشتعل الرأس شيباً' فالمستعار منه النار والمستعار له الشيب، والجامع الانبساط، ولكنه في النار أقوى، وإما غير محسوسة كقوله تعالى: 'إذا أرسلنا عليهم الريح العقيم' المستعار له الريح، والمستعار منه المرء والجامع المنع من ظهور النتيجة. الثاني - أن يستعار شئ معقول لشيء معقول لاشتراكهما في وصف عدمي أو ثبتوي وأحدهما أكمل من ذلك الوصف، فيتنزل الناقص منزلة الكامل كاستعارة اسم العدو للوجود إذا اشتركا في عدم الفائدة، أو استعارة اسم الوجود للعدم إذا بقيت آثاره المطلوبة مه كتشبيه الجهل بالموت لاشتراك الموصوف بهما في عدم الإدراك والعقل، وكقولهم: فلان لقي الموت إذا لقي الشدائد، لاشتراكهما في المكروهية، وقوله تعالى: 'ولما سكت عن موسى الغضب' والسكوت والزوال أمران معقولان. الثالث - أن يستعار المحسوس للمعقول كاستعارة النور الذي هو محسوس للحجة، واستعارة القسطاس للعدل، وكقوله تعالى: 'بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه' فالقذف والدمغ مستعاران، وقوله تعالى: 'فاصدع بما تؤمر' استعارة لبيانه عما أوحى إليه كظهور ما في الزجاجة عند انصداعها، وكل خوض في القرآن العزيز فهو مستعار من الخوض في الماء، وقوله تعالى: 'قالتا أتينا طائعين' جعل لهما طاعة وقولا. الرابع - أن يستعار اسم المعقول للمحسوس على ما تقدم ذكره في التشبيه كقوله تعالى: 'إذا ألقوا فيها سمعوا لها شهيقاً وهي تفور تكاد تميز من الغيظ' فالشهيق والغيظ مستعاران، وقوله تعالى: 'حتى تضع الحرب أوزارها' والأقوال في الاستعارة كثيرة، وقد أوردنا فيها ما يستدل به عليها. وأما الكناية - قال: اللفظة إذا أطلقت وكان الغرض الأصلي غير معناها فلا يخلو: إما أن يكون معناها مقصوداً أيضاً ليكون دالاً على ذلك الغرض الأصلي وإما أن لا يكون كذلك. فالأول هو الكناية، ويقال له: الإرداف أيضاً. والثاني المجاز. فالكناية عند علماء البيان أن يزيد المتكلم إثبات معنى من المعاني لا يذكره باللفظ الموضوع له في اللفة، ولكن يجئ إلى معنى هو تاليه وردفه في الوجود فيومي به إليه، ويجعله دليلاً عليه، مثال ذلك قولهم: طويل النجاد وكثير رماد القدر، يعنون به أنه طويل القامة، كثير القرى، ومن ذلك قوله تعالى: 'إن الذين كفروا بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفراً لن تقبل توبتهم' كنى بنفي التوبة عن الموت على الكفر. وقول الشاعر:
بعيدة مهوى الفرط إما لنوفلٍ
أبوها إما عبد شمس وهاشم
أراد يذكر طول جيدها 'فأتى تتابعه وهو بعد مهوى القرط' وكقول ليلى الأخيلية:
ومخرقٍ عنه القميص تخاله
وسط البيوت من الحياء سقما
كنت عن وجوه تخرق القميص من جذب العفاة عند ازدحامهم لأخذ العطاء، وأمثال ذلك.قال:والكناية تكون في المثبت كما ذكرنا، وقد تكون في الإثبات وهي ما إذا حاولوا إثبات معنى من المعاني لشيء فيتركون التصريح بإثباته له، ويثبتونه لما له به تعلق، كقولهم: المجد بين ثوبيه، والكرم بين برديه، وقول الشاعر:
إن المروءة والسماحة والندى
في قبة ضربت على ابن الحشرج
قال: واعلم أن الكناية ليست من المجاز لأنك تعتبر في ألفاظ الكناية معانيها الأصلية، وتفيد بمعناها معنى ثانياً هو المقصود، فتريد بقولك، كثير الرماد حقيقته وتجعل ذلك دليلاً على كونه جواداً فالكناية ذكر الرديف وإرادة المردوف. وأما التعريض - فهو تضمين الكلام دلالة ليس لها ذكر، كقولك: ما أقبح البخل، لمن تعرض ببخله، وكقول محمد بن عبد الله ابن الحسن: لم يعرق في أمهات الأولاد، يعرض بالمنصور بأنه ابن أمة وأمثال ذلك. وأما التمثيل - فإنما يكون من باب المجاز إذا جاء على حد الاستعارة، مثاله قولك للمتحبر: فلان يقدم رجلاً ويؤخر أخرى، فلو قلت: إنه في تحيره كمن يقدم رجلاً ويؤخر أخرى لم يكن من باب المجاز، وكذلك قولك لمن أخذ في عمل لا يتحصل منه المقصود: أراك تنفخ في غير ضرم، وتخط على الماء. قال: وأجمعوا على أن للكناية مزية على التصريح لأنك إذا أثبت كثرة القرى بإثبات شاهدها ودليلها فهو كالدعوى التي 'معها' شاهد ودليل، وذلك أبلغ من إثباتها بنفسها. وأما الخبر وأحكامه - فقد قال: الخبر هو القول المقتضى تصريحه نسبة معلوم إلى معلوم بالفي أو الإثبات.وتسمية أحد جزيئه بالخبر مجازية، ثم المقصود من الخبر إن كان هو الإثبات المطلاق فيكون بالاسم، كقوله تعالى: 'وكلبهم باسط ذراعيه بالوصيد' وإن لم يتم ذلك إلا بإشعار زمانه فيكون بالفعلٍ، كقوله تعالى: 'هل من خالق غير الله يرزقكم من السماء والأرض' فإن المقصود لا تتم بكونه معطياً للرزق 'بل بكونه معطياً للرزق' في كل حين وأوان والأخبار بالفعل أخص من الأخبار بالاسم، وإذا أنعمت النظر وجدت الاسم موضوعاً على أن تثبت به المعنى الشيء من غير إشعار يتجدده شيئاً فشيئاً، بل جعل الانطلاق أو البسيط متلاصقة ثابتة ثبوت الطول أو القصر في قولك: زيد طويل أو قصير، بخلاف ما إذا أخبرت بالفعل فإنه يشعر بالتجدد وأنه يقع جزءاً فجزءاً، وإذا أردت شاهداً على ذلك فتأمل هذا البيت:
لا يألف الدرهم المضروب صرتنا
إلا يمر عليها وهو منطلق
فجاء بالاسم، ولو أتى بالفعل لم يحسن هذا الحسن، والفعل المعتدى إلى جميع مفعولاته خبر واحد، حتى إذا قلت: ضرب زيداً عمراً يوم الجمعة خلف المسجد ضرباً شديداً تأديباً له كان الخبر شيئاً واحداً وهو إسناد الضرب المقيد بهذه القيود إلى زيد، فظهر من ذلك 'أن' قولك: جاءني رجل مغاير لما دل عليه قولك: جاءني رجل ظريف، وإنك لست في ذلك 'إلا' كمن يضم إلى معنى، وحكم المبتدأ والخبر أيضاً كذلك: فقول بشار:
كأن مثار النقع فوف رءوسنا
وأسيافنا ليل تهاوى كواكبه
خبر واحد.وإذا قلت: الرجل خير من المرأة فاللام فيه قد تكون للعموم أو للخصوص بأن ترجع إلى معهود أو لتعريف الحقيقة مع قطع النظر عن عمومها وخصوصها.وإذا قلت: زيد المنطلق أو زيد هو المنطلق أفاد انحصار المخبر به في المخبر عنه، فإن أمكن الحصر ترك على حقيقته وإلا فعلى المبالغة.وإذا قلت: المنطلق زيد فهو إخبار عما عرف بما لم يعرف، فكأن المخاطب عرف أن إنساناً انطلق ولم يعرف صاحب، فقلت: الذي تعتقد أنه منطلق زيد. وأما الذي - فهو للإشارة إلى مفرد عند محاولة تعريفه بقضية معلومة كقولك: ذهب الرجل الذي أبوه منطلق وهو تحقيق قولهم: إنه يستعمل لوصف المعارف بالجمل، والتصديق والتكذيب يتوجهان إلى خبر المبتدأ لا إلى صفته فإذا كذبت القائل في قوله: زيد بن عمرو كريم، فالتكذيب لم يتوجه إلى كونه ابن عمرو بل إلى كونه كريماً. وأما التقديم والتأخير - قال: إذا قدم الشيء على غيره فإما أن يكون في نية التأخير كما إذا قدم الخبر على المبتدأ ؛ وإما أن يكون في نية التأخير ولكن انتقل الشيء من حكم إلى آخر، كما إذا جئت إلى اسمين جاز أن يكون كل واحد منهما مبتدأ فجعلت أحدهما مبتدأ كقولك: زيد المنطلق، والمنطلق زيد، قال الجرجاني: قال صاحب الكتاب: كأنهم يقدمون الذي بيانه أهم لهم وهم بشأنه أعني، وإن كانا جميعاً يهمانهم ويعنياهم، مثاله: أن الناس إذا تعلق غرضهم بقتل خارجي مفسد ولا يبالون من صدر القتل منه، وأراد مريد الإخبار بذلك فإنه يقدم ذكر الخارجي 'فيقول': قتل الخارجي زيد، ولا يقول: قتل زيد الخارجي لأنه يعلم أن قتل الخارجي هو الذي يعنيهم، وإن كان قد وقع قتل من رجل يبعد في اعتقاد الناس وقوع القتل من مثله قدم المخبر ذكر الفاعل فيقول: قتل زيد رجلاً لاعتقاد الناس في المذكور خلاف ذلك، انتهى كلام الجرجاني. قال: ولنذكر ثلاثة مواضع يعرف بها ما لم يذكر:الأول الاستفهام - فإذا أدخلته على الفعل وقلت: أضربت زيداً ؟ كان الشك في وجود الفعل، وإذا أدخلته على الاسم وقلت: أأنت ضربت زيداً ؟ كان الفعل محققاً والشك في تعيين الفاعل، وهكذا حكم النكرة، فإذا قلت: أجاءك رجل ؟ كان المقصود: هل وجد المجيء من رجل ؟ فإذا قلت: أرجل جاءك ؟ كان ذلك سؤالاً عن جنس من جاء بعد الحكم بوجود المجيء من إنسان وقس عليه الخبر في قوله: ضربت زيداً وزيداً ضربت، وجاءني رجل، ورجل جاءني، ثم الاستفهام قد يجئ للإنكار، فإن كان 'في' فعل ماض وأدخلت الاستفهام عليه كان لإنكاره، كقوله تعالى: 'اصطفى البنات على البنين' وإن أدخلته على الاسم فإن لم يكن الفعل متردداً بينه وبين غيره كان لإنكار أنه الفاعل، ويلزم منه نفي ذلك الفعل، كقوله تعالى: 'الله أذن لكم' أي لو كان إذن لكان من الله، فلما لم يوجد منه دل على أن لا إذن كما تقول: متى كان هذا، في ليل أم نهارٍ ؟ أي لو كان في ليل أو نهار، فلما لم يوجد في واحد منهما لم يوجد أصلاً، وعليه قوله تعالى: 'الذكرين حرم أم الاثنين' وإن كان مردداً بينه وبين غيره كان إما للتقرير والتوبيخ، وعليه قوله تعالى حكاية عن قول نمرود: 'أأنت فعلت هذا بآلهتنا يا إبراهيم' وإما لإنكار أنه الفاعل مع تحقيق الفعل، كقولك لمن انتحل شعراً: أأنت قلت هذا ؟وإن كان الفعل مضارعاً، فإن أدخلت حروف الاستفهام عليه كان إما لإنكار وجوده، كقوله تعالى: 'أنلزمكموها وأنتم لها كارهون'.أو لإنكار أنه يقدر على الفعل، كقول امرئ القيس:
أيقتلني والمشرقي مضاجعي
ومسنونة زرق كأنياب أغوال
أو لإزالة طمع من طمع في أمر لا يكون، فيجهله في طمعه، كقولك:أيرضى عنك فلان وأنت على ما يكره ؟ أو لتعنيف من يضيع الحق، كقول الشاعر:
أتترك إن قلت دراهم خالد
زيارته إني إذن للئيم
أو لتنديم الفاعل، كما تقول لمن يركب الخطر: أتخرج في هذا الوقت ؟وإن أدخلته على الاسم فهو لإنكار صدور الفعل من ذلك الفاعل إما للإستحقار كقولك: أأنت تمنعني ؟ أو للتعظيم كقولك: أهو يسأل الناس ؟ أو للمبالغة إما في كرمه، كقولك: أهو يمنع سائله ؟ وإما في خساسته، كقولك: أهو يسمح بمثل هذا ؟ وقد يكون لبيان استحالة فعل ظن ممكناً كقوله تعالى: 'أفأنت تسمع الصم أو تهدي العمى' وكذلك إذا أدخلته على المفعول، كقوله تعالى: 'أغير الله أتخذ ولياً' و'أغير الله تدعون' و'أبشراً منا واحداً نتبعه'الثاني في التقديم والتأخير في النفي - إذا أدخلت النفي على الفعل فقلت: ما ضربت زيداً فقد نفيت عن نفسك ضرباً واقعاً بزيد، وهذا لا يقتضي كون زيد مضروباً. وإذا أدخلته على الاسم فقلت: ما أنا ضربت زيداً اقتضى من باب دليل الخطاب كون زيد مضروباً وعليه قول المتنبي:
وما أنا وحدي قلت ذا الشعر كله
ولكن لشعري فيك من نفسه شعر
ولهذا يصح أن تقول: ما ضربت إلا زيداً وما ضربت زيداً ولا ضربه أحد من الناس ولا يصح أن تقول: ما أنا ضربت إلا زيداً، وأما أنا ضربت زيداً ولا ضربه أحد من الناس. أما الأول فلأن نقض النفي بإلا يقتضي أن تكون ضربته، 'وتقديمك' ضميرك وإيلاءه حرف النفي يقتضي ألا تكون ضربته' فيتدافعان. وأما الثاني فلأن أول الكلام يقتضي أن يكون زيداً مضروباً، وآخره يقتضي ألا يكون مضروباً فيتناقضان، إذا عرف هذا في جانب الفاعل فإن مثله في جانب المفعول، فإذا قلت: ما ضربت زيداً لم يقتض أن تكون ضارباً لغيره، وإذا قلت: ما زيد ضربت اقتضى ذلك، ولهذا صح ما ضربت زيداً ولا أحد من الناس ولا يصح 'ما' زيداً ضربت ولا أحد من الناس. وحكم الجار والمجرور حكم المفعول، فإذا قلت: ما أمرتك بهذا لم يقتض أن تكون قد أمرته بشيء غير هذا، وإذا قلت: ما بهذا أمرتك اقتضاه. وإذا قدمت صيغة العموم على السلب وقلت: كل ذا لم أفعله، برفع كل من كان نفياً عاماً، ويناقضه الإثبات الخاص، فلو فعلت بعضه كنت كاذباً. وإن قدمت السلب وقلت: لم أفعل كل ذا كان نفياً للعموم ولا ينافى الإثبات الخاص، فلو فعلت بعضه لم تكن كاذباً، ومن هذا ظهر الفرق بين رفع كل ونصبه في قول أبي النجم:
قد أصبحت أم الخيار تدعى
علي ذنباً كله لم أصنع
فإن رفعته كان النفي عاماً، واستقام غرض الشاعر في تبرئة نفسه من جملة الذنوب، وإن نصبته كان النفي نفياً للعموم، وهو لا ينافى إتيان بعض الذنب فلا يتم غرضه. الثالث في التقديم والتأخير في الخبر المثبت - ما تقدم في الاستفهام والنفي قائم هنا، فإذا قدمت الاسم وقلت: زيد فعل وأنا فعلت فالقصد إلى الفاعل إما لتخصيص ذلك الفعل به، كقولك: أنا شفعت في شأنه مدعياً الانفراد بذلك أو لتأكيد إثبات الفعل له لا للحصر، كقولك: هو يعطي الجزيل لتمكن في نفس السامع أن ذلك دأبه دون نفيه عن غيره، ومنه قوله تعالى: 'واتخذوا من دونه آلهةً لا يخلقون شيئاً وهم يخلقون' فإنه ليس المراد تخصيص المخلوقية بهم، وقوله تعالى: 'وإذا جاءوكم قالوا آمنا وقد دخلوا بالكفر وهم قد خرجوا به'وكقول درني بنت عبعبة:
هما يلبسان المجد أحسن لبسة
شحيحان ما اسطاعا عليه كلاهما
وقول الآخر:
هموا يفرشون اللبد كل طمرةٍ
وأجرد سباخ يبذ المغالبا
قال: والسبب في هذا التأكيد أنك إذا قلت مثلاً: زيد فقد أشعرت بأنك تريد الحديث عنه فيحصل للسامع تشوق إلى معرفته، فإذا ذكرته قبلته النفس 'قبول العاشق معشوقه' فيكون ذلك أبلغ في التحقيق ونفي الشك والشبهة، ولهذا تقول لمن تعده: أنا أعطيك أنا أكفيك، أنا أقوم بهذا الأمر، وذلك إذا كان من شأن من يسبق له وعد أن يعترضه الشك في وفائه، ولذلك يقال في المدح:أنت تعطي الجزيل، أنت تجود حين لا يجود أحد، ومن ها هنا تعرف الفخامة في الجمل التي فيها ضمير الشأن والقصة كقوله تعالى: 'فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور' وقوله تعالى: 'إنه لا يفلح الكافرون' وأن فيها ما ليس في قولك: فإن الأبصار لا تعمى وإن الكافرين لا يفلحون، وهكذا في الخبر المنفي، فإذا قلت: أنت لا تحسن هذا، كان أبلغ من قولك لا تحسن هذا، فالأول لمن هو أشد إعجاباً بنفسه وأكثر دعوى بأنه يحسن. قال: واعلم أنه قد يكون تقديم الاسم كاللازم نحو قوله:
يا عاذلي دعني من عذلكا
مثلي لا يقبل من مثلكا
وقول المتنبي:
مثلك يثني الحزن عن صوبه
ويسترد الدمع عن غربه
وقول الناس: مثلك يرعى الحق والحرمة، وما أشبه مما لا يقصد فيه إلى إنسان سوى الذي أضيف إليه وجئ به للمبالغة، وقد عبر المتنبي عن هذا المعنى فقال:
ولم أقل مثلك أعني به
سواك يا فرداً بلا مشبه
وكذلك حكم 'غير' إذا سلك فيه هذا المسلك كقول المتنبي:
غيري بأكثر هذا الناس ينخدع
إن قاتلوا جبنوا أو حدثوا شجعوا
أي لست ممن ينخدع ويغتر ولو لم يقدم مثلاً وغيراً في هذه الصور لم يؤد هذا المعنى. قال: ويقرب من هذا المعنى تقديم بعض المفعولات على بعض في نحو قوله تعالى: 'وجعلوا لله شركاء الجن' فإن تقديم شركاء على الجن أفاد أنه ما ينبغي لله شركاء لا من الجن ولا غيرهم لأن شركاء مفعول ثان لجعلوا، ولله متعلق به والجن مفعوله الأول فقد جعل الإنكار على جعل الشريك لله على الإطلاق من غير اختصاص بشيء دون بشيء لأن الصفة إذا ذكرت مجردة عن مجراها على شئ كان الذي تعلق بها من المنفي عاماً في كل ما يجوز أن تكون له تلك الصفة، فإذا قلت ما في الدار كريم، كنت نفيت الكينونة في الدار عن كل شئ يكون الكرم صفةً له، وحكم الإنكار أبداً حكم النفي، فأما إذا أخرت شركاء فقلت: 'وجعلوا الجن شركاء لله فيكون جعل الشركاء مخصوصاً غير مطلق فيحتمل أن يكون المقصود بالإنكار جعل الجن شركاء' لا جعل غيرهم: تعالى الله عن ذلك علوا كبير فقدم شركاء نفياً لهذا الاحتمال. فصل في مواضع التقديم والتأخيرقال: أما التقديم فيحسن في مواضع:الأول: أن تكون الحاجة إلى ذكره أشد، كقولك: قطع اللص الأمير. الثاني: أن يكون ذلك أليق بما قبله من الكلام أو بما بعده، كقوله تعالى:'وتغشى وجوههم النار' فإنه أشكل بما بعده وهو قوله: 'إن الله سريع الحساب' وبما قبله وهو: 'مقرنين في الأصفاد'الثالث: أن يكون من الحروف التي لها صدر الكلام، كحروف الاستفهام والنفي، فإن الاستفهام طلب فهم الشيء، وهو حالة إضافية فلا تستقل بالمفهومية فيشتد اتصاله بما بعده. الرابع: تقديم الكلي على جزيئاته، فإن الشيء كلما كان أكثر عموماً كان أعرف فإن الوجود لما كان أعم الأمور كأن أعرفها عند العقل. الخامس: تقديم الدليل على المدلولوأما التأخير فيحسن في مواضع:الأول: تمام الاسم كالصلة والمضاف إليه. الثاني: توابع الأسماء. الثالث: الفاعل. الرابع: المضمر، وهو أن يكون متأخراً لفظاً وتقديراً، كقولك: ضرب زيد غلامه أو مؤخراً في اللفظ مقدماً في المعنى كقوله تعالى: 'وإذ ابتلى إبراهيم ربه أو بالعكس كقولك: ضرب غلامه زيد، وإن تقدم لفظاً ومعنى لم يجز كقولك: ضرب غلامه زيداً. الخامس: ما يفضى إلى اللبس، كقولك: ضرب موسى عيسى، أو أكرم هذا فيجب فيه تقديم الفاعل. السادس: العامل الذي هو ضعيف عمله، كالصفة المشبهة والتمييز وما عمل فيه حرف أو معنى كقولك: هو حسن وجهاً، وكريم أبا، وتصيب عرقاً، وخمسة وعشرون درهماً وإن زيد قائم، وفي الدار سعد جالساً.ولا يجوز الفصل بين العامل والمعمول بما ليس منه، فلا تقول: كانت زيداً الحمي تأخذ إذا رفعت الحمى بكانت للفصل بين العامل وما عمل فيه، فإن أضمرت الحمى في كانت صحت المسألة. وأما الفصل والوصل - فهو العلم بمواضع العطف والاستئناف والتهدي إلى كيفية إيقاع حروف العطف في مواقعها وهو من أعظم أركان البلاغة حتى إن بعضهم حد البلاغة بأنها معرفة الفصل والوصل، وقال عبد القاهر: إنه لا يكمل لإحراز الفضيلة فيه أحد إلا كمل لسائر معاني البلاغة. قال: اعلم أن فائدة 'العطف' التشريك بين المعطوف والمعطوف عليه، ثم من الحروف العاطفة ما لا يفيد إلا هذا القدر وهو الواو ومنها ما يفيد فائدة كالفاء وثم وأو، وغرضنا ها هنا متعلق بما لا يفيد إلا الاشتراك فنقول: العطف إما أن يكون في المفردات وهو يقتضي التشريك في الإعراب، وإما أن يكون في الجمل وتلك الجمل إن كانت في قوة المفرد كقولك: مررت برجل خلقه حسن وخلقه قبيح فقد أشركت بينهما في الإعراب 'والمعنى' لاشتراكهما في كون كل واحد منهما يفيد للموصوف، ولا يتصور أن يكون اشتراك بين شيئين حتى يكون هناك معنى يقع ذلك الاشتراك فيه، وحتى يكونا كالنظيرين والشريكين، وبحيث إذا عرف السامع حاله الأول عساه يعرف حاله الثاني، يدلك على ذلك أنك ذا عطفت على الأول شيئاً ليس منه بسبب ولا هو مما يذكر بذكره لم يستقم، فلو قلت: خرجت اليوم من داري، وأحسن الذي 'يقول' بيت كذا قلت ما يضحك منه، ومن ها هنا عابوا على أبي تمام قوله:
