نهاية الأرب في فنون الأدب/من المراثي والنوادب

من موسوعة الأدب العربي
اذهب إلى:تصفح، ابحث

من المراثي والنوادب

ولنبدأ من ذلك بما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبشيءٍ مما قيل عند وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم.فمن ذلك ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم وفاة ولده إبراهيم عليه السلام: 'يا إبراهيم لو لا أنه أمرٌ حقٌ ووعدٌ صدقٌ وأن آخرنا سيلحق أولنا لحزنا عليك حزناً هو أشد من هذا وإنا بك يا إبراهيم لمحزونون تبكي العين ويحزن القلب ولا نقول ما يسخط الرب'.ذكره الجواني النسابة في شجرة الأنساب، وذكره غيره مختصراً. ومنه ما روي أن فاطمة رضي الله عنها وقفت على قبره صلى الله عليه وسلم وقالت:

إنا فقدناك فقد الأرض وابلها

وغاب مذ غبت عنا الوحي والكتب

فليت قبلك كان الموت صادفنا

لما نعيت وحالت دونك الكثب

ووقف على رضى الله عنه على قبره صلى الله عليه وسلم ساعة دفن وقال: الصبر لجميلٌ إلا عنك، وإن الجزع لقبيحٌ إلا عليك، وإن المصاب بك لجليل، وإنه قبلك وبعدك لجلل.وقد ألم الشعراء بهذا المعنى، فقال إبراهيم بن إسماعيل في علي ابن موسى الرضا:

إن الرزية يا ابن موسى لم تدع

في العين بعدك للمصائب مدمعا

والصبر يحمد في المواطن كلها

والصبر أن نبكي علبك ونجزعا

ووفق أعرابيٌ على قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: قلت فقبلنا، وأمرت فحفظنا، وقلت عن ربك فسمعنا: 'ولو أنهم إذا ظلموا أنفسهم جاءوك فاستغفروا الله واستغفرهم الرسول لوجدوا الله تواباً رحيماً'، وقد ظلمنا أنفسنا وجئناك فاستغفر لنا، فما بقيت عينٌ إلا سالت. ودخل عمر بن الخطاب على أبي بكرٍ الصديق رضي الله عنهما في مرض موته، فقال: يا خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، لقد كلفت القوم بعدك تعباً، ووليتهم نصباً، فهيهات من شق غبارك ! وكيف باللحاق بك !. وقالت عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها وأبوها يغمض:

وأبيض يستسقى الغمام بوجهه

ثمال اليتامى عصمةٌ للأرامل

فنظر إليها وقال: ذاك رسول الله صلى الله عليه وسلم.ثم أغمي عليه، فقالت:

لعمرك ما يغني الثراء عن الفتى

إذا حشرجت يوماً وضاق بها الصدر

فنظر إليها كالغضبان وقال: قولي: 'وجاءت سكرة الموت بالحق ذلك ما كنت منه تحيد'.ثم قال: انظروا ملاءتي فاغسلوهما وكفنوني فيهما، فإن الحي أحوج إلى الجديد من الميت.ووقفت رضي الله عنها على قبره رضي الله عنه فقالت: نضر الله وجهك، وشكر لك صالح سعيك، فقد كنت للدنيا مذلاً عنها بإدبارك عنها، وكنت للآخرة معزاً بإقبالك عليها، ولئن كان أجل الحوادث بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم رزءك، وأعظم المصائب بعده فقدك، إن كتاب الله ليعد بحسن الصبر فيك وحسن العوض منك، فإنا لنتنجز موعود الله بحسن العزاء عليك، واستعيضه منك بالاستغفار لك.أما لئن كانوا أقاموا بأمور الدنيا لقد قمت بأمر الدين حين وهى شعبه، وتفاقم صدعه، ورجفت جوانبه.فعليك السلام ورحمة الله توديع غير قاليةٍ لك، ولا زاريةٍ على القضاء فيك.ثم انصرفت. ولما قبض رضي الله عنه سجي عليه بالثوب، فارتجت المدينة بالبكاء ودهش القوم كيوم قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجاء علي بن أبي طالبٍ رضي الله عنه باكياً مسرعاً مسترجعاً حتى وقف بالباب وهو يقول: رحمك الله يا أبا بكر، كنت والله أول القوم إسلاماً، وأخلصهم إيماناً، وأشدهم يقيناً، وأعظمهم غناءً، وأحفظهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأحدبهم على الإسلام، وأحناهم على أهله، وأشبههم برسول الله صلى الله عليه وسلم خلقاً وفضلاً وهدياً وسمتاً، فجزاك الله عن الإسلام وعن الرسول الله صلى الله عليه وسلم خيراً، صدقت رسول الله صلى الله عليه وسلم حين كذبه الناس، وواسيته حين بخلوا، وقمت معه حين قعدوا، وأسماك الله في كتابه صديقاً فقال: 'والذي جاء بالصدق وصدق به أولئك هم المتقون'، يريد محمداً ويريدك.كنت والله للإسلام حصناً وعلى الكافرين عذاباً، ولم تفلل حجتك، ولم تضعف بصيرتك، ولم تجبن نفسك.كنت كالجبل الذي لا تحركه العواصف ولا تزيله القواصف.كنت كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ضعيفاً في بدنك، قوياً في أمر الله، متواضعاً في نفسك، عظيماً عند الله جليلاً في الأرض، كبيراً عند المؤمنين.لم يكن لأحدٍ عندك مطمعٌ ولا لأجد عندك هوادة، فالقوي عندك ضعيفٌ حتى تأخذ الحق منه، والضعيف عنك قويٌ حتى تأخذ الحق له.فلا حرمنا الله أجرك، ولا أضلنا بعدك. فانظر إلى هذا الأسلوب العجيب، وتأمل هذا النمط الغريب، الذي جمع بين سلاسة الألفاظ وإيجازها، وإصابة المعنى وإعجازها.ولا يستكثر على من أنزل القرآن بلغتهم، أن يكون هذا القول من بديهتهم. ولنذكر لمعةً من رسائل البلغاء والفضلاء، ولمحةً من أشعار الأدباء والشعراء.فمن ذلك رسالةٌ كتبها الوزير الفقيه الكاتب أبو القاسم محمد بن عبد الله بن الجد، إلى الوزير الفقيه أبي القاسم الهوريني يعزيه عن أخيه، ابتدأها بأن قال:

