داود يقتل جالوت
قال الله تعالى: 'ولما برزوا لجالوت وجنوده قالوا ربنا أفرغ علينا صبراً وثبت أقدامنا وأنصرنا على القوم الكافرين فهزموهم بإذن الله وقتل داود جالوت'. قال أبو إسحاق الثعلبي رحمه الله: قال المفسرون بألفاظ مختلفة ومعان متفقة: عبر النهر مع طالوت إيش أبو داود في ثلاثة عشر ابناً له، وكان داود أصغرهم، فأتاه ذات يوم فقال: يا أبتاه، ما أرمي بقذافتي شيئاً إلا صرعته.فقال: أبشر يا بني فإن الله عز وجل جعل رزقك في قذافتك ؛ ثم أتاه مرة أخرى فقال: يا أبتاه، لقد دخلت بين الجبال فوجدت أسداً رابضاً، فركبته وأخذت بأذنيه فلم يهجني، فقال: أبشر يا بني فإن هذا خير يريده الله بك.ثم أتاه يوماً آخر فقال: يا أبتاه، إني لأمشي بين الجبال فأسبح فما يبقى جبل، إلا سبح معي.فقال: أبشر يا بني فإن هذا خير أعطاكه الله عز وجل. قالوا: فأرسل جالوت إلى طالوت، أن ابرز إلي أو أبرز إلي من يقاتلني، فإن قتلني فلكم ملكي، وإن قتلته فلي ملككم.فشق ذلك على طالوت، فنادى في عسكره: من قتل جالوت زوجته ابنتي وناصفته ملكي.فهاب الناس جالوت فلم يجبه أحد ؛ فسأل طالوت نبيهم - ع - أن يدعو، فدعا الله عز وجل في ذلك، فأتى بقرن فيه دهن القدس، وتنور من حديد، فقيل له: إن صاحبكم الذي يقتل جالوت هو الذي يوضع هذا القرن على رأسه فيغلى الدهن ثم يدهن به رأسه ولا يسيل على وجهه، يكون على رأسه كهيئة الإكليل، ويدخل في هذا التنور فيملأه لا يتقلقل فيه ؛ فدعا طالوت بني إسرائيل، فجربهم فلم يوافقه منهم أحد، فأوحى الله عز وجل إلى نبيهم أن في ولد إيش من يقتل الله به جالوت، فدعا طالوت إيش وقال له: اعرض على بنيك.فأخرج له اثني عشر رجلاً أمثال السواري، وفيهم رجل فارع عليهم ؛ فجعل يعرضهم على القرن فلا يرى شيئاً، فيقول لذلك الجسيم: ارجع فيردده على التنور.فأوحى الله عز وجل إليه: إنا لا نأخذ الرجال على صورهم، ولكنا نأخذهم على صلاح قلوبهم.فقال لإيش هل بقي لك ولد غيرهم ؟ فقال لا.فقال النبي: رب إنه زعم أن لا ولد له غيرهم.فقال كذب.فقال النبي: إن ربي كذبك.قال: صدق الله يا نبي الله، إن لي ابناً صغيراً يقال له داود استحييت أن يراه الناس لقصر قامته وحقارته، فخلفته في الغنم يرعاها وهو في شعب كذا.وكان داود - ع - رجلاً قصيراً مسقاماً مصفاراً أزرق أشقر.فدعاه طالوت.ويقال: بل خرج طالوت إليه فوجد الوادي قد حال بينه وبين الزريبة التي كان يريح إليها، فوجده يحمل شاتين شاتين فيجيزهما السيل ولا يخوض بهما الماء ؛ فلما رآه أشمويل قال: هذا هو لا شك فيه، هذا يرحم البهائم فهو بالناس أرحم.فدعاه ووضع القرن على رأسه ففاض ؛ فقال له طالوت: هل لك أن تقتل جالوت وأزوجك ابنتي وأجري حكمك في ملكي ؟ قال نعم.قال: وهل أنست من نفسك شيئاً لتقوى به على قتله ؟ قال: نعم، أنا أرعى فيجئ الأسد أو النمر أو الذئب فيأخذ شاة فأقوم له فأفتح لحييه عنها وأخرقهما إلى قفاه.