لا والذي هو عالم أن النوى
صبروا وأن الحسين كريم
وإن لم تكن في قوة المفرد فهي على قسمين:الأول أن يكون معنى إحدى الجملتين لذاته متعلقاً بمعنى الأخرى كما إذا كانت كالتوكيد لها أو كالصفة، فلا يجوز إدخال العاطف عليه، لأن التوكيد والصفة متعلقان بالمؤكد والموصوف لذاتهما، والتعلق الذاتي يغني عن لفظ يدل على التعلق فمثال التوكيد قوله تعالى: 'آلم ذلك الكتاب لا ريب فيه' فلا ريب فيه توكيد لقوله تعالى: 'ذلك الكتاب' كأنه قال: هو ذلك الكتاب، وكذلك قوله تعالى: 'إن الذين كفروا سواء عليهم أنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون' وقوله تعالى: 'ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة ولهم عذاب عظيم' تأكيد ثان أبلغ من الأول، وكذلك قوله تعالى: 'ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين يخادعون الله' ولم يقل: ويخادعون لأن المخادعة ليست شيئاً غير قولهم: آمنا مع أنهم غير مؤمنين، وكذلك قوله تعالى: 'وإذا تتلى عليه آياتنا ولى مستكبراً كأن لم يسمعها كأن في أذنيه وقراً: ولم يقل تعالى: وكأن، وأمثال 'ذلك' في القرآن العزيز كثيرة. القسم الثاني ألا يكون بين الجملتين تعلق ذاتي، فإن لم يكن بينهما مناسبة فيجب ترك العاطف أيضاً لأن العطف للتشريك ولا تشريك، ومن ها هنا أيضاً عابوا على أبي تمام البيت المتقدم لا والذي هو عالم. . . .إذ لا مناسبة بين مرارة النوى وبين كرم أبي الحسين، ولذلك لم يحسن جواز العاطف. وإن كان بينهما مناسبة فيجب ذكر العاطف. ثم إن كان المحدث عنه في الجملتين شيئين فالمناسبة بينهما إما أن تكون بالذي أخبر بهما، أو بالذي أخبر عنها، أو بهما كليهما، وهذا الأخير هو المعتبر في العطف. قال: ونعني بالمناسبة أن يكونا متشابهين كقولك: زيد كاتب وعمرو 'شاعر' 'أو متضادين تضادا على الخصوص، كقولك زيد طويل وعمرو' قصير وكقولك العلم حسن والجهل قبيح، فلو قلت: زيد طويل والخليفة قصير لا اختل معنى عند ما لا لزيد تعلق بحديث الخليفة ولو قلت: زيد طويل وعمرو شاعر لا اختل لفظاً إذ مناسبة بين الطويل القامة والشاعر. وإن كان المحدث عنه في الجملتين شيئاً واحداً، كقولك: فلان يقول ويفعل ويضر وينفع، ويأمر وينهى، ويسيء ويحسن، فيجب إدخال العاطف رجوع عن الأولوإذا أفاد العاطف الاجتماع ازداد الاشتراك كقولك: العجب من أنك أحسنت وأسأت، والعجب من أنك تنهى عن شيء وتأتي مثله وكقوله:
لا تطمعوا أن تهينونا ونكرمكم
وأن نكف الأذى عنكم وتؤذونا
فإن المعنى جعل المفعلين في حكم واحد، أي تطيعوا أن تروا إكرامنا إياكم يوجد مع إهانتكم إيانا. قال: وقد يجب إسقاط العاطف في بعض المواضع لاختلال المعنى عند إثباته كقوله تعالى: 'وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون ألا أنهم هم المفسدون' فقوله تعالى: 'ألا أنهم هم المفسدون كلام مستأنف وهو إخبار من الله تعالى، فلو أتى بالواو لكان إخباراً عن اليهود بأنهم وصفوا أنفسهم بأنهم يفسدون فيختل المعنى، وكذلك قوله تعالى: 'وإذا قيل لهم آمنوا كما آمن الناس قالوا أنؤمن كما آمن السفهاء ألا أنهم هم السفهاء' وأمثال ذلك كثيرة، وإذا كان كذلك فلا حاجة إلى العاطف بخلاف قوله تعالى: 'يخادعون الله وهو خادعهم' 'ومكروا ومكر الله' فإن كل واحدة من الجملتين خبر من الله تعالى. قال: ومما يجب ذكره هاهنا الجملة إذا وقعت حالاً فإنها تجئ مع الواو تارة وبدونها أخرى فنقول: الجملة إذا وقعت حالاً فلا بد أن تكون خبرية تحتمل الصدق والكذب، وهو على قسمين. الأول وله أحوال:الأولى: أن يجمع لها بين الواو وضمير صاحب الحال، كقولك: جاء زيد ويده على غلامه ولقيت زيداً وفرسه سابقه، وهذه الواو تسمى واو الحال. الثانية: أن تجئ بالضمير من غير واو، كقولك: كلمته فوه إلى في، وهو في معنى مشافها، والرابط الضمير، فلو قلت: كلمته إلى في فوه، ولقيته عليه جبة وشئ لم يكن من باب وقوع الجملة حالاً، لأنه يمكننا أن نرفع فوه وجبة بالجار والمجرور فيرجع الكلام إلى وقوع المفرد حالاً، والتقدير كلمته كائناً إلى في فوه، ولقيته مستقرة عليه جبة وشئ وعليه قول بشار:
إذا أنكرتني بلدة أو نكرتها
غدوت مع البازي على سواد
الثالثة: أن تجئ الواو من غير ضمير وهو كثير، كقولك: لقيتك والجيش قادم وزرتنا والشتاء خارج.ويجوز أن تجمع بين حالين مفرد وجملة إذا أجزنا وقوع حالين كقولك: لقيتك راكباً والجيش قادم فالجملة حال من التاء أو من الكاف والعامل فيها لقيت، أو من ضمير راكباً 'وراكباً' هو العامل فيها. القسم الثاني الجملة الفعلية، ولا بد أن تكون ماضياً أو مضارعاً 'أما الماضي فلا بد معه من الإتيان بالواو وقد أو بأحدهما، كقولك: تكلمت وقد عجلت، وجاء زيد قد ضرب عمراً، وجئت وأسرعت في المجيء قال الله تعالى: 'قالوا أنؤمن لك واتبعك الأرذلون' ولم يجر البصريون خلوة عنهما، وقالوا في قوله تعالى: 'أو جاءوكم حصرت صدروهم' وفي قول أبي صخر الهذلي:
وإني لتعروني لذاكراك هزة
كما انتقض العصفور بلله القطر
إن قد مقدرة فيهما، فإن الشيء إذا عرف موضعه جاز حذفه. وأما المضارع فإن كان موجباً فلا يؤتى معه بالواو، فتقول: جاءني زيد يضحك، ويجئ عمرو يسرع، واجلس تحدثنا بالرفع أي محدثاً لنا، لأنه بتجرده عما يغير معناه أشبه اسم الفاعل إذا وقع حالاً. وإن كان منفياً جاز حذف الواو مراعاة لأصل الفعل الذي هو الإيجاب وجاز إثباتها لأن الفعل ليس هو الحال، فإن معنى قولك: جلس زيد ولم يتكلم جلس زيد غير متكلم فجرى مجرى الجملة الأسمية، فالحذف كقولك: جاء زيد ما يفوه ببنت شفة، قال الله تعالى: 'الذي أحلنا دار المقامة من فضله لا يمسنا فيها نصب ولا يمسنا فيها لغوب' لا يمسنا في موضع نصب على الحال من ضمير المرفوع في أحلنا، والإثبات كقولك: جلس زيد ولم يتكلم قال الله تعالى: 'أفلا يرون ألا يرجع إليهم قولاً ولا يملك لهم ضراً ولا نفعاً' قال: وشبهوا به الفعل الماضي فقالوا: جاء زيد ما ضرب عمراً، وجاء زيد وما ضرب عمراً. وأما الحذف والإضمار - فقد قال: الأفتال المتعدية التي ترك ذكر مفعولاتها على قسمين:الأول: ألا يكون له مفعول مبين: فقد يترك مفعوله لفظاً وتقديراً ويجعل حاله كحال غير المعتدي، كقولهم: فلان يحل ويعقد، ويأمر وينهى ويضر وينفع. والمقصود إثبات المعنى في نفسه للشيء من غير التعريض لحديث المفعول فكأنك قلت: بحيث يكون منه حل وعقد وأمر ونهي ونفع وضر، وعليه قوله تعالى: 'قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون' أي هل يستوي من له علم ومن لا علم له من غير أن ينص على معلوم، وكذلك قوله تعالى: 'وأنه هو أضحك وأبكى' إلى قوله: 'وأنه هو أغنى وأقنى' وبالجملة فمتى كان الغرض بيان حال الفاعل فلا تعد الفعل، فإن تعديته تنقض الغرض، ألا ترى أنك إذا قلت: فلان يعطي الدنانير كان المقصود بيان جنس ما يتناوله الإعطاء لا بيان حال كونه معطياً ؟الثاني: أن يكون له مفعول معلوم إلا أنه يحذف في اللفظ لأغراض:الأول: أن يكون المراد بيان حال الفاعل وأن ذلك الحال دأبه لا بيان المفعول كقول طفيل:
جزى الله عنا جعفراً حين أزلفت
بنا نعلنا في الواطئين فزلت
أبوا أن يملونا ولو أن أمنا
تلاقى الذي لاقوه منا لملت
هم خلطونا بالنفوس وألجئوا
إلى حجرات أدفأت وأظلت
والأصل أن تقول: لملتنا وألجؤونا وأدفأتنا وأظلتنا فحذف المفعول المعين من هذه المواضع الأربعة وكأنه قد أبهم ولم يقصد قصد شئ يقع عليه، كما تقول: قد مل فلان، تريد قد دخل عليه الملال من غير أن تخص شيئاً بل لا تزيد على أن تجعل الملال من صفته، فلذلك الشاعر جعل هذه الأوصاف من دأبهم، ولو أضاف إلى مفعول معين لبطل هذا الغرض، وعليه قوله تعالى: 'ولما ورد ماء مدين' إلى قوله تعالى: 'فسقى لهما' فقد حذف المفعول في أربعة مواضع، فإن ذكره ربما يخل بالمقصود فلو قال تعالى مثلاً: تذودان غنمهما لتوهم أن الإنكار إنما جاء من ذودهما الغنم لا من مطلق الذود، كقولك: مالك تمنع أخاك ؟ فإن الإنكار من منع الأخ لا من مطلق المنع. الثاني: أن يكون المقصود ذكره إلا أنك لا تذكره إيهاماً بأنك لا تقصد ذكره كقول البحتري:
شجو حساده وغيظ عداه
أن يرى مبصر ويسمع واع
المعنى أن يرى مبصر محاسنه أو يسمع واعٍ أخباره، ولكنه تغافل عن ذلك إيذاناً بأن فضائله يكفي فيها أن يقع عليها بصر أو يعيها سمع حتى يعلم أنه المتفرد بالفضائل، فليس لحساده وعداه أشجى من علم بأن هنا مبصراً وسامعاً. الثالث: أن يحذف لكونه بيناً، كقولهم: أصيغت إليك أي أذني، وأغضيت عليك، أي جفنى. فصل في حذف المبتدأ والخبرقال: قد يحسن حذف المبتدأ حيث يكون الغرض أنه قد بلغ في استحقاق الوصف بما جعل وصفاً له إلى حيث يعلم بالضرورة أن ذلك الوصف ليس إلا له سواء كان في نفسه كذلك، أم بحسب دعوى الشاعر على طريق المبالغة، فذكره يبطل هذا الغرض، ولهذا قال الإمام عبد القاهر: ما من اسم يحذف في الحالة التي ينبغي أن يحذف فيها إلا وحذفه أحسن من ذكره، فمن حذف المبتدأ قوله تعالى: 'سورة أنزلناها وفرضناها' أي هذه السورة وقول الشاعر:
لا يبعد الله التلبب والس
غارات إذ قال الخميس نعم
أي هذه نعم قال عبد القاهر: ومن المواضع التي يطرد فيها حذف المبتدأ بالقطع والاستئناف أنهم يبدءون بذكر الرجل ويقدمون بعض أمره، ثم يدعون الكلام الأول ويستأنفون كلاماً 'آخر' وإذا فعلوا ذلك أنوا في أكثر الأمر بخبر من غير المبتدأ مثال ذلك قوله:
وعلمت أنى يوم ذا
ك منازل كعباً ونهدا
قوم إذا لبسوا الحدي
د تنمروا خلقاً وقدا
وقال الحطيئة:
هم حلوا من الشرف المعلى
ومن حسب العشيرة حيث شاءوا
بناة مكارم وأساة كلم
دماؤهم من الكلب الشفاء
وأمثلة ذلك كثيرة. ومن حذف الخبر قوله تعالى: 'لولا أنتم لكنا مؤمنين' أي لولا أنتم مضلونا وقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: لولا علي لهلك عمر، أي لولا علي حاضر أو مفتٍ. فصلالإضمار على شريطة التفسير كقولهم: أكرمني وأكرمت عبد الله أي أكرمني عبد الله وأكرمت عبد الله، ومما يشبه ذلك مفعول المشيئة إذا جاءت بعد لو، فإن كان مفعولها أمراً عظيماً أو غريباً فالأولى ذكره، كقوله:
ولو شئت أن أبكي دماً لبكيته
عليه ولكن ساحة الصبر أوسع
فإن بكاء الإنسان دماء عجيب، وإن لم يكن كذلك فالأولى حذفه، كقوله تعالى: 'ولو شاء الله لجمعهم على الهدى' والتقدير لو شاء الله أن يجمعهم على الهدى لجمعهم، وكذلك قوله تعالى: 'ولو شاء لهداكم أجمعين' وقوله تعالى: 'فإن يشأ الله يختم على قلبك' و'من يشأ الله يضلله ومن يشأ يجعله على صراط مستقيم'. قال: واعلم أنه قد تترك الكناية إلى التصريح لما فيه من زيادة الفخامة كقول البحتري:
قد طلبنا فلم نجد لك في السؤ
دد والمجد والمكارم مثلاً
المعنى قد طلبنا لك مثلاً ثم حذف لأن هذا المدح إنما ينفي المثل، فلو قال: قد طلبنا لك مثلاً في السؤدد والمجد فلم نجده لكان قد أوقع نفي الوجود على ضمير المثل فلم يكن فيه من المبالغة ما إذا أوقعه على صريح المثل، فإن الكناية لا تبلغ مبلغ الصريح، ولهذا لو قلت: وبالحق أنزلناه زوبه نزل، وقل هو الله أحد وهو الصمد لا تجد من الفخامة ما تجده في قوله تعالى: 'وبالحق أنزلناه وبالحق نزل' و'قل هو الله أحد الله الصمد' وعلى ذلك قول الشاعر:
لا أرى الموت يسبق الموت شيء
تغص الموت ذا الغنى والفقيرا
وأما مباحث إن وإنما - فإنه قال: أما إن فلها فوائد:الأولى أن تربط الجملة الثانية بالأولى وبسببها يحصل التأليف بينهما حتى كأن الكلامين أفرغا واحداً، ولو أسقطتها كان الثاني نائياً عن الأول، كقوله تعالى: 'يا أيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شئ عظيم' وقوله تعالى: 'أقم الصلاة وأمر بالمعروف وأنه عن المنكر واصبر على ما أصابك إن ذلك من عزم الأمور' وقوله تعالى: 'خذ من أموالهم صدقة تطهرهم بها وتزكيهم بها وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم' وقد تنكروا في كلام واحد، كقوله تعالى: 'وما أبرئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي إن ربي غفور رحيم' ثم متى أسقطت 'إن' من الجملة التي أدخلتها عليها، فإن كانت الجملة الثانية إنما تذكر لإظهار فائدة ما قبلها كما في الآيات المذكورة احتجت إلى الفاء وإلا فلا، كما في قوله تعالى: 'إن هذا ما كنتم به تمترون إن المتقين في مقام أمين' فلو قلت: فالمتقون لم يكن كلاماً، وكذلك قوله تعالى: 'إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركوا إن الله يفصل بينهم يوم القيامة' فقوله تعالى: 'إن الله يفصل بينهم' في موضع خبر إن، فدخول الفاء يوجب الثانية: أنك ترى لضمير الشأن والقصة في الجملة الشرطية مع 'إن' من الحسن واللطف ما لا تراه إذا هي لم تدخل عليها، كقوله تعالى' 'إنه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين' وقوله تعالى: 'أنه من يحادد الله ورسوله فأن له نار جهنم' وقوله تعالى: 'أنه من عمل منكم سوءاً بجهالة ثم تاب من بعده وأصلح فأنه غفور رحيم'الثالثة: أنها تهيء النكرة وتصلحها لأن يحدث عنها، كقوله:
إن شواءً ونشوةً
وخبب البازل الأمون
فولا هي لم يكن كلاماً ؛ وإن كانت النكرة موصوفة جاز حذفها ولكن دخولها أصلح، كقول حسان:
إن دهراً يلف شملي بجملٍ
لزمان يهم بالإحسان
الرابعة: أنها قد تغني عن الخبر، كما إذا قيل لك: الناس إلبٌ عليكم فهل لكم أحد ؟ فقلت: إن زيداً وإن عمراً أي لنا، قال الأعشى:
إن محلاً وإن مرتجلاً
وإن السفر إذ مضوا مهلا
الخامسة: قال المبرد: إذا قلت عبد الله قائم، فهو إخبار عن قيامه فإذا قلت: إن عبد الله قائم، فهو جواب عن إنكار منكر لقيامه، سواء كان المنكر هو السائل أو الحاضرين، والدليل على أن إن إنما تذكر الجواب السائل أنهم ألزموها الجملة من المبتدأ والخبر، والله إن زيداً لمنطلق، فالحاجة إنما تدعوا إلى 'إن' إذا كان للسامع ظن يخالف ذلك، ولذلك تراها تزداد حسناً إذا كان الخبر بأمر يبعد، كقول أبي نواس:
عليك باليأس من الناس
إن غنى نفسك في الياس
ومن لطيف مواقعها أن يدعى على المخاطب ظن لم يظنه ولكن 'صدر' منه فعل يقتضي ذلك الظن، فيقال له: حالك تقتضي أن تكون قد ظننت ذلك، كقول الشاعر:
جاء شقيق عارضاً رمحه
إن بني عمك فيهم رماح
أي مجيئك هذا مدلاً بنفسك مجيء من يعتقد أنه ليس مع أحد رمح غيره. وقد تجئ إذا وجد أمر كان المتكلم يظن أنه لا يوجد، كقولك للشيء الذي يراه المخاطب ويسمعه: إنه كان من الأمر ما ترى، إنه كان مني إليه إحسان فقابلني بالسوء كأنك ترد على نفسك ظنك الذي ظننت وعليه قوله عز وجل حكاية عن أم مريم: 'قالت رب إني وضعتها أنثى' وحكاية عن نوح: 'قال رب إن قومي كذبون'وأما إنما - فتارة تجئ للحصر بمعنى أن هذا الحكم لا يوجد في غير المذكور وهي بمنزلة ليس إلا، كقوله تعالى: 'أنما يستجيب الذين يسمعون' وقوله: 'إنما تنذر من اتبع الذكر' وقوله تعالى: 'إنما أنت منذر من يخشاها'تارة تجئ لبيان أن هذا الأمر ظاهر عند كل حد، سواء كان كذلك أم في زعم المتكلم، ومنه قول الشاعر:
إنما مصعب شهاب من الل
ه تجلت عن وجهه الظلماء
مدعياً أن ذلمك مما لا ينكره أحد من الناس قال: واعلم أنه يستعمل للتخصيص ثلاث عبارات:الأولى: إنما جاء زيد. الثانية: جاءني زيد لا عمرو، والرفق أن في الأولى يفهم إيجاب الفعل من زيد ونفيه عن غيره دفعة واحدة، ومن الثانية دفعتين، ثم إنهما كلتيهما يستعملان لإثبات التخصيص لا لنفي التشريك وفيه نظر. الثالثة: ما جاءني إلا زيد، وهي بالأصل الوضع تفيد نفي التشريك، ولهذا لا يصح ما زيد إلا قائم لا قاعد، لأنك بقولك: إلا قائم نفيت عنه كل صفة تنافى القيام، فيندرج فيه نفي القعود، فإذا قلت بعده،: لا قاعد كان تكراراً لأن لفظة 'لا' موضوعة لأن ينفى بها ما أوجب الأول لا لأن يعاد بها نفي ما نفي أولا ويصح إنما زيد قاعد لا قائم لأن صيغة وضعها تدل على المخصوص الحكم بالمذكور، وأما نفي الشركة فهو لازم من لوازمها، فليس له من القوة لما يدل عليه بوضعه ولهذا يصح: هو الجاني لا عمرو، فثبت أن دلالة الأوليين على التخصيص أقوى، ودلالة الثالثة على نفي التشريك 'أقوى' لكن الثالثة قد تقام مقام الأوليين في إفادة التخصيص، كما إذا ادعى واحد أنك قلت قولاً ثم قلت بخلافه، فقلت له: ما قلت الآن إلا ما قلته قبل، وعليه قوله تعالى حكاية عن عيسى عليه السلام: 'ما قلت لهم إلا ما أمرتني به' ليس المعنى أنى لم أزد على أمرتني به شيئاً، ولكن المعنى أني لم أدع مما أمرتني به 'أن' أقوله شيئاً. قال: وحكم 'غير' حكم 'إلا' فإذا قلت: ما جاءني غير زيد احتمل أن يكون المراد نفي أن يكون جاء معه إنسان آخر، وأن يكون المراد تخصيص الحكم بالمذكور لا نفيه عما عداه. فصلإذا دخل ما وإلا على الجملة المشتملة على المنصوب كان المقصود بالذكر ما اتصل بإلا متأخراً عنها، فإذا قلت: ما ضرب عمراً إلا زيداً فالمقصود المرفوع، وإذا قلت: ما ضرب زيداً إلا عمراً، فالمقصود المنصوب، وإذا قلت ما ضرب 'إلا' زيد عمراً، فالاختصاص للضارب، وإذا قلت إلا زيداً عمرو، فالاختصاص للمضروب، فإذا قلت: لم أكس إلا زيداً جبةً، فالمعنى تخصيص زيد من بين الناس بكسوة الجبة، وإن قلت: لم أكس إلا جبة زيداً، فالمعنى تختص كسوة لجبة من بين الناس بزيد وكذلك الحكم حيث يكون بدل أحد المفعولين جار ومجرور، كقول السيد الحميري:
لو خير المنبر فرسانه
ما اختار إلا منكم فارسا
وكذلك حكم المبتدأ والخبر والفعل والفاعل، كقولك: ما زيد إلا قائم، وما قام إلا زيد. وأما إنما فالاختصاص فيها يقع مع المتأخر فإذا قلت، إنما ضرب زيداً عمرو فالاختصاص في الضارب، وقوله تعالى: 'إنما يخشى الله من عباده العلماء' فالغرض بيان المرفوع وهو أن الخاشين هم العلماء، ولو قدم المرفوع لصار المقصود بيان المخشي منه، والأول أتم، ومنه قول الفرزدق.