لابد من فقدٍ ومن فاقدٍ

هيهات ما في الناس من خالد

كن المعزى لا المعزى به

إن كان لا بد من الواحد

إذا لم يكن بدٌ من ترجع الحمام، وتشتت النظام، وانصداع شمل الكرام، فمن الاتفاق السعيد والقدر الحميد أن يرث أعمار البنية الكريمة مشيد علاها، وتسلم من القلادة وسطاها، فمدار الكنانة على معلاها، وفخار الحلبة بمحرز مداها.وفي هذه النبذة إشارةٌ إلى ما فرط من الإخوة النبلاء، ودرج من السادة النجباء، فإنهم وإن كانوا في رتبة الفضل صدوراً، وغدوا في سماء النبل بدوراً، فإن شمس علائك أبهر أضواءً وأزهر أنواراً، وظل جنابك على بنيهم ومخلفيهم أندى آصالاً وأبرد أسحاراً.نعي إلي - أوشك الله سلوانك، ولا أخلى من شخصك الكريم مكانك ! - الوزير أبو فلان، برد الله ثراه، وكرم مثواه، فكأنما طعن ناعيه في كبدي، وظعن باكيه بذخيرة جلدي.لا جرم أني دفعت إلى غمرةٍ من التلدد ولو صدم بها النجم لحار، أو دهم بها الحزم لخار، ثم ثابت إلى نفسي وقد وقذها الجزع، وعضها الوجع، فأطلت الاسترجاع، وجمعت الجلد الشعاع، وها أنا عند الله أحتسبه جماع فضائل، وجمال محافل، وحديقة مكارمٍ صوحت، وصحيفة محاسنٍ درست وانمحت.وما اقتصرت من رسم التعزية المألوف، على القليل المحذوف، فبك يقتدي اللبيب، وعلى مثالك يحتذي الأديب، وإلى غرضك من كل موطنٍ يوفى المصيب، وفي تجافي الأقدار عن حوبائك، وسقوطها دون فنائك، ما يدعوا إلى التعزية.لا صدع الله جمعك، ولا قرع بنبأة المكروه سمعك. ومن إنشاء القاضي الفاضل عبد الرحيم البيساني:ورد الخبر بمصرع فلان الذي عز على المعالي، وعزيت به الليالي، وسقط به نجم الشرف وهوى، وجف به روض الكرم وذوى، ونقصت الأرض من أطرافها، ورجفت الجبال من أعرافها، وبكيت عليه السماء فإن يده كانت من سحبها، وتناثرت له النجوم فإن عزمه كان من شهبها، وأظلمت في عيني الدنيا الظالمة، وتجرعت منها كأساً لا تسيغها النفس كاظمة، وتقسمت الأيام فريقين في مودتي وعداوتي، فآهاً على السفالة ولا مرحباً بالقادمة، وأصبحت أخوض الماء وأحشائي تتقطع غليلاً، وارى الناس كثيراً بعيني وبقلبي قليلاً.

وما الناس في عيني إلا حجارةً

لبينك والأعراس إلا مآتم

فقد استوحشت الدنيا لفقده، وارتابت بنفسها من بعده، وعلمت حلاوة قربه بمرارة بعده، وانصرف ذوو الألباب عن بابه، واجتنبت الآمال مغنى جنابه، وبكت الرياض على آثار سحابه.

فإن يمس وحشاً بابه فلربما

تناطح أفواجاً عليه المواكب

ومن إنشائه رحمه الله تعالى: ما شككت - أطال الله بقائك - حين ورد النعي بالمصائب التي قصمت الظهور بمكروهها، وحسرت فيها الحسرات عن وجوهها، أن السماء على الأرض قد انطبقت، وأن الأيام ما أبقت والسعادة قد أبقت، والحياة لم يبق في طولها طائل، والصبر بهجير اللوعة ظلٌ منسوخٌ زائل، وشمس الفضائل قد غربت وكيف بطلوعها، ونفس المكارم قد نزعت من بين ضلوعها، وغاب الإسلام قد غاب منه أي ليث، ورياض الآمال قد أقلع عن سقياها أي غيثٍ.فإنا لله وإنا إليه راجعون، رضاً بحكمه، وتجلداً علة ما رمى به الحادث من سهمه، وطباً للقلوب على مضض البلاء وكلمه، وفراراً من الجمع بين مصيبة الفاقد وإثمه.وسقى الله ذلك الضريح ما شاء أن يسقيه من سحابٍ كصوب يديه، ورحمه رحمً تحف بجانبيه.وآهاً للماء العذب كيف ارتشفته النوازل وأبقت الملح، ثم آهاً للصباح الطلق كيف اغتالته الأصائل وأطلقت الجنح، ووا أسفا لتلك الذخيرة التي فذلكت بها الأيام ذخائري، والسريرة التي طالما صنتها أن تمر بسرائري، شفقاً عليها من سهام دهرٍ بالذخائر مولعةً، وستراً لها من عين الزمان على السرائر موقعة.ولئن صحب قلبي بعد أضلعي، وتحملت بعد فقده على ظلعي، فإنا غداً على أثره، وإن كنا اليوم على خبره.وقصر الحياة إلى قصور، كما أن محصول غرورها غرور.والتأدب بأدب الله أولى ما خفف به المسلوب عن مناكبه، وطريق السلوان لابد أن يراجعه عزم منكبه.فأنشدها الله إلا جعلت مصيبتها مصيبةً على الشامت بما تلبسه من صبرٍ يلبس عليه المصيبة فيشبهها بنعمة، وبما تستشعره من تجلدٍ في النازلة ينزل عليها صلواتٍ من ربها ورحمة.ولن ترى أعجب من مصابٍ لا ترى به إلا مصاباً، وساكن تربٍ لم يبق بعده إلا من سقى بدمعه تراباً، اشترك فيه الأمتان العرب والعجم، وعزي به العزيزان المجد والكرم، واستباح الدهر به الصيد في الحرم.

وتشابه به الباكون فلم يبن

دمع المحق لنا من المتعمل

وكتب أيضاً في مثل ذلك: أخرت مكاتبة الحضرة - مد الله في عمرها في صبرها وفي أجرها، وألهمها التسليم لحكم من هو غلبٌ على أمرها - إلى أن تنقضي نبوة الخطب، وتضع الأنفاس أوزارها للحرب، ويخرج ماء الجفن نار القلب، وتراجع الخواطر إلى عاداتها، وتنظر في الدنيا التي ما صبحت إلا على عادياتها ومعاداتها، فتكون الحضرة عرفت من غير تعريف، ووقفت على الحزم من غير توقيف، وتوفر عليها الثواب من غير مشاركٍ ورجعت إلى فهمٍ مدركٍ وصوابٍ مدارك.وتأخير التعزية عن البادرة خلاف ما شرع فيه، ولكن إنما يحتاج أن يثبت من صبره هاف، ويرم من تجلده عاف.وقد علم الله اهتمامي واغتنامي بفقد شيخها رحمه الله وعدمها منه من لا عوض منه إلا ثواب الله الذي يهون الوقائع، ويوطن على الروائع.وأسباب التعزية غير واحدة، منها أنه إنما درج في السن التي هي معترك المنايا، ومنها أنه ما خرج عن الدنيا إلى أن رأى منها خلفاً يهون الرزايا، ومنها أنه لقي الله بعملٍ صالحٍ هو بمشيئة الله نجاته، ومنها أنه فارقها على الرضا عنها ويكفيها مرضاته، وعلى الدعاء المقبول لها ونعمت الجنن دعواته.

ولكن للألاف لابد حسرةً

إذا جعلت أقرانها تنقطع

ومنها أن الحزن لو أطيع والحزم لو أضيع لما أفضى إلي مراد، ولا أعاد ميتاً قبل المعاد.وأحق متروك ما يأثم طالبه، ويؤجر مجانبه.

عن الدهر فاصفح إنه غير متعب

وفي غير من قد وارت الترب فاطمع

والحضرة تعلمني من لاحقة رجوعها إلى الله بعد الاسترجاع، ومن تسليم خاطر الحزن إلى حكم الله ما يسر خاطر الاستطلاع، وحسبه - أبقاه الله تعالى - من كل هالك، ولا يجزه المحاسب من فذلك، ومثله من أخذ بعزائم الله فيما هو آخذٌ وتارك.جبر الله مصابه، وعظم ثوابه، وسقى الماضي وروى ترابه، ولا تذهب النفس حسرةً لما شهدت العين ذهابه.