فرده إلى عسكره ؛ فمر داود - ع - في الطريق بحجر فناداه: يا داود، احملني فإني حجر هارون الذي قتل بي ملك كذا، فحمله في مخلاته.ثم مر بحجر آخر فناداه: يا داود، احملني فإني حجر موسى - ع - الذي قتل به ملك كذا وكذا، فحمله في مخلاته.ثم مر بحجر آخر فقال: احملني فإني حجرك الذي تقتل به جالوت، وقد خبأني الله لك، فوضعه في مخلاته، فلما تصافوا للقتال وبرز جالوت وسأل المبارزة، انتدب له داود، فأعطاه طالوت فرساً ودرعاً وسلاحاً، فلبس السلاح وركب الفرس، وسار قريباً، ثم انصرف فرجع إلى الملك، فقال من حوله: جبن الغلام.فجاء فوقف على الملك فقال: ما شأنك ؟ إن الله عز وجل إن لم ينصرني لم يغن عني هذا السلاح شيئاً، فدعني أقاتل كما أريد.قال نعم.فأخذ داود مخلاته فتقلدها، وأخذ المقلاع ومضى نحو جالوت، وكان جالوت من أشد الناس وأقواهم ؛ وكان يهزم الجيوش وحده، وكان له بيضة فيها ثلاثمائة من حديدا، فلما نظر إلى داود ألقى في قلبه الرعب، فقال له: أنت تبرز لي ؟ قال نعم - وكان جالوت على فرس أبلق، عليه السلاح التام - قال: تأتيني بالمقلاع والحجر كما يؤتى الكلب ؟ قال: نعم، لأنت شر من الكلب.قال: لا جرم لأقسمن لحمك بين سباع الأرض وطير السماء.فقال داود: باسم الله ويقسم الله لحمك.وقال: بسم إله إبراهيم، وأخرج حجراً، ثم أخرج الآخر وقال: باسم إله إسحاق، ووضعه في مقلاعه، ثم أخرج الثالث وقال: باسم إله يعقوب،، ووضعه في مقلاعه، فصارت كلها حجراً واحداً، ودور المقلاع ورماه به، فسخر الله تعالى له الريح حتى أصاب الحجر أنف البيضة وخالط دماغه فخرج من قفاه، وقتل من ورائه ثلاثين رجلاً، وهزم الله تعالى الجيش وخر جالوت قتيلاً، فأخذه داود فجره حتى ألقاه بين يدي طالوت. وقال الكسائي في هذه القصة: كان مع طالوت سبعة إخوة لداود، وكان داود عند أبيه وهو صغير، فقال له أبوه: قد أبطأ على خبر إخوتك مع طالوت، فاحمل إليهم طعاماً وتعرف لي خبرهم.فمضى داود ومعه مخلاة له فيها الطعام، وقد شد وسطه بمقلاع ؛ فبينا هو يسير إذ ناداه حجر من الأرض: خذني فأنا حجر أبيك إبراهيم.فأخذه ؛ ثم ناداه حجر آخر خذني فأنا حجر أبيك إسحاق.فأخذه، ثم ناداه حجر آخر: خذني فأنا حجر أبيك يعقوب.فأخذه وسار حتى أتى العسكر، فنزل على إخوته، فلما كان من الغد تهيأ الجيشان للمحاربة، فقال طالوت: أيها الناس، من كفاني منكم أمر جالوت زوجته ابنتي، وأشركته في ملكي، وجعلته خليفتي من بعدي.فلم يجبه أحد إلا داود ؛ فخلع عليه وأركبه وطاف به في معسكره ؛ فلما كان من الغد ركبوا، وأقبل جالوت بجيوشه وهو على فيل، وكان طوله ثمانية عشر ذراعاً، وطول داود عشرة أذرع، فقال المؤمنون: 'ربنا أفرغ علينا صبراً' الآية. فبرز جالوت بين الصفين فبرز له داود، فقال له جالوت: إنك صغير ولا سلاح معك فارجع، فأبى ذلك، وأخذ تلك الأحجار فوضعها في مقلاعه ورمى بها، فوقع أحدها بميمنة جالوت فهزمها، والثاني في الميسرة فانهزموا، والثالث وقع على أنف بيضة جالوت فخرج من قفاه، فسقط جالوت ميتاً، وانهزم أصحابه. قالوا: ولما قتل داود جالوت ذكر الناس داود وعظم في أنفسهم، فجاء إلى طالوت وقال له: أنجز لي ما وعدتني، وأعطني امرأتي.