أنا الذائد الحامي الذمار وإنما
يدافع عن أحسابكم أنا أو مثلي
فإن غرضه أن يحصر المدافع بأنه هو لا المدافع عنه، ولو قال: إنما أنا أدافع عن أحسابكم توجه التخصيص إلى المدافع عنه، 'وحكم المبتدأ والخبر' إذا أدخلت عليهما إنما، فإن قدمت الخبر فالاختصاص للمبتدأ، وإن لم تقدمه فللخبر، فإذا قلت: إنما هذا لك فالاختصاص في 'لك' بدليل أنك بعده تقول: لا لغيرك، فإذا قلت إنما لك هذا فالاختصاص في 'هذا' بدليل أنك بعده تقول: لا ذاك وعليه قوله تعالى: 'فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب' وقوله تعالى: 'إنما السبيل على الذين يستأذنوك' فالاختصاص في الآية الأولى للبلاغ والحساب، وفي الثانية في الخبر الذي هو على الذين دون المبتدأ الذي هو السبيل. وإذا وقع بعدها الفعل فالمعنى أن ذلك الفعل لا يصح إلا من المذكور، كقوله تعالى: 'إنما يتذكر أولوا الألباب' ثم قد يجتمع معه حرف النفي إما متأخراً عنه كقولك: إنما يجئ زيد لا عمر: قال تعالى: 'إنما أنت مذكر لست عليهم بمسيطر'وقال لبيد:
فإذا جوزيت قرضاً فاجزه
إنما يجزى الفتى ليس الجمل
وإما مقدماً عليه، كقولك: ما جاءني زيد وإنما جاءني عمرو، فها هنا لو لم تقل: وقلت: ما جاءني زيد وجاءني عمرو لكان الكلام مع من ظن أنهما جاءاك جميعاً، وإذا أدخلتها فإن الكلام مع من غلط في الجائي أنه زيد لا عمرو. قال: واعلم أن أقوى ما تكون 'إنما' إذا كان لا يراد بالكلام الذي بعدها نفس معناه، ولكن التعريض بأمر هو مقتضاه، فإنا نعلم أنه ليس الغرض من قوله تعالى: 'إنما يتذكر أولوا الألباب' أن يعلم السامعون ظاهر معناه ولكن أن يذم الكفار ويقال لهم: إنهم من فرط العتاد في حكم من ليس بذي عقل، وقوله تعالى: 'إنما أنت منذر من يخشاها' و'إنما تنذر الذين يخشون ربهم بالغيب' والتقدير إن من لم تكن له من هذه الخشية، فهو كمن لم تكن له أذن تسمع وقلب يعقل، فالإنذار معه كلا إنذار، وهذا الغرض لا يحصل دون 'إنما' لأن من شأنها تضمين الكلام معنى النفي بعد الإثبات فإذا أسقطت لم يبق إلا إثبات الحكم للمذكورين، فلا يدل على نفيه 'عن' غيرهم إلا أن يذكر في معرض مدح الإنسان بالتيقظ والكرم وأمثالهما كما يقال: كذلك يفعل العاقل، هكذا يفعل الكريم. تنبيه - قال: كاد تقرب الفعل من الوقوع، فنفيها ينفي القرب، فإن لم يكن في الكلام دليل على الوقوع فيقيد نفي الوقوع ونفي القرب منه، كقوله تعالى: 'لم يكد يراها' 'أي لم يرها' ولم يقارب رؤيتها، وكقول ذي الرمة:المعنى أن براح حبها لم يقارب الكون فضلاً عن أن يكونوأما النظم - فهو عبارة عن توخي معاني النحو في ما بين الكم وذلك أن تضع كلامك الوضع الذي يقتضيه علم النحو بأن تنظر في كل باب إلى قوانينه والفروق التي بين معاني اختلاف صيغته وتضع الحروف مواضعها وتراعي شرائط التقديم والتأخير، ومواضع حروف العطف على اختلاف معانيها، وتعتبر الإصابة في طريق التشبيه والتمثيل. وقد أطبق العلماء على تعظيم شأن النظم، وأن لا فضل مع عدمه ولو بلغ الكلام في غرابة معناه إلى ما بلغ، وأن سبب فساده 'ترك العمل بقوانين النحو واستعمال الشيء في غير موضعه. ثم قال: الجمل الكثيرة إذا نظمت نظماً واحداً فهي على قسمين:الأول: أن لا يتعلق البعض بالبعض ولا يحتاج واضعه إلى فكر وروية في استخراجه، بل هو كمن عمد إلى اللآلئ ينظمها في سلك ومثاله قول الجاحظ في مصنفاته: جنبك الله الشبهة، وعصمك من الحيرة، وجعل بينك وبين المعروف نسباً، وبين الصدق سبباً، وحبب إليك التثبت وزين في عينيك الإنصاف وأذاقك حلاوة التقوى، وأشعر قبلك عز الحق، وأودع صدرك برد اليقين وطرد عنك ذل الطمع وعرفك ما في الباطل من الذلة، وما في الجهال من القلة وكقول النابغة للنعمان وتفضيله إياه على ذي فائش يزيد بن أبي جفنة، وكقول حسان ابن ثابت للحارث الجفني يفضله على النعمان بن المنذر، وكقول ضرار بن ضمرة لمعاوية بن علية، ؛ وقد تقد شرح أقوالهم في الباب الأول من القسم الثالث من هذا الفن في المدح، وهو في السفر الثالث فلا حاجة بنا إلى إعادته وهذا النظم لا يستحق الفضل إلا بسلامة معناه وسلامة ألفاظه، إذ ليس فيه معنى دقيق لا يدرك إلا بثاقب الفكر. قال: ربما ظن بالكلام أنه من هذا الجنس ولا يكون منهم كقول الشاعر
سالت عليك شعاب الحي حين دعا
أنصاره بوجوه الدنانير
فإن الحسن فيه ليس مجرد الاستعارة بل لما في الكلام من التقديم والتأخير، ولهذا لو أزلت ذلك وقلت: سال شعاب الحي بوجوه كالدنانير عليه حين دعا أنصاره فإنه يذهب بالحسن والحلاوة. الثاني: أن تكون الجمل المذكورة يتلق بعضها ببعض وهناك تظهر قوة الطبع، وجودة القريحة واستقامة الذهن. ثم 'ليس' لهذا الباب قانون يحفظ، فإنه يجئ على وجوه شتى. منها الإيجاز، وهو العبارة عن العرض بأقل ما يمكن من الحروف، وهو على ضربين: إيجاز قصر، وإيجاز حذف، وقد تقدم الكلام على ذلك وذكر أمثلته عند ذكر الفصاحة. ومنها التأكيد - وهو تقوية المعنى وتقريره، إما بإظهار البرهان، كقول قابوس:
يا ذا الذي بصروف الدهر عيرنا
هل عاند الدهر إلا من له خطر
أما ترى البحر تعلو فوقه جيف
وتستقر بأقصى قعره الدرر
وفي السماء نجوم ما لها عدد
وليس يخسف إلا الشمس والقمر
وإما بالعزيمة كقوله تعالى: 'فورب السماء والأرض إنه لحق' وقوله تعالى: 'فلا أقسم بمواقع النجوم وإنه لقسم لو تعملون عظيم إنه لقرآن كريم: وكقول الأشتر النخعي:
بقيت وفري وانحرفت عن العلا
ولقيت أضيافي بوجه عبوس
إن لم أشن على ابن حرب غارةً
لم تخل يوماً من نهاب نفوس
يريد معاوية بن أبي سفيان، وكقول أبي نواس.
لا فرج الله عني إن مددت يدي
إليه أسأله من حبك الفرجا
وكقول أبي تمام:
حرمت مناي منك إن كان ذا الذي
تقوله الواشون حقاً كما قالوا
أو بالتكرار، كقولهم: الله الله، والأسد والأسد، وكقول الحادرة:
أظاعنة وما تودعنا هند
وهند أتى من دونها النأي والبعد
وهذا في التنزيل كثير، والعلم فيه سورة الرحمن. وأما التجنيس - فهو يتشعب منه شعب كثيرة:فمنه المستوفي التام - وهو أن يجئ المتكلم بكلمتين متفقتين لفظاً مختلفتين معنى متفاوت في تركيبهما، ولا اختلاف في حركتهما، كقول الغزي:
لم يبق غيرك إنسان يلاذبه
فلا برحت لعين الدهر إنسانا
وقول عبد الله بن طاهر:
وإني للثغر المخوف لكالئ
وللثغر يجري ظلمه لرشوف
وكقول البستي:
سما وحمى بني سامٍ وحامٍ
فليس كمثله سام وحامي
وذكر التبريزي أن التجنيس المستوفي كقول أبي تمام:
ما مات من كرم الزمان فإنه
يحيا لدي يحيى بن عبد الله
وقال: وإنما عبد من هذا الباب لاختلاف المعينين، لأن أحدهما فعل والآخر اسم. ومنه المحتلف - ويسمى التجنيس الناقص - وهو مثل الأول في اتفاق حروف الكلمتين إلا أنه يخالفه: إما في هيئة الحركة، كقوله صلى الله عليه وسلم 'اللهم كما حسنت خلقي فحسن خلقي' وكقول معاذ رضي الله عنه: الدين يهدم الدين وكقولهم: جبة البرد جنة البرد، وكقولهم: الصديق الصدوق أول العقد وواسطة العقد، وكقول المعري:
لغيري زكاة من جمال فإن تكن
زكاة جمال فاذكري ابن سبيل
أو بالحركة والسكون، كقولهم: البدعة شرك الشرك، أو بالتخفيف والتشديد كقولهم: الجاهل إما مفرط وإما مفرط. ومنه المذيل - ويقال له: التجنيس الزائد والناقص أيضاً - وهو أن تجئ بكلمتين متجانستين اللفظ متفقتي الحركات، غير أنهما يختلفان بحرف، إما في آخرهما كقولك: فلان حامٍ حامل لأعباء الأمور، كاف كافل لمصالح الجمهور، وقولهم: أنا من زماني في زمانه ومن إخواني في خيانه، وقولهم: فلان سال عن إخوانه سالم من زمانه، ومن النظم قول أبي تمام:
يمدون من أيدٍ عواص عواصمٍ
تصول بأسياف قواض قواضب
وقول البحتري:
لئن صدفت عنا فربت أنفس
صواد إلى تلك النفوس الصوادف
إما من أولهما، كقولك تعالى: 'والتفت الساق بالساق إلى ربك يومئذ المساق'ومن النظم ما أنشده عبد القاهر:
وكم سبقت منه إلى عوارف
ثنائي من تلك العوارف وارف
وكم غررٍ من بره ولطائفٍ
لشكري على تلك اللطائف طائف
ومنه المركل وهو على ضربين:الأول: ما هو متشابه لفظاً وخطاً، كقولهم: همتك الهمة الفاترة وفي صميم قلبك ألفاترة ومن النظم قول البستي:
إذا ملك لم يكن ذاهبه
فدعه فدولته ذاهبه
وقول الآخر:
عضنا الدهر بنابه
ليت ما حل بنا به
وقول طاهر البصري:
ناظراه فيما جنى ناظراه
أودعاني رهناً بنا أودعاني
الثاني: ما هو متشابه لفظاً لا خطاً ويسمى التجنيس 'المفروق' كقوله:كنت أطمع في تجريبك، ومطايا الجهل تجري بك. ومن النظم قول الشاعر:
لا تعرضن على الرواة قصيدة
ما لم تكن بالغت في تهذيبها
فإذا عرضت القول غير مهذب
عدوه منك وساوساً تهذي بها
وأمثال ذلك كثيرة:ومن أنواع المركب المرفق وهو أن تجمع بين كلمتين إحداهما أقصر من الأخرى فتضم إلى القصيرة حرفاً من حروف المعاني أو من حروف الكلمات المجاورة لها حتى يعتدل ركنا التجنيس كقولهم:يا مغرور أمسك، وقس يومك بأمسكويقرب منه قول الهمذاني:إن لم يكن لنا حظ في درك درك، فخلصنا من شرك شرك. وقول الحريري:إن أخليت منا مبارك مبارك فخلصنا من معارك معارك. ومن النظم قول البستي:
فهمت كتابك يا سيدي
فهمت ولا عجب أن أهيما
ومنه قول الآخر:
ذو راحة وكفت ندى وكفت ردى
وقضت بهلك عداته وعداته
كالغيث في إروائه وروائه
والليث في وثباته وتباته
ومنه المزدوج - ويقال له التجنيس المردد والمكرر أيضاً - وهو أن يأتي في آواخر الأسجاع وقوافي الأبيات بلفظتين متجانستين إحداهما ضميمة والأخرى وبعضها كقولهم: الشراب بغير النغم غم، وبغير الدسم سم،وقول البستي:
أبا العباس لا تحسب لشيني
بأنى من حلى الأشعار عاري
فلي طبع كسلسال معين
زلال من ذرى الأحجار جاري
إذا ما أكبت الأدوار زنداً
فلي زند على الأدوار واري.
ومن أجناس التجنيس المصحف - ويقال له تجنيس الخط أيضاً - وهو أن تأتي بكلمتين متشابهتين خطاً لا لفظاً، كقوله تعالى: 'وهم يحسبون أنهم يحسنون' وقوله تعالى: 'والذي هو يطعمني ويسقين وإذا مرضت فهو يشفين'وقوله صلى الله عليه وسلم: 'عليكم بالأبكار فإنهن أشد حباً وأقل خبا' وقول النبي صلى الله عليه وسلم لعلي رضي الله عنه: قصر من ثيابك فإنه أبقى وأنقى وأتقى. وكقول أبي فراس:
من بحر شعرك أغترف
وبفضل علمك أعترف.
ومنه المضارع - ويسمى المطمع - وهو أن يحاء بالكلمة ويبدأ بأختها على مثل أكثر حروفها، فتطمع في أنها مثلها، فتخالفها بحرف، ويسمى المطرف وهو أن تجمع بين كلمتين متجانستين لا تفاوت بينهما إلا بحرف واحد من الحروف المتقاربة سواء وقع آخر أو حشو، كقوله صلى الله عليه وسلم: 'الخيل معقود بتواصيها الخير' ومنه قول الحطيئة:
مطاعين في الهيجا مطاعيم في الدجى
بني لهم آباؤهم وبني الجد
وقول البحتري:
ظللت أرجم فيك الظنون
أحاجمه أنت أم حاجبه ؟
وإن كان التفاوت بغير المتقاربة سمى التجنيس اللاحق، كقوله تعالى: 'وإذا جاءهم أمر من الأمن' وقوله تعالى: 'وإنه على ذلك لشهيد وإنه لحب الخير لشديد' وقول البحتري:
هل لما فات من تلاقٍ تلافي
أم لشاك من الصبابة شافي
ومنه المشوش - وهو كل تجنيس يتجاذبه طرفان من الصنعة فلا يمكن إطلاق اسم أحدهما عليه، كقولهم: فلان مليح البلاغة، صحيح البراعة. ومنه تجنيس الاشتقاق - ويسمى الاقتضاب أيضاً، ومنهم من عده أصلاً برأسه، ومنهم من عده أصلاً في التجنيس - وهو أن يجئ بألفاظ يجمعها أصل واحد في اللغة، كقوله تعالى: 'فأقم وجهك للدين القيم' وقوله تعالى: 'يمحق الله الربو ويربي الصدقات' وقوله تعالى: 'فروحٌ وريحانٌ' وقول النبي صلى الله عليه وسلم: 'ذو الوجهين لا يكون عند الله وجيهاً' وقوله: 'الظلم ظلمات يوم القيامة'ومن النظم قول أبي تمام:
غممت الخلق بالنعماء حتى
غدا الثقلان منها متقلين
وقول المطرزي:
وإني لأستحي من المجد أن أرى
حليف غوانٍ أو أليف أغاني
وقول الصاحب بن عياد:
وقائلةٍ لم عرتك الهموم
وأمرك ممتثل في الأمم
فقلت ذريني على غصتي
فإن الهموم بقدر الهمم
وقول آخر:
إن ترى الدنيا أغارت
ونجوم السعد غارت
فصروف الدهر شتى
كلما جارت أجارت
ومما يشبه المشتق - ويسميه بعضهم المشابه وبعضهم المغاير - قوله تعالى: 'وجنى الجنتين دان' وقوله تعالى: 'ليريه كيف يواري سوءة أخيه'وقوله تعالى: 'وإن يردك الله بخيرٍ فلا راد لفضله' وقوله تعالى: 'وأسلمت مع سليمان'ومن النظم قول البحتري:
وإذا ما رياح جودك هبت
صار قول العذال فيها هباء
ومن أجناس التجنيس تجنيس التصريف - وهو ما كان كالمصحف 'إلا' في اتحاد الكتابة ثم لا يخلو من أن تتقارب فيه الحروف باعتبار المخارج أو لا تتقارب فإن تقاربت سمي مضارعاً، وإن لم تتقارب سمي لاحقاً. مثال الأول قوله تعالى: 'وهم ينهون عنه وينئون عنه' وقوله تعالى 'بما كنتم تفرحون في الأرض بغير الحق وبما كنتم تمرحون' وقول قس بن ساعدة الإيادي:'من مات فات'وقول الشاعر:
فيا لك من حزم وعزم طواهما
جديد البلى تحت الصفا والصفائح
وهذا البيت يشتمل على المضارع والمتمم،ومثال الثاني قول علي رضي الله عنه: الدنيا دار ممر، والآخرة دار مقر، وقول عبد الله بن صالح وقد وصف اليمن: ليس فيه إلا ناسج برد، أو أساس قرد. ومنها التجنيس المخالف - وهو أن تشتمل كل واحدة من الكلمتين على حروف الأخرى دون ترتيبها كقول أبي تمام:
بيض الصفائح لا سود الصحائف في
متونهن جلاء الشك والريب
وقول البحتري:
شواجر أرماح تقطع بينهم
شواجر أرحام ملومٍ قطوعها
وقول المتنبي:
ممنعةٌ منعمة رداحٌ
يكلف لفظها الطير الوقوعا
فإن اشتملت كل كلمة على حروف الأخرى، وكان بعض هذه قلب حروف هذه خص باسم جناس العكس، كقول النبي صلى الله عليه وسلم: 'يقال لصاحب القرآن يوم القيامة اقرأ وارق' وقول عبد الله بن رواحة يمدح النبي صلى الله عليه وسلم:
تحمله الناقة الأدماء معتجرا
بالبرد كالبدر جلى نوره الظلما.
ومنها تجنيس المعنى - وهو أن تكون إحدى الكلمتين دالة على الجناس بمعناها دون لفظها، وسبب استعمال هذا النوع أن يقصد الشاعر المجانسة لفظاً ولا يوافقه الوزن على الإتيان باللفظ المجانس فيعدل إلى مرادفه، كقول الشاعر يمدح المهلب ويذكر فعله بقطري بن الفجاءة وكان قطري يكنى أبا نعامة:
حدا بأبي أم الرئال فأجفلت
نعامته من عارض متلبب
أراد أن يقول: حدا بأبي نعامة فأجفلت نعامته أي روحه، فلم يستقم له فقال: بأبي أم الرئال، وأم الرئال هي النعامة، وكقول الشماخ:
وما أروى وإن كرمت علينا
بأدنى من موقفه حرون
أروى: اسم امرأة، والموقفة الحرون من الوحش: أروى وبها سميت المرأة فلم يمكنه أن يأتي باسمها فأنى بصفتها، وقد صرح بذلك المعري في قوله:
أروى النياق كأروى النيق يعصمها
ضرب يظل له السرحان مبهوتا
وبعضهم لا يدخل هذا في باب التجنيس، قال: وإنما يحسن التجنيس إذا قل، وأتى في الكلام عفواً من غير كد ولا استكراه، ولا بعد ولا ميل إلى جانب الركة ولا يكون كقول الأعشى:
وقد غدوت إلى الحانوت يتبعني
شاو مشلٌ شلولُ شلشلُ شول
ولا كقول مسلم بن الوليد:
سلت وسلت ثم سل سليلها
فأتى سيل سليلها مسلولا
ولا كقول المتنبي:
فقلقلت بالهم الذي قلقل الحشا
قلاقل عيش كلهن قلاقل
وأما الطباق - فإن المطابقة أن تجمع بين ضدين مختلفين، كالإيراد والإصرار والليل والنهار، والسواد والبياض، قال الأخفش وقد سئل عنه: أجد قوماً يختلف ونفيه، فطائفة - وهم الأكثر - يزعمون أنه الشيء وضده وطائفة تزعم أنه اشتراك المعنيين في لفظ واحد، كقول زياد الأعجم:
ونبئتهم يستنصرون بكاهل
وللؤم فيهم كاهل وسنام
ثم قال: وهذا هو التجنيس بعينه، ومن ادعى أنه طباق فقد خالف الأصمعي والخليل، فقيل له: أو كانا يعرفان ذلك ؟ فقال: سبحان الله ! وهل أعلم منهما بالشعر وتمييز خبيثه من طيبه ؟ ويسمونه المطابقة والطباق والتضاد والتكافؤ وهو أن تجمع بين المتضادين مع مراعاة التقابل، فلا تجئ باسم مع فعل ولا بفعل مع اسم مثاله قوله تعالى: 'فليضحكوا قليلاً وليبكوا كثيراً' وقوله تعالى: 'وتحسبهم أيقاظاً وهم رقود' وقوله تعالى: 'سواء منكم من أسر القول ومن جهر به ومن هو مستخف بالليل وسارب بالنهار' وقوله تعالى: 'قل اللهم مالك الملك' إلى قوله: 'بغير حساب' وقوله صلى الله عليه وسلم للأنصار: 'إنكم لتكثرون عند الفزع وتقلون عند الطمع' ومن النظم قول جرير:
وباسط خير فيكم بيمينه
وقابض شر عنكم بشماليا
وقول البحتري:
وأمة كان قبح الجور يسخطها
حيناً فأصبح حسن العدل يرضيها
وقوله أيضاً:
تبسم وقطوب في ندى ووغىً
كالبرق والرعد وسط العارض البرد
وقول دعبل:
لا تعجبي يا سلم من رجل
ضحك المشيب برأسه فبكى
وقول ابن المعتز:
منها الوحش إلا أن هاتا أو أنس
قنا الخط إلا أن تلك ذوابل
فإن هاتا للحاضر، وتلك للغائب، فكانتا متقابلتين، وقد تجئ المطابقة بالنفي 'والإثبات' كقول البحتري:
تقيض لي من حيث لا أعلم النوى
ويسري إلى الشوق من حيث أعلم.
وقال الزكي بن أبي الإصبع المصري في الطباق وهو على ضربين: ضرب يأتي بألفاظ الحقيقة، وضرب يأتي بألفاظ المجاز، فما كان بلفظ الحقيقة سمي طباقاً وما كان بلفظ المجاز سمي تكافؤاً، فمثال قول أبي الأشعث العبسي من إنشادات قدامة:
حلو الشمائل وهو مر باسل
يحمى الدمار صبيحة الإرهاق
لأن قوله: حلو ومر خارج مخرج الاستعارة، إذ ليس الإنسان ولا شمائله مما يذاق بحاسة الذوق. ومن أمثلة التكافؤ قول ابن رشيق:
وقد أطفأوا شمس النهار وأوقدوا
نجوم العوالي في سماء عجاج
وقد جمع دعبل في بيته المتقدم بين الطباق والتكافؤ، وهو:
لا تعجبي يا سلم من رجل
ضحك المشيب برأسه فبكى
لأن ضحك المشيب مجاز، وبكاء الشاعر حقيقة. قال: هكذا قال ابن أبي الإصبغ وفيه نظر لأنه إذا كان الطباق عنده هو التضاد من حقيقتين والتكافؤ التضاد من مجازين فليس في البيت ما شرطه. قال: ومما جمع بين طباقي السلب والإيجاب قول الفرزدق من إنشادات ابن المعتز:
لعن الإله بني كليب إنهم
لا يغدرون ولا يفون لجار
يستيقظون إلى هيق حميرهم
وتنام أعينهم عن الأوتار
وذكر في آخر الباب طباق الترديد، وهو أن يرد آخر الكلام المطابق إلى أوله فإن لم يكن الكلام مطابقاً فهو رد الأعجاز على الصدور، ومثاله قول الأعشى:
لا يرفع الناس ما أوهوا وإن جهدوا
طول الحياة ولا يوهون ما رقعوا.
وأما المقابلة - وهي أعم من الطباق، وذكر بعضهم أنها أخص وذلك أن تضع معاني تريج الموافقة بينها وبين غيرها أو المخالفة فتأتي في الموافق بما وافق وفي المخالف بما خالف أو تشرط شروطاً وتعد أحوالاً في أحد المعنيين فيجب أن تأتي في الثاني بمثل ما شرطت وعددت في الأول كقوله عز وجل: 'فأما من أعطى وأتقى وصدق بالحسنى فسنيسره لليسرى وأما من بخل واستغنى وكذب بالحسنى فسنيسره للعسرى' وقوله تعالى: 'فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقاً حرجاً كأنما يصعد في السماء' ومثاله من النظم قول الشاعر:
فيا عجب كيف اتفقنا فناصح
وفي مطوى على الغل غادر !