وتخطفته يد الردى في غيبتي

هبني حضرت فكنت ماذا أصنع

ومن إنشاء الشيخ ضياء الدين أحمد بن محمد القرطبي ما كتب به إلى الصاحب شرف الدين الفائزي يعزيه في مملوكٍ توفي له، وكان الصاحب قد جزع لفقده.ابتدأ كتابه بأن قال:

فدىً لك من يقصر عن مداكا

فلا أحدٌ إذا إلا فداكا

إنا لله وإنا إليه راجعون.لقد كان لكم في رسول الله أسوةٌ حسنة، وسنةٌ في الأسى مستحسنة، وإنما الأنفس ودائع مستودعة، وعوارٍ مسترجعة، ومواهب بيد الفناء مستنزعة.

فالعمر نومٌ والمنية يقظةٌ

والمرء بينهما خيالٌ ساري

وما برح ذوو العزمات يتلقون واردات المصائب بصبرهم، وما كان لمؤمنٍ ولا لمؤمنةٍ إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم.وإن يد الله لمليةٌ بفيض المواهب، وفي الله عوضٌ من كل بائنٍ وخلفٌ من كل ذاهب.وإذا سلم مولانا في نفسه وولده، فلا بأس إذا تطرقت يد الردى إلى ملك يده.

فأنت جوهر الأعناق، ما ملكت

كفاك من طارفٍ أو تالد عرض

والحمد لله الذي جعل المصيبة عندك لا بك، والرزية لك لا فيك.

إذا سلمت فكل الناس قد سلموا

وإذا تخطتكما المنية فلها في سواكما الخيار، ولنا القدح المعلى إذا أروي زند هذا الاختيار.ولا بد في مشرع المنية من مفقودٍ وفاقد.

كن المعزى لا المعزى به

إن كان لا بد من الواحد

وهذا فقد وهب الله لمولانا من حيث إنه أخذه منه، وأبقاه من حيث رآه ذاهباً عنه، فهو بالأمس عاريةٌ مردودة، واليوم ذخيرةٌ موجودة، وكان عطيةً مسلوبةً وهو الآن نعمةٌ موهوبة، كنت له وهو الآن لك، وفزت به والسعيد من فاز بما ملك.وهذه دارٌ دواؤها داؤها، وبقاؤها فناؤها، طالبها مطلوب، وسالبها مسلوب، وإن لنا فيمن سلف لعزاء، ولنا برسول الله صلى الله عليه وسلم اقتداء، ولا بد من ورود هذا المشرع، وملاقاة هذا المصرع. ومن إنشاء المولى شهاب الدين محمود الحلبي ما كتب به عن بعض النواب إلى الأمير عز الدين الحموي النائب - كان بدمشق - تعزيةً بولده:أعز الله أنصار المقر الكريم العالي، ولا هدمت له الخطوب ركناً، ولا فجأت له الحوادث حمًى ولا طلبت عليه إذناً، ولا هصرت أيدي الأقدار من عروشه الناضرة غصناً، ولا أذاقته الأيام بعد ما مر أسفاً على من يحب ولا حزناً، ولا سلبه الجزع رداء الصبر الذي لا يخصه بجزيل الأجر وإن شركه في الأسى والأسف كلٌ منا. المملوك يقبل اليد الكريمة، ويهنئ أنه اتصل به النبأ الذي صدع قلبه، وشغل بالبكاء طرفه وبالأسف لسانه وبالحزن لبه، وهو ما قدره الله تعالى من وفاة المولى الأمير ركن الدين عمر - تغمده الله برضوانه - الذي اختار الله له ما لديه، وارتضى له البقاء الدائم على الفاني فنقله إليه، على أن الدين فقد منه ركناً شديداً، ورأياً سديداً، وعزماً وحزماً معيناً مفيداً، وأميراً أردنا أن يعيش سعيداً، فأبى الله إلا أن يموت شهيداً، فإنا لله وإنا إليه راجعون.لقد كان للرجاء في اعتضاد الدولة القاهرة به أي مجال، وللآمال في الانتظار ببأسه ظنونٌ تحقق أن الغلبة للدين دائماً مع أن الحروب سجال، وللمواكب بطلوع طلعته أي إشراق، وللعيون عن مشاهدة كماله وأبهة جلاله أي إغضاءٍ ورأي إطراق.ولله أي بدرٍ هوى من أفق بروجه عن فلك، وأي شمسٍ ما رأته الجواري الكنس إلا قلن: حاش لله ما هذا بشراً إن هذا إلا ملك، وأي حصنٍ كانت منه ثمار الشجاعة تجتنى، وأي أسدٍ براثنه الصوارم وأجماته القنا.لقد فت في عضد الدين مصابه، وأذهب صحة الأنس به وحلاوة وجوده أوصاب فقده وصابه، وكادت الصوارم أن تشق عليه غمودها، والرايات أن تقطع عليه ذوائبها وتغير بنودها، والرماح أن تعرض على النار لتقصف لا لتثقف قدودها، والجياد أن تتعثر للحزن بذيولها، وتعتاض بالنوح عن صهيلها.ولو أنصف لأكنته القلوب في ضمائرها، ولو قبل الفداء لسمحت فيه النفوس بالنفائس ولو كانت الحياة من ذخائرها، أو لو كان الحتف مما يدافع بالجنود تحطمت دونه القنا في دروع عساكرها، ولكنه السبيل الذي لا محيد عن طريقه، والمعرس الذي لابد لكل حيٍ من النزول على فريقه، وهو الغاية التي تستن إليها النفوس استنان الجياد، والحلبة التي كنا نحن وهذا الدارج نركض إليها ولكن السابق كان الجواد، على أن المتأخر لابد له من اللحاق، وماذا عسى يسر البدر بكماله وهو يعلم أن وراءه المحاق ! وفي رسول الله أسوةٌ حسنةٌ لمن كان يعلم أن كل رزءٍ بعده جلل، وإذا انتقل العبد إلى الله تعالى غير مفتونٍ في دينه ولا مثقل الظهر من الأوزار حمد في غدٍ ما فعل، وغبط بقدومه على أكرم الأكرمين مسروراً، ولقي الله وقد جعل في قلبه نوراً وفي سمعه نوراً وفي بصره نوراً.والمولى أعزه الله تعالى أولى من تلقى أمر الله بالتسليم والرضا، وقابل أقداره بأن الخيرة فيما قدر وقضى، وحمد الله على ما وهب من بقاء إخوته الذين فيهم أعظم خلف، وأجمل عوضٌ يقال به للدهر الذي اعتذر بدوام المسرة فيهم: عفا الله عما سلف، وعلم أن الخطب الذي هد ركن الدين باحترابه واجتراحه، قد صرفه إلى الأمد عن الإلمام بساحة شهابه والتعرض إلى حمى فخره والنظر إلى حي صلاحه، ففي بقائهم ما يرغم العدا، ويعز حزب الهدى، ويقيم كلاً منهم في خدمة الدولة القاهرة بين يدي المولى مقام الشبل المنتمي للأسد، وينهضهم من مصالح الإسلام مع ما يعلمه منهم من حسن الثبات من الوالد وسرعة الوثبات من الولد.والله تعالى يجزل له من الأجر أوفاه، ويحفظ عليه - وقد فعل - أخراه، ويجعله للإسلام ذخراً، ولا يسمعه مع طول البقاء بعدها تعزيةً أخرى. ومن أحسن الرثاء وأشجاه ما نطقت به الخنساء في رثائها لأخيها صخر، فمن ذلك قولها:

ألا يا صخر إن أبكيت عيني

لقد أضحكتني دهراً طويلاً

دفعت بك الجليل وأنت حيٌ

فمن ذا يدفع الخطب الجليلا

إذا قبح البكاء على قتيلٍ

رأيت بكاءك الحسن الجميلا

وقالت أيضاً فيه:

ألا هبلت أم الذين غدوا به

إلى القبر، ما ذا يحملون إلى القبر !