فقال له طالوت: أتريد ابنة الملك بغير صداق، عجل صداق ابنتي وشأنك بها.فقال له داود: ما شرطت علي صداقاً، وليس لي شيء، فتحكم في الصداق ما شئت وأقرضني مهرها وعلي الأداء والوفاء لك.فقال طالوت: أصدقها نصيبك من الملك.فقالت بنو إسرائيل: لا تظلمه وأنجز له ما وعدته به. فلما رأى طالوت ميل بني إسرائيل إلى داود وحسن رأيهم فيه قال: لا حاجة لابنتي في المال، ولا أكلفك إلا ما تطيق، أنت رجل جريء، وفي جبالنا أعداء من المشركين غلف فانطلق وجاهدهم، فإذا قتلت منهم مائتي رجل وجئتني برءوسهم زوجتك ابنتي.فأتاهم داود، وجعل كلما قتل منهم رجل احتز رأسه ونظمه في خيط حتى نظم رءوسهم فجاء بها إلى طالوت، فألقاها إليه وقال: ادفع إلي امرأتي، فزوجه ابنته وأجرى خاتمه في ملكه، فمال الناس إلى داود وأحبوه وأكثروا من ذكره، فوجد طالوت من ذلك في نفسه وحسده وأراد قتله. قال وهب بن منبه: وكانت الملوك يومئذ يتوكأون على عصى فيغرزون في أطرافها أزجة من حديد، وكان بيد طالوت منها واحدة، في رأسها رمانة من ذهب وأسفلها زج من حديد، وداود جالس قريباً منه في ناحية البيت، فرماه بها بغته ليقتله بها، فلما أحس داود بذلك حاد عن طريقها، وأمال نفسه عنها من غير أن يبرح من موضعه، فارتكزت في الجدار، فقال له داود: عمدت إلى قتلي ؟ قال طالوت: لا، ولكن أردت أن أقف على ثباتك في الطعان وربط جأشك للأقران.قال داود: فألفيته على ما قدرته في ؟ قال: نعم، ولعلك فزعت.قال: معاذ الله أن أخاف إلا الله تعالى وأرجوا إلا الله، و لا يدفع الشر إلا الله.فانتزعها من الجدار ثم هزها هزة منكرة وقال له: 'ثبت كما ثبت لك فأيقن طالوت بالهلاك ؛ فقال له: أنشدك الله والحرمة التي بيني وبينك إلا ما صفحت ؛ فقال داود: إن الله تعالى كتب في التوراة أن أجر السيئة مثلها، واحدة بواحدة والبادي أظلم ؛ فقال طالوت: ألا تقول قول هابيل لأخيه قابيل: 'لئن بسطت إلي يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك إني أخاف الله رب العالمين'.قال داود: قد عفوت عنك لوجه الله تعالى. فلبث طالوت زمناً يريد قتل داود، فعزم على أن يأتيه ويغتاله في داره، فأخبر بذلك بنت طالوت رجل يقال له: ذو العينين، فقالت لداود.إنك مقتول الليلة ؛ قال: ومن يقتلني ؟ قالت: أبي، وأخبرته الخبر وقالت: لا عليك أن تغيب الليلة حتى تنظر مصداق ذلك.فأخذ داود زق خمر فوضعه في مضجعه على السرير وسجاه ودخل تحت السرير ودخل طالوت نصف الليل، فعمد إليه فضربه ضربة بالسيف فسالت الخمر، فلما وجد ريحها قال: رحم الله داود، ما كان أكثر شربه للخمر، وخرج، فلما أصبح علم أنه لم يصنع شيئاً، فقال: إن رجلاً طلبت منه ما طلبت لخليق ألا يدعني حتى يطلب مني ثأره ؛ فاشتد حجابه وحراسه وأغلق دونه الأبواب، فأتاه داود ليلة وقد هدأت العيون وأعمى الله الحجاب عنه وفتح له الأبواب، ودخل عليه وهو نائم على فراشه فوضع سهماً عند رأسه وسهماً عند رجليه وسهماً عن يمينه وسهماً عن شماله ثم خرج.فلما استيقظ طالوت بصر بالسهام فعرفها، فقال: رحم الله داود فهو خير مني، ظفرت به فقصدت قتله، وظفر بي فكف عني، لو شاء لوضع هذا السهم في حلقي وما أنا بالذي آمنه.فلما كانت الليلة القابلة أتاه ثانية، وأعمى الله الحجاب، فدخل وهو نائم، فأخذ إبريق طالوت الذي كان يتوضأ به وكوزه الذي يشرب منه، وقطع شعرات من لحيته وشيئاً من هدب ثيابه، ثم خرج وهرب وتوارى ؛ فلما أصبح ورأى ذلك نصب على داود العيون وطلبه أشد الطلب فلم يقدر عليه، ثم ركب طالوت يوماً فوجد داود يمشي في البرية فقال: اليوم أقتل داود، وكان داود إذا فر لم يدرك، فركض داود حتى دخل غار، فأمر الله العنكبوت أن تنسج، فنسجت عليه بيتاً، وجاء طالوت إلى الغار فنظر إلى بيت العنكبوت فقال: لو كان هاهنا لخرق بيت العنكبوت، فتركه ومضى، وانطلق داود إلى الجبل ومعه المتعبدون، فجعل يتعبد فيه. وطعن العلماء والعباد على طالوت في شأن داود، فجعل طالوت لا ينهاه أحد عن داود إلا قتله.وأغرى بقتل العلماء، فلم يكن يقدر في بني إسرائيل على عالم ويطيق قتله إلا قتله ولم يكن طالوت يحارب جيشاً إلا هزمه، حتى أتى بامرأة تعلم اسم الله الأعظم، فأمر جباره بقتلها، فرحمها الجبار وقال: لعلنا نحتاج إلى عالم فتركها. ثم وقع في قلب طالوت التوبة، وندم على ما فعل، وأقبل على البكاء حتى رحمه الناس، وكان كل ليلة يخرج إلى القبور ويبكي وينادي: أنشد الله عبداً يعلم لي التوبة إلا أخبرني.فلما كثر عليهم بكاؤه ناداه مناد من قبر: يا طالوت، أما ترضى أنك قتلتنا حتى تؤذينا أمواتاً، فازداد بكاء وحزناً، فقال له الجبار: مالك أيها الملك ؟ قال: هل تعلم لي في الأرض عالماً أسأله ؟ هل لي من توبة ؟ قال الجبار: هل تدري ما مثلك ؟ إنما مثلك مثل ملك نزل قرية عشاء، فصاح ديك فتطير به، فقال: لا تتركوا في هذه القرية ديكاً إلا ذبحتموه.فلما أراد أن ينام قال لأصحابه: إذا صاح الديك فأيقظونا حتى ندلج.فقالوا له: وهل تركت ديكاً يسمع صوته ؟ وأنت هل تركت في الأرض عالماً ؟ ! فازداد طالوت حزناً وبكاء ؛ فلما رأى الجبار ذلك قال له: أرأيتك إن دللتك على عالم لعلك أن تقتله ؟ قال لا.فتوثق منه الجبار وأخبره أن المرأة العالمة عنده ؛ قال: فانطلق بي إليها حتى أسألها هل لي من توبة ؟ - وكان إنما يعلم ذلك أهل بيت لهم علم بالاسم الأعظم - فلما بلغ طالوت الباب قال له الجبار: إنها إن رأتك فزعت، فخلفه خلفه، ثم دخل عليها فقال لها: ألست أعظم عليك حرمة، أنجيتك من القتلى وآويتك عندي ؟ قالت بلى.قال: فإن لي إليك حاجة.قالت: وما هي ؟ قال: هذا طالوت يسأل هل له من توبة ؟ فقالت: لا والله ما لطالوت من توبة، ولكن هل تعلمون مكان قبر أشمويل ؟ قال نعم.قالت: فانطلقوا بي إلى قبره، ففعلوا، فصلت ثم نادت: يا صاحب القبر أخرج.فخرج أشمويل من قبره ينفض رأسه من التراب.فلما نظر إليهم ثلاثتهم.المرأة والجبار وطالوت قال: ما لكم ! أقامت القيامة ؟ قالت: لا، ولكن طالوت يسألك هل له من توبة ؟ قال أشمويل: يا طالوت، ما فعلت بعدي ؟ قال: لم أدع من الشر شيئاً إلا فعلته، وقد جئت أطلب التوبة.قال: كم لك من الولد ؟ قال: عشرة رجال.قال: ما أعلم لك من توبة إلا أن تتخلى عن مالك وتخرج أنت وولدك في سبيل الله، ثم تقدم ولدك حتى يقتلوا بين يديك، ثم تقاتل أنت حتى تقتل آخرهم.ثم رجع أشمويل إلى القبر وسقط ميتاً، ورجع طالوت أحزن ما كان، رهبة ألا يتابعه أولاده، وقد بكى حتى سقطت أشفار عينيه، ونحل جسمه.فدخل عليه أولاده فقال لهم: أرأيتم لو دفعت إلى النار هل كنتم تنقذونني ؟ قالوا: بلى، ننقذك بما قدرنا عليه.قال: فإنها النار إن لم تفعلوا ما أقول.قالوا: فاعرض علينا، فذكر لهم القصة.قالوا: فإنك لمقتول ؟ ! قال نعم.قالوا: فلا خير لنا في الحياة بعدك، قد طابت أنفسنا بالذي سألت.فتجهز للغزو بماله وولده، فتقدم ولده فقاتلوا بين يديه حتى قتلوا ؛ ثم تقدم فقاتل بعدهم حتى قتل.فجاء قاتله إلى داود يبشره وقال: قد قتلت عدوك.فقال داود: ما أنت بالذي تحيا بعده.فضرب عنقه. وحكى الكسائي: أن طالوت لما حسد داود على ما أوتى من القوة، وهم بالغدر مراراً فلم يظفر به وظفر به داود فأبقى عليه، اعتذر له طالوت واتفقا ؛ ثم مات أشمويل، فانضم بنو إسرائيل إلى داود واختلفوا على طالوت وحاربوه ؛ فاستقل داود بالملك، وجاهد ببني إسرائيل وقهر الأعداء.والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب. وما خصه الله عز وجل بههو داود بن إيش بن عويل بن باعد بن سلمون بن يحسون بن عمى بن مارب ابن أرم بن حصرون بن فارص بن يهوذا بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم الخليل عليهم السلام قال الله تعالى: 'يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض' قال الكسائي: لما مات أشمويل تفرق بنو إسرائيل واشتغلوا باللهو، فبعث الله تعالى داود - ع - وأعطاه سبعين سطراً من الزبور، وأعطاه حسن الصوت، فكان إذا سبح سبحت الجبال معه والطير والوحش ؛ قال الله تعالى: 'إنا سخرنا الجبال معه يسبحن بالعشي والإشراق، والطير محشورة كل له أواب' أي مطيع. وقال أبو إسحاق الثعلبي: قالت العلماء بأخبار الأنبياء: لما استشهد طالوت أتى بنو إسرائيل إلى داود فأعطوه خزانة طالوت وملكوه على أنفسهم، وذلك بعد قتل جالوت بسبع سنين، ولم يجتمع بنو إسرائيل بعد يوشع بن نون على ملك واحد إلا على داود - ع -. قال: وخص الله تعالى نبيه داود بحصائص:منها: أنه أنزل عليه الزبور بالعبرانية خمسين ومائة سورة، في خمسين منها ما يكون من بختنصر وأهل بابل ؛ وفي خمسين ما يكون من أهل إبرون، وفي خمسين منها موعظة وحكمة ؛ ولم يكن فيها حلال ولا حرام، ولا حدود ولا أحكام ؛ وذلك قوله تعالى: 'وآتينا داود زبوراً'. ومنها: الصوت الطيب، والنغمة اللذيذة، والترجيع في الألحان ؛ ولم يعط الله تعالى أحداً من خلقه مثل صوته، فكان يقرأ الزبور بسبعين لحناً بحيث يعرى المحموم ويفيق المغشى عليه. وكان إذا قرأ الزبور برز إلى البرية، فيقوم ويقرأ ويقوم معه علماء بني إسرائيل خلفه، ويقوم الناس خلف العلماء، وتقوم الجن خلف الناس، وتقوم الشياطين خلف الجن، وتدنو الوحوش والسباع حتى تؤخذ بأعناقها، وتظله الطير مصيخة، ويركد الماء الجاري ويسكن الريح. قال الثعلبي: وما صنعت المزامير والبرابط والصنوج إلا على صوته، وذلك أن إبليس حسده واشتد عليه أمره، فقال لعفاريته: ترون ما دهاكم ؟ فقالوا: مرنا بما شئت.قال: فإنه لا يصرف الناس عن داود إلا ما يضاده ويحاده في مثل حاله.فهيأ المزامير والأعواد والأوتار والملاهي على أجناس أصوات داود - ع - فسمعها سفهاء الناس فمالوا إليها واغتروا بها. ومنها: تسبيح الجبال والطير معه ؛ قال الله تعالى: 'ولقد آتينا داود منا فضلاً يا جبال أوبي معه والطير'.وقوله تعالى: 'إنا سخرنا الجبال معه يسبحن بالعشي والإشراق'.يقال: إن داود كان إذا تخلل الجبال يسبح الله تعالى جعلت الجبال تجاوبه بالتسبيح نحو ما يسبح.ثم قال في نفسه ليلة من الليالي: لأعبدن الله عبادة لم يعبد مثلها، فصعد الجبل، فلما كان في جوف الليل وهو على جبل داخلته وحشة، فأوحى الله إلى الجبال: أن آنسي داود، فاصطكت الجبال بالتسبيح والتهليل.فقال داود في نفسه: كيف يسمع صوتي مع هذه الأصوات ؟ فهبط عليه ملك وأخذ بعضده حتى انتهى به إلى البحر، فوكزه برجله فانفرج له البحر، فانتهى إلى الأرض فوكزها برجله فانفجرت له الأرض، حتى انتهى إلى الحوت فوكزه برجله، فانتهى إلى الصخرة، فوكز الصخرة برجله، فانفلقت فخرجت منها دودة تنش، فقال: إن الله تعالى يسمع نشيش هذه الدودة في هذا الموضع.قال ابن عباس رضي الله عنهما: كان داود يفهم تسبيح الحجر والشجر والمدر. ومنها: أن الله تعالى أكرمه بالحكم وفصل الخطاب.قالوا: والحكمة: الإصابة في الأمور.واختلفوا في فصل الخطاب، قال ابن عباس رضي الله عنهما: بيان الكلام.وقال ابن مسعود والحسن: المعنى علم الحكم والنظر في القضاء، كان لا يتتعتع في القضاء بين الناس.وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: هو البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه.وقال كعب: الشهود والأيمان.وقال الشعبي: سمعت زياداً يقول: فصل الخطاب الذي أعطى داود: أما بعد.قال الأستاذ: وهو أول من قالها. ومنها: السلسلة التي أعطاه الله إياها، ليعرف المحق من المبطل في المحاكمة إليه.قال الثعلبي: روى الضحاك عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: إن الله تعالى أعطى داود سلسلة موصولة بالمجرة والفلك، ورأسها عند محراب داود حيث يتحاكم إليه، وكانت قوتها قوة الحديد، ولونها لون النار، وحلقها مستديرة، مفصلة بالجوهر، مدسرة بقضبان اللؤلؤ الرطب، فلا يحدث في الهواء حدث إلا صلصلت السلسلة، فيعلم داود ذلك الحدث ؛ ولا يلمسها ذو عاهة إلا برئ، وكان علامة دخول قومه في الدين أن يمسوها بأيديهم ويمسحوا بأكفهم على صدورهم.وكانوا يتحاكمون إليه، فمن تعدى على صاحبه أو أنكره حقاً أتوا السلسلة، فمن كان صادقاً محقاً مد يده إلى السلسة فنالها، ومن كان كاذباً ظالماً لم ينلها ؛ فكانت كذلك إلى أن ظهر فيهم المكر والخديعة. قال: فبلغنا أن بعض ملوكهم أودع رجلاً جوهرة ثمينة، فلما استردها منه أنكره ذلك، فتحاكما إلى السلسلة، فعلم الذي كانت عنده الجوهرة أن يده لا تنال السلسلة، فعمد إلى عكازة فنقرها ثم ضمنها الجوهرة واعتمد عليها حتى حضر معه غريمه عند السلسلة، فقال لصاحبها: ما أعرف لك من وديعة، إن كنت صادقاً فتناول السلسلة، فتناولها بيده وقال لمنكر: قم أنت أيضاً فتناولها، فقال لصاحب الجوهرة: إلزم عكازتي هذه حتى أتناول السلسلة.فأخذها وقام الرجل وقال: اللهم إن كنت تعلم أن هذه الوديعة التي يدعيها علي قد وصلت إليه فقرب مني السلسلة.فمد يده وتناولها، فشك القوم وتعجبوا، فأصبحوا وقد رفع الله تلك السلسلة. وقال الكسائي في خبر السلسلة: أوحى الله تعالى إلى داود أن ينصب السلسلة من حديد ويعلق فيها جرساً، ففعل ذلك، وساق في خبرها نحو ما تقدم في أمر المحق والمبطل. قال: وجاء خصمان فادعى أحدهما على الآخر أنه أودعه جوهراً ؛ فاعترف به وقال: أعدته إليه، فتقام المدعي وتناول السلسلة فدنت منه حتى تناولها، ثم قال للمدعى عليه: تناولها.وكان قد أخذ الوديعة فجعلها في قناة مجوفة، فناولها للمدعي وقال: الزم عصاي هذه، ومد يده إلى السلسلة فدنت منه حتى كاد يتناولها ؛ ثم ارتفعت وتدلت إليه مراراً، ثم تناولها، فقال داود للمدعي: لعل هذا قد سلم وديعتك لأهلك.فرجع وسأل أهله، فقالوا: ما دفع إلينا شيئاً.فعاد وأعلم داود، فأخذ داود القناة وشقها، فطلعت الوديعة منها ؛ وارتفعت السلسلة من ذلك اليوم. قال الثعلبي: وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه إذا اشتبه عليه أمر الخصمين قال: ما أحوجكما إلى سلسلة بني إسرائيل ؟ كانت تأخذ بعنق الظالم فتجره إلى الحق جراً.والله أعلم بالصواب. ومنها: القوة في العبادة وشدة الاجتهاد ؛ قال الله تعالى: 'واذكر عبدنا داود ذا الأيد'، أي القوة في العبادة 'إنه أواب' أي تواب مطيع مسبح. وكان داود يقوم الليل، ويصوم يوماً ويفطر يوماً، وما مرت ساعة من الليل إلا وفيها من آل داود قائم يصلي، ولا يوم من الأيام إلا وفيه منهم صائم. ومنها: قوة المملكة.قال الله تعالى: 'وشددنا ملكه' أي قويناه، وقرأ الحسن: وشدّدنا ملكه بالتشديد.قال ابن عباس: كان أشد ملوك الأرض سلطاناً ؛ كان يحرس محرابه كل ليلة ثلاثة وثلاثون ألف رجل.وقال السدي: كان يحرسه في كل يوم وليلة أربعة آلاف. وروى عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رجلاً من بني إسرائيل استعدى على رجل من عظمائهم عند داود ؛ فقال المستعدي: إن هذا قد غصبني بقرى.فسأل داود الرجل فجحده، وسأل الآخر البينة فلم تكن له بينة، فقال لهما داود: قوما حتى أنظر في أمركما.فقاما من عنده، فأوحى الله تعالى إلى داود في منامه أن يقتل الذي استعدى عليه، فقال: هذه رؤيا ولست أعجل حتى أتبين فأوحى الله تعالى إليه مرة ثانية أن يقتله فقال: هذه رؤيا، فأوحى الله تعالى إليه مرة ثالثة أن يقتله أو تأتيه العقوبة من الله.فأرسل داود إلى الرجل فقال: إن الله تعالى قد أوحى إلي أن أقتلك.فقال: تقتلني بغير بينة ولا تثبت ؟.فقال نعم، والله لأنفذن أمر الله فيك.فلما عرف الرجل أنه قاتله قال: لا تعجل حتى أخبرك.إني والله ما أخذت بهذا الذنب، ولكني كنت اغتلت والد هذا فقتلته.فأمر به داود فقتل، فاشتد هيبته عند بني إسرائيل واشتد ملكه. ويقال: كان لداود إذا جلس للحكم عن يمينه ألف رجل من الأنبياء، وعن يساره ألف رجل من الأحبار. ومنها: شدة البطش.فروى أنه ما فر ولا انحاز من عدو له قط، ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح عن داود - ع -: 'كان يصوم يوماً ويفطر يوماً'. ومنها: إلانة الحديد له.قال الله تعالى: 'وألنا له الحديد أن اعمل سابغات وقدر في السرد'.قالوا: وكان سبب ذلك أن داود - ع - لما ملك أمر بني إسرائيل، كان من عادته أن يخرج للناس متنكراً، فإذا رأى رجلاً لا يعرفه تقدم إليه وسأله، فيقول له: ما تقول في داود واليكم هذا ؟ أي رجل هو ؟ فيثنون عليه ويقولون خيراً ؛ فبينما هو ذات يوم إذ قيض الله له ملكاً في صورة آدمي، فتقدم داود إليه فسأله على عادته، فقال له: نعم الرجل هو لولا خصلة فيه.فراع داود ذلك، فقال: ما هي يا عبد الله ؟ قال: إنه يأكل ويطعم عياله من بيت المال، قال: فتنبه داود لذلك، وسأله الله تعالى أن يسبب له سبباً يستغني به عن بيت المال، فألان الله له الحديد، فصار في يده مثل الشمع والعجين والطين المبلول، فكان يصرفه بيده كيف شاء من غير إدخال نار ولا ضرب بحديد. وعلمه الله تعالى صنعة الدروع فهو أول من اتخذها وكانت قبل ذلك صفائح وقيل: إنه كان يبيع كل درع منها بأربعة آلاف، فيأكل ويطعم عياله ويتصدق منها على الفقراء والمساكين، وذلك قوله تعالى: 'وعلمناه صنعة لبوس لكم' الآية.وقوله: 'وألنا له الحديد أن اعمل سابغات' أي دروعاً كوامل واسعات 'وقدر في السرد'، أي لا تجعل المسامير دقاقاً فتنفلق، ولا غلاظ فتكسر الحلق، فكان يفعل ذلك حتى جمع منه مالاً. وروى أن لقمان الحكيم رأى داود وهو يعمل الدروع، فعجب من ذلك ولم يدر ما هو ؟ فأراد أن يسأله، فسكت حتى فرغ داود من نسج الدروع، فقام وصبها على نفسه وقال: نعم القميص هذا للرجل المحارب.فعلم لقمان ما يراد به، فقال: الصمت حكمة وقليل فاعله.والله أعلم.