وقول آخر:
تقاصرن واحلولين لي ثم إنه
أتت بعد أيام طوال أمرت
وقول زهير بن أبي سلمى:
حلماء في النادي إذا ما جئتهم
جهلاء يوم عجاجة ولقاء
ومن فساد ذلك أن يقابل الشيء بما لا يوافقه ولا يخالفه، كقول أبي عدي القرشي:
يا ابن خير الأخيار من عبد شمس
أنت زين الدنيا وغيث لجود
فليس قوله: غيث لجود موافقاً لقوله: زيد الدنيا ولا مخالفاً له. وكقول الكميت:
وقد رأينا بها حواراً منعمةً
بيضاً تكامل فيها الدل والشنب
فالشنب لا يشاكل الدل. وقول آخر:
رحماء بذي الصلاح وضرا
بون قدماً لهامة الصنديد.
قال: وقد ذكر بعض أئمة هذا الفن تفصيلاً في المقابلة فقال:فمن مقابلة اثنين باثنين قوله تعالى: 'فليضحكوا قليلاً وليبكوا كثيراً' وقول النابغة:
فتى تم فيه ما يسر صديقه
على أن فيه ما يسوء الأعاديا
ومن مقابلة ثلاثة بثلاثة قول الشاعر:
ما أحسن الدين والدنيا إذا اجتمعا
وأقبح الكفر والإفلاس بالرجل
وقول أبي نواس:
أنا استدعيت عفوك من قريب
كما استعفيت سخطك من بعيد
ومن مقابلة أربعة بأربعة قوله تعالى: 'فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى فسنيسره لليسرى وأما من بخل واستغنى وكذبل بالحسنى فسنيسره للعسرى' المقابل بقوله تعالى: 'استغنى' قوله تعالى: 'واتقى' لأن معناه: زهد فيما عند الله واستغنى بشهوات الدنيا عن نعم الآخرة، وذلك يتضمن عدم التقوى، ومنه قول النابغة:
إذا وطئا سهلاً أثارا عجاجة
وإن وطئا حزناً تشظى الجنادل.
ومن مقابلة خمسة بخمسة قول المتنبي:
أزورهم وسواد الليل يشفع لي
وأنثني وبياض الصبح يغري بي
قابل أزور بأنثني، وسواد البياض والليل بالصبح، ويشفع بيغري ولي بقوله: بي. وأما السجع - فهو أن كلمات الأسجاع موضوعة على أن تكون ساكنة الأعجاز موقوفاً عليها، لأن الغرض أن يجانس بين قرائن، ويزاوج بينها، ولا يتم ذلك إلا بالوقف، ألا ترى إلى قولهم: 'ما بعد ما فات، وما أقرب ما هو آت' فلو ذهبت تصل لم يكن بد من إعطاء أواخر القرائن ما يقتضيه حكم الإعراب، فتختلف أواخر القرائن، ويفوت الساجع غرضه، وإذا رأيناهم يخرجون الكلمة عن أوضاعها للازدواج فيقولون: أتيتك بالغدايا والعشايا وهنأني الطعام ومرأني، وأخذه ما قدم وما حدث، 'وانصرفن مأزورات غير مأجورات' يريد الغدوات وأمرأني وحدث وموزورات مع أن فيه ارتكاباً لمخالفة اللغة فما الظن بأواخر الكلم المشبهة بالقوافي. قال: والسجع أربعة أنواع وهي: الترصيع والمتوازي والمطرف والمتوازن. أما الترصيع - فهو أن تكون الألفاظ مستوية الأوزان متفقة الأعجاز كقوله تعالى: 'إن إلينا إيابهم ثم إن علينا حسابهم' وقوله تعالى: 'إن الأبرار لفي نعيم وإن الفجار لفي جحيم' وقول النبي صلى الله عليه وسلم: 'اللهم اقبل توبتي واغسل حوبتي' وقولهم: فلان يفتخر بالهمم العالية، لا بالرمم البالية وقولهم: عاد تعريضك تصريحاً، وتمريضك تصحيحاً،ومن النظم قول الخنساء:
حامى الحقيقة محمود الخليفة مه
دي الطريقة نفاع وضرار
جواب قاصية جزاز ناصية
عقاد ألوية للخيل جرار
وقد يجئ مع التجنيس كقولهم:إذا قلت الأنصار، كانت الأبصار، وما وراء الخلق الدميم، إلا الخلق الذميم،ومن النظم قول المطرزي:
وزند ندى فواضله ورى
وزند ربا فضائله نضير
ودر جلاله أبداً ثمين
ودر نواله أبدا غزير.
وأما المتوازي - فهو أن يراعى في الكلمتين الأخيرتين من القرينتين الوزن مع اتفاق الحرف الأخير منهما، كقوله عز وجل: 'فيها سرر مرفوعة وأكواب موضوعة'. وقول الحريري: ألجأني حكم دهر قاسط إلى أن انتجع أرض واسط. وقوله: وأودى الناطق والصامت ورثى لنا الحاسد والشامت. وأما المطرف - فهو أن يراعي الحرف الأخير في كلمتي قرينتيه من غير مراعاة الوزن، كقوله تعالى: 'ما لكم لا ترجون لله وقاراً وقد خلقكم أطواراً' وقولهم: جنابه محط الرحال، ومخيم الآمال. وأما المتوازن - فهو أن يراعي في الكلمتين الأخيرتين من القرينتين الوزن مع اختلاف الحرف الأخير منهما، كقوله تعالى: 'ونمارق مصفوفة وزرابي مبثوثة'وقولهم: اصبر على حر القتال ومضض النزال، وشدة المصاع، ومداومة المراس، فإن راعى الوزن في جميع كلمات القرائن أو أكثرها، وقابل الكلمة منها بما يعادلها وزنا كان أحسن، كقوله تعالى: 'وآتيناهما الكتاب المستبين وهديناهما الصراط المستقيم' وقول الحريري: اسود يرمي الأبيض، وابيض فودي الأسود ويسمى هذا في الشعر الموازنة، كقول البحتري:
فقف مسعداً فيهن إن كنت عاذرا
وسر مبعداً عنهن إن كنت عاذلا
قال: ومما هو شرط الحسن في هذا المحافظة على التشابه، وهو اسم جامع للملاءمة والتناسب. فالملاءمة: تأليف الألفاظ بعضها لبعض على ضروب من الاعتدال كقول لبيد:
وما المرء إلا كالشهاب وضوئه
يعود رماداً بعد إذ هو ساطع
وما المال والأهلون إلا وديعةٌ
ولا بد يوماً أن ترد الودائع
وبعضهم يعد التلفيق من باب الملاءمة، وهو أن تضم إلى ذكر الشيء ما يليق به ويجري مجراه أي تجمع الأمور المناسبة، ويقال له: مراعاة النظير أيضاً، كقول ابن سمعون للمهلبي. أنت أيها الوزير إبراهيمي الجود، إسماعيلي الوعد، شعيبي التوفيق يوسفي العفو، محمدي الخلق. وكقول أبي الفوارس الحمداني:
أأخا الفوارس لو رأيت مواقفي
والخيل من تحت الفوارس تنحط
لقرأت منها ما تخط يد الوغى
والبيض تشكل والأسنة تنقط
وكقول آخر:
وكم من سائل بالغيب عنك أجبته
هناك الأيادي الشفع والسود الوتر
عطاء ولا من وحكم ولا هوى
وحلم ولا عجز وعز ولا كبر
وقول ابن حيوس:
يقينك والتقوى وجودك والغنى
ولفظك والمعنى وسيفك والنصر
والتناسب: هو ترتيب المعاني المتآخية التي تتلاءم ولا تتنافر كقول النابغة:
والرفق يمن والأناة سعادة
فاستأن في رزق تنال نجاحا
واليأس عما فات يعقب راحةً
ولرب مطمعة تعود ذباحا
ويسمى التشابه أيضاً وقيل: التشابه أن تكون الألفاظ غير متباينة بل متقاربة في الجزالة والرقة والسلالة، وتكون المعاني مناسبة لألفاظها من غير أن يكسو اللفظ الشريف المعنى السخيف، أو على الضد، بل يصاغان معاً صياغة تناسب وتلائم. فصل في الفقر المسجوعة ومقاديرهاقال: قصر الفقرات يدل على قوة التمكن وإحكام الصناعة، وأقل ما تكون كلمتان كقوله تعالى: 'يا أيها المدثر قم فأنذر وربك فكبر وثيابك فطهر' وأمثال ذلك في الكتاب العزيز كثيرة لكن الزائد على ذلك هو الأكثر، وكان بديع الزمان يكثر من ذلك في رسائله، كقوله: كميت نهد، كأن راكبه في مهد يلطم الأرض بزبر وينزل من السماء بخبر، قالوا: لكن التذاذ السامع بما زاد على ذلك أكثر، لتشوقه إلى ما يرد متزايداً على سمعه. فأما الفقر المختلفة فالأحسن أن تكون الثانية أزيد من الأولى ولكن بقدر كثير لئلا يبعد على السامع وجود القافية فيقل الالتذاذ بسماعها، فإن زادت القرائن على اثنين فلا يضر تساوي القرينتين الأوليين وزيادة الثالثة عليهما وإن زادت الثانية عن الأولى يسيرا، والثالثة على الثانية فلا بأس، لكن لا يكون أكثر من المثل، ولا بد من الزيادة في آخر القرائن، مثاله في القرينتين: 'وقالوا اتخذ الرحمن ولداً لقد جئتم شيئاً إداً تكاد السموات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هداً أن دعوا للرحمن ولداً' ومثاله في الثالثة قوله تعالى: 'وأعتدنا لمن كذب بالساعة سعيراً إذا رأتهم من مكان بعيد سمعوا لها تغيظاً وزفيراً وإذا ألقوا منها مكاناً ضيقاً مقرنين دعوا هنالك ثبوراً' وأقصر الطوال ما كان من إحدى عشرة لفظة وأكثرها غير مضبوطة مثاله من إحدى عشرة لفظة: 'ولئن أذقنا الإنسان منا رحمة ثم نزعناها منه إنه ليؤس كفور' والتي بعدها من ثلاث عشرة كلمة، ومثاله من عشرين لفظة قوله تعالى: 'إذ يريكهم الله في منامك قليلاً ولو أراكهم كثيراً لفشلتم ولتنازعتم في الأمر ولكن الله سلم إنه عليم بذات الصدور'وأما رد العجز على الصدر - فهو كل كلام منثور أو منظوم يلاقى آخره أوله بوجه من الوجوه، كقوله تعالى: 'وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه' وقوله تعالى: 'لا تفتروا على الله كذباً فيسحتكم بعذاب وقد خاب من افترى' وقولهم: 'القتل انفى للقتل' و'الحيلة ترك الحيلة' وقولهم: طلب ملكهم فسلب ما طلب ونهب ما لهم فوهب ما نهب. وهو في النظم على أربعة أنواع:الأول: أن يقعا طرفين، إما متفقين صورة ومعنى كقوله:
سريع إلى ابن العم يشتم عرضه
وليس إلى داعي الندى بسريع
وقوله:
سكران سكر هوىً وسكر مدامة
أنى يفيق به سكران
أو متفقين صورةً لا معنى، وهو أحسن من الأول، كقول السري:
يسار من سجيتها المنايا
ويمنى من عطيتها اليسار
وقول الآخر:
ذوائب سود كالعناقيد أرسلت
فمن أجلها منا النفوس ذوائب
أو معنى لا صورة كقول عمر بن أبي ربيعة:
واستبدت مرة واحدة
إنما العاجز من لا يستبد
وقول السري:
ضرائب أبدعتها في السماح
فلسنا نرى لك فيها ضريبا
وقول الآخر:
ثلبك أهل الفضل قد دلني
أنك منقوص ومثلوب
أولا صورة ولا معنى ولكن بينهما مشابهة اشتقاق، كقول الحريري:
ولاح يلحي على جرى العنان إلى
ملهاً فسحقاً له من لائح لاحى
الثاني: أن يقعا في حشو المصراع الأول وعجز الثاني، إما متفقين صورةً ومعنى كقول أبي تمام:
ولم يحفظ مضاع المجد شيء
من الأشياء كالمال المضاع
وقول الآخر:
أما القبور فإنهن أوانس
بجوار قبرك والديار قبور
أو صورة لا معنى كقول الثعالبي:
وإذا البلابل أفصحت بلغاتها
فانف البلابل باحتساء بلابل
فالأول جمع بلبل، والثاني جمع بلبلة وهي الهمم والثالث جمع بلبلة الإبريق وقول الزمخشري:
وأخرني دهري وقدم معشراً
لأنهم لا يعلمون وأعلم
فمذ أفلح الجهال أعلم أنني
أنا الميم والأيام أفلح أعلم
أو معنى لا صورةً كقول امرئ القيس:
إذا المرء لم يحزن عليه لسانه
فليس على شئ سواه بخزان
وقول أبي تمام:
دمن ألم بها فقال سلام
كم حل عقده صبره والإلمام
وقول أبي فراس:
وما إن شبت من كبر ولكن
لقيت من الأحبة ما أشابا
أو في الاشتقاق فقط، كقول أبي فراس:
منحناها الحرائب غير أنا
إذا جرنا منحناها الحرابا
الثالث: أن يقعا في آخر المصراع الأول وعجز الثاني إما متفقين صورة ومعنى كقول أبي تمام:
ومن كان بالبيض الكواعب مغرماً
فما زلت بالبيض القواضب مغرما
أو صورة لا معنى كقول الحريري:
فمشغوف بآيات المثاني
ومفتون بزنات المثاني
أو معنى لا صورة كقول البحتري:
ففعلك إن سئلت لنا مطيع
وقولك إن سألت لنا مطاع
الرابع: أن يقعا في أول المصراع الثاني والعجز، إما متفقين صورة ومعنى كقول الحماسي:
فإلا يكن إلا معلل ساعةً
قليلاً فإني نافع لي قليلها
أو صورةً لا معنى كقول أبي دؤاد
عهدت لها منزلاً داثراً
- وآلأ على الماء يحملن آلا
فالأول الأتباع والثاني أعمدة الخيام، كقول آخر:
رماك زمان السوء من حيث لا ترى
فرامي ولم يظفر بما هو راما
أو معنى لا صورة، كقول أبي تمام:
ثوى في الثرى من كان يحيا به الثرى
ويغمر صرف الدهر نائلة الغمر
وقد كانت البيض البواتر في الوغى
بواتر فهي الآن من بعده بتر
قال: ومن نوادر هذا الباب بيتا الحريري اللذان سماهما المطرفين وهما:
سم سمة تحسن آثارها
وأشكر لمن أعطى ولو سمسمه
والمكر مهما اسطعت لا تأته
لتبتغي السودد والمكرمة
قال: فإن لم يقع في العجز فليس من هذا البابل كقوله:
ونبئتهم يستنصرون بكاهل
وللؤم فيهم كاهل وسنام
وكقول الأفوه الأودي:
وأقطع الهوجل مستأنساً
بهوجل عيرانة عنتريس
فالهوجل الأول: الفلاة، والثاني: الناقة السريعة. وأما الإعنات - ويقال له التضييق والتشديد ما لا يلزم - فهو أن يعنت نفسه في التزام ردف أو دخيل أو حرف مخصوص قبل حرف الروي، أو حركة مخصوصة، كقوله تعالى: 'فأما اليتيم فلا تقهر وأما السائل فلا تنهر' وقول النبي صلى الله عليه وسلم: 'اللهم بك أحاول، وبك أصاول' وقوله عليه الصلاة والسلام 'شر ما في المرء هالع، أو جبن خالع' وقوله عليه الصلاة والسلام' 'زد غبا تودد حباً' وقول عمر رضي الله عنه: لا يكن حبك كلفاً ولا بغضك تلفاً وقول المعتري:
ضحك وكان الضحك منا سفاهةً
وحق لسكان البسيطة أن يبكوا
يحطمنا صرف الزمان كأننا
زجاج ولكن لا يعاد له السبك
وقول آخر:
يقولون في البستان للعين لذة
وفي الخمر والماء الذي غير آسن
إذا شئت أن تلقى المحاسن كلها
ففي وجه من تهوى جميع المحاسن
وقد التزم ابن الرومي الفتح قبل حرف الروي - وكان أولع الناس بذلك فقال:
لما تؤذن الدنيا به من صروفها
يكون بكاء الطفل ساعة يولد
وإلا فما يبكيه فيها وإنها
لأوسع مما كان فيه وأرغد
إذا بصر الدنيا استهل كأنه
بما سيلاقي من أذاها يهدد
وأمثال ذلك في الشعر كثيرة:وأما المذهب الكلامي - فهو إيراد حجة للمطلوب على طريقة أهل الكلام نحو قوله عز وجل: 'لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا' ومنه قول النابغة يعتذر إلى النعمان:
حلفت فلم أترك لنفسك ريبة
وليس وراء الله للمرء مذهب
لئن كنت قد بلغت عني جناية
لمبلغك الواشي أغش وأكذب
ولكنني كنت امرءاً لي جانب
من الأرض فيه مستراد ومذهب
ملوك وإخوان إذا ما مدحتهم
أحكم في أموالهم وأقرب
كفعلك في قوم أراك اصطنعتهم
فلم ترهم في مدحهم لك أذنبوا
يقول: أنت أحسنت إلى قوم فمدحوك، وأنا أحسن إلى قوم فمدحتهم فكما أن مدح من أحسنت إليه لا يعد ذنباً فكذا مدحي لمن أحسن إلي لا يعد ذنباً. قال ابن أبي الإصبع، ومن شواهد هذا الباب قول الفرزدق:
لكل امرئ نفسان كريمة
ونفس يعاصيها الفتى ويطيعها
ونفسك من نفسيك تشفع للندى
إذا قل من أحرارهن شفيعها
يقول: لكل إنسان نفسان: نفس مطمئنة تأمره بالخير، ونفس أمارة بالسوء تأمره بالشر، والإنسان يعاصي الأمارة مرة ويطيعها أخرى، وأنت إذا أمرتك الأمارة بترك الندى شفعت المطمئنة إليها في الندى في الحالة التي يقل فيها الشفيع في الندى من النفوس فأنت أكرم الناس. وأما أحسن التعليل - فهو أن يدعي لوصف علة مناسبة له باعتبار لطيف وهو أربعة أضرب: لأن الصفة إما ثابتة قصد بيان علتها، أو غير ثابتة أريد إثباتها فالأولى إما لا تظهر لها في العادة علة، كقوله:
لم يحك نائلك السحاب وإنما
حمت به فصبيبها الرخصاء
أو يظهر لها علة كقوله:
ما به قتل أعاديه ولكن
يتقي إخلاف ما ترجو الذئاب
فإن قتل الأعداء في العادة لدفع مضرتهم لا لما ذكره. والثانية: إما ممكنة كقوله:
يا واشياً حسنت فينا إساءته
نجى حذارك إنساني من الغرق
فإن استحسان إساءة الواشي ممكن، لكن لما خالف الناس فيه عقبه بما ذكر.أو غير ممكنة، كقوله:
لو لم تكن نية الجوزاء خدمته
لما أتت وعليها عقد منتطق
قال: وألحق به ما بنى على الشك، كقول أبي تمام:
رباً شفعت ريح الصبا لرياضها
إلى المزن حتى جادها وهو هامع
كأن السحاب الغر غيبن تحتها
حبيباً فما ترقا لهن مدامع
وقد أحسن ابن رشيق في قوله:
سألت الأرض لم كانت مصلى
ولم كانت لنا طهراً وطيبا
فقالت غير ناطقةٍ لأني
حويت لكل إنسان حبيبا
وأما الالتفاف - فقد فسره قدامة بأن قال: هو أن يكون المتكلم آخذاً في معنى فيعترضه إما شك فيه وإما ظن أن راداً يرده عليه، أو سائلاً له عن سببه فليتفت إليه بعد فراغه منه، فإما أن يجلي الشك، أو يؤكده أو يذكر سببه، كقول الرماح بن ميادة:
فلا صرمه يبدو ففي اليأس راحة
ولا وصله يصفو لنا فنكارمه
كأنه توهم أن فلاناً يقول: ما تصنع بصرمه ؟ فقال: لأن في اليأس راحة. وأما ابن المعتر فقال: الالتفات انصراف المتكلم عن الإخبار إلى المخاطبة ومثاله في القرآن العزيز الإخبار بأن الحمد لله رب العالمين ثم قال: 'إياك نعبد وإياك نستعين' ومثاله في الشعر قول جرير:
متى كان الخيام بذي طلوح
سقيت الغيث أيتها الخيام
أو الانصراف المتكلم عن المخاطبة إلى الإخبار كقوله تعالى 'حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة' ومثال ذلك في الشعر قول عنترة:
ولقد نزلت فلا تظني غيره
مني بمنزلة المحب المكرم
ثم قال مخبراً عنها:
كيف المزار وقد تربع أهلها
بعنيزتين وأهلها بالغيلم
أو أنصراف المتكلم من الإخبار إلى المتكلم كقوله تعالى: 'والله الذي أرسل الرياح فتثير سحاباً فسقناه'أو انصراف المتكلم من التكلم إلى الإخبار كقوله تعالى: 'إن نشأ نذهبكم ونأت بخلق جديد وما ذلك على الله بعزيز' وقد جمع امرؤ القيس الالتفاتات الثلاثة في ثلاث أبيات متواليات، وهي قوله:
تطاول ليلك بالإثمد
ونام الخلى ولم ترقد
وبات وباتت له ليلة
كليلة ذي العائر الأرمد
وذلك من نبأ جاءني
وخبرته عن أبي الأسود
يخاطب في البيت الأول، وانصرف إلى الأخبار في البيت الثاني وانصرف عن الأخبار إلى التكلم في البيت الثالث على الترتيب. وأما التمام وهو الذي سماه الحاتمي التميم وسماه ابن المعتز اعتراض كلام في كلام لم يتم معناه ثم يعود المتكلم فيتممه وشرح حده بأنه الكلمة التي إذا طرحت من الكلام نقص حسن معناه ومبالغته مع أن لفظه يوهم بأنه تام وهو على ضربين: ضرب في المعاني ضرب في الألفاظ فالذي في المعاني هو تميم المعنى والذي في الألفاظ هو تميم الأوزان، والأول هو الذي قدم حده ومثاله قوله تعالى: 'ومن عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة' فقوله تعالى: 'ومن ذكر أو أنثى' 'تميم وقوله' وهو مؤمن' تميم ثان في غاية البلاغة، ومن هذا القسم قول النبي صلى الله عليه وسلم: 'ما من عبد مسلم يصلي لله كل يوم اثنتي عشرة ركعة من غير الفريضة ابتنى الله له بيتاً في الجنة' فوقع التمييم في هذا الحديث في ثلاثة مواضع قوله عليه السلام: مسلم، ولله ومن غير الفريضة ومن أناشيد قدامة على هذا القسم قول الشاعر:
أناس إذا لم يقبل الحق منهم
ويعطوه عادوا بالسيوف القةاضب