وماذا يواري القبر تحت ترابه

من الجود ! يابؤس الحوادث والدهر !

فشأن المنايا إذ أصابك ريبها

لتغد على الفتيان بعدك أو تسري

وقالت:

يذكرني طلوع الشمس صخراً

وأبكيه لكل غروب شمس

ولو لا كثرة الباكين حولي

على إخوانهم لقتلت نفسي

وما يبكون مثل أخي ولكن

أسلي النفس عنه بالتأسي

وقالوا: أرثى بيتٍ قالته العرب قول متمم بن نورية في أخيه مالك، وكان قد قتله خالد بن الوليد في الردة.وكان متمم قدم العراق، فاقبل لا يرى قبراً إلا بكى، فقيل له: يموت أخوك بالملا وتبكي على قبرٍ بالعراق ! فقال:

لقد لامني عند القبور على البكا

رفيقي لتذارف الدموع السوافك

أمن أجل قبرٍ بالملا أنت نائحٌ

على كل قبرٍ أو على كل هالك

وقال: أتبكي كل قبرٍ رأيته

لقبرٍ ثوى بين اللوى فالدكادك

فقلت له: إن الشجا يبعث الشجا

فدعني فهذا كله قبر مالك

معناه قد ملأ الأرض مصابه عظماً، فكأنه مدفونٌ بكل مكان.وهو أبلغ ما قيل في تعظيم ميت.وقيل أرثى بيتٍ قالته العرب قول المحدث:

على قبره بين القبور مهابةٌ

كما قبلها كانت على صاحب القبر

وقيل: بل قول الآخر:

أرادوا ليخفوا قبره عن عدوه

فطيب تراب القبر دل على القبر

وقالوا: بل بيتٌ غيره:

فما كان قيسٌ هلكله هلك واحدٍ

ولكنه بنيان قومٍ تهدما

وقال الأصمعي: أرثي بيت قالته العرب قول الشاعر:

ومن عجبٍ أن بت مستشعر الثرى

وبت بما زودتني متمتعا

ولو أنني أنصفتك الود لم أبت

خلافك حتى ننطوي في الثرى معا

ومن أحسن الرثاء قول الحسين بن مطير الأسدي:

ألما بمعنٍ ثم قولا لقبره:

سقتك الغوادي مربعاً ثم مربعا

فتًى عيش في معروفه بعد موته

كما كان بعد السيل مجراه مرتعا

أيا قبر معنٍ كنت أول حفرةً

من الأرض خطت للسماحة مضجعا

ويا قبر معنٍ كيف واريت جوده

وقد كان منه البر والبحر مترعا !

بلى قد وسعت الجود والجود ميتٌ

ولو كان حياً ضقت حتى تصدعا

ولما مضى معنٌ مضى الجود والندى

وأصبح عرنين المكارم أجدعا

قال أبو هلال العسكري: هذه الأبيات أرثى ما قيل في الجاهلية والإسلام. وقال بكر بن النطاح يرثي معقل بن عيسى:

وحدثني عن بعض ما قال أنه

رأت عينه فيما ترى عين نائم

كأن الندى يبكي على قبر معقلٍ

ولم تره يبكي على قبر حاتم

ولا قبر كعبٍ إذ يجود بنفسه

ولا قبر حلف الجود قيس بن عاصم

فأيقنت أن الله فضل معقلاً

على كل مذكورٍ بفضل المكارم

وقال آخر:

لعمرك ما وارى التراب فعاله

ولكنما وارى ثياباً وأعظما

ومثله المنصور النمري:

فإن تك أفنته الليالي وأوشكت

فإن له ذكراً سيبقى اللياليا

وقال التميمي في منصورٍ بن زياد:

أما القبور فإنهن أوانسٌ

بفناء قبرك والديار قبور

عمت صنائعه فعم مصابه

فالناس فيه كلهم مأجور

يثني عليك لسان من لم توله

خيراً لأنك بالثناء جدير

ردت صنائعه إليه حياته

فكأنه من نشرها منشور

فالناس مأتمهم عليه واحدٌ

في كل دارٍ رنةٌ وزفير

وقال ابن القزاز المغربي:

سأبكيك لا أن البكا عدل لوعتي

ولا أن وجدي فيك كفء تندمي

وقل لعيني أن تفيض دموعها

عليك ولو أن الذي فاض من دمي

وقال الخريمي:

وأعددته ذخرً لكل ملمةٍ

وسهم الرزايا بالذخائر مولع

وإني وإن أظهرت مني جلادةً

وصانعت أعدائي عليه لموجع

ولو شئت أن أبكي دماً لبكيته

عليه ولكن ساحة الصبر أوسع

وقال أبو هلالٍ العسكري:

على الرغم من أنف المكارم والعلا

غدت داره قفراً ومغناه بلقعا

ألم تر أن البأس أصبح بعده

أشل وأن الجود أصبح أجدعا

فمرا على قبر المسود وانظرا

إلى المجد العلياء كيف تخشعا

فإن يك واراه التراب فكبراً

على الجود والمعروف والفضل أربعا

ولا تسأما نوحاً عليه مكرراً

ونوحاً لفقد العارفات مرجعا

فما كان قيسٌ هلكه هلك واحدٍ

ولكنه بنيان قومٍ تضعضعا

ولا تحسبا أني أواريه وحده

ولكنني واريته والندى معا

وقال أيضاً:

ألست ترى موت العلا والفضائل

وكيف غروب النجم بين الجنادل !

فما للمنايا أغفلت كل ناقصً

ونقبن في الآفاق عن كل فاضل !

على الرغم من أنف العلا سيق للردى

بكل كريم الفعل حر الشمائل

على أن من أبقته ليس بخالدٍ

وليس امرؤٌ يرجو الخلود بعاقل

رأيت المنايا بين غادٍ ورائحٍ

فما للبرايا بين ساهٍ وغافل !

