نهاية الأرب في فنون الأدب/خروج مريم وعيسى إلى مصر
خروج مريم وعيسى إلى مصر
وما ظهر له من المعجزات في مسيره ومدة مقامه إلى أن عادقال الله تعالى: 'وجعلنا ابن مريم وأمه آية وآويناهما إلى ربوة ذات قرار ومعين'.اختلف العلماء في الربوة فقال عبد الله بن سلام: هي دمشق.وقال أبو هريرة: هي الرملة.وقال قتادة وكعب: هي بيت المقدس.وقال كعب: هي أقرب الأرض إلى السماء.وقال أبو زيد: هي مصر.وقال الضحاك: هي غوطة دمشق.وقال أبو العالية: هي أيلة.وقال بعض المفسرين: هي قرية من قرى مصر تسمى سدمنت.وسدمنت: بلد من بلاد إقليم الفيوم معروفة مشهورة.وقوله تعالى: 'ذات قرار ومعين' القرار: الأرض المستوية.والمعين: الماء الظاهر.وكان سبب خروج مريم إلى مصر ما حكاه الكسائي وغيره من أهل السير قالوا: وبلغ الملك هيرودس خبر عيسى فهم بقتل مريم وابنها، فخاف زكريا والمؤمنون عليهما من القتل، وذلك بعد مولد عيسى بأيام قلائل، فقال زكريا لمريم: إني أخاف عليك وعلى ابنك من هذا الملك، وأمر يوسف النجار أن ينقلهما إلى أرض مصر، وأعطاهما أتانا وزودهم، فسار يوسف بهما نحو مصر. وكان من المعجزات التي ظهرت على يد عيسى - ع - في مسيره ومقامه بمصر أنه بينما هم سائرون إلى أرض مصر رأى يوسف النجار في بعض الطريق أسداً ففزع منه، فقال عيسى: قرباني إلى الأسد ولا تقرباه أنتم، فقربوه ؛ فلما صار بين يدي الأسد قال عيسى: أيها الوحش، ما وقوفك على قارعة الطريق ؟ قال: لثور يمر علي لا بدل لي منه.قال عيسى: هذا الثور لقوم مساكين ليس لهم سواءه، ولكن انطلق إلى برية كذا وكذا، فإنك سترى جملاً ميتاً فكله، واترك هذا الثور لأصحابه، فمضى الأسد نحو الميتة وتركهم.والله أعلم بالصواب. معجزة أخرى:قال: ثم ساروا، فرأوا قوماً قد اجتمعوا بالقرب من دار ملك من الملوك.فقال لهم عيسى: ما وقوفكم هاهنا ؟.قالوا: امض أيها الصبي لشأنك.قال: أتحبون أن أخبركم بوقوفكم ؟ قالوا نعم.قال: إنكم تريدون دخول هذا الدار إذا جن الليل فتأخذون مال هذا الملك، فلا تفعلوا فإنه مؤمن، ودلهم على كنز وقال: إنه كان لقوم ماتوا، فسار أولئك إليه واقتسموا منه مالاً عظيماً. معجزة أخرى:قال: ثم ساروا حتى دخلوا قرية عامرة وقد اجتمع الناس على باب ملكها ومعهم صنم من حجر وهم يبكون ويسجدون لذلك الصنم.فقال عيسى: ما شأنكم أيها القوم ؟ فقالوا: إن امرأة هذا الملك قد عسر عليها وضع الولد، وقد أمرنا الملك أن نسجد لهذا الصنم ونسأله أن يخفف عنها ما هي فيه.قال عيسى: اذهبوا إلى الملك وقولوا له: لو وضعت يدي على بطنها يخرج الولد عاجلاً.فأخبروا الملك فقال: ائتوني به، فأدخلت مريم وعيسى على الملك، فعجب من نطقه وهو صغير، وأدخل على المرأة، فقال عيسى: إن أخبرتك بما في بطنها وخرج كما أقول أتؤمن بربي الذي خلقني من روحه ؟.قال نعم.قال عيسى: في بطنها غلام على خده خال أسود، وعلى ظهره شامة بيضاء، ثم وضع يده على بطن المرأة وقال: أيها الجنين، بالذي خلق الخلق وأسبغ عليهم سعة الرزق اخرج.فخرج الولد على ما وصفه عيسى فهم الملك أن يؤمن، فقال وزراؤه: إن هذه المرأة ساحرة، وهذا الصبي مثلها، وقد طردوهما من بيت المقدس، ولم يزالوا به حتى ردوه عن الإيمان.فأرسل الله تعالى على الملك وقومه صاعقة فأهلكتهم.ثم مضى يوسف بها حتى دخلوا مصر، ونزلت مريم دار دهقان هناك، ولم يكن لها ما تعيش منه إلا الغزل، فكانت تغزل الكتان والصوف بالأجرة لأهل مصر، ويوسف يحتطب ويبع الحطب مدة ليس لهم رزق إلا من ذلك. معجزة أخرى:قال الثعلبي قال وهب: كان أول آية رآها الناس من عيسى أن أمه كانت نازلة في دار دهقان من أهل مصر أنزلها به يوسف النجار حين ذهب بها إلى مصر وكانت داره يأوي إليها المساكين، فسرق للدهقان مال من خزانته فلم يتهم المساكين، فحزنت مريم لمصيبة الدهقان.فلما رأى عيسى حزن أمه بمصيبة صاحب ضيافتها قال لها: يا أماه، أتحبين أن أدله على ماله ؟ قالت: نعم يا بني.قال: قولي له يجمع لي مساكين داره.فقالت مريم ذلك للدهقان، فجمع له المساكين.فلما اجتمعوا عمد إلى رجلين منهم أحدهما أعمى والآخر مقعد، فحمل المقعد على عاتق الأعمى وقال له: قم به.