وأما الذي في الألفاظ فهو الذي يؤتى به لإقامة الوزن بحيث لو طرحت الكلمة استقل معنى البيت بدونها، وهو على ضربين: أحدهما مجيء الكلمة لا تفيد غير إقامة الوزن فقط، والثاني مجيئها تفيد مع إقامة الوزن نوعاً من الحسن، فالأول من العيوب والثاني من المحاسن، قال: والكلام هنا في الثاني، ومثاله قول المتنبي:
وخفوق قلب لو رأيت لهيبه
يا جنتي لظننت فيه جهنما
فإنه جاء بقوله يا جنتي لإقامة الوزن، وقصد بها دون غيرها مما يسد مسدها أن يكون بينها وبين قافية البيت مطابقة لا تحصل بغيرها. وأما الاستطراد - وهذه التسمية ذكر الحاتمي في حلية المحاضرة أنه نقلها عن البحتري، وقيل: أن البحتري نقلها عن أبي تمام، وسماه ابن المعتر الخروج من معنى إلى معنى، وفسره بأن قال: هو أن يكون المتكلم في معنى فيخرج منه بطريق التشبيه أو الشرط أو الإخبار أو غير ذلك إلى معنى آخر يتضمن مدحاً أو قدحاً أو وصفاً وغالب وقوعه في الهجاء، ولا بد من ذكر المستطرد به باسمه بشرط أن لا يكون تقدم له ذكر. فمن أول ما ورد في ذلك من النظم قول السموءل بن عادياء:
وإنا لقوم ما نرى القتل سبةً
إذا ما رأته عامر وسلول
ومنه قول حسان:
إن كنت كاذبة الذي حدثتني
فنجوت منجاً الحارث بن هاشم
ترك الأحبة لم يقاتل دونهم
ونجا برأس طمرة ولجام
وقول أبي تمام في وصف حافر الفرس بالصلابة:
أيقنت إن لم تثبت أن حافره
من صخر تدمر أو من وجه عثمان
ومن أحسن ما قيل في ذلك قول ابن الزمكدم أربعة استطرادات متوالية:
وليل كوجه البرقعيدي ظلمةً
وبرد أغانيه وطول قرونه
سريت ونومي فيه نوم مشرد
كعقل سليمان بن فهد ودينه
على أولق فيه التفات كأنه
أبو صالح في خبطه وجنونه
إلى أن بدا ضوء الصباح كأنه
سنا وجه قرواش وضوء جبينه
وقول البحتري في الفرس أيضاً:
ما إن يعاف قذىً ولو أوردته
يوماً خلائق حمدويه الأحول
ومما جمع المدح والهجاء قول بكر بن النطاح:
فتى شقيت أمواله بنواله
كما شقيت بكر بأرماح تغلب
ومما جاء به على وجه المجون قول بعضهم:
اكشفي وجهك الذي أوحلتني
فيه من قبل كشفه عيناك
غلطي في هواك يشبه عندي
غلطي في أبي علي بن زاكي
ومما جاء في النسيب على وجه التشبيه قول امرئ القيس:
عوجاً على الطلل المحيا لعلنا
نبكي الديار كما بكى ابن حمام
وأما تأكيد المدح بما يشبه الذم - فهو ضربان: أفضلهما أن يستثنى من صفة ذم منفية عن الشئ صفة مدح بتقدير دخولها فيها، نحو قوله تعالى:'لايسمعون فيها لغواً ولا تأثيماً إلا قيلاً سلاماً سلاماً' فالتأكيد فيه من جهة أنه كدعوى الشيء ببينة، وأن الأصل في الاستثناء الاتصال، فذكر ذاته قبل ذكر ما بعدها يوم إخراج الشيء مما قبلها، فإذا وليها صفة مدح جاء التأكيد. والثاني: أن يثبت لشيء صفة مدح ويعقب بأداة استثناء تليها صفة مدح أخرى لها، كقوله صلى الله عليه وسلم: 'أنا أفصح العرب بيد أني من قريش' وأصل الاستثناء في هذا الضرب أيضاً أن يكون منقطعاً لكنه باق على حاله لم يقدر.متصلاً فلا يفيد التأكيد إلا من الوجه الثاني من الوجهين المذكورين ولهذا كان الأول أفضل. ومن أمثلة الأول قول النابغة الذبياني:
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم
بهن فلول من قراع الكتائب
ومن أحسن ما قيل في ذلك قول حاتم الطائي:
ولا تشتكيني جارتي غير أنني
إذا غاب عنها بعلها لا أزورها
ومن الثاني قول النابغة الجعدي:
فتى كلمت أخلاقه غير أنه
جواد فما يبقى من المال باقيا
ومن أحسن ما ورد في هذا الباب قول بعضهم:
ولا عيب فينا غير أن سماحنا
اضربنا والبأس من كل جانب
فأفنى الردى أعمارنا غير ظالم
وأفنى الندى أموالنا غير عاتب
وأما تأكيد الذم بما يشبه المدح - فهو ضربان:أحدهما أن يستثنى من صفة مدح منفية عن الشيء صفة ذم بتقدير دخولها فيها كقولك: فلان لا خير فيه إلا أنه يسئ إلى من أحسن إليه. والثاني: أن تثبت للشيء صفة ذم وتعقب بأداة استثناء تليه صفة ذم أخرى كقولك: فلان فاسق إلا أنه جاهل وتحقيق القول فيها على قياس ما تقدم. وأما تجاهل العارف - فهو سؤال المتكلم عما يعلمه حقيقة تجاهلاً منه ليخرج كلامه مخرج المدح أو الذم، أو ليدل على شدة التدله في الحب، أو لقصد التعجب أو التوبيخ أو التقرير، وقال السكاكي: هو سوق المعلوم مساق غيره لنكتة كالتوبيخ كما في قول الخارجية وهي ليلى بنت طريف:
أيا شجر الخابور مالك مورقاً
كأنك لم تجزع على ابن طريف
والمبالغة في المدح، كقول البحتري:
ألمع برق سرى أم ضوء مصباح
أم ابتسامتها بالمنظر الضاحي
أو الذم كما قال زهير:
وما أدري ولست إخال أدري
أقوم آل حصن أم نساء
أو التدله في الحب، كقوله:
بالله يا ظبيات القاع قلن لنا
ليلاي منكن أم ليلى من البشر
وقول البحتري:
بدا فراع فؤادي حسن صورته
فقلت هل ملك ذا الشخص أم ملك
وأما الهزل الذي يراد به الجد - فهو أن يقصد المتكلم ذم إنسان أو مدحه فيخرج ذلك مخرج المجون، كقول الشاعر:
إذا ما تميمي أتاك مفاخراً
فقل عد عن ذا كيف أكلك للضب
وأما الكنايات - فهي أن يعبر المتكلم عن المعنى القبيح باللفظ الحسن وعن الفاحش بالطاهر وقد تقدم الكلام على ذلك في باب الكناية والتعرض وهو الباب الرابع من القسم الثاني من هذا الفن، وهو في السفر الثالث من كتابنا هذاوأما المبالغة - وتسمى التبليغ والإفراط في الصفة - فقد حدها قدامة بأن قال: هي أن يذكر المتكلم حالاً من الأحوال لو وقف عندها لأجزأت فلا يقف حتى يزيد في معنى ما ذكره ما يكون أبلغ في معنى قصده، كقول عمير بن كريم التغلبي:
ونكرم جارنا ما دام فينا
ونتبعه الكرامة حيث مالا
ومن أمثلة المبالغة المقبولة قول امرئ القيس يصف فرساً:
فعادى عداءً بين ثور ونعجة
دراكاً ولم ينضح بماء فيغسل
يقول: إنه أدرك ثوراً وبقرة في مضمار واحد ولم يعرق. وقول المتنبي:
وأصرع أي الوحش قفيته به
وأنزل عنه مثله حين أركب
ولا يعاب في المبالغة إلا ما خرج عن حد الإمكان كقوله:
وأخفت أهل الشرك حتى إنه
لتخافك النطف التي لم تخلق
وأما إذا كان كقول قيس بن الخطيم:
طعنت ابن عبد القيس طعنة ثائر
لها نفذ لولا الشعاع أضاءها
ملكت بها كفي فأنهرت فتقها
يرى قائماً من دونها ما وراءها
فإن ذلك من جيد المبالغة إذا لم يكن قد خرج مخرج الاستحالة مع كونه قد بلغ النهاية في وصف الطعنة، ومن أحسن ذلك وأبلغه قول أحد شعراء الحماسة:
رهنت يدي بالعجز عن شكر بره
وما بعد شكري للشكور مزيد
ولو كان مما يستطاع استطعته
ولكن ما لا يستطاع شديد.
وأما عتاب المرء نفسه - فهو من أفراد ابن المعتز ولم ينشد عليه سوى بيتين ذكر أن الآمدي أنشدهما عن الجاحظ وهما:
عصاني قومي في الرشاد الذي به
أمرت ومن يعص المجرب يندم
فصبراً بني بكر على الموت إنني
أرى عارضاً ينهل بالموت والدم
قال: ولا يصلح أن يكون شاهداً لهذا الباب إلا قول أحد شعراء الحماسة:
أقول لنفسي في الخلاء ألومها
لك الويل ما هذا التجلد والصبر
وقول الآخر:
فقدتك من نفس شعاع فإنني
نهيتك عن هذا وأنت جميع
وما ناسب ذلك من الأمثلة:وأما حسن التضمين - فهو أن يضمن المتكلم كلامه كلمة من آية أو حديث أو مثل سائر أو بيت شعر:ومن إنشادات ابن المعتز عليه:
عوذ لما بت ضيفاً له
أقراصه مني بياسين
فبت والأرض فراشي وقد
غنت قفا نبك مصاريني
فضمن بيته الأول كلمة من السورة بتوطئة حسنة، وبيته الثاني مطلع قصيدة امرئ القيس:ومما ضمن معنى حديث النبي صلى الله عليه وسلم قول الآخر:
وأخٍ مسه نزولي بقرح
مثلما مسني من الجوع قرح
بت ضيفاً له كما حكم الده
ر وفي حكمه على الحر قبح
قال لي مذ نزلت وهو من السك
رة بالهم طافح ليس يصحو
لم تغربت ؟ قلت: قال رسول الل
ه والقول منه نصح ونجح:
'سافروا تغنموا' فقال: وقد قا
ل تمام الحديث: 'صوموا تصحوا'
ومن تضمين الشعر قول بعضهم:
وقفنا بأنصار حكتنا لواغب
'على مثلها من أربع وملاعب'
وهو مطلع قصيدة لأبي تمام:ومنه قول الغزي'
طول حياة ما لها طائل
نغص عندي كل ما يشتهي
أصبحت مثل الطفل في ضعفه
تشابه المبدأ والمنتهى
فلا تلم سمعي إذا خانني
'إن الثمانين وبلغتها'
المراد من التضمين ها هنا تمام البيت: 'قد أحوجت سمعي إلى ترجمان'وإنما تركه لأن أول البيت يدل عليه لاشتهاره وهذا قد أكثر المتأخرون من استعماله في أشعارهم وضمنوا البيت الكامل بعد التوطئة له:وأما التلميح - وهو من التضمين، وإنما بعضهم أفرده - فهو أن يشير في فحوى الكلام إلى مثل سائر أو بيت مشهور، أو قضية معروفة من غير أن يذكره كقول الشاعر:
المستغيث بعمرو عند كربته
كالمستغيث من الرمضاء بالنار
أشار إلى قضية كليب حين استغاث بعمرو بن الحارث، ومنهم من يسمي ذلك اقتباساً وإيراد المثل كما هو تضميناً. وأما إرسال المثل - فهو كقول أبي فراس:
تهون علينا في المعالي نفوسنا
ومن يخطب العلياء لم يغله المهر
وكقول المتنبي:
تبكي عليهن البطاريق في الدجى
وهن لدينا ملقيات كواسد
بذا قضت الأيام ما بين أهلها
مصائب قوم عند قوم فوائد
وأما إرسال مثلين - فهو الجمع بين مثلين كقول لبيد:
ألا كل شئ ما خلا الله باطل
وكل نعيم لا محالة زائل
وأبيات زهير بن أبي سلمة التي فيها ومن ومن، وقد تقدم ذكر ذلك مستوفي في باب الأمثال، وهو الباب الأول من القسم الثاني من هذا الفن، وهو في السفر الثالث:وأما الكلام الجامع - فهو أن يكون البيت كله جارياً مجرى مثل واحد كقول زهير:
ومن يك ذا فضل ويبخل بفضله
على قومه يستغن عنه ويذمم
ومن لا يصانع في أمور كثيرة
يضرس بأنياب ويوطأ بمنسم
ومهما تكن عند امرئ من خليفة
وإن خالها تخفى على الناس تعلم
وكقول أبي فراس:
إذا كان غير الله في عدة الفتى
ائته الرزايا من وجوه الفوائد
وكقول المتنبي:
وكم من عائب قولاً صحيحاً
وآفته من الفهم السقيم
وقوله:
ومن نكد الدنيا على الحر أن يرى
عدواً له من صداقته بد
وقوله:
ومن البلية عذل من لا يرعوى
عن جهله وخطاب من لا يفهم
وقوله:
إنا لفي زمن ترك القبيح به
من أكثر الناس إحسان وإجمال.
وأما اللف والنشر - فهو أن يذكر اثنين فصاعداً ثم يأتي بتفسير ذلك جملة مع رعاية الترتيب ثقة بأن السامع يرد إلى كل واحد منها ما له، كقوله تعالى: 'ومن رحمته جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله'ومن النظم قول الشاعر:
ألست أنت الذي من ورد نعمته
وورد راحته أجنى وأغترف
وقد لا يراعى فيه الترتيب ثقة بأن السامع يرد كل شئ إلى موضعه سواء تقدم أو تأخر، كقول الشاعر:
كيف أسلو وأنت حقف وغصن
وغزال الحظا وقدا وردفا
وأما التفسير - وهو قريب منه - فهو أن يذكر لفظاً ويتوهم أنه يحتاج إلى بيانه فيعيده مع التفسير، كقول أبي مسهر:
غيثٌ وليثٌ 'فغيث' حين تسأله
عرفا وليث لدى الهيجاء ضرغام
ومنه قول الشاعر:
يحيى ويردى بجداوه وصارمه
يحيى العفاة ويردى كل من حسدا
ومن ذلك أن يذكر معاني ويأتي بأحوالها من غير أن يزيد أو ينقص كقول الفرزدق:
لقد جئت قوماً لو لجأت إليهمو
طريد دم أو حاملاً ثقل مغرم
لألفيت فيهم معطياً ومطاعناً
وراءك شزراً بالوشيج المقوم
لكنه لم يراع شرط اللف والنشر:قول آخر:
فوا حسرتا حتى متى القلب موجع
بفقد حبيب أو تعذر إفضال
فراق حبيب مثله يورث الأسى
وخلة حر لا يقوم بها مالي
ومنه قول ابن شرف:
سل عنه وانطق به وانظر إليه تجد
ملء المسامع والأفواه والمقل
ومن أحسن ما في هذا الباب قول ابن الرومي:
آراؤكم ووجوهكم وسيوفكم
في الحادثات إذا دجون نجوم
منها معالم للهدى ومصابح
تجلو الدجى والأخريات رجوم
وفساد ذلك أن يأتي بإزاء الشيء بما لا يكون مقابلاً له كقول الشاعر:
فيأيها الحيران في ظلم الدجى
ومن خاف أن يلقاه بغى من العدا
تعال إليه تلق من نور وجهه
ضياء ومن كفيه بحراً من الندى
فأتى بالندى بإزاء بغى العدا وكان يجب أن يأتي بإزائه بالنصر أو العصمة أو الوزر وما جانسه أو يذكر في موضع البغى الفقر والعدم وما جانس ذلك. وأما التعديد - ويسمى الأعداد - فهو إيقاع أسماء مفردة على سياق واحد، فإن روعي في ذلك ازدواج أو جناس أو تطبيق أو نحو ذلك كان غاية في الحسن، كقولهم: وضع في يده زمام الحل والعقد، والقبول والرد، والأمر والنهي، والبسط والقبض، والإبرام والنقض، والإعطاء والمنع، ومن النظم قول المتنبي:
الخيل والليل والبيداء تعرفني
والضرب والطعن والقرطاس والقلم.
وأما تنسيق الصفات - فهو أنم يذكر الشيء بصفات متوالية، كقوله عز وجل: 'هو الله الذي لا إله إلا هو الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر' وقوله تعالى: 'إنا أرسلناك شاهداً ومبشراً ونذيراً' وقول النبي صلى الله عليه وسلم: 'ألا أخبركم بأحبكم إلي وأقربكم مني مجالس يوم القيامة ؟ أحاسنكم أخلاقاً، المواطئون أكنافاً، الذين يألفون ويؤلفون' ؛ومن النطم قول أبي طالب في النبي صلى الله عليه وسلم:
وأبيض يستسقي الغمام بوجهه
ثمال اليتامى عصمةٌ للأرامل
وقول المتنبي:
دان بعيدٌ محبٌ مبغضٌ بهجٌ
أغرٌ حلوٌ ممرٌ لينٌ شرس
وأما الإيهام - ويقال له التورية والتخييل - فهو أن يذكر ألفاظاً لها معا قريبة وبعيدة، فإذا سمعها الإنسان سبق إلى فهمه القريب، ومراد المتكلم البعيد مثاله قول عمر بن أبي ربيعة:
أيها المنكح الثريا سهيلا
عمرك الله كيف يلتقيان
هي شامية إذا ما استقلت
وسهيل إذا استقل يماني
فذكر الثريا وسهيلاً ليوهم السامع أنه يريد النجمين، ويقول: كيف يجتمعان والثريا من منازل القمر الشامية، وسهيل من النجوم اليمانية ؟ ومراده الثريا التي كان يتغزل بها لما زوجت بسهيل، ومن ذلك قول المعري:
إذا صدق الجد افترى العم للفتى
مكارم لا تخفى وإن كذب الخال
فإن وهم السامع يذهب إلى الأقارب، ومراده بالجد: الخط، وبالعم: الجماعة من الناس وبالخال: المخيلة، ومن ذلك قول الحريري في وصف الإبرة والميل في المقامة الثامنة:وقوله أيضاً:
يا قوم كم من عاتق عانس
ممدوحة الأوصاف في الأندية
قتلتها لا أتقي وارثاً
يطلب مني قوداً أو ديه
يريد بالعاتق العانس: الخمر، وبقتلها: مزجها، كما قال حسان:
إن التي عاطيتني فرددتها
قتلت قتلت فهاتها لم تقتل
وأمثال ذلك كثيرة:وعند علماء البيان: التخييل تصوير حقيقة الشيء للتعظيم، كقوله تعالى: 'والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة والسموات مطويات بيمينه' والغرض منه تصوير عظمته والتوقيف على كنه حلاله من غير ذهاب بالقبضة ولا باليمين إلى جهة حقيقة أو مجاز، وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم: 'إنما نحن حفنة من حفنات ربنا' قال الزمخشري' ولا يرى باب في علم البيان أدق ولا ألطف من هذا الباب. وأما حسن الابتداءات - قال: هذه تسمية ابن المعتز، وأراد بها ابتداءات القصائد، وفرع المتأخرون من هذه التسمية براعة الاستهلال، وهو أن يأتي الناظم أو الناثر في ابتداء كلامه ببيت أو قرينة تدل على مراده في القصيدة أو الرسالة أو معظم مراده، والكاتب أشد ضرورة إلى ذلك من غيره ليبتني كلامه على نسق واحد دل عليه من أول علم بها مقصده، إما في خطبة تقليد، أو دعاء كتاب، كما قيل لكاتب: اكتب إلى الأمير بأن بقرة ولدت حيواناً على شكل الإنسان فكتب: أما بعد حمد الله خالق الإنسان في بطون الأنعام. وكقول أبي الطيب في الصلح الذي وقع بين كافور وبين ابن مولاه:
حسم الصلح ما اشتهته الأعادي
وأذاعته ألسن الحساد
وأمثال ذلك كثيرة:قال: وينبغي أن لا يبتدئ بشيء يتطير منه، كقول ذي الرمة:'ما بال عينك منها الماء ينسكبوقول البحتري:'لك الويل من ليل تقاصره آخرهوكقول المتنبي:
كفى بك داءً أن ترى الموت شافيا
وحسب المنايا أن يكن أمانيا
وكقوله:
ملث القطر أعطشها ربوعا
وإلا فاسقها السم النقيعا
قال: وينبغي أن يراعى في الابتداءات ما يقرب من المعنى إذا لم تتأت له براعة الاستهلال وتسهيل اللفظ وعذوبته وسلاسة ألفاظه، وقيل: إن أحسن ابتداء ابتدأت به العرب قول النابغة:
كليني لهم يا أميمة ناصب
وليل أقاسيه بطئ الكواكب
ومن أحسن ما ابتدأ به مولد قول إسحاق بن إبراهيم الموصلي
هل إلى أن تنام عيني سبيل
إن عهدي بالنوم عهد طويل
ويحسن أن يبتدئ في المديح بمثل قول أبزون الغماني:
على منبر العلياء جدك يخطب
وللبلدة العذراء سيفك يخطب
وقول المتنبي:
عدوك مذموم بكل لسان
وإن كان من أعدائك القمران
وقول التيفاشي:
ما هز عطفيه بين البيض والأسل
مثل الخليفة عبد المؤمن بن علي
وفي التشبيب كقول أبي تمام:
على مثلها من أربع وملاعب
أذيلت مصونات الدموع السواكب
وفي النسيب كقول المتنبي:
أتراها لكثرة العشاق
تحسب الدمع خلقة في المآقي
وفي المراثي كقول أبي تمام
كذا فليجل الخطب وليفدح الأمر
وليس لعين لم يفض ماؤها عذر
وأما براعة التخليص - فهو أن يكون التشبيب أو النسيب ممزوجاً بما بعده من مدح وغيره غير منفصل عنه، كقول مسلم بن الوليد:
أجدك هل تدرين أن رب ليلةً
كأن دجاها من قرونك تنشر
نصبت لها حتى تجلت بغرة
كغرة يحيى حين يذكر جعفر
وكقول المتنبي:
نودعهم والبين فينا كأنه
قا ابن أبي الهيجاء في قلب فيلق
وأما براعة الطلب - قال: وهو أن تكون ألفاظ الطلب مقترنة بتعظيم الممدوح كقول أمية بن أبي الصلت:
أأذكر حاجتي أم قد كفاني
حياؤك إن شيمتك الحياء
إذا أثنى عليك المرء يوماً
كفاه من تعرضه الثناء
وكقول المتنبي:
وفي النفس حاجات وفيك فطانة
سكوتي بيان عندها وخطاب
وأما براعة المقطع - فهو أن يكون آخر الكلام الذي يقف عليه المترسل أو الخطيب أو الشاعر مستعذنا حسنا، لتبقى لذته في الأسماع، كقول أبي تمام:
أبقت بني الأصفر المصفر كاسمهم
صفر الوجوه وجلت أوجه العرب
وكقول المتنبي:
وأعطيت الذي لم يعط خلق
عليك صلاة ربك والسلام
وكقول الغزي:
بقيت بقاء الدهر يا كهف أهله
وهذا دعاء للبرية شامل.