ولم أر كالدنيا حبيباً مضرةً

ولم أر مثل الموت حقاً كباطل

وقال الرقاشي في البرامكة:

ألان استرحنا واستراحت ركابنا

وقل الذي يحدى ومن كان يحتدي

فقل للمطايا: قد أمنت من السرى

وطي الفيافي فدفداً بعد فدفد

وقل للمنايا: قد ظفرت بجعفرٍ

ولن تظفري بعده بمسود

وقل للعطايا بعد فضل: تعطلي

وقل للرزايا كل يومٍ: تجددي

ودونك سيفاً برمكياً مهنداً

أصيب بسيفٍ هاشميٍ مهند

وقال آخر:

سأبكيك للدنيا وللدين، إنني

رأيت يد المعروف بعدك شلت

ربيعٌ إذا ظن الغمام بمائه

وليثٌ إذا ما المشرفية سلت

وقال عبد الله بن المعتز:

ألست ترى موت العلا والمحامد

وكيف دفنا الخلق في قبرٍ واحد

وللدهر أيامٌ يسئن عوامداً

ويحسن إن أحسن غير عوامد

وقال أبو الطيب المتنبي:

إني لأعلم - واللبيب خبير -

أن الحياة وإن حرصت غرور

ما كنت أعلم قبل دفنك في الثرى

أن الكواكب في التراب تغور

خرجوا به ولكل باكٍ حوله

صعقات موسى يوم دك الطور

حتى أتوا جدثاً كأن ضرحه

في قلب كل موحدٍ محفور

نبكي عليه وما استقر قراره

في اللحد حتى صافحته الحور

ومنها:

صبراً على المكروه فيه تكرماً

إن العظيم على العظيم صبور

ولكل مفجوعٍ سواكم مشبهٌ

ولكل مفقودٍ سواه نظير

وقال آخر:

كفى حزناً أني تخلقت بعده

أدور مع الباكين في عرصاته

وصارت يميني ما حلفت بقبره

وكانت يميني قبلها بحياته

وقال آخر:

وكنت أخاف الدهر ما كان باقياً

فلما تولى مات خوفي على الدهر

وقال آخر:

ولما دعوت الصبر بعدك والبكا

أجاب البكا طوعاً ولم يجب الصبر

وإن ينقطع منك الرجاء فإنه

سيبقى عليك الحزن ما بقي الدهر

وقال آخر:

فو الله لو أسطيع قاسمته الردى

فمتنا جميعاً أو يقاسمني عمري

ولكنما أرواحنا ملك غيرنا

فمالي في نفسي ولا فيه من أمر

أحمله ثقل التراب وإنني

لأخشى عليه الثقل من موطئ الذر

وما أنا بالوافي وقد عشت بعده

روب اعترافٍ كان أبلغ من عذر

وقال آخر:

يا راحلاً لم يبق لي

من بعده في العيش نفعا

ضاقت على الأرض في

ك وضقت بالإخوان ذرعا

ورعيت فيك النجم يا

من كان يحفظني ويرعى

أبكيت بالشعر الذي

قد رق حتى صار دمعا

وقال تاج الملوك بنو أيوبٍ يرثي أخاه:

لو كان يشفي الدعم غلة واجدٍ

لشفي غليلي فيض دمعي الهامر

هيهات لا برد الغليل وقد ثوى

من كان من عددي وخير ذخائري

يا للرجال لنكبةٍ قد أذهبت

جلد الجليد وحسن صبر الصابر

طرقت فتى الملك المعظم فانثنى

من بعد بهجته كربع طائر

ومنها:

جبلٌ هوى فارتجت الدنيا له

فكأنما ركبت جناحي طائر

ومنها:

من للنوائب يوم تفترس الورى

قسراً بأنيابٍ لها وأظافر

أضحى وحيداً في التراب كأنه

ما سار بين مواكب وعساكر

قد كان لا تعصي البرية أمره

فانقاد متمثلاً لأمر الآمر

مولاي دعوة والهٍ غادرته

وقفاً على نوب الزمان الغادر

هل من سبيلٍ للزيارة عندها

هيهات حال الموت دون الزائر

لو كان خصمك غير حادثة الردى

لرددته بذوابلٍ وبواتر

أو كان يدرك ثأر من أودى به

ريب المنون لكنت أول ثائر

لكنه الموت الذي قهر الورى

من حيث لا تثنيه قدرة قادر

وقال كمال الدين بن النبيه يرثي علي ابن الخليفة الناصر لدين الله:

الناس للموت كخيل الطراد

فالسابق السابق منها الجواد

والله لا يدعو إلى داره

إلا من استصلح من ذي العباد

والموت نقاد، على كفه

جواهرٌ يختار منها الجياد

والمرء كالظل ولا بد أن

يزول ذلك الظل بعد امتداد

لا تصلح الأرواح إلا إذا

سرى إلى الأجسام هذا الفساد

أرغمت يا موت أنوف القنا

ودست أعناق السيوف الحداد

كيف تخيرت أميراً وما

أنجده كل طويل النجاد

مصيبةٌ أذكت قلوب الورى

كأنما في كل قلبٍ زناد

نازلةٌ عمت فمن أجلها

سن بنو العباس لبس السواد

مأتمةٌ في الأرض لكن لها

عرسٌ على السبع الطباق الشداد

طرقت يا موت كريماً فلم

يقنع بغير النفس للضيف زاد

قصمته من سدرة المنتهى

غصناً فشلت يد أهل العناد

يا ثالث السبطين خلفتني

أهيم من همي في كل واد

يا نائماً في غمرات الردى

كحلت أجفاني بميل السهاد

ويا ضحيع الترب أسقمتني

كأنما فراشي شوك القتاد

دفنت في الترب ولو أنصفوا

ما كنت إلا في صميم الفؤاد

خليفة الله اصطبر واحتسب

فما وهى البيت وأنت العماد

في العلم والحكم بكم يقتدى

إذا دجا الخطب وضل الرشاد

وأنت لج البحر ما ضره

أن سأل من بعض نواحيه واد

ولما مات الإخشيد محمد بن طغج رثاه جماعةٌ من الشعراء منهم محمد بن الحسن ابن زكريا فقال:

في الرزايا روائع الأوجال

والبرايا دريئة الآجال

وكذا الليل والنهار اعتبارٌ

للورى في تفكر الأحوال

كل شيءٍ وإن تمادى مداه

قصره للفناء أو للزوال

وأرى كل عيشةٍ لأناسٍ

كونها مؤذنٌ بوشك انتقال

كل ذي جدةٍ - إذا ما الجديدا

ن ألحا عليه - مودٍ بال

ما لخلقٍ من المنون مفرٌ

لا ولا دون بطشها من مآل

كان غيث الأيام إن أخلف الغي

ث أطلت سحابه بانهمال

فجعتنا بواهبٍ لا نراه

يخلق الوجه عنده بابتذال

فجعتنا ببهجة الأرض في الأر

ض وشمس الضحى وبدر الليالي

فجعتنا بمن حمى حرمة الإس

لام من حادثٍ ومن ختال

فجعتنا بالباسل البطل السا

مي غداة الوغى إلى الأبطال

فجعتنا بالواهب المجزل المر

تاح حين السؤال للسؤال

عجبٌ إذ دنت عليه المنايا

وحمى عزه المنيع العالي

أين من يشتري المدائح والشك

ر بأسنى وفرٍ وأوفى نوال

قطع الموت وصلنا منه كرهاً

والردى قاطعٌ لكل اتصال

رحمة الله والسلام عليه

في الضحى والعشاء والآصال

وسقى الله حفرةً ضمنته

شكر واهٍ من الحيا هطال

ثم خرج من الرثاء إلى مدح ابنه فقال:

إن خبا بدره فقد لاح للأم

ة لما خبا طلوع الهلال

نوره مشرقٌ مضيءٌ مدى الده

ر منيرٌ وليس ذا اضمحلال

وقال أبو الطيب المتنبي يرثيه:

هو الزمان مشتٌ بالذي جمعا

في كل يومٍ نرى من صرفه بدعا

لو كان ممتنعٌ تغنيه منعته

لم يصنع الدهر بالإخشيد ما صنعا

ذاق الحمام فلم تدفع كتائبه

عنه القضاء ولا أغناه ما جمعا

لقد نعى كل من نعاه مفتخرٍ

وكل جودٍ لأهل الأرض حين نعى

لله ما حل بالإسلام حين ثوى !