فقال الأعمى: أنا أضعف من ذلك.فقال عيسى: وكيف قويت على ذلك البارحة !.فلما سمعوه يقول ذلك ضربوا الأعمى حتى قام.فلما استقل قائماً هو المقعد إلى كوة الخزانة.فقال عيسى - ع -: هكذا احتالا على مالك البارحة، لأن الأعمى استعان بقوته والمقعد بعينيه.فقال المقعد والأعمى: صدق، فردا على الدهقان ماله.فقال الدهقان لمريم: خذي نصف المال.فقالت: إني لم أخلق لهذا.قال: فأعطه ابنك.قالت: هو أعظم مني شأناً.والله أعلم بالصواب. معجزة أخرى:قال: ثم لم يلبث الدهقان أن أعرس ابناً له، فصنع له عيداً فجمع عليه أهل.مصر وكان يطعمهم شهرين.فلما انقضى ذلك زاره قوم من أهل الشام ولم يعلم الدهقان بهم حتى نزلوا به وليس عنده يومئذ شراب.فلما رأى عيسى اهتمامه بذلك دخل بيتاً من بيوت الدهقان فيه جرار، فأمر عيسى يده على أفواهها وهو يمشي، فكلما مر بيده على جرة امتلأت شراباً حتى أتى على آخرها، وهو يومئذ ابن اثنتي عشرة سنة. معجزة أخرى:قال: وبينا عيسى يلعب مع الصبيان بأرض مصر، إذ وثب غلام منهم على غلام آخر فقتله.فجاء أهله وتعلقوا بجميع الصبيان وفيهم عيسى وأتوا بهم إلى القاضي.فقال القاضي: من قتل هذا ؟ قالوا: هذا، وأشاروا إلى عيسى.فقال له القاضي: لم قتلت هذا الغلام ؟ قال: أراك حاكماً جاهلاً، كان يجب أن تسألني: أقتلته أم لا ! قال القاضي: أراك ذا عقل، فما اسمك ؟ قال عيسى بن مريم.قال: يا عيسى، لم قتلته ؟ قال: يا جاهل، أبهذا أمرتك ؟ ثم دنا عيسى من الغلام وقال: قم بإذن الله الذي يحيى العظام وهي رميم، فاستوى جالساً وقال له: من قتلك ؟ قال: قتلني فلان بن فلان، وهذا عيسى بن مريم بريء من دمي.فعجب الناس من ذلك وقتلوا قاتل الغلام، وأخذت مريم بيد عيسى وانطلقت. معجزة أخرى:قال: وأتت به أمه إلى معلم ليعلمه، فقال: إن ربي قد أغناني عن تعليم المعلمين وقد علمني التوارة والإنجيل.قالت: صدقت، ولكن تكون عند معلم خير من أن تلعب مع الصبيان.فأتت به إلى معلم يعلمه، فعلمه عيسى.قال الثعلبي: وروى محمد الباقر رحمه الله قال: لما ولد عيسى - ع - كان ابن يوم كأنه ابن شهر، فلما كان ابن تسعة أشهر أخذت والدته بيده وجاءت به إلى كتاب وأقعدته بين يدي المؤدب.فقال له المؤدب: قل: 'بسم الله الرحمن الرحيم' فقالها عيسى - ع -.فقال المؤدب: قل: أبجد، فرفع عيسى رأسه وقال للمؤدب: هل تدري ما أبجد ؟ فعلاه ليضربه.فقال: يا مؤدب، لا تضربني، إن كنت تدري وإلا فسلني حتى أفسر لك.فقال: فسره لي.فقال عيسى - ع -: الهاء هي جهنم وهي الهاوية، والواو ويل لأهل النار، والزاي زفير جهنم.حطى، حطت الخطايا عن المستغفرين.كلمن، كلام الله غير مخلوق لا مبدل لكماته.سعفص، صاع بصاع والجزاء بالجزاء.قرشت تقرشهم حين تحشرهم، أي تجمعهم.فقال المؤدب لأمه: أيتها المرأة، خذي بيد ابنك فقد علم ولا حاجة له إلى مؤدب.وقال سعيد بن جبير: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: 'إن عيسى - ع - أرسلته أمه إلى الكتاب ليتعلم، فقال له المعلم قل بسم الله الرحمن الرحيم فقال وما باسم الله.قال لا أدري.قال الباء بهاء الله والسين سناء الله والميم مملكته'.والله أعلم الموفق. معجزة أخرى:قال الكسائي: وانطلقت به أمه إلى صباغ ليعلمه صنعة الصباغة.فأخذه الصباغ وأمره أن يملأ التيغارات من تيغار كبير، وناوله أصباغاً وأمره أن يجعل في كل تيغار صبغاً، وأن يصبغ الثياب في تلك التيغارات على اختلاف ألوانها، وفارقه الصباغ وخرج إلى منزله.فعمدعيسى إلى تيغار واحد وملأه ماء وأخذ جميع تلك الأصباغ فجعلها فيه.ووضع جميع تلك الثياب فيه وانصرف إلى أمه.فلما كان من الغد جاء الصباغ إلى الحانوت فنظر إلى ما فعله عيسى، فقال له: يا عيسى أهلكتني وأفسدت ثياب الناس.قال عيسى: يا صباغ، ما دينك ؟ قال: دين اليهود.قال: قل: لا إله إلا الله وأني عيسى روح الله، وأدخل يدك في هذا التيغار وأخرج كل ثوب على ما تريد.فآمن الصباغ بالله وبعيسى - ع - وأدخل يده فأخرج كل ثوب على ما أراده أصحابه.قال: وظهر لعيسى بمصر معجزات كثيرة. ذكر خبر زكريا - ع -