وأما السؤال والجواب - فهو كقول أبي فراس:
لك جسمي تعله
فدمي لم تطله ؟
قال إن كنت مالكاً
فلي الأمر كله
وأمثال ذلك.وقد أوردنا منه في باب الغزل ما فيه كفاية. وأما صحة الأقسام - فهو عبارة عن استيفاء أقسام المعنى الذي هو آخذ فيه بحيث لا يغادر منه شيئاً. ومثال ذلك قوله تعالى: 'هو الذي يريكم البرق خوفاً وطمعاً' وليس في رؤية البرق إلا الخوف من الصواعق، والطمع في المطر،وقوله تعالى: 'الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم' فلم يبق قسماً من أقسام الهيئات حتى أتى به. وقوله تعالى: 'يهب لمن يشاء إناثاً ويهب لمن يشاء ذكور أو يزوجهم ذكراناَ وإناثاً ويجعل من يشاء عقيماً' ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: ليس لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت أو تصدقت فأمضيت ولا رابع لهذه الأقسام. ووقف أعرابي على حلقة الحسن البصري فقال: رحم الله من تصدق من فضل، أو واسى من كفاف، أو آثر من قوت، فقال الحسن: ما ترك الأعرابي منكم أحداً حتى عمه بالمسألة. ومن أمثلة هذا الباب في الشعر قول بشار:
فراح فريق في الإسار ومثله
قتيل ومثل لاذ بالبحر هاربه
وأصله قول عمرو بن الأهتم:
إشربا ما شربتما فهذيل
من قتيل وهارب وأسير
ومن جيد صحة الأقسام قول الحماسي:
وهبها كشيء لم يكن أو كنازح
به الدار أو من غيبته المقابر
فاستوفى جميع أقسام المعدوم:وقول أبي تمام في الأفشين لما احترق بالنار:
صلى لها حياً وكان وقودها
ميتاً ويدخلها مع الفجار
ومن قديم ما في ذلك من الشعر قول زهير:
وأعلم ما في اليوم والأمس قبله
ولكنني عن علم ما في غد عمى
ومن النادر في صحة الأقسام قول عمر بن أبي ربيعة:
تهيم إلى نعم فلا الشمل جامع
ولا الحبل موصول ولا أنت مقصر
ولا قرب نعم إن دنت لك نافع
ولا بعدها يسلي ولا أنت تصبر
وأما التوشيح - فهو أن يكون معنى الكلام يدل على لفظ آخره فيتنزل المعنى منزلة الوشاح، ويتنزل أول الكلام وآخره منزلة العاتق والكشح اللذين يجول عليهما الوشاح. وقال قدامة: هو أن يكون في أول البيت معنى إذا علم علمت منه قافية البيت بشرط أن يكون المعنى المقدم بلفظه من جنس معنى القافية كقول الراعي النميري:
فإن وزن الحصى فوزنت قومي
وجدت حصى ضريبتهم رزينا
فإن السامع إذا فهم أن الشاعر أراد المفاخرة برزانة الحصى، وعرف القافية والروي، علم آخر البيت، ومن أمثلته ما حكى عن عمر بن أبي ربيعة أنه أنشد عبد الله ابن عباس رضي الله عنهما:'تشط غدا دار أحبابنافقال له عبد الله:'وللدار بعد غد أبعد'فقال له عمر: هكذا والله قلت، فقال له عبد الله: وهكذا يكون. وأما الإيغال - فمعناه أن المتكلم أو الشاعر إذا انتهى إلى آخر القرينة أو البيت استخرج سجعة أو قافية تفيد معنى زائداً على معنى الكلام، وأصله من أوغل في السير إذا بلغ غاية قصده بسرعة. وفسره قدامة بأن قال: هو أن يستكمل الشاعر معنى بيته بتمامة قبل أن يأتي بقافيته، فإذا أراد الإتيان بها أفاد معنى زائداً على معنى البيت، كقول ذي الرمة:
قف العيس في آثار مية واسأل
رسوماً كأخلاق الرداء المسلسل
فتمم كلامه قبل القافية، فلما احتاج إليها أفاد بها معنى زائداً، وكذلك صنع في البيت الثاني فقال:
أظن الذي يجدي عليك سؤالها
دموعاً كتبذير الجمان المفصل
فإنه تمم كلامه بقوله: كتبذير الجمان، واحتاج إلى القافية فأتى بها تفيد معنى زائداً لو لم يؤت بها لم يحصل. وحكى عن الأصمعي أنه سئل عن أشعر الناس فقال: الذي يأتي إلى المعنى الخسيس فيجعله بلفظه كثيراً وينقضي كلامه قبل القافية فإن احتاج إليها أفاد بها معنى، فقيل له: نحو من ؟ فقال: نحو الفاتح لأبواب المعاني امرئ القيس حيث قال:
كأن عيون الوحش حول خبائنا
وأرحلنا الجزع الذي لم يثقب
ونحو زهير حيث يقول:
كأن فتات العهن في كل منزل
نزلن به حب الفنا لم يحطم
ومن أبلغ ما وقع في هذا الباب قول الخنساء:
وإن صخراً لتأتم العفاة به
كأنه علم في رأسه نار
ومنه قول ابن المعتز لابن طباطبا العلوي:
فأنتم بنوا بنته دوننا
ونحن بنوا عمه المسلم
ومن أمثلة ذلك من شعر المتأخرين قول الباخرزي:
أنا في فؤادك فارم طرفك نحوه
ترني فقلت لها وأين فؤادي
وقول آخر:
تعجبت من ضني جسمي فقلت لها
على هواك فقالت عندي الخبر.
وأما الإشارة - فهي أن يشتمل اللفظ القليل على معان كثيرة بإيماء إليها وذكر لمحة تدل عليها، كقوله تعالى: 'فأوحى إلى عبده ما أوحى' 'فغشيهم من اليم ما غشيهم'. وكقول امرئ القيس:
فإن تهلك شنوءة أو تبدل
فسيرى إن في غسان خالا
بعزهمو عززت وإن يذلوا
فذلهمو أنا لك ما أنا لا
وكقوله أيضاً:
فظل لنا يوم لذيذ بنعمة
فقل في نعيم نحسه متغب
وأما التذليل - وهو ضد الإشارة - فهو إعادة الألفاظ المترادفة على المعنى الواحد حتى يظهر لمن لم يفهمه، ويتوكد عند من فهمه، كقوله:
إذا ما عقدنا له ذمة
شددنا العناج وعقد الكرب
وقول آخر:
ودعوا نزال فكنت أول نازل
وعلام أركبه إذا لم أنزل
ويقرب منه التكرار، كقول عبيد:
هل لا سألت جموع كن
دة يوم ولوا أين أينا ؟
وكقول آخر:
وكانت فزارة تصلى بنا
فأولى فزارة أولى فزارا
وأما الترديد - فهو أن تعلق لفظة في البيت بمعنى، ثم تردها فيه بعينها وتعلقها بمعنى آخر. كما قال زهير:
من يلق يوماً على علاته هرماً
يلقى السماحة منه والندى خلقاً
وكقول آخر:
وأحفظ مالي في الحقوق وإنه
لجم وإن الدهر جم عجائبه
وكقول أبي نواس:
صفراء لا تنزل الأحزان ساحتها
لو مسها حجر مسته سراء
وأما التفريف - فهو مشتق من الثوب المفوف، وهو الذي فيه خطوط، وهو في الصناعة عبارة عن إتيان المتكلم بمعان شتى من المدح أو الغزل أو غير ذلك من الأغراض، كل فن في سجعة منفصلة عن أختها مع تساوي الجمل في الوزينة، وتكوت في الجمل الويلة والمتوسطة والقصيرة ؛ فمثال ما جاء منه في الجمل الطويلة قول النابغة الذبياني:
فلله عيناً من رأى أهل قبة
أضر لمن عادى وأكثر نافعا
وأعظم أحلاماً وأكبر سيداً
وأفضل مشفوعاً إليه وشافعا
ومثال ما جاء منه بالجمل المتوسطة قول أبي الوليد بن زيدون:
ته أحتمل واستطل أصبر، وعز أهن
وول أقبل وقل أسمع، ومر أطع
ومثال ما جاء منه بالجمل القصيرة قول المتنبي:
أقل أنل أقطع احمل عل سل أعد
زد هش بش تفضل أدن سر صل.
وأما التسهيم - فهو مأخوذ من البرد المسهم، وهو المخطط الذي لا يتفاوت ولا يختلف، ومنهم من يجعل التسهيم والتوشيح شيئاً واحداً، ويشرك بينهما بالتسوية والفرق بينهما أن التوشيح لا يدلك أوله إلا على القافية فحسب، والتسهيم تارة يدل على عجز البيت، وتارة على ما دون العجز. وتعريفه أن يتقدم من الكلام ما يدل على ما يتأخر، تارة بالمعنى، وتارة باللفظ، كأبيات جنوب أخت عمرو ذي الكلب، فإن الحذاق بمعنى الشعر وتأليفه يعلمون أن معنى قولها:'فأقسم يا عمرو لو نبهاك'يقتضي أن يكون تمامه:'إذن نبها منك داءً عضالا'دون غيرك من القوافي، كما لو قالت مكان 'داء عضالا' ليثا غضوباً، أو أفعى قتولا أو أسماء وحياً، أو ما يناسب ذلك، لأن ذلك الداء العضال أبلغ من جميع هذه الأشياء وأشد، إذ كل منها يمكن مغالبته أو التوقي منه، والداء العضال لا دواء له، فهذا مما يعرف بالمعنى. وأما يدل فيه الأول على الثاني دلالة لفظية فهو قولها بعده:
إذن نبها ليث عريشة
مفتياً مفيداً نفوساً ومالا
فإن الحاذق بصناعة الكلام إذا سمع قولها: 'مفتياً مفيداً' تحقق أن هذا اللفظ يقتضي أن يكون تمامه 'نفوسنا ومالا' وكذلك قولها:'فكنت النهار به شمسه'يقتضي أن يكون 'بعدهوكنت دجى الليل فيه الهلالا'ومن ذلك قول البحتري:'وإذا حاربوا أذلوا عزيزاً'يحكم السامع بأن تمامه:'وإذا سالموا أعزوا ذليلاً'وكذلك قوله:
أحلت دمي من غير جرم وحرمت
بلا سبب يوم اللقاء كلامي
'فليس الذي حللته بمحلل'يعرف السامع أن تمامه:'وليس الذي حرمته بحرام'وأما الاستخدام - فهو أن يأتي المتكلم بلفظة لها معنيان، ثم يأتي بلفظتين يستخدم كل لفظة منهما في معنى من معني تلك اللفظة المتقدمة، وربما ألتبس الاستخدام بالتورية من كون كل واحد البابين مفتقراً إلى لفظة لها معنيان والفرق بينهما أن التورية استعمال أحد المعنيين من اللفظة، وإهمال الآخر، والاستخدام استعمالهما معاً، ومن أمثلته قول البحتري:
فسقى الغضي والساكنيه وإن همو
شبوه بين جوانح وقلوب
فإن لفظة الغضي محتملة للموضع والشجر، والسقيا صالحة لهما، فلما قال: 'والساكينه' استعمل أحد معنيي اللفظ، وهو دلالته بالقرينة على الموضع ولما قال: 'شبوه' استعمل المعنى الآخر، وهو دلالته بالقرينة على الشجرة ومن ذلك قول الشاعر:
إذا زل السماء بأرض قوم
رعيناه وإن كانوا غضابا
أراد بالسماء الغيث وبضميره النبتوأما العكس والتبديل - فهو أن يقدم في الكلام أحد جزئيه ثم يؤخر ويقع على وجوه:منها أن يقع بين طرفي الجملة، كقول بعضهم: عادات السادات، سادات العادات،ومنها أن يقع بين متعلقي فعلين في جملتين، كقوله تعالى: 'يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي' ومنه بيت الحماسة:
فرد شعورهن السود بيضاً
ورد وجوههن البيض سودا.
ومنها أن يقع بين كلمتين فيطرفي جملتين، كقوله تعالى: 'هن لباس لكم وأنتم لباس لهن' وقوله تعالى: 'لا هن حل لكم ولا هم يحلون لهن'وقول أبي الطيب:
ولا مجد في الدنيا لمن قل ماله
ولا مال في الدنيا لمن قل مجده.
وأما الرجوع - فهو أن يعود المتكلم على كلامه السابق بالنقض لنكتة كقول زهير:
قف بالديار التي لم يعفها القدم
بلى وغيرها الأرواح والديم
كأنه لما وقف على الديار عرته روعة ذمل بها عن رؤية ما حصل لها من التغير فقال: 'لم يعفها القدم' ثم ثاب إليه عقله وتحقق ما هي عليه من الدروس، فقال: بلى عفت وغيرها الأرواح والديم. ومنه بيت الحماسة:
أليس قليلاً نظرة إن نظرتها
إليك وكلاً ليس منك قليل.
وأما التغاير - فهو أن يغاير المتكلم الناس فيما عادتهم أن يمدحوه فيذمه أو يذموه فيمدحه. فمن ذلك قول أبي تمام يغاير جميع الناس في تفصيل التكرم على الكرم:
قد بلونا أبا سعيد حديثاً
وبلونا أبا سعيد قديما
فوردناه سائحاً وقليباً
ورعيناه بأرضاً وجميما
فعلمنا أن ليس إلا بشق النفس صار الكريم 'يدعى' كريماوهو مغاير لقوله على العادة المألوفة:
لا يتعب النائل المبذول همته
وكيف يتعب عين الناظر النظر
ومنه قول ابن الرومي في تفصيل القلم على السيف.
إن يخدم القلم السيف الذي خضعت
له الرقاب ودانت خوفه الأمم
فالموت والموت لا شئ يعادله
ما زال يتبع ما يجري به القلم
كذا قضى الله للأقلام مذ بريت
أن السيوف لها مذ أرهقت خدم
وغايره المتنبي على الطريق المألوف فقال:
حتى رجعت وأقلامي قوائل لي
المجد للسيف ليس المجد للقلم
اكتب بها أبدأ قبل الكتاب بنا
فإنما نحن للأسياف كالخدم
وأما الطاعة والعصيان - فإنه قال: هذا النوع استنبطه أبو العلاء المعري عند نظره في شعر أبي الطيب، وسماه بهذه التسمية، وقال: هو أن يريد المتكلم معنى من المعاي التي لبديع فيستعصي عليه لتعذر دخوله في الوزن الذي هو آخذ فيه فيأتي موضعه بكلام غيره يتضمن معنى كلامه، ويقوم به وزنه، ويحصل به معنى من البديع غير الذي قصده، كقول المتنبي:
يرد يدا عن ثوبها وهو قادر
ويعصي الهوى في طيفها وهو راقد
فإنه أراد أن يقول: يرد عن ثوبها وهو مستيقظ، حتى إذا قال:ويعصى الهوى في طيفها وهو راقديكون في البيت مطابقة، فلم يطعه الوزن، فأتى بقادر في موضع مستيقظ لتضمنه معناه، فإن القادر لا يكون إلا مستيقظاً وزيادة، فقد عصاه في البيت الطباق وأطاعه الجناس بين قادر وراقد، وهو جناس العكس. وأنكر ابن أبي الإصبع أن يكون هذا الشاهد من باب الطاعة والعصيان، لأنه كان يمكنه أن يقول عوض قادر: ساهر، وإنما المتنبي قصد أن يكون في بيته طباق معنوي، لأن لقادر ساهر وزيادة، إذ ليس كل ساهر قادراً، وأن يكون فيه جناس العكس. وقال: إن شاهد الطاعة والعصيان عنده أن تعصيه إقامة الوزن مع إظهار مراده، فتطيعه لفظة من البديع يتمم بها المعنى وتزيده حسناً، كقول عوف بن محلم:
إن الثمانين وبلغتها
قد أحوجت سمعي إلى ترجمان
فإنه أراد أن يقول: إن الثمانين قد أحوجت سمعي إلى ترجمان فعصاه الوزن وأطاعه لفظة من البديع وهي التتميم، فزادته حسناً وكملت مراده وكل التتميم من هذا النوع. وأما التسميط - فهو أن يجعل المتكلم مقاطيع أجزاء البيت أو القرينة على سجع يخالف قافية البيت أو آخر القرينة، كقول مروان بن أبي حفصة:
هم القوم إن قالوا أصابوا وإن دعوا
أجابوا وإن أعطوا أطابوا وأجزلوا
فإن أجزاء البيت مسجعة على خلاف قافيته فتكون القافية بمنزلة السمط، والأجزاء المسجعة بمنزلة حب العقد. وأما التشطير - فهو أن يقسم الشاعر بيته شطرين، ثم يصرع كل شطر من الشطرين ولكنه يأتي بكل شطر من بيته مخالفاً لقافية الآخر، كقول مسلم ابن الوليد:
موف على مهج في يوم ذي رهج
كأنه أجل يسعى إلى أمل
وكقول أبي تمام:
تدبير معتصم بالله منتقم
لله مرتقب في الله مرتغب
وأما التطريز - فهو أن يبتدئ الشاعر بذكر جمل من الذوات غير مفصلة ثم يخبر عنها بصفة واحدة من الصفات مكررة بحسب تعداد جمل تلك الذوات تعداد تكرار واتحاد، لا تعداد تغاير، كقول ابن الرومي:
أموركمو بني خاقان عندي
عجاب في عجاب في عجاب
قرون في رءوس في وجوه
صلاب في صلاب في صلاب
وكقوله:
وتسقيني وتشرب من رحيق
خليق أن يشبه بالخلوق
كأن الكأس في يدها وفيها
عقيق في عقيق في عقيق
وأما التوشيع - فهو مشتق من الوشيعة، وهي الطريقة في البرد، وكأن الشاعر أهمل البيت كله إلا آخره، فأتى فيه بطريقة تعد من المحاسن، وهو عند أهل هذه الصناعة أن يأتي المتكلم أو الشاعر باسم مثنى في حشو العجز، ثم يأتي بعده باسمين مفردين هما عين ذلك المثنى، يكون الآخر منهما قافية بيته، أو سجعة كلامه كأنهما تفسير لما ثناه، كقول النبي صلى الله عليه وسلم 'يشيب ابن آدم وتشب فيه خصلتان: الحرص وطول الأمل'ومن أمثلة ذلك في النظم قول الشاعر:
أمسى وأصبح من تذكاركم وصبا
يرثى لي المشفقان الأهل والولد
قد خدد الدمع خدي من تذكركم
واعتادني المضنيان الوجد والكمد
وغاب عن مقلتي نومي لغيبتكم
وخانني المسعدان الصبر والجلد
لم يبق غير خفي الروح في جسدي
فدىً لك الباقيان الروح والجسد.
قال ابن أبي الإصبغ: وما بما قلته في هذا الباب من بأس، وهو:
بي محنتان ملام في هوى بهما
رثى لي الفاسقان الحب والحجر
لولا الشفيقان من أمنية وأساً
أودى بي المرديان الشوق والفكر
قال: ويحسن أن يسمى ما في بيته مطرف التوشيع، إذ وقع المثنى في أول كل بيت وآخره. وأما الإغراق - وهو فوق المبالغة ودون الغلو ومن أمثلته قول ابن المعتز:
صببنا عليها ظالمين سياطنا
فطارت بها أيد سراع وأرجل
فموضع الإغراق من البيت قوله: ظالمين، يعني أنها استقرعت جهدها في العدو فما ضربناها إلا ظلماً فمن أجل ذلك خرجت من الوحشية إلى الطيرية، ولو لم يقل: ظالمين لما حسن قوله: فطارت ولكنه بذكر الظلم صارت الاستعارة كأنها حقيقة وقد عد من الإغراق لا المبالغة قول امرئ القيس:
تنورتها من أذرعات وأهلها
بيثرب أدنى دارها نظر عالي
وأما الغلو - فمنهم من يجعله هو والإراق شيئاً واحداً ومن شواهده قول مهلهل:
فولا الريح أسمع من بحجر
صليل البيض تقرع بالذكور
ومثله قول المتنبي في وصف الأسد:
وردٌ إذا ورد البحيرة شارباً
بلغ الفرات زئيره والنيلا
قالوا: ومن أمثلة الغلو قول النمر بن تولب في صفة السيف:
تظل تحفر عنه إن ضربت به
بعد الذراعين والساقين والهادي
وأما القسم - فهو أن يريد الشاعر الحلف على شئ فيأتي في الحلف بما يكون مدحاً له وما يكسبه فخراً، أو يكون هجاءً لغيره، أو وعيداً، أو جارياً مجرى التغزل والترقق. فمثال الأول قول مالك بن الأشتر النخعي: 'بقيت وفري وانحرفت عن العلا'وقد تقدم الاستشهاد بهما في النظم فنها تضمنت فخراً له، ووعيداً لغيره، وكقول أبي علي البصير يعرض بعلي بن الجهم.
أكذبت أحسن ما يظن مؤملي
وعدمت ما شادته لي أسلافي
وعدمت عاداتي التي عودتها
قدماً من الإخلاف والإتلاف
وغضضت من ناري ليخفى ضوءها
وقريت عذراً كاذباً أضيافي
إن لم أشن على علي غارةً
تضحى قذى في أعين الأشراف
وقد يقسم الشاعر بما يزيد الممدوح مدحاً كقول القائل:
إن كان لي أمل سواك أعده
فكفرت نعمتك التي لا تكفر
ومما جاء من القسم في النسيب قول الشاعر:
فإن لم تكن عندي كعيني ومسمعي
فلا نظرت عيني ولا أسمعت أذني
ومما جاء في الغزل قول الآخر:
لا والذي سل من جفنيه سيف الردى
قدت له من عذاريه حمائله
ما صارمت مقلتي دمعاً ولا وصلت
غمضاً ولا سالمت قلبي بلابله
وأما الاستدراك - فهو على قسمين: قسم يتقدم الاستدراك فيه تقرير لما أخبر به المتكلم وتوكيد، وقسم لا يتقدمه ذلك، فمن أمثلة الأول قول القائل:
وإخوان تخدتهمو دروعاً
فكانوها ولكن للأعادي
وخلتهمو سهاماً صائبات
فكانوها ولكن في فؤادي
وقالوا قد صفت منا قلوبٌ
لقد صدقوا ولكن من ودادي
وقول الأرجاني:
غالطتني إذ كست جسمي ضنىً
كسوة أعرت من الجلد العظاما
ثم قالت أنت عندي في الهوى
مثل عيني صدقت لكن سقاما
وأما القسم الثاني الذي لا يتقدم الاستدراك فيه تقرير ولا توكيد فكقول زهير:
أخو ثقة لا يهلك الخمر ماله
ولكنه قد يهلك المال نائله
وأما المؤتلفة والمختلفة - فهو أن يريد الشاعر التسوية بين ممدوحين فيأتي بمعان مؤتلفة في مدحها، ويروم بعد ذلك ترجيح أحدهما على الآخر بزيادة لا ينقص بها الآخر، فيأتي لأجل الترجيح بمعان تخالف التسوية، كقول الخنساء في أخيعا وأبيها - وراعت حق الوالد بما لم ينقص الولد.