لقد وهى شعب هذا الدين فانصدعا

فمن تراه يقود الخيل ساهمةً

سد الفضاء وملء الأرض ما وسعا

ترى الحتوف غلوقاً في أسنته

لدى الوغى وشهاب الموت قد لمعا

لو كان يسطيع قبرٌ ضمه لسعى

إليه شوقاً ليلقاه وإن شسعا

فليعجب الناس من لحدٍ تضمن من

تضمن الرزق بعد الله فاضطلعا

لو يعلم اللحد ما قد ضم من كرمٍ

ومن فخارٍ ومن نعماء لاتسعا

يا لحده إن تضق عنه فلا عجبٌ

فيه الحجا والنهى والبأس قد جمعا

يا لحد طل فإن البحر فيك محتبساً

والليث منهصراً والجود مجتمعا

يا يومه لم تخص الفجع أسرته

كل الورى بردى الإخشيد قد فجعا

يا يومه لم تدع صبراً لمصطبرٍ

ولم تدع مدمعاً إلا وقد دمعا

أردى الرفاق ردى الإخشيد فانقرضوا

فما ترى منهم في الأرض منتجعا

يأيها الملك المخلي مجالسه

أحميت أعيننا الإغماض فامتنعا

ومنها:

لئن مضيت حميد الأمر متفقداً

لقد تركت حميد الأمر متبعا

ثم خرج من الرثاء إلى مدح ولد الإخشيد:

ثبت الجنان فلا نكسٌ ولا ورعٌ

تلقاه مؤتزراً بالحزم مدرعا

أعطت أبي القاسم الأملاك بيعتها

ولو أبت أخذت أسيافه البيعا

وانقاد أعداؤه ذلاً لهيبته

وظل متبعوهم من خوفه تبعا

أضحت بهم همم الغلمان عاليةً

كأن مولاهم الإخشيد قد رجعا

وقال مهلهل بن يموت يرثيه أيضاً:

أي عزٍ مضى من الإسلام !

أي ركنٍ أضحى حديث انهدام !

ذاق موتاً محمد بن طغج

هو ليث الشرى وغيث الغمام

فقد الناس مولى الإنعام

فهم سائمون كالأنعام

مات رب العلا وراعي الرعايا

والسرايا وكافل الأيتام

أين ما كنت فيه من عزك البا

ذخ والمرتقى عزيز المرام !

أين ذاك الحجاب والملك والهي

بة أين الزحام وقت الزحام !

من أميرٍ وقائدٍ وخطيرٍ

ورئيسٍ وماجدٍ وهمام

كلهم مطرقٌ لديك من الهي

بة خوف الإجلال والإعظام

أين تلك الخيام حولك إن عر

ست والأسد حول تلك الخيام

من عديد وعدةٍ لك ما بي

ن قعودٍ فيها وبين قيام

لم يطق جمعهم دفاع الردى عن

ك ولم يمنعوك منع اعتصام

أسلمتك الخيول قسراً وقد كن

ت عليها سوراً على الإسلام

خانك السيف وهو يصدر عن أم

رك مستعدياً بغير احتجام

خذل الرمح وهو عونك لو حا

ن لقاءٌ وثار نقع قتام

لم ترد القسى عنك سهام ال

حتف والحتف عندها في السهام

ما وقتك الحراب حرب المنايا

حين وافاك جيشها من أمام

لم يحصنك ما اقتنيت من الآ

لات من جوشن ولا من لام

حكم الموت فيك من بعد ما كن

ت ترى حاكماً على الحكام

فقدتك الفسطاط وجداً مدى الده

ر ومن بعدها بلاد الشام

فجعت يثربٌ ومكة والبي

ت إلى زمزمٍ أجل والمقام

عم فيك المصاب فاشترك العا

لم في الرزء منه والآلام

حسبنا الله من عزٍ من حكمٍ يج

ري على الحاكمين بالأحكام

كل شيءٍ إلى زوالٍ، ومن ذا

نال ملك الدنيا بغير اخترام

أين أين الملوك في سالف الد

هر دهتم حوادث الأيام

أين من قد كانوا يخافون في البأ

س ويرجون للعطايا الجسام

ليس يبقى إلا الإله تعالى

من له الملك ثابتاً بالدوام

أيهذا الأمير بل يا أبا القا

سم يا بن السميدع القمقام

ارض حكم الإله في الحكم الما

ضي وسلم لنافذ الأحكام

وهناك الذي بلغت من الأم

ر وما حزته بحسن انتظام

ما كمثل الذي رزئت ولا مث

ل الذي قد ملكت في ذا العام

أنت مثل الإخشيد فانهض بما مل

كت بالجد منك والاعتزام

وقال بعض الشعراء يرثي الوزير يعقوب بن كلس وزير العزيز بن المعز خليفة مصر:

إن التصبر في الأمور جميل

إلا عليك فما إليه سبيل

يا حاملاً ثقل العلا وكأنه

لعلو همته بها محمول

يا واهباً فوق المنى وكأنه

لسخائه مما يجود بخيل

جاء منها:

يا ترب لا تأكل لساناً طالما

والى به الحميد والتهليل

يل ترب لا تعنف بكف طالما

قد كان يؤلم ظهرها التقبيل

ومنها:

يا دهر تعلم ما جنيت على الورى ؟ !

خطبٌ لعمرك إن علمت جليل

ما كان ضرك لو مهلت بمثله

يا دهر إنك بعدها لعجول

ومن المراثي المشهورة التي عني بها، واتصلت أسباب الشارحين بسببها، المرثية العبدونية التي نظمها الوزير الكاتب أبو محمد عبد المجيد بن عبدون يرثي بها بني مسلمة المعروفين ببني الأفطس، وهي من أمهات القصائد ووسائط القلائد، فإنه ذكر فيها عدةً من مشاهير الملوك والخلفاء والأكابر ممن أبادهم الدهر بحوادثه ونكباته، ووثب عليهم الزمن فما وجدوا جنةً تقيهم من وثباته، ودبت عليهم الأيام بصروفها، وسقتهم المنية بكأس حتوفها.وهانحن نذكرها ونزيدها تبياناً بشرح من استبهمت أخباره، وخفيت على المطالع آثاره. وأول القصيدة:

الدهر يفجع بعد العين بالأثر

فما البكاء على الأشباح والصور

أنهاك أنهاك لا آلوك معذرةً

عن وقفةٍ بين ناب الليث والظفر

فالدهر حربٌ وإن أبدى مسالمةً

فالبيض والسمر مثل البيض والسمر

ولا هوادة بين الرأس تأخذه

يد الضارب وبين الصارم الذكر

فلا تغرنك من دنياك نومتها

فما صناعة عينيها سوى السهر

ما لليالي - أقل الله عثرتنا

من الليالي وخانتها يد الغير -

في كل حينٍ لها في كل جارحةٍ

منا جراحٌ وإن زاغت عن البصر

تسر بالشيء لكن كي تغر به

كالأيم ثار إلى الجاني من الثمر

كم دولةٍ وليت بالنصر خدمتها

لم تبق منها ! وسل ذكراك من خبر

هوت بدارا وفلت غرب قاتله

وكان عضباً على الأملاك ذا أثر

دارا الذي ذكره هو دارا بن دارا آخر ملوك الفرس، وقاتله الإسكندر. وسنذكر إن شاه الله أخبارهما في فن التاريخ.

