قصة برصيصا
روى أبو إسحاق أحمد بن محمد الثعلبي بسند يرفعه إلى ابن عباس، رضى الله عنهما، في قوله تعالى: 'كمثل الشيطان إذ قال للإنسان آكفر' الآية.قال: كان راهب في الفترة يقال له برصيصا، قد تعبد في صومعة له سبعين سنة، لم يعص الله فيها طرفة عين، وإن إبليس أعياه في أمره الحيل، فلم يستطع له بشئ، فجمع ذات يوم مردة الشياطين، فقال: ألا أحد منكم يكفينى أمر برصيصا ؟ فقال الأبيض، وهو صاحب الأنبياء، وهو الذي تصدى لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وجاءه في صورة جبريل ليوسوس إليه على وجه الوحى، فجاء جبريل حتى دخل بينهما، فدفعه بيده دفعة هينة، فوقع من دفعة جبريل إلى أقصى الهند.فقال الأبيض لإبليس: أنا أكفيك.فانطلق فتزين بزينة الرهبان، وحلق وسط رأسه، ثم مضى حتى أتى صومعة برصيصا، فناداه، فلم يجبه برصيصا، وكان لا ينفتل عن صلاته إلا في عشرة أيام، ولا يفطر إلا في عشرة أيام، فكان يواصل الصوم الأيام العشرة والعشرين والأكثر، فلما رأى الأبيض أنه لايجيبه أقبل على العبادة في أصل صومعته، فلما آنفتل برصيصا اطلع من صومعته، فرأى الأبيض قائما منتصبا يصلى في هيئة حسنة من هيئة الرهبان.فلما رأى ذلك من حاله تدبر في نفسه حين لهى عنه فلم يجبه، فقال له: إنك ناديتنى وكنت مشغولا عنك، فحاجتك ؟ قال: حاجتى أني أحببت أن أكون معك فأنادب بك، واقتبس من علمك، ويجتمع على العبادة، فتدعو لي وأدعو لك ؛ قال: إني لفى شغل عنك، فإن كنت مؤمنا فإن الله عز وجل سيجعل لك فيما أدعوه للمؤمنين والمؤمنات نصيبا إن آستجاب لي. ثم أقبل على صلاته وترك الأبيض، فأقبل الأبيض يصلى، فلم يلتفت إليه برصيصا أربعين يوما بعدها، فلما انفتل رآه قائما يصلى، فلما رأى برصيصا شدة اجتهاده، وكثر تضرعه وابتهاله إلى الله عز وجل كلمة، وقال له: حاجتك ؟ قال: حاجتى أن تأذن لي فأرتفع إليك.فأذن له، فارتفع في صومعته، فأقام الأبيض معه حولا يتعبد، لا يفطر الا في كل أربعين يوما ولا ينفتل عن صلاته إلا في كل أربعين يوما مرة، وربما مد إلى الثمانين ؛ فلما رأى برصيصا اجتهاده تقاصرت إليه نفسه، وأعجبه شأنه، فلما حال الحول قال الأبيض لبرصيصا: إني منطلق، فإن لي صاحبا غيرك، ظننت أنك أشد اجتهادا مما أرى، وكان يبلغنا عنك غير الذي رأيت.قال: فدخل على برصيصا أمر عظيم، وكره مفارقته للذي رأى من شدة آجتهاده، فلما ودعه قال له الأبيض: إن عندى دعوات أعلمكها تدعو بهن، فهن خير لك مما أنت فيه، يشفى الله بها السقيم، ويعافى بها المبتلى والمجنون ؛ قال برصيصا: انى أكره هذه المنزلة، لأن لي في نفسى شغلا، وإنى أخاف إن علم بهذا الناس شغلونى عن العبادة ؛ فلم يزل به الأبيض حتى علمه.ثم انطلق حتى أتى إبليس فقال: قد والله أهلكت الرجل.قال: فانطلق الأبيض فتعرض لرجل فخنقه، ثم جاءه في صورة رجل متطبب، فقال لأهله: إن بصاحبكم جنونا فاعالجه ؟ فقالوا: نعم ؛ فقال لهم: إني لا أقوى على جنيته، ولكنى سأرشدكم إلى من يدعو الله فيعافى ؛ فقالوا له: دلنا.قال: انطلقوا إلى برصيصا، فإن عنده اسم الذي إذا دعى به أجاب.قال: فانطلقوا إليه فسألوه ذلك، فدعا بتلك الكلمات فذهب عنه الشيطان.وكان يفعل الأبيض بالناس مثل هذا الذي فعل بالرجل، ثم يرشدهم إلى برصيصا فيدعو لهم فيعافون.قال: فانطلق الأبيض فتعرض لجارية من بنات الملوك بين ثلاثة إخواة، وكان أبوهم ملكا فمات فاستخلف أخاه، وكان عمها ملك بنى إسرائيل، فعذبها وخنقها، ثم جاء إليهم ف صورة رجل متطبب، فقال لهم: أعالجها ؟ قالوا: نعم.فعالجها فقال: إن الذي عرض لها مارد لا يطاق، ولكن سأرشدكم إلى رجل تثقون به تدعونها عنده، فإذا جاء شيطانها دعا لها، حتى تعلموا أنها قد عوفيت وتردونها صحيحة، قد ذهب عنها شيطانها ؛ قالوا: ومن هو ؟ قال: برصيصا ؛ قالوا: وكيف لنا أن يقبلها منا ويجيبنا إلى هذا ؟ هو أعظم شأنا من ذلك.قال: انطلقوا وابتنوا صومعة إلى جانب صومعته حتى تشرفوا عليه، ولتكن هذه الصومعة التي تبنون لزيقة صومعته، فإن قبلها و إلا تضعونها في صومعتها، ثم قولوا له: هي أمانة عندك، فاحتسب فيها.قال: فانطلقوا إليه فسألوه ذلك، فأبى عليهم، فبنوا صومعة على ما أمرهم الأبيض، ثم اطلعوا عليه ووضعوا الجارية في صومعتها، وقالوا له: يا برصيصا، هذه أختنا قد عرض لها عدو من أعداء الله، فهي أمانة عندك فاحتسب فيها.ثم انصرفوا، فلما انفتل برصيصا عن صلاته عاين تلك الجارية وما بها من الجمال، فأسقط في يده، ودخل عليه أمر عظيم، قال: فجاءها الشيطان فخنقها ؛ فلما رأى برصيصا ذلك انفتل عن صلاته، فدعا بتلك الدعوات، فذهب عنها الشيطان، ثم أقبل على صلاته، ثم جاءها الشيطان فخنقها، وكان يكشف عن نفسها ويتعرض بها لبرصيصا، وجاءه الشيطان، فقال: ويحك ! واقعها فلن تجد مثلها، فستتوب بعد، فتدرك ما تريد من الأمر الذي تريد ؛ فلم يزل به حتى واقعها، فا فترشها، فلم يزل على ذلك يأتيها حتى حملت وظهر حملها، فقال له الشيطان: ويحك ! قد افتضحت، فهل لك أن تقتل هذه وتتوب ؟ فإن سألوك فقل: جاء شيطانها فذهب بها ولم أقو عليه.قال: ففعل.فقتلها ثم انطلق بها فدفنها إلى جانب الجبل، فجاءه الشيطان وهو يدفنها ليلا فأخذ بطرف إزارها، فبقى طرف إزارها خارج التراب، ثم رجع برصيصا إلى صومعته وأقبل على صلاته، فجاء إخوتها يتعاهدون أختهم، وكانوا يجيئون في بعض الأيام يسألون عنها، ويطلبون إلى برصيصا ويوصونه بها، فقالوا: يا برصيصا، ما فعلت أختنا ؟ قال: جاء شيطانها فذهب بها ولم أطقه.قال: فصدقوه وآنصرفوا.فلما أمسوا وهم مكروبون، جاء الشيطان إلى كبيرهم في المنام، فقال ويحك ! إن برصيصا فعل بأختك كذا وكذا، وإنه دفنها في موضع كذا وكذا من جبل كذا وكذا.فقال الأخ: هذا حلم وهو من عمل الشيطان، برصيصا خير من ذلك.قال: فتتابع عليه ثلاث ليال فلم يكترث، فآنطلق إلى الأوسط بمثل ذلك، فقال الأوسط مثلما قال الأكبر، فلم يخبر به أحدا، فآنطلق إلى أصغرهم بمثل ذلك، فقال أصغرهم لإخوته: والله لقد رأيت كذا وكذا.فقال الأوسط: وأنا والله لقد رأيت مثله.وقال الأكبر: وأنا والله لقد رأيت كذا وكذا، فآنطلقوا بنا إلى برصيصا ؛ فأتوه، فقالوا: يا برصيصا، ما فعلت أختنا ؟ قال: أليس قد أعلمتكم بحالها وحال شيطانها ! فكأنكم اتهمتموني.فقالوا: لا والله لا نتهمك.فا ستحيوا منه وآنصرفوا عنه، فجاءهم الشيطان فقال، ويحكم ! إنها لمدفونة في موضع كذا، وإن طرف إزارها خارج من التراب.قال: فآ نطلقوا فرأوا أختهم على ما رأوا في نومهم، قال: فمشوا في مواليهم، ومواليهم معهم الفؤس والمساحى، فهدموا صومعته وأنزلوه ثم كتفوه وآنطلقوا به إلى الملك، فأقر على نفسه ؛ وذلك أن الشيطان أتاه فقال: تقتلها ثم تكابر، يجتمع عليك أمر ان قتل ومكابرة، اعترف.فلما اعترف أمر الملك بقتله وصلبه على خشبة، فلما صلب أتاه الأبيض عيانا، وذلك أن إبليس لعنه الله، قال للابيض: ومايغنى عنك ما صنعت ؟ إن قتل فهو كفارة لما كان منه.فقال الأبيض: أنا أكفيكه.فأتاه فقال: يا برصيصا، أتعرفنى ؟ قال: لا.قال: أنا صاحبك الذي علمك الدعوات فا ستجيب لك، ويحك ! أما اتقيت الله في أمانة خنت أهلها، وأنك أعبد بنى إسرائيل ! أما راقبت الله في دينك ! فلم يزل بعيره ويوبخه، ثم قال له في آخر ذلك: ألم يكفك ما صنعت حتى أقررت على نفسك وفضحك أشباهك من الناس ! فإن مت على هذه الحال لم يفلح أحد من نظرائك بعدك.قال: فكيف أصنع ؟ قال: تطيعني في خطة واحدة حتى أنجيك مما أنت فيه، وآخذ بأعينهم، وأخرجك من مكانك. قال: وما هي ؟ قال: تسجد لي.قال: أفعل.فسجد له، فقال: يا برصيصا، هذا الذي أردت منك، صارت عاقبة أمرك إلى أن كفرت بربك، إني برئ منك، إني أخاف الله رب العالمين. يقول الله تعالى: فكان عاقبتهما يعنى الشيطان وذلك اإنسان. 'أنهما في النار خالدين فيها وذلك جزاء الظالمين.'قال أبن عباس رضى الله عنهما: فضرب الله هذا المثل ليهود بنى النضير والمنافقين من أهل المدينة، وذلك أن الله تعالى أمر نبيه صلى الله عليه وسلم، أن يحل بنى النضير من المدينة، فدس المنافقون إليهم فقالوا: لا تجيبوا محمدا إلى ما دعاكم ولا تخرجوا من دياركم، فإن قاتلكم كنا معكم، وإن آخرجتم خرجنا معكم. قال: فأطاعوكم ؛ فدربوا على حصونهم وتحصنوا في ديارهم رجاء نصر المنافقين حتى جاءهم النبى صلى الله عليه وسلم، فناصبوه الحرب، يرجون نصر المنافقين، فخذلوهم وتبرءوا منهم كما تبرأ الشيطان من برصيصا وخذله. قوله تعالى: 'يأيها الذين أمنوا آتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد وآتقوا الله إن الله خبير بما تفعلون' قوله: آتقوا الله أي في أداء فرائضه واجتناب معاصيه ولتنظر نفس ما قدمت لغد يعنى يوم القيامة. قوله: 'ولاتكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم أولئك هم الفاسقون' نسوا الله أي نسوا حق الله وتركوا أوامره فأنساهم أنفسهم يعنى حظ أنفسهم أن يقدموا لها خبرا أولئك هم الفاسقون.لا يستوى أصحاب النار وأصحاب الجنة أصحاب الجنة هم الفائزون. فقد أتينا - أكرمك الله - على تفسير ما أنزل من القرآن في شأن بنى النضير مما يتعلق بشرح أخبارهم خاصة على حكم الآختصار، ولم نتعرض إلى ما سوى ذلك من التفسير.