جارى أباه فأقبلا وهما
يتعاقبان ملاءة الحضر
وهما وقد برزا كأنهما
صقران قد حطا لي وكر
حتى إذا نزت القلوب وقد
لزت هناك العذر بالعذر
وعلا هتاف الناس: أيهما
قال المجيب هناك: لا أدري
برقت صحيفة وجه والده
ومضى غلوائه يجري
أولى فأولى أن يساويه
لولا جلال السن والكبر
وأول من سبق إلى هذا المعنى زهير حيث قال:
هو الجواد فإن يلحق بشأوهما
على تكاليفه فمثله لحقا
أو يسبقاه على ما كان من مهل
فمثل ما قدما من صالح سبقا
وتداوله الناس، فقال أبو نواس:
ثم جرى الفضل فانثنى قدما
دون مداه بغير ترهيق
فقيل راشاً سهماً تراد به الغ
اية والنضل سابق الفوق
وأما التفريق المفرد - فهو كقول الشاعر:
ما نوال الغمام يوم ربيع
كنوال الأمير يوم سخاء
فنوال الأمير بدرة عين
ونوال المام قطرة ماء
وأما الجمع مع التفريق - فهو أن يشبه شيئين بشيء ثم يفرق بين وجهي الاشتباه كقول الشاعر:
فوجهك كالنار في ضوئها
وقلبي كالنار في حرها
وأما التقسيم المفرد - فهو أن يذكر قسمة ذات جزأين أو أكثر، ثم يضم إلى كل واحد من الأقسام ما يليق به، كقول ربيعة الرقي:
يزيد سليم سالم المال والفتى
فتى الأزد للأموال غير مسالم
لشتان ما بين اليزيدين في الندى
يزيد سليم والأغر بن حاتم
فهم الفتى الأزدي إتلاف ماله
وهم الفتى القيسي جمع دراهم
فلا يحسب التمتام أنى هجوته
ولكنني فضلت أهل المكارم
وكقول ابن حيوس:
ثمانية لم تفترق إذ جمعتها
فلا افترقت ماذب عن ناظر شفر
يقنيك والتقوى وجودك والغنى
ولفظك والمعنى وسيفك والنصر
وقول آخر:
لملتمسي الحاجات جمع ببابه
فهذا له فن وهذا له فن
فللخامل العليا، وللمعدم الغنى
وللمذيب الرحمى وللخائف الأمن
ويجوز أن يعد هذا من الجمع مع التقسيم:وأما الجمع مع التقسيم - فهو أن يجمع أموراً كثيرة تحت حكم ثم يقسم بعد ذلك، أو يقسم ثم يجمع، مثال الأول قول المتنبي:
حتى أقام على أرباض خرشنة
تشقى به الروم والصلبان والبيع
للسبي ما نكحوا، والقتل ما ولدوا
والنهب ما جمعوا، والنار ما زرعوا
فجمع في البيت الأول أرض العدو وما فيها من معنى الشقاوة، وذكر التقسيم في البيت الثاني:ومثال الثاني قول حسان:
قوم ذا حاربوا ضروا عدوهمو
أو حاولوا النفع في أشياعهم نفعوا
سجية تلك منهم غير محدثة
إن الحوادث فاعلم شرها البدع
وأما التزاوج - فهو أن يزاوج بين معنيين في الشرط والجزاء كقول البحتري:
ذا ما نهى الناهي ولج أبي الهوى
أصاخت إلى الواشي فلج بها الهجر
وأما السلب والإيجاب - فهو أن يوقع الكلام على نفي شئ وثباته في بيت واحد كقوله:
وننكر ن شئنا على الناس قولهم
ولا ينكرون القول حين نقول
وكقول الشماخ:
هضيم الحشى لا يملأ الكف خصرها
ويملأ منها كل حجل ودملج
وأما الاطراد - فهو أن يطرد الشاعر أسماء متتالية يزيد الممدوح بها تعريفاً لأنها لا تكون إلا أسماء آبائه تأتي منسوقة غير منقطعة من غير ظهور كلفة على النظم كأطراد الماء وانسجامه، وذلك كقول الأعشى:
أقيس بن مسعود بن خالد
وأنت الذي ترجو حباءك وائل
وكقول دريد:
قتلنا بعبد الله خير لداته
ذؤاب بن أسماء بن زيد بن قارب
وهذا أحسن من الأول لأطراد الأسماء في عجز البيت. وقال ابن الإصبغ: وقد أربى على هؤلاء بعض القائلين حيث قال:
من يكن رام حاجة بعدت عن
ه وأعيت عليه كل العياء
فلها أحمد المرجى ابن يحيى ب
ن معاذ بن مسلم بن رجاء
لو لم يقع فيه الفصل بين الأسماء بلفظة المرجىومنه ما كتب الشيخ مجد الدين بن الظهير الحنفي على إجازة
أجاز ما قد سألوا
بشرط أهل السند
محمد بن أحمد ب
ن عمر بن أحمد
فلم يفصل بين الأسماء في البيت بلفظة أجنبية. وأما التجريد - فهو أن ينتزع الشاعر أو المتكلم من أمر ذي صفة أمراً آخراً مثله في تلك الصفة مبالغة في كمالها فيه ؛ وهو أقسام: منها نحو قولهم: لي 'من' فلان صديق حميم أي بلغ من الصداقة حداً صح معه أن يستخلص منه صديق آخر ؛ومنها نحو قولهم: لئن سألت لتسألن به البحر، ومنه قول الشاعر:
وشوهاء تعدو بي إلى صارخ الوغى
بمستلئم مثل الفنيق المرحل
أي تعدو بي ومعي من استعدادي للحرب لابس لأمة ؛ومنها نحو قوله تعالى: 'لهم فيها دار الخلد' لأن جهنم - أعاذنا الله منها هي دار الخلد، لكن اتنزع منها مثلها وجعل فيها معداً للفار تهويلاً لأمرها ومنها قول الحماسي:
فلئن بقيت لأرحلن بغزوة
نحو الغنائم أو يموت كريم
وعليه قراءة من قرأ: 'فإذا انشقت السماء فكانت وردة كالدهان' بالرفع، بمعنى فحصلت سماء وردة، وقيل تقدير الأول أو يموت منى الكريم، والثاني: فكانت منها وردة كالدهان، وفيه نظر ؛ومنها نحو قوله:
يا خير من يركب المطى ولا
يشرب كأساً بكف من بخلا
ونحو قول الآخر:
إن تلقني ترى غيري يناظره
تنس السلاح وتعرف جبهة الأسد
ومنها مخاطبة الإنسان غيره وهو يريد نفسه، كقوا الأعشى:
ودع هريرة إن الركب مرتحل
وهل تطيق وداعاً أيها الرجل
وقول المتنبي:
لا خيل عندك تهديها ولا مال
فليسعد النطق إن لم يسعد الحال
ومنه قول الحيص بيص:
إلام يراك المجد في زي شاعر
وقد نحلت شوقاً فروع المنابر
كتمت بصيت الشعر علماً وحكمة
ببعضهما ينقاد صعب المفاخر
اما وأبيك الخير إنك فارس ال
الكلام ومحيي الدراسات الغوابر
وأما التكميل - فهو أن يأتي المتكلم أو الشاعر بمعنىً من مدح أو غيره من فنون الكلم وأغراضه، ثم يرى مدحه بالاقتصار على ذلك المعنى فقط غير كامل، كمن أراج مدح إنسان بالشجاعة، ثم رأى الاقتصار عليها دون مدحه بالكرم مثلاً غير كامل أو بالبأس دون الحلم، ومثال ذلك قول كعب بن سعد الغنوي:
حليمٌ إذا ما الحلم زين أهله
مع الحلم في عين العدو مهيب
قوله: 'إذا ما الحلم زين أهله' احتراس لولاه لكان المدح مدخولاً، إذ بعض التغاضي قد يكون عن عجزٍ وإنما يزين الحلم أهله إذا كان قدرة، ثم رأى أن يكون مدحه بالحلم وحده غير كامل، لأنه إذا لم يعرف منه إلا الحلم طمع فيه عدوه فقال: 'في عين العدو مهيب'، ومنه قول السموءل بن عادياء:
وما مات منا سيد في فراشه
ولا طل منا حيث كان قتيل
لأن صدر البيت وإن تضمن وصفهم بالإقدام والصبر وربما أوهم العجزلأن قتل الجميع يدل على الوهن والقلة فكمله بأخذهم للثأر، وكمل حسنه بقوله:'حيث كان' فإنه أبلغ في الشجاعة ؛ ومن ذلك في النسيب قول كثير:
لو أن عزة حاكمت شمس الضحى
في الحسن عند موفق لقضى لها
لأن قوله: 'عند موفق' تكميل للمعنى، إذ ليس كل من يحاكم إليه موفقاً ؛ ومنه قول المتنبي:
أشد من الرياح الهوج بطشاً
وأسرع في الندى منها هبوبا
وأما المناسبة - فهي على ضربين: مناسبةٍ في المعنى، ومناسبةٍ في الألفاظ فالمعنوية أن يبتدئ المتكلم بمعنىً، ثم يتمم كلامه بما يناسبه معنىً دون لفظ، كقوله تعالى: 'أو لم يهد لهم كم أهلكنا من قبلهم من القرون يمشون في مساكنهم إن في ذلك لآيات أفلا يسمعون أو لم يروا أنا نسوق الماء إلى الأرض الجرز فنخرج به زرعاً تأكل منه أنعامهم وأنفسهم أفلا يبصرون' فقال تعالى في صدر الآية التي الموعظة فيها سمعيةٌ: 'أو لم يهد لهم، وقال بعد ذكر الموعظة: أفلا يسمعون' وقال في صدر الآية التي موعظتها مرئيةٌ: 'أو لم يروا' وقال بعد الموعظة:'أفلا يبصرون'. ومن أمثلة المناسبة المعنوية قول المتنبي:
على سابح موج المنايا بنحره
غداة كأن النبل في صدره وبل
فإن بين لفظة السباحة ولفظتي الموج والوبل تناسباً صار البيت به متلاحماً ؛ وقول ابن رشيق:
أصحّ وأقوى ما رويناه في الندى
من الخبر المأثور منذ قديم
أحاديث ترويها السيول عن الحيي
عن البحر عن جود الأمير تميم
فإنه وفي المناسبة حقها في صحة العنعنة برواية السيول عن الحيي عن البحر، وجعل الغاية فيها جود الممدوح. والمناسبة اللفظية: توخي الإتيان بكلمات متزنات، وهي على ضربين: تامة وغير تامة. فالتامة: أن تكون الكلمات مع الاتزان مقفاة، فمن شواهد التامة قوله تعالى:'ن والقلم وما يسطرون ما أنت بنعمة ربك بمجنون وإن لك لأجراً غير ممنون'ومن الحديث النبوي - صلاة الله وسلامه على قائله - قول النبي صلى الله عليه وسلم للحسن والحسين - رضي الله عنهما -: 'أعذيكما بكلمات الله التامة، من كل شيطان وهامة، ومن كل عين لامه' ولم يقل: 'ملمة' وهي القياس لمكان المناسبة اللفظية التامة ؛ومن شواهد الناقصة قوله صلى الله عليه وسلم: 'ألا أخبركم بأحبكم إلي وأقربكم مني مجالس يوم القيامة ؟ أحاسنكم أخلاقاً، الموطؤن أكنافاً'ومما جمع بين المناسبتين قوله صلى الله عليه وسلم: 'اللهم إني أسألك رحمة تهدي بها قلبي، وتجمع بها أمري، وتلم بها شعثي، وتصلح بها غايتي، وترفع بها شاهدي، وتزكي بها عملي، وتلهمني بها رشدي، وترد بها ألفتي، وتعصمني بها من كل سوء، اللهم إني أسألك العون في القضاء، ونزل الشهداء، وعيش السعداء، والنصر على الأعداء'فناسب صلى الله عليه وسلم بي قلبي وأمري، وغايتي وشاهدي مناسبة غير تامة، لأنها في الزنة دون التفقية، وناسب بين القضاء والشهداء والسعداء والأعداء مناسبة تامة في الزنة والتفقية ؛ ومن أمثلة المناسبتين قول أبي تمام:
مها الوحش إلا أن هاتا أوانسٌ
قنا الحط إلا أن تلك ذوابل
فناسب بين مها وقا مناسبة تامة، وناسب بين الوحش والخط، وأوانس وذوابل مناسبة غير تامة. وأما التفريع - فهو أن يصدر المتكلم أو الشاعر كلامه باسم منفىً بينما' خاصة، ثم يصف الاسم المنفي بمعظم أوصافه اللائقة به في الحسن أو القبح، ثم يجعله أصلاً يفرع منه جملةً من جار ومجرور متعلقة به تعلق مدحٍ أو هجاء أو فخرٍ أو نسيب أو غير ذلك، يفهم من ذلك مساواة المذكور بالاسم المنفي الموصوف كقول الأعشى:
ما روضةٌ من رياض الحزن معشبةٌ
خضراء جاد عليها مسبلٌ هطل
يضاحك الشمس منها كوكب شرقٌ
مؤزر بعميم النبت مكتهل
يوماً بأطيب منها طيب رائحةً
ولا بأحسن منها إذ دنا الأصل
وقول عاتكة المرية:
وما طعم ماء أي ماء تقوله
تحدر من غرٍ طوال الذوائب
بمنعرج من بطن وادٍ تقابلت
عليه رياح الصيف من كل جانب
نفت جرية الماء القذى عن متونه
فليس به عيب تراه لعائب
بأطيب ممن يقصر الطرف دونه
تقى الله واستحياء بعض العواقب
وقد وقع الأصل والفرع لأبي تمام في بيت واحد، وهو:
ما ربع مية معموراً يطيف به
غيلان أبهى رباً من ربعها الخرب
ولا الخدود وإن أدمين من خجل
أشهى إلى ناظري من خدها الترب
ومما ورد في النثر رسالة ابن القمي التي كتبها إلى سبأ بن أحمد صاحب صنعاء:وأما حال عبده بعد فراقه في الجلد، فما أم تسعة من الولد ؛ ذكور، كأنهم عقبان وكور ؛ اخترم منهم ثمانية، فهي على التاسع حانية، فنادى النذير في البادية، بالعادية يا للعاديه ؛ فلما سمعت الداعي، ورأت الخيل سواعي ؛ أقبلت تنادي ولدها: ألأناة الأناة، وهو يناديها: القناة القناة.
بطلٌ كأن ثيابه في سرحةٍ
يحذى نعال السبت ليس بتوأم
فلما رمقته يختال في غضون الزرد الموضون أنشأت تقول:
أسد أضبط يمشي
بين طرفاء وغيل
لبسه من نسج داو
د كضحضاح المسيل
عرض له في البادية أسدٌ هصور، كأن ذراعه مسدٌ معصور
فتطاعنا وتواقفت خيلاهما
وكلاهما بطل اللقاء مقنع
فلما سمعت الرعيل، برزت من الصرم بصبر قد عيل ؛ فسألت عن الواحد فقيل: لحده اللاحد.
فكرت تبتغيه فصادفته
على دمه ومصرعه السباعا
عبثن به فلم يتركن إلا
أديما قد تمزق أو كراعا
بأشد من عبده تأسفاً، ولا أعظم كمداً وتلهفاً. قال: وذكر ابن أبي الإصبع في التفريع قسما ذكره في صدر الباب، وقال:إنه هو الذي استخرجه، وهو أن يبتدئ الشاعر بلفظة هي إما اسم أو صفة، ثم يكررها في البيت مضافة إلى أسماء وصفات تتفرع عليها جملةٌ من المعاني في المدح وغيره، كقول المتنبي:
أنا ابن اللقاء أنا ابن السخاء
أنا ابن الضراب أنا ابن الطعان
أنا ابن الفيافي أنا ابن القوافي
أنا ابن السروج أنا ابن الرعان
طويل النجاد طويل العماد
طويل القناة طويل السنان
حديد اللحاظ حديد الحفاظ
حديد الحسام حديد الجنان
وأما نفي الشيء بإيجابه - فهو أن يثبت المتكلم شيئاً في ظاهر كلامه وينفى ما هو من سببه مجازاً، والمنفي في باطن الكلام حقيقة هو الذي أثبته كقول امرئ القيس:
على لاحب لا يهتدي بمناره
إذا سافه العود النباطي جرجرا
فظاهر هذا الكلام يقتضي إثبات منار لهذه الطريق، ونفي الهداية به مجازاً وباطنه في الحقيقة يقتضي نفي المنار جملة، والمعنى أن هذه الطريق لو كان لها منار ما اهتدى به، فكيف ولا منار لها، كما تقول لمن تريد أن تسلبه الخير: ما أقل خيرك ! فظاهر كلامك يدل على إثبات خير قليل، وباطنه نفى الخير كثيره وقليله.وقول الزبير بن عبد المطلب يمدح عميلة بن عبد الدار - وكان نديماً له -:
صحبت بهم طلقاً يراح إلى الندى
إذا ما انتشى لم تحتضره مفاقره
ضعيف بحث الكأس قبض بنانه
كليل على وجه النديم أظافره
فظاهر هذا أن للمدوح مفاقر لم تحتضره إذا انتشى، وأن له أظافر يخمش بها وجه نديمه خمشاً ضعيفاً، وباطن الكلام في الحقيقة نفى المفاقر جملة، والأظافر بتة. وأما الايداع - قال: وأكثر الناس يجعلونه من باب التضمين، وهو منه إلا أنه مخصوص بالنثر، وبأن يكون المودع نصف بيت، إما صدراً أو عجزاً. فمنه قول علي رضي الله عنه في جواب كتاب لمعاوية:ثم زعمت أني لكل الخلفاء حسدت، وعلى كلهم بغيت، فإن يكن ذلك كلك فلم تكن الجناية عليك، حتى تكون المعذرة إليك 'وتلك شكاةٌ ظاهرٌ عنك عارها'وأما الإدماج - فهو أن يدمج المتكلم غرضاً له في جملة معنىً من المعاني قد نحاه ليوهم السامع أنه لم يقصده، وإنما عرض في كلامه لتتمة معناه الذي قصده، كقول عبيد الله بن الله عبد الله لعبيد الله بن سليمان بن وهب حين وزر للمعتضد - وكان ابن عبيد الله قد اختلت حاله - فكتب إلى ابن سليمان:
أبى دهرنا إسعافنا في نفوسنا
وأسعفنا فيمن نحب ونكرم
فقلت له نعماك فيهم أتمها
ودع أمرنا إن المهم المقدم
فأدمج شكوى الزمان في ضمن التهنئة، وتلطف في المسألة مع صيانة نفسه عن التصريح بالسؤال. وأما سلامة الاختراع - فهو أن يخترع الشاعر معنىً لم يسبق إليه ولم يتبعه أحد فيه، كقول عنترة في الذباب:
هزجا يحك ذراعه بذراعه
قدح المكب على الزناد الأجذم
وكقول عدي بن الرقاع في تشبيه ولد الظبية:
تزجي أغن كأن إبرة روقه
قلمٌ أصاب من الدواة مدادها.
وكقول النابغة في وصف النسور:
تراهن خلف القوم زوراً عيونها
جلوس الشيوخ في مسوك الأرانب
وكقول أبي تمام:
لا تنكري عطل الكريم من الغنى
فالسيل حربٌ للمكان العالي
وقوله:
ليس الحجاب بمقصٍ عنك لي أملاً
إن السماء ترجى حين تحتجب
وقول ابن حجاج:
وإني والمولى الذي أنا عبده
طريفان في أمر له طرفان
بعيداً تراني منه أقرب ما ترى
كأني يوم العيد في رمضان
وأما حسن الاتباع - فهو أن يأتي المتكلم إلى معنىً قد اخترعه غيره فيتبعه فيه اتباعاً يوجب له استحقاقه، إما باختصار لفظه، أو قصر وزنه أو عذوبة نظمه، أو سهولة سبكه، أو إيضاح معناه، أو تتميم نقصه، أو تحليته بما توجبه الصناعة، أو بغير ذلك من وجوه الاستحقاقات ؛كقول شاعر جاهلي في صفة جمل:
وعودٍ قليل الذنب عاودت ضربه
إذا هاج شوقي من معاهدها ذكر
وقلت له ذلفاء ويحك سببت
لك الضرب فاصبر إن عادتك الصبر
فأحسن ابن المعتز اتباعه حيث قال يصف خيله:
وخيلٍ طواها القود حتى كأنها
أنا بيب سمرٌ من قنا الخط ذبل
صببنا عليها ظالمين سياطنا
فطارت بها أيدٍ سراعٌ وأرجل
وابتع أبو نواس جريراً في قوله:
إذا غضبت عليك بنو تميم
حسبت الناس كلهمو غضابا
فقال أبو نواس - ونقل المعنى من الفخر إلى المدح -:
وليس على الله بمستنكرٍ
أن يجمع العالم في واحد
وقول النميري في أخت الحجاج:
فهن اللواتي إن برزن قتلنني
وإن غبن قطعن الحشى حسرات
فاتبعه ابن الرومي فقال:
ويلاه إن نظرت وإن هي أعرضت
وقع السهام ونزعهن أليم
وأما الذم في معرض المدح - فهو أن يقصد المتكلم ذم إنسان فيأتي بألفاظ موجهة، ظاهرها المدح، وباطنها القدح، فيوهم أنه يمدحه وهو يهجوه كقول بعضهم في الشريف بن الشجري:
يا سيدي والذي يعيذك من
نظم يضن يصدا به الفكر
ما فيك من جدك النبي سوى
أنك لا ينبغي لك الشعر
وأما العنوان - فهو أن يأخذ المتكلم في غرض له من وصف أو فخر أو مدح أو هجاء أو غير ذلك، ثم يأتي لقصد تكميله بألفاظ تكون عنواناً لأخبار متقدمة، وقصص سالفة ؛ كقول أبي نواس:
يا هاشم بن حديج ليس فخركمو
بقتل صهر رسول الله بالسدد
أدرجتمو في إهاب العير جثته
لبئس ما قدمت أيديكمو لغد
إن تقتلوا ابن أبي كر فقد قتلت
حجراً بدارة ملحوب بنو أسد
ويوم قلتم لعمرو وهو يقتلكم
قتل الكلاب لقد أبرحت من ولد
ورب كندية قالت لجارتها
والدمع ينهل من مثنى ومن وحد
ألهى امرأ القيس تشبيبٌ بغانية
عن ثأره وصفات النؤى والوتد
فقد أتى أبو نواس في هذه الأبيات بعدة عنوانات: منها قصة قتل محمد بن أبي بكر، وقتل حجر أبي امرئ القيس، وقتل عمرو بن هندٍ كندة في ضمن هجو من أراد هجوه، وعير المهجو بما أشر إليه من الأخبار الدالة على هجاء قبيلته ؛ومثل ذلك قول أبي تمام في استعطاف مالك بن طوق على قدمه:
رفدوك في يوم الكلاب وشققوا
فيه المزاد بجحفل غلاب
وهمو بعين أباغ راشوا للعدا
سهميك عند الحارث الحرّاب
وليالي الثرثار والحشاك قد
جلبوا الجياد لواحق الأقراب
فمضت كهولهمو ودبر أمرهم
أحداثهم تدبير غير صواب
وقال بعد ذلك:
لك في رسول الله أعظم أسوة
وأجلها في سنة وكتاب
أعطى المؤلفة القلوب رضاهمو
كملاً ورد أخائذ الأحزاب
والجعفريون استقلت ظعنهم
عن قومهم وهمو نجوم كلاب
حتى إذا أخذ الفراق بقسطه
منهم وشط بهم عن الأحباب
ورأوا بلاد الله قد لفظتهمو
أكنافها رجعوا إلى جواب
فأتوا كريم الخيم مثلك صافحاً
عن ذكر أحقاد وذكر ضباب
فانظر إلى ما أتى به أبو تمام في هذه الأبيات من العنوانات من السيرة النبوية وأيام العرب، وأخبار بني جعفر بن كلاب، ورجوعهم إلى ابن عمهم جواب ؛ وكقوله أيضاً لأحمد بن أبي داؤد:
تثبت إن قولاً كان زوراً
أتى النعمان قبلك عن زياد
وأرث بين حي بني جلاح
لظى حرب بني مصاد
وغادر في صدور الدهر قتلى
بني بدر على ذات الإصاد
فأتى بعنوان يشير به إلى قصة النابغة حين وشى به إلى النعمان، فجر ذلك من الحروب ما تضمنت أبياته. وأما الإيضاح - وهو أن يذكر المتكلم كلاماً في ظاهره لبسٌ، ثم يوضحه في بقية كلامه، كقول الشاعر:
يذكرنيك الخير والشر كله
وقيل الخنا والعلم والحلم والجهل
فإن الشاعر لو اقتصر على هذا البيت لأشكل مراده على السامع بجمعه بين ألفاظ المدح والهجاء، فلما قال بعد:
فألقاك عن مكروهها متنزهاً
وألقاك في محبوبها ولك الفضل
أوضح المعنى المراد، وأزال اللبس، ورفع الإشكال والشك. وأما التشكيك - فهو أن يأتي المتكلم في كلامه بلفظةٍ تشكك المخاطب هل هي فضلةٌ أو أصلية لا غنى للكلام عنها ؟ مثل قوله تعالى: 'يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدينٍ' فإن لفظة تشكك السامع هل هي فضلةٌ أو أصلية ؟ فالضعيف النظر يظنها فضلةً لأن لفظة تداينتم تغني عنها، والناظر في علم البيان يعلم أنها أصلية لأن لفظة الدين لها محامل، تقول: داينت فلاناً المودة، يعني جازيته، ومنه:'كما تدين تدان' ومنه قول رؤبة:
داينت أروى والديون تقضى
فمطلت بعضاً وأدت بعضاً
وكل هذا هو الدين المجازي الذي لا يكتب ولا يشهد عليه، ولما كان المراد من الآية تمييز الدين المالي الذي يكتب ويشهد عليه، وتيسير أحكامه، أوجبت البلاغة أن يقول: 'بدين' ليعلم حكمه. وأما القول بالموجب - فهو ضربان:أحدهما أن تقع صفةٌ في كلام مدعٍ شيئاً يعني به نفسه، فثبتت تلك الصفة لغيره من غير تصريح بثبوتها له، ولا نفيها عنه، كقوله تعالى: 'يقولون لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين' فإنهم كنوا بالأعز عن فريقهم، وبالأذل عن فريق المؤمنين، فأثبت الله عز وجل صفة العزة لله ولرسوله وللمؤمنين من غير تعرضٍ لثبوت حكم الإخراج بصفة العزة ولا لنفيه. والثاني حمل كلام المتكلم مع تقريره على خلاف مراده مما يحتمله بذكر متعلقه كقول الشاعر:
قلت: ثقلت إذ أتيت مراراً
قال: ثقلت كاهلي بالأيادي
قلت: طولت قال: لي بل تطول
ت وأبرمت قال: حبل الوداد
ومنه قول الأرجاني: 'غالطتني أذ كست جسمي ضنىً' البيتين، وقد تقدم الاستشهاد بهما في الاستدراك. وللمولى شهاب الدين محمود الحلبي الكاتب في ذلك:
رأتني وقد نال مني النحول
وفاضت دموعي على الخد فيضا
فقالت: بعيني هذا السقام
فقلت: صدقت، وبالخصر أيضا
وقول محاسن الشواء:
ولما أتاني العاذلون عدمتهم
وما فيهمو إلا للحمى قارض
وقد بهتوا لما رأوني شاحباً
وقالوا: به عينٌ فقلت: وعارض
وأما القلب - فهو أن يكون الكلام أو البيت كيفما انقلبت حروفه كان بحاله لا يتغير، ومنه في التنزيل قوله تعالى: 'كل في فلكٍ' 'وربك فكبر' وقولهم: ساكب كاس. ومنه قول العماد الأصفهاني للقاضي الفاضل: سر فلا كبا بك الفرس، وجواب القاضي الفاضل له: دام علا العماد، وهي أول قصيدة للأرجاني، مطلعها: 'دام علا العماد' ومن ذلك قول الأرجاني:
مودته تدوم لكل هول
وهل كل مودته تدوم
وأما التندير - فهو أن يأتي المتكلم بادرة حلوة، أو نكتة مستظرفة يعرض فيها بمن يريد ذمه بأمر، وغالب ما يقع في الهزل، فمنه قول أبي تمام فيمن سرق له شعرا:
من بنو بجدلٍ، من ابن الحباب
من بنو تغلب غداة الكلاب
من طفيلٌ، من عامرٌ، أم من الحا
رث، من عتيبة بن شهاب
إنما الضيغن الهصور أبو الأش
بال هتاك كل خيس وغاب
من عدت خيله على سرح شعري
وهو للحين راتعٌ في كتاب
يا عذراى الكلام صرتن من بع
دي سبايا تبعن في الأعراب
لو ترى منطقي أسيراً لأصب
حت أسيراً ذا عبرة واكتئاب
طال رغبي إليك مما أقاسي
ه ورهبي يا رب فاحفظ ثيابي
ومن ذلك ما قاله شهاب الدين بن الخيمي يعرض بنجم الدين بن إسرائيل لما تنازعا في القصيدة المعروفة لابن الخيمي التي أولها:
يا مطلباً ليس لي من غيره أرب
فقال من قطعة منها:
هم العريب بنجد مذ عرفتمو
لم يبق لي معهم مالٌ ولا نشب
فما ألموا بحيٍّ أو ألمّ بهم
إلا أغاروا على الأبيات وانتهبوا
لم يبق منطقه قولاً يروق لنا
لقد شكت ظلمه الأشعار والخطب
وأما الإسجال بعد المغالطة - فهو أن يقصد الشاعر غرضاً من ممدوح فيشترط لحصوله شرطاً، ثم يقدر وقوع ذلك الشرط مغالطة ليسجل به استحقاق مقصوده، كقول بعضهم:
جاء الشتاء وما عندي لقرّته
إلا ارتعادي وتصفيقي بأسناني
فإن هلكت فمولانا يكفّنني
هبني هلكت فهبني بعض أكفاني
وأما الافتنان - فهو أن يأتي الشاعر بفّنين متضادّين من فنون الشعر في بيت واحد مثل التشبيب والحماسة، ' والمديح' والهجاء، والهناء والعزاء فأما ما جمع فيه بين التشبيب والحماسة فكقول عنترة:
إن تغدفي دوني القناع فإنني
طبّ بأخذ الفارس المستلئم
وكقول أبي دلف - ويروى لعبد اللّه بن طاهر -:
أحبّك يا جنان وأنت مني
محّل الرّوح من جسد الجبان
ولو أني أقول محلّ روحي
لخفت عليك بادرة الطعّان.
وأما ما جمع فيه بين تهنئةٍ وتعزيةٍ فقد تقدّم ذكر ذلك في بابي التهاني والتعازي ومنه فيما لم نورده هناك ما كتب به الموالي شهاب الدين محمود الكاتب تهنئة وتعزية لمن رزق ولداً ذكراً في يوم ماتت له فيه بنت:ولا عتب على الدهر فيما اقترف، فقد أحسن الخلف، واعتذر بما وهب عما سلب، فعفا اللّه عمّا سلف. وأما الإبهام - بباء موّحدة فهو أن يقول المتكلّم كلاماً مبهماً يحتمل معنيين متضاديّن، كقول بعضهم في الحسن بن سهل لما تزوّج المأمون ببنيه بوران:
بارك اللّه للحسن
ولبوران في الختن
يا إمام الهدى ظفر
ت ولكن ببنت من
فلم يعرف مراده 'ببنت من' هل أراد به الرفعة أو الضعة ؟ومنه قول بشار في خياط أعور اسمه عمرو:
خاط عمرو لي قباء
ليت عيينه سواء
فأبهم المعنى في الدعاء له بالدعاء عليه. وأما حصر الجزئي وإلحاقه بالكليّ - فهو كقول السّلاميّ:
إليك طوى عرض البسيطة جاعلٌ
قصاري المطايا أن يلوح لها القصر
فكنت وعزمي في الظلام وصارمي
ثلاثة أشباه كما اجتمع النّسر
وبشّرت آمالي بملك هو الورى
ودارٍ هي الدنيا، ويومٍ هو الدهر.
فأما حصر أقسام الجزئي فإن العالم عبارةٌ عن أجسامٍ وظروف زمانٍ وظروف مكانٍ، وقد حصر ذلك ؛وأما جعله الجزئي كلّيّاً فإن الممدوح جزء من الورى، والدار جزء من الدنيا، واليوم جزء من الدهر. وأما المقارنة - فهي أن يقرن الشاعر الاستعارة بالتشبيه أو المبالغة أو غير ذلك بوصل يخفى أثره إلا على مدمن النظر في هذه الصناعة، وأكثر ما يقع ذلك بالجمل الشرطية، كقول بعض شعراء المغرب:
وكنت إذا استنزلت من جانب الرضى
نزلت نزول الغيث في البلد المحل
وإن هيّج الأعداء منك حفيظةً
وقعت وقوع النار في الحطب الجزل
فإن لاءم بين الاستعارة والتشبيه المنزوع الأداة في صدري بيتية وعجزيهما. وأما ما قرنت به الاستعارة من المبالغة فمثاله قول النابغة الذبياني:
وأنت ربيع ينعش الناس سيبه
وسيف أعيرته المنية قاطع
فإن في كل من صدر البيت وعجزه استعارة ومبالغة، وإنما التي في العجز أبلغ. ومما اقترن فيه الإرداف بالاستعارة قول تميم بن مقبل:
لدن غدوه حتى نزعنا عشية
وقد مات شطر الشمس والشطر مدنف
فإنه عبر بموت شطر الشمس عن الغروب، واستعار الدنف للشطر الثاني. وأما الإبداع - فهو أن يأتي في البيت الواحد من الشعر، أو القرينة الواحدة من النثر بعدة ضروب من البديع بحسب عدد كلماته أو جمله، وربما كان في الكلمة الواحدة المفردة ضربان من البديع، ومتى لم تكن كل كلمة بهذه المثابة فليس بإبداع. قال ابن أبي الإصبغ: وما رأيت فيما استقريت من الكلام كآية استخرجت منها أحداً وعشرين ضرباً من المحاسن، وهي قوله تعالى: 'وقيل يا أرض ابلعي ماءك ويا سماء أقلعي وغيض الماء وقضي الأمر واستوت على الجودي وقيل بعدا للقوم الظالمين': وهي المناسبة التامة في 'ابلعي' و 'أقلعي' ؛ والمطابقة بذكر الأرض والسماء ؛ والمجاز في قوله: 'يا سماء'، فإن المراد - والله أعلم - يا مطر السماء ؛ والاستعارة في قوله تعالى: 'أقلعي' ؛ والإشارة في قوله تعالى: 'وغيض الماء' فإنه عبر بهاتين اللفظتين عن معان كثيرة ؛ والتمثيل في قوله تعالى: 'وقضى الأمر' فإنه عبر عن هلاك الهالكين ونجاة الناجين بغير لفظ المعنى الموضوع له ؛ والإدارف في قوله: 'واستوت على الجودي' فإنه عبر عن استقرارها بهذا المكان استقراراً متمكناً بلفظ قريب من لفظ المعنى ؛ والتعليل، لأن غيض الماء علة الاستواء ؛ وصحة التقسيم إذا استوعب الله تعالى أقسام أحوال الماء حالة نقصه، إذ ليس إلا احتباس ماء السماء، واحتقان الماء الذي ينبع من الأرض، وغيض الماء الحاصل على ظهرها ؛ والاحتراس في قوله تعالى: 'وقيل بعداً للقوم الظالمين' إذ الدعاء عليهم يشعر أنهم مستحقو الهلاك احتراساً من ضعيف العقل يتوهم أن العذاب شمل من يستحق ومن لا يستحق، فتأكد بالدعاء كونهم مستحقين ؛ والإيضاح في قوله: 'للقوم' ليبين أن القوم الذين سبق ذكرهم في الآية المتقدمة حيث قال: 'وكلما مر عليه ملأ من قومه سخروا منه' هم الذين وصفهم بالظلم ليعلم أن لفظة القوم ليست فضلة وأنه يحصل بسقوطها لبسٌ في الكلام ؛ والمساواة لأن لفظ الآية لا يزيد على معناها ؛ وحسن النسق، لأنه تعالى عطف القضايا بعضها على بعض بحسن ترتيب، وائتلاف اللفظ مع المعنى، لأن كل لفظة لا يصلح موضعها غيرها ؛ والإيجاز، لأنه سبحانه وتعالى اقتص القصة بلفظها مستوعبة بحيث لم يخل منها بشيء في أقصر عبارة، والتسهيم، لأن أول الآية إلى قوله: 'أقلعي' يقتضى آخرها ؛ والتهديب، لأن مفردات الألفاظ موصوفةٌ بصفات الحسن، عليها رونق الفصاحة، سليمةٌ من التعقيد والتقديم والتأخير ؛ والتمكن، لأن الفاصلة مستقرةٌ في قرارها، مطمئةٌ في مكانها ؛ والانسجام، وهو تحدر الكلام بسهولة كما ينسجم الماء ؛ وما في مجموع الآية من الإبداع، وهو الذي سمي به هذا الباب، فهذه سبع عشرة لفظةً تضمنت أحداً وعشرين ضرباً من البديع غير ما تكرر من أنواعه فيها. وأما الانفصال - فهو أن يقول المتكلم كلاماً يتوجه عليه فيه دخلٌ لو اقتصر عليه، فيأتي بما يفصله عن ذلك الدخل، كقول أبي فراس:
ولقد نبيّت إبلي
س إذا راك يصد
ليس من تقوى ولكن
ثقل فيك وبرد
والفرق بين هذا وبين الاحتراس خلو الاحتراس من الدخل عليه من كل وجه. وأما التصرف - فهو أن يتصرف المتكلم في المعنى الذي يقصده، فيبرزه في عدة صور: تارة بلفظ الاستعارة، وطوراً بلفظ التشبيه، وآونة بلفظ الإرداف وحيناً بلفظ الحقيقة، كقول امرئ القيس يصف الليل:
وليلٍ كموج البحر مرخ سدوله
عليّ بأنواه الهموم ليبتلي
فقلت له لما تمطى بصلبه
وأردف أعجازاً وناء بكلكل
فإنه أبرز المعنى بلفظ الاستعارة، ثم تصرف فيه فأتى بلفظ التشبيه فقال:
فيالك من ليل كأن نجومه
بكل مغار الفتل شدت بيذبل
ثم تصرف فيه فأخرجه بلفظ الإرداف فقال:
ألا أيها الليل الطويل ألا انجلي
بصبح وما الإصباح منك بأمثل
وأما الاشتراك - فمنه ما ليس بحسن ولا قبيح، وهو الاشتراك في الألفاظ مثل اشتراك الأبيرد وأبي نواس في لفظة الاستعفاء، فإن الأبيرد قال في مرثية أخيه:
وقد كنت أستعفي الإله إذا اشتكى
من الأجر لي فيه وإن عظم الأجر
وقال أبو نواس:
ترى العين تستعفيك من لمعانها
وتحسر حتى ما تقل جفونها
ومنه الحسن، وهو الاشتراك في المعنى، كقول امرئ القسي:
كبكر المقاناة البياض بصفرة
غذاها نمير الماء غير المحلل
وقول ذي الرمة:
كحلاء في برجٍ صفراء في دعجٍ
كأنها فضة قد مسها ذهب
فوقع الاشتراك بينهما في وصف المرأة بالصفرة، غير أن الأول شبه الصفرة ببيضة النعامة، والآخر وصفها بالفضة المموهة ؛ومن الاشتراك المعنوي ما ليس بحسن ولا معيب، كقول كثير:
وأنت التي حببت كل قصيرة
إلي وما تدري بذاك القصائر
عنيت قصيرات الحجال ولم أرد
قصار الخطا، شر النساء البحاتر
فإن لفظة قصيرة مشتركة، فلو اقتصر على البيت الأول لكان الاشتراك معيباً لكنه لما أتى بالبيت الثاني زال العيب، ولم يبلغ رتبة الحسن لما فيه من التضمين. وأما التهكم - فالفرق بينه وبين الهزل الذي يراد به الجد أن التهكم ظاهره جد وباطنه هزل، والهزل الذي يراد به الجد على العكس منه، فمن التهكم قول الوجيه الذروري في ابن أبي حصينة من أبيات:
لا تظنن حدبة الظهر عيباً
فهي في الحسن من صفات الهلال
وكذاك القسي محدوباتٌ
وهي أنكى من الظبا والعوالي
وإذا ما علا السنام ففيه
لقروم الجمال أي جمال
وأرى الانحناء في مخلب البا
زي ولم يعد مخلب الرئبال
كوّن الله حدبة فيك إن شئ
ت من الفضل أو من الإفضال
فأنت ربوةً على طود علم
وأتت موجةً ببحر نوال
ما رأتها النساء إلا تمنت
أنها حليةٌ لكل الرجال
ثم ختمها بقوله:
وإذا لم يكن من الهجر بدٌ
فعسى أن تزورنا في الخيال
وكقول ابن الرومي:
فياله من عمل صالح
يرفعه الله إلى أسفل
وأما التدبيج - وهو أن يذكر الشاعر أو الناثر ألواناً يقصد بها الكناية أو التورية بذكرها عن أشياء من وصف أو مدح أو هجاء أو نسيب أو غير ذلك من الفنون، فمن ذلك قول الحريري في بعض مقاماته: فمذ ازور المحبوب الأصفر واغبر العيش الأخضر، اسود يومي الأبيض، وابيض فودي الأسود، حتى رثى لي العدو الأزرق، فحبذا الموت الأحمر. وهذا التدبيج بطريق التورية.وقال بعض المتأخرين يصف موقف السلطان الملك الناصر بمصاف شقحب الكائن بينه وبين التتار في شهر رمضان سنة اثنتين وسبعمائة:وما زال بوجهه الأبيض، تحت علمه الأصفر، يكابد الموت الأحمر، تجاه العدو الأزرق، إلى أن حال بينهما الليل الأسود، وبكّر في غرة نهار الأحد الأشعل وامتطى السبيل الأحوى إلى أن حل بالأبلق.يريد بالأبلق: القصر الظاهري الذي بالميدان الأخضر مدينة دمشق ؛ ومن أمثلة هذا الباب قول ابن حيوس الدمشقي:
إن ترد علم حالهم عن يقين
فالقهم يوم نائل أو قتال
تلق بيض الوجوه سود مثار الن
قع خضر الأكناف حمر النضال
وأما الموجه - فهو الذي يمدح بشيء يقتضي المدح بشيء آخر، كقول المتنبي:
نهبت من الأعمار ما لو حويته
لهنئت الدنيا بأنك خالد
وكقوله أيضاً:
عمر العدو إذا لاقاه في رهج
أقل من عمر ما يحوى إذا وهبا
فأول البيتين وصفٌ بفرط الشجاعة، وآخر الأول بعلو الدرجة، وآخر الثاني بفرط الجود. وأما تشابه الأطراف - فهو أن يجعل الشاعر قافية بيته الأول أول البيت الثاني، وقافية الثاني أول الثالث، وهكذا إلى انتهاء كلامه، ومن أحسن ما قيل فيه قول ليلى الأخيليلة تمدح الحجاج:
إذا نزل الحجاج أرضاً مريضة
تتبع أقصى دائها فشفاها
شفاها من الداء العضال الذي بها
غلام إذا هز القناة سقاها
سقاها فرواها بشرب سجالها
دماء رجال يحلبون صراها
هذا ما أورده في حسن التوسل من علوم المعاني والبيان والبديع، وقد أتينا على أكثره بنصه لما رأيناه من حسن تأليفه، وبديع ترصيفه، وأن اختصاره لا يمكن إلا عند الإخلال بفائدة لا يستغنى عنها فلم نحذف منه إلا ما تكرر من الأمثلة والشواهد، لاستغنائنا بما أوردناه عما حذفناه، فالنسبة فيه إلى فضائله وفضله والعمدة على شواهده ونقله ؛ فلقد أحسن التأليف، وأجاء التعريف، واحتمل التوقيف ؛ وحر الشواهد، وأوضح السبيل حتى صار الغائب عن هذه الصناعة إذا طالع كتابه كالشاهد ؛ وأبدع في صناعة البديع، وبين علم البيان بحسن الترصيف والترصيع ؛ واعتنى بألفاظ المعاني فصرف أعنتها ببنانه، وأبان مشكلها فأحسن في بيانه ؛ وحلّ من التعقيد عقالها الذي عجز غيره عن حله، وسهّل للأفهام مقالها فأبرزته الألسنة من محرم اللفظ إلى حله، فله المنة فيما ألف، والفضل بما صنف. وأما ما يتصل بذلك من خصائص الكتابة - فالاقتباس والاستشهاد والحل:فالاقتباس هو أن يضمن الكلام شيئاً من القرآن أو الحديث، ولا ينبه عليه للعلم به، كما في خطب ابن نباتة، كقوله: فيا أيها الغفلة المطرقون، أما أنتم بهذا الحديث مصدقون ؟ مالك لا تشفقون ؟ 'فورب السماء والأرض إنه لحق مثل ما أنكم تنطقون' وكقوله أيضاً: يوم يبعث الله العالمين خلقاً جديداً، ويجعل الظالمين لجهنم وقودا، يوم تكونون 'شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً' 'يوم تجد كل نفسٍ ما عملت من خيرٍ محضراً وما عملت من سوءٍ تود لو أن بينها وبينه أمداً بعيداً'ومن ذلك ما أورد المولى شهاب الدين محمود في تقليد عن الإمام الحاكم بأمر الله أبي العباس أحمد بالسلطنة، جاء منه: وجمع بك شمل الأمة بعد أن 'كاد يزيغ قلوب فريق منهم' وعضدك لإقامة إمامته بأولياء دولتك الذين رضى الله عنهم ؛ وخصك بأنصار دينه الذين نهضوا بما أمروا به من طاعتك وهم فارهون، وأظهرك على الذين 'ابتغوا الفتنة من قبل وقلبوا لك الأمور حتى جاء الحق وظهر أمر الله وهم كارهون' وأمثال ذلك. وأما الاستشهاد بالآيات - فهو أن ينبه عليها، كقول الحريري: فقلت وأنت أصدق القائلين: 'وما أرسلناك إلا رحمةً للعالمين' ونحو ذلك. وفي الأحاديث بالتنبيه عليها أيضاً، كقول المولى شهاب الدين محمود في خطبة تقليد حاكمي: ونصلي على سيدنا محمد الذي استخرجه الله من عنصر أهله وذويه، وشرف قدر جده بقوله فيه: 'إن عم الرجل صنو أبيه' وسره بما أسر إليه من أن هذا الأمر فتح به ويختم ببنيه.وأمثال ذلك لا تحصر. وأما الحل - وهو باب متسع المجال، وملاك أمر المتصدي له أن يكون كثير الحفظ للأحاديث النبوية والآثار والأمثال والأشعار لينفق منها وقت الاحتياج إليها. قال: وكيفية الحل أن يتوخى هدم البيت المنظوم، وحلّ فرائده من سلكه، ثم يرتب تلك الفرائد وما شابهها ترتيب متمكن لم يحصره الوزن، ويبرزها في أحسن سلك، وأجمل قالب، وأصح سبك، ويكملها بما يناسبها من أنواع البديع إن أمكن ذلك من غير كلفةٍ، ويتخير لها القرائن، وإذا تم معه المعنى المحلول في قرينة واحدة يغرم له من حاصل فكره، أو من ذخيرة حفظه ما يناسبه، وله أن ينقل المعنى إذا لم يفسده إلى ما شاء، فإن كان نسيباً وتأتى له أن يجعله مديحاً فليفعل، وكذلك غيره من الأنواع ؛ وإذا أراد الحل بالمعنى فلتكن ألفاظه مناسبةً لألفاظ البيت المحلول غير قاصرة عنها، فمتى قصرت عنها ولو بلفظة واحدة فسد ذلك الحل وعدّ معيباً، وإذا حلّ باللفظ فلا يتصرف بتقديم ولا تأخير ولا تبديل إلا مع مراعاة نظام الفصاحة في ذلك، واجتناب ما ينقص المعنى ويحط رتبته ؛ وهذا الباب لا تنحصر المقاصد فيه، ولا حجر على المتصرف فيه. قال: ومما وقع التصرف فيه بزيادة على المعنى قول ضياء الدين بن الأثير الجزري في ذكر العصا التي يتوكأ عليها الشيخ الكبير: وهذه لمبتدأ ضعفي خير، ولقوس ظهري وتر، وإذا كان إلقاؤها دليلاً على الإقامة فإن حملها دليل على السفر. والمحلول في ذلك قول بعضهم:كأنني قوس رامٍ وهي لي وتروقول الآخر:
فألقت عصاها واستقرت بها النوى
كما قر عيناً بالإياب المسافر
وأما ما يحتاج فيه إلى مؤاخاة القرينة المحلولة بمثلها أو ما يناسبها فكما قال المولى شهاب الدين محمود في تقليد:فكم مل ضوء الصبح مما يغيره، وظلام النقع مما يثيره، وحديد الهند مما يلاطمه والأجل مما يسابقه إلى قبض الأرواح ويزاحمه. والقرينتان الأوليان نصفا بيتين للمتنبي، فأضاف إلى كل قرينة ما يناسبها، وهذا من أكثر ما يستعمل في الكتابة، ولا ينبغي للكاتب أن يعتمد في جميع كاتبه على الحل، فيتكل خاطره على ذلك، ويذهب رونق الطبع السليم، وتقل مادة الانسجام، بل يكون استعمال ذلك كاستعمال البديع إذا أتى عفواً من غير تكلف ليكون كالشاهد على صحة الكلام، والدال على الاطلاع، وكالرقم في الثوب، والشذرة في القلادة والواسطة في العقد، إذ لا ينبغي للكاتب أن يخلى كلامه من نوع من أنواع المحاسن. ويقرب من هذا النوع التلميح، وقد تقدم ذكره في بعض أبواب البديع، والذي يقع في بعض استعماله في مثل ذلك مثل قول الحريري: وإني والله لطالما لقيت الشتاء بكافاته، وأعددت الأهبة له قبل موافاته.يشير إلى بيتي ابن سكرة:جاء الشتاء وعندي من حوائجهوهي مشهورة. فإذا عرف الكاتب هذه العلوم، وأتى الصناعة من هذه الأبواب تعين عليه أمور أخر نذكرها الآن.