قتل مصعب بن الزبير
واستيلاء عبد الملك على العراقوفي جمادي الآخرة سنة إحدى وسبعين كان م بن العوام واستيلاء عبد الملك على العراق ؛ وسبب ذلك أن عبد الملك بن مروان لما قتل عمروا بن سعيد كما تقدم وضع السيف على من خالفه، فصفا له الشام، فلما لم يبق له بالشام مخالف أجمع المسير إلى مصعب بن الزبير بالعراق، فاستشار أصحابه في ذلك، فأشار عليه عمه يحيى بن الحكم أن يقنع بالشام ويترك ابن الزبير والعراق، فكان عبد الملك يقول: من أراد صواب الرأي فليخالف يحيى.وأشار بعضهم أن يؤخر السير هذا العام، وأشار محمد بن مروان أن يقيم ويبعث بعض أهله، ويمده بالجنود.فأبى إلا المسير.فلما عزم على المسير ودع زوجته عاتكة بنت يزيد بن معاوية، فبكت فبكى جواريها لبكائها، فقال: قاتل الله كثير عزة، لكأنه يشاهدنا حين يقول:
إذا ما أراد الغزو لم يثن همه
حصان عليها عقد در يزينها
نهته فلما لم تر النهى عاقه
بكت فبكى مما عناها قطينها
وسار عبد الملك نحو العراق، فلما بلغ مصعب بن الزبير مسيره وهو بالبصرة أرسل إلى المهلب بن أبي صفرة وهو يقاتل الخوارج يستشيره.وقيل: بل أحضره إليه، فقال لمصعب: اعلم أن أهل العراق قد كاتبوا عبد الملك وكاتبهم فلا تبعدني عنك. فقال له مصعب: إن أهل البصرة قد أبوا أن يسيروا حتى أجعلك على قتال الخوارج، وهم قد بلغوا سوق الأهواز، وأنا أكره إذ سار عبد الملك إلي ألا أسير إليه، فاكفني هذا الثغر. فعاد إليهم، وسار مصعب إلى الكوفة ومعه الأحنف فتوفي الأحنف بالكوفة، وأحضر مصعب إبراهيم بن الأشتر، وكان على الموصل والجزيرة، فجعله على مقدمته، وسار حتى نزل باجميرا قريب أوانا فعسكر هناك، وسار عبد الملك حتى نزل بمسكن على فرسخين أو ثلاثة من عسكر مصعب. وكتب عبد الملك إلى أهل العراق من كاتبه ومن لم يكاتبه، فجميعهم طلب أصفهان طعمة، وأخفوا جميعهم كتبهم عن مصعب إلا ابن الأشتر فإنه أحضر كتابه مختوماً إلى مصعب، فقرأه فإذا هو يدعوه إلى نفسه، ويجعل له ولاية العراق.فقال له مصعب: أتدري ما فيه ؟ قال: لا، قال: إنه يعرض عليك كذا وكذا، وإن هذا لما يرغب فيه.فقال إبراهيم: ما كنت لأتقلد الغدر والخيانة، والله ما عند عبد الملك من أحد من الناس بايأس منه منى، ولقد كتب إلى جميع أصحابك مثل الذي كتب إلي، فأطعني واضرب أعناقهم.فقال: إذاً لا تناصحني عشائرهم. قال: فأوقرهم حديداً، وابعث بهم إلى أبيض كسرى، واحبسهم هنالك، ووكل بهم من إن غلبت وتفرقت عشائرهم عنك ضرب رقابهم، وإن ظهرت مننت على عشائرهم بإطلاقهم.فقال: إني لفي شغل عن ذلك. ولما قرب العسكران بعث عبد الملك إلى مصعب يقول: دع الدعاء لأخيك، وأدع الدعاء إلى نفسي، ونجعل الأمر شورى.فأبى مصعب إلا السيف. فقدم عبد الملك أخاه محمداً.وقدم المصعب إبراهيم بن الأشتر، فالتقيا، فتناوش الفريقان، فقتل صاحب لواء محمد، وجعل مصعب يمد إبراهيم، فأزال محمد بن مروان عن موقفه، فوجه عبد الملك عبد الله بن يزيد إلى أخيه محمد، فاشتد القتال، فقتل مسلم بن عمرو الباهلي والد قتيبة، وهو في أصحاب مصعب، وأمد مصعب إبراهيم بعتاب بن ورقاء ؛ فساء ذلك إبراهيم، واسترجع، وقال: قد قلت له: لا يمدني بعتاب وضربائه.وكان عتاب قد كاتب عبد الملك وبايعه، فانهزم عتاب بالناس وصبر ابن الأشتر، وقاتل حتى قتل، قتله عبيد بن ميسرة مولى بني عذرة، وحمل رأسه إلى عبد الملك. وتقدم أهل الشام فقاتلهم مصعب، وقال لقطن بن عبد الله الحارثي: قدم خيلك أبا عثمان.فقال: أكره أن تقتل مذحج في غير شيء.فقال لحجار بن أبجر: أبا أسيد: قدم خيلك.فقال: إلى هؤلاء الأنتان ! قال: ما نتأخر إليه أنتن. وقال لمحمد بن عبد الرحمن بن سعيد: قدم خيلك.فقال: ما فعل أحد هذا فأفعله.فقال مصعب: يا إبراهيم، ولا إبراهيم لي اليوم ! ثم التفت فرأى عروة بن المغيرة بن شعبة فاستدناه، فقال له: أخبرني عن الحسين بن علي كيف صنع بامتناعه عن النزول على حكم ابن زياد وعزمه على الحرب ؟ فأخبره، فقال:
إن الألى بالطف من آل هاشم
تأسوا فسنوا للكرام التأسيا
ثم دنا محمد بن مروان من مصعب، وناداه: أنا ابن عمك محمد ابن مروان، فاقبل أمان أمير المؤمنين.قال: أمير المؤمنين بمكة، يعنى أخاه عبد الله.قال: فإن القوم خاذلوك، فأبى ما عرض عليه. فنادى محمد عيسى بن مصعب إليه، فقال له مصعب: انظر ما يريد، فدنا منه، فقال له: إني لك ولأبيك ناصح، ولكما الأمان.فرجع إلى أبيه فأخبره.فقال: إني أظن القوم يفون لك، فإن أحببت أن تأتيهم، فافعل.قال: لا تتحدث نساء قريش أني خذلتك، ورغبت بنفسي عنك.قال: فاذهب أنت ومن معك إلى عمك بمكة، فأخبره بما صنع أهل العراق ودعني فإني مقتول.فقال: لا أخبر قريشا عنك أبداً، ولكن يا أبت الحق بالبصرة فإنهم على الطاعة، أو الحق بأمير المؤمنين.فقال مصعب: لا تتحدث قريش أني فررت. وقال لابنه عيسى: تقدم إذاً أحتسبك.فتقدم ومعه ناس، فقتل، وقتلوا، وجاء رجل من أهل الشام ليحتز رأس عيسى، فحمل عليه مصعب فقتله، وشد على الناس فانفرجوا له، وعاد، ثم حمل ثانية فانفرجوا له، وبذل له عبد الملك الأمان، وقال: إنه يعز علي أن تقتل، فاقبل أماني.ولك حكمك في المال والعمل، فأبى، فقال عبد الملك: هذا والله كما قال القائل:
ومدجج كره الكماة نزاله
لا ممعن هرباً ولا مستسلم
ودخل مصعب سرادقه فتحنط ورمى السرداق، وخرج فقاتل، فأتاه عبيد الله بن زياد بن ظبيان فدعاه إلى المبارزة فقال: يا كلب، اغرب، مثلي يبارز مثلك ! وحمل عليه مصعب فضربه على البيضة فهشمها وجرحه، فذهب يعصب رأسه، وترك الناس مصعباً وخذلوه حتى بقي في سبعة أنفس، وأثخن بالرمي، وكثرت فيه الجراحات، فعاد إليه عبيد الله بن زياد بن ظبيان فضربه مصعب، فلم يصنع شيئاً لضعفه، وضربه ابن ظبيان فقتله.وقيل: بل نظر إليه زائدة بن قدامة الثقفي فحمل عليه، فطعنه فقال: يالثارات المختار ! فصرعه وأخذ عبيد الله بن زياد رأسه وحمله إلى عبد الملك، فألقاه بين يديه وأنشد:
نعاطى الملوك الحق ما قسطوا لنا
وليس علينا قتلهم بمحرم
فلما رأى عبد الملك الرأس سجد، فقال ابن ظبيان: لقد هممت أن أقتل عبد الملك وهو ساجد فأكون قد قتلت ملكي العرب، وأرحت الناس منهما، وفي ذلك يقول:
هممت ولم أفعل وكدت وليتني
فعلت فأدمنت البكا لأقاربه
فأوردتها في النار بكر بن وائل
وألحقت من قد خر شكراً بصاحبه
وقال عبد الملك: لقد هممت أن أقتل ابن ظبيان فأكون قد قتلت أفتك الناس بأشجع الناس. وأمر عبد الملك لابن ظبيان بألف دينار، فقال: لم أقتله على طاعتك، وإنما قتلته بأخي النابي بن زياد، ولم يأخذ منها شيئاً.وكان النابي قد قطع الطريق فقتله مطرف الباهلي صاحب شرطة مصعب. وكان قتل مصعب بدير فقتله مطرف الباهلي صاحب شرطة مصعب. وكان قتل مصعب بدير الجاثليق عند نهر دجيل، وأمر عبد الملك به وبابنه عيسى فدفنا، وقال: كانت الحرمة بيننا وبينه قديمة، ولكن هذا الملك عقيم. قال: ثم دعا عبد الملك جند العراق إلى البيعة فبايعوه، وسار حتى دخل الكوفة، فأقام بالنخيلة أربعين يوماً، وخطب الناس بالكوفة، فوعد المحسن وتوعد المسىء، وقال: إن الجامعة التي وضعت في عنق عمرو بن سعيد عندي، ووالله لا أضعها في عنق رجل فأنتزعها إلا صعدا لا أفكها عنه فكا، فلا يبقين امرؤ إلا على نفسه، ولا يوبقني دمه.والسلام. قال عبد الملك بن عمير: كنت مع عبد الملك بقصر الكوفة حين جىء برأس مصعب فوضعت بين يديه، فرآني قد ارتعدت، فقال لي: مالك ؟ فقلت: أعيذك بالله يا أمير المؤمنين ! كنت بهذا القصر بهذا الموضع مع عبيد الله بن زياد فرأيت رأس الحسين رضي الله عنه بين يديه، ثم كنت فيه مع المختار بن أبي عبيد فرأيت رأس عبيد الله بن زياد بين يديه، ثم رأيت رأس مصعب فيه بين يديك.فقام عبد الملك من مقامه ذلك، وأمر بهدم ذلك الطاق الذي كنا فيه، وقال عبد الملك ابن مروان: متى تخلف قريش مثل المصعب ! ثم قال: هذا سيد شباب قريش.فقيل له: أكان يشرب الطلا ؟ فقال: لو علم المصعب أن الماء يفسد مروءته ما شربه حتى يموت عطشا. قال: وبعث عبد الملك برأس مصعب إلى أخيه عبد العزيز بن مروان بمصر، فلما رآه وقد قطع السيف أنفه قال: رحمك الله، أما والله لقد كنت من أحسنهم خلقا، وأشدهم بأساً، وأسخاهم نفساً. ثم سيره إلى الشام فنصب بدمشق، وأرادوا أن يطوفوا به في نواحي الشام، فأخذته عاتكة بنت يزيد بن معاوية زوجة عبد الملك بن مروان، فغسلته وطيبته ودفنته، وقالت: أما رضيتم بما صنعتم حتى تطوفوا به المدن ! هذا بغي. وكان عمر مصعب حين قتل ستا وثلاثين سنة. ولما بلغ عبد الله بن خازم مسير مصعب لقتال عبد الملك قال: أمعه عمر بن عبيد الله بن معمر ؟قيل: لا، استعمله على فارس.قال: أمعه المهلب ؟ قيل: لا، استعمله على الخوارج.قال: أمعه عباد بن الحصين ؟ قيل: لا، استخلفه على البصرة.قال: وأنا بخراسان.وأنشد:
خذيني فجريني جعار وأبشري
بلحم امرىء لم يشهد اليوم ناصره
قال: ولما قتل مصعب كان المهلب يحارب الأزارقة بسولاف ثمانية أشهر، فبلغ الأزارقة قتله قبل أن يبلغ المهلب، فصاحوا بأصحاب المهلب: ما قولكم في مصعب ؟ قالوا: أمير هدى ؛ وهو ولينا في الدنيا والآخرة، ونحن أولياؤه.قالوا: فما قولكم في عبد الملك بن مروان ! قالوا: ذلك ابن اللعين، نحن نبرأ إلى الله منه، وهو عندنا حل دماً منكم.قالوا: فإن عبد الملك قتل مصعباً، وسيجعلون غداً عبد الملك إمامكم. فلما كان الغد سمع المهلب وأصحابه قتل مصعب، فبايع المهلب الناس لعبد الملك، فصاح بهم الخوارج: يا أعداء الله، ما تقولون في مصعب ؟ قالوا: يا أعداء الله لا نخبركم.وكرهوا أن يكذبوا أنفسهم.قالوا: فما قولكم في عبد الملك ؟ قالوا: خليفتنا.ولم يجدوا بداً إذ بايعوه أن يقولوا ذلك.قالوا: يا أعداء الله ؛ أنتم بالأمس تتبرءون منه في الدنيا والآخرة، وهو اليوم إمامكم، وقد قتل أميركم الذي كنتم تتولونه، فأيهما المهتدي ؟ وأيهما المبطل ؟ قالوا: يا أعداء الله، رضينا بذاك إذ كان يتولى أمرنا ونرضى بهذا.قالوا: لا، والله، ولكنكم إخوان الشياطين وعبيد الدنيا. فال: ولم يف عبد الملك لأحد بأصبهان، واستعمل قطن بن عبد الله الحارثي على الكوفة، ثم عزله، واستعمل أخاه بشر بن مروان.واستعمل محمد بن عمير على همذان، ويزيد بن ورقاء بن رويم على الري، واستعمل خالد بن عبد الله بن خالد بن أسيد على البصرة.وعاد إلى الشام.