واسترجعت من بني ساسان ما وهبت

ولم تدع لبني يونان من أثر

بنو ساسان هم الفرس الأخر ولهم دولةٌ مشهورةٌ انقرضت في الإسلام.وبنو يونان أيضاً من الملوك أرباب الدول المشهورة، ومن مشاهير ملوكهم الإسكندر بن فيلبس.وسترد إن شاء الله أخبارهم.

وأتبعت أختها طسماً، وعاد على

عادٍ وجرهم منها ناقض المرر

أخت طسم جديس، وهما أبناء عمٍ كثر نسلهما وهم العرب العاربة.وسنذكر أخبارهما إن شاء الله في وقائع العرب.وعاد هم قوم هود.وجرهم هو ابن عوف بن زهير بن أنس بن الهميسع بن حمير بن سبأ الأكبر بن يشجب ابن يعرب بن قحطان، وقيل: إن العمالقة من ولد جرهم.أراد بذكرهم أنهم كلهم أبادهم الموت.

وما أقالت ذوي الهيئات من يمنٍ

ولا أجارت ذوي الغايات من مضر

اليمن كلهم باتفاق العلماء بالأنساب من ولد قحطان، ومنهم ملوكٌ نذكرهم إن شاء الله في التاريخ.ومضر بن نزار بن معبد بن عدنان.وقد تقدم ذكرهم في الأنساب.

ومزقت سبأٌ في كل قاصيةٍ

فما التقى رائحٌ منهم بمبتكر

سبأ الذي أشار إليه هو سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان، واسمه عبد شمس، وإنما قيل فيه سبأ لأنه أول من أدخل بلاد اليمن السبي.وكان له عشرة أولادٍ سكن الشام منهم أربعةٌ وهم: لخم وغسان وجذام وعاملة، وسكن اليمن منهم ستةٌ: كندة ومذحج والأزد وأنمار والأشعر وعمرو، وقد ذكر الله عز وجل تمزيقهم بقوله: 'ومزقناهم كل ممزقٍ'.وسنذكر أخبار سيل العرم وسد مأرب.

وأنفذت في كليبٍ حكمها ورمت

مهلهلاً بين سمع الأرض والبصر

كليب الذي ذكر هو كليب بن ربيعة بن الحارث الذي ضرب به المثل فقيل: 'أعز من كليب وائل'.وأشار ابن عبدون إلى هذا البيت إلى ما كان من قتل جساس بن المرة كليباً وما وقع بين بكرٍ وتغلبٍ من الحروب التي نشرحها إن شاء الله في وقائع العرب.وقوله: ورمت مهلهلاً بين سمع الأرض والبصر، كأنه أراد ما حكى أنه قتل في موضعٍ لم يطلع عليه أحد، وهو مثلٌ، يقال: 'فعل كذا وكذا بين سمع الأرض وبصرها إذا فعله خالياً'.

ولم ترد على الضليل صحته

ولا ثنت أسداً عن ربها حجر

الضليل الذي أشار إليه هو امرؤ القيس بن حجر بن عمرو، والحارث هو آكل المرار، وسمي لمرؤ القيس بالضليل لأنه ترك ملكه وتوجه إلى قيصر يطلب منه جيشاً يأخذ به ثأر أبيه من بني أسد.وإشارته إلى الصحة لقول امرئ القيس في قصيدته السينية:

وبدلت قرحاً دامياً بعد صحةٍ

لعل منايانا تحولن أبؤساً

لقد طمح الطماح من بعد أرضه

ليلبسني من دائه محمد ما تلبسا

والطماح رجلٌ من بني أسدٍ أرسله قيصر إلى امرئ القيس بحلةٍ مسمومةٍ، فلم البسها تقطع ومات بأنقرة.وإشارته إلى أسد لأن بني أسد كانوا قتلوا حجر ابن الحارث يوم ماقط.

ودوخت آل ذبيان وإخوتهم

عبساً وعضت بني بدرٍ على النهر

أشار إلى ما كان بين عبسٍ وذبيان من الحروب بسبب داحسٍ والغبراء.وسيرد ذلك في وقائع العرب إن شاء الله تعالى.

وألحقي بعديٍ بالعراق على

يد ابنه أحمر العينين والشعر

أراد عدي بن أيوب بن زيد مناة بن تميم الشاعر.وأحمر العينين والشعر هو النعمان بن المنذر.وكان عدي هذا ترجماناً لأبرويز وكاتبه بالعربية، فلما مات قابوس بن المنذر تلطف عدي وتحيل على أبرويز حتى ولى النعمان إمرة العرب وقدمه على إخوته وكان أدمهم، ثم اتهمه النعمان أنه وشى به فاحتال عليه حتى ظفر به وحبسه ثم قتله بالعراق، فتلطف ابنه زيد بن عدي وتوصل حتى خدم أبويز على عادة أبيه، وأوقع بين أبرويز والنعمان حتى قتله أبرويز، على ما يرد إن شاء الله تعالى في التاريخ.والله أعلم.

وأشرفت بخبيبٍ فوق فارعةٍ

وألصقت طلحة الفياض بالعفر

أشار إلى خبيب بن عدي الأنصاري وهو بدري وأسر في السرية التي خرج فيها مرثد بن أبي مرثد فانطلق به المشركون إلى مكة واشتراه حجر بن إهابٍ التميمي حليف بني نوفل لعقبة بن الحارث بن نوفل ليقتله بأبيه، وكان خيب قتل الحارث أبا عقبة يوم بدر، فصلبه عقبة على خشبةٍ بالتنعيم وقتله.وطلحة الفياض هو طلحة ابن عبد الله التميمي أحد العشرة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، قتل يوم الجمل، على ما سنذكره إن شاء الله تعالى.

ومزقت جعفراً بالبيض، واختلست

من غيله حمزة الظلام للجزر

جعفر الذي 1ذكره هو جفعر بن أبي طالب أخو عليٍ رضي الله عنهما قلت في غزوة مؤتة.حمزة هو ابن عبد المطلب عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقتل يوم أحدٍ قتله وحشي غلام جبير بن مطعم، وجعله ظلاماً للجزر وصفه بالكرم.

وبلغت يزدجرد الصين واختزلت

عنه سوى الفرس جمع الترك والخزر

لم ترد مواضي رستمٍ وقنا

ذي حاجبٍ عنه سعداً في ابنة الغير

يزدجرد الذي ذكر هو ابن شهريار آخر ملوك الساسانية.ورسمت هو الأرمني وهو الذي قاتل سعد بن أبي وقاص وقتل يوم القادسية، وعلى ما يأتي شرح ذلك في مواضعه إن شاء الله تعالى.

وخضبت شيب عثمانٍ دماً، وخطت

إلى الزبير، ولم تستحي من عمر

أشار في هذا البيت إلى مقتل عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان والزبير بن العوام رضي الله عنهم.وسترد إن شاء الله أخبارهم.

وما رعت لأبي اليقظان صحبته

ولم تزوده إلا الضيح في الغمر

أبو يقظان هو عمر بن ياسر العنسي قتل بصفين وكان مع علي، وعنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: 'تقتل عماراً الفئة الباغية'.ولما قتل كانت الراية يومئذٍ بيده فعطش فدعا بشربةٍ من الماء فأتي بضحيةٍ فشربها ثم قال: أخبرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن اللبن آخر شربةٍ أشربها في الدنيا، فقتل يومئذٍ رضي الله عنه.

وأجزرت سيف أشقاها أبا حسنٍ

وامكنت من حسينٍ راحتى شمر

أشقاها هو عبد الرحمن بن ملجم المرادي قاتل علي بن أبي طالب رضي الله عنه لقوله صلى الله عليه وسلم: 'يا علي، أشقاها الذي يخضب هذه من هذه' وأشار إلى لحية علي ورأسه.والحسين الذي ذكره هو الحسين بن علي.وشمر هو شمر لبن ذي الجوشن وهو الذي أرسله عبيد الله بن زيادٍ إلى عمر بن سعد يحرضه على قتل الحسين، وقيل: إن شمراً لم يباشر قتل الحسين، والذي قتله سنان بن أنس النخعي، وشمرٌ فهو المجهز والمحرض على قتله، فلذلك ذكره.

وليتها إذ فدت عمراً بخارجةٍ

فدت علياً بمن شاءت من البشر

عمرو الذي أشار إليه هو عمرو بن العاص بن وائل بن هشام بن سعيد بن سهم ابن عمرو بن هصيص بن كعب، أمير مصر لمعاوية ابن أبي سفيان.وخارجة رجلٌ من سهم عمرو.وكان من خبره أن الخوارج كانت قد اجتمعت على قتل علي ومعاوية وعمرو، فكان الذي انتدب لقتل عمرٍو زادويه مولى بني العنبر، ورصده إلى ليلة المعاد التي اتفقوا على الفتك بهم فيها، فاشتكى عمرو تلك الليلة من بطنه ولم يخرج للصلاة واستخلف خارجة ليصلي بالناس، فلما قام في المحراب وثب عليه زادويه وهو يظن أنه عمرو بن العاص فقتله، وأخذ زادويه وأدخل على عمرو، فسمع الناس يخاطبونه بالإمرة، فقال: أو ما قتلت عمراً ؟ قيل له: لا إنما قتلت خارجة، فقال: أردت عمراً وأراد الله خارجة.فلذلك قال:

وليتها إذ فدت عمرا بخارجة

وفي ابن هندٍ وفي ابن المصطفى حسنٍ

أتت بمعضلة الألباب و الفكر

فبعضنا قائلٌ ما اغتاله أحدٌ

وبعضنا ساكتٌ لم يؤت من حصر

ابن هند الذي أشار إليه هو معاوية بن أب سفيان، أراد ما كان بينه وبين الحسن بن علي في أمر الخلافة.وأراد بالبيت الثاني ما وقع الاختلاف فيه من أن الحسن مات مسموماً وأن معاوية وعد زوجة الحسن جعدة بنت قيسٍ الكندي بمائة ألف درهمٍ ويزوجها لابنه يزيد إن قتلت الحسن، ففعلت وسمته.ولما مات الحسن وفى لها بالمال وقال: حب حياة يزيد منعني تزويجه منك، وقيل مات الحسن حتف أنفه.والله أعلم.

وعممت بالردى فودى أبي أنسٍ

ولم ترد الردى عنه قنا زفر

أبو أنس هو الضحاك بن قيس الفهري.يشير إلى ما وقع بينه وبين مروان ابن الحكم بمرج راهط، وكان الضحاك يدعو لابن الزبير فقتل الضحاك، على ما نذكره إن شاء الله في أخبار مروان.وكان زفر بن الحارث الكلابي مع الضحاك ففر عنه.

وأردت ابن زياد بالحسين فلم

يبؤ بشسعٍ له قد طاح أو ظفر

أشار إلى عبيد الله بن زياد ابن أبيه عامل يزيد بن معاوية على العراق، وهو الذي جهز عمر بن سعد لحرب الحسين بن علي رضي الله عنهما.وقوله يبؤ بشسعٍ له أخذه من قول مهلهل حين قتل بجير بن الحارث وقال: بؤ بشسع نعل كليب.

وأنزلت مصعباً من رأس شاهقةٍ

كانت به مهجة المختار في وزر

أشار إلى مصعب بن الزبير بن العوام وقلته.والشاهقة هي الكوفة.جعلها شاهقةً لمنعتها وكثرة رجالها.وأراد ما كان بين مصعبٍ وعبد الملك بن مروان من الحرب التي قتل فيها مصعب.والمختار الذي ذكره هو المختار بن أبي عبيد بن مسعود ابن عمرو الثقفي.أشار إلى ما كان بينه وبين مصعب من الحرب وقتل المختار.وسنورد كل هذه الوقائع إن شاء الله في التاريخ.

ولم تراقب مكان ابن الزبير ولا

راعت عياذته بالبيت والحجر

أراد عبد الله بن الزبير، وكان يسمى العائذ لأنه كان يقول: أنا العائذ بالبيت، وقتله الحجاج بن يوسف الثقفي لما وجهه عبد الملك لحربه.

ولم تدع لأبي الذبان قاضيه

ليس اللطيم لها عمرٌو بمنتصر

أبو الذبان هو عبد الملك بن مروان بن الحكم، سمي بذلك لبخره.وقوله قاضيه لأنه كان مظفراً على أعدائه فإنه غلب على من كان يناوئه في سلطانه مثل عبد الله ومصعب ابني الزبير، وعمرو بن سعيد، وعبد الحمن بن الأشعث، ما منهم إلا من قتل وحكم فيه قاضيه وهو سيفه، ولم يغن ذلك عنه لما أتته منيته.وأما اللطيم فهو عمر بن سعيد الأشدق، سمي بذلك لميلٍ كان في فمه فقيل له من أجله لطيم الشيطان، وقتله الملك بن عبد المروان.

وأظفرت بالوليد بن اليزيد ولم

تبق الخلافة بين الكأس والوتر

الوليد هذا هو الوليد بن يزيد بن عبد الملك، وهو الذي يقال له الجبار العنيد.أشار إلى ظفر يزيد بن الوليد بن عبد الملك به وقتله.وقوله:

ولم تبق الخلافة بين الكأس والوتر

أراد بذلك ما كان عليه الوليد من الاشتهار باللهو واللعب.

ولم تعد قضب السفاح نابيةً

عن رأس مروان أو أشياعه الفجر

السفاح هو أبو العباس عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس، وهو أول خلفاء الدولة العباسية.يشير إلى ظفره بمروان بن محمد وقتله، وانقراض دولة بني أمية وقتلهم على يديه.

وأسبلت عبراتٍ للعيون على

دمٍ بفخٍ لآل المصطفى هدر

أشار في هذا البيت إلى ذكر من قتل بفخٍ وهم الحسين بن علي بن حسن بن حسن بن علي، والحسن بن محمد بن الحسن بن الحسن بن علي، و عبد الله بن إسحاق ابن إبراهيم بن الحسن بن الحسن، على ما نذكره في التاريخ إن شاء الله تعالى.

وأشرقت جعفراً والفضل ينظره

والشيخ يحيى بريق الصارم الذكر

أشار في هذا البيت إلى قتل جعفر بن يحيى بن خالدٍ بن برمك ونكبة البرامكة في أيام الرشيد.

وأخفرت في الأمين العهد، وانتدبت

لجعفرٍ بابنه والأعبد الغدر

الأمين هو محمد بن هارون الرشيد.يشير إلى ما كان بينه وبين أخيه المأمون وإلى العهد الذي كان الرشيد كتبه بينهما.وجعفر الذي أشار إليه هاهنا هو المتوكل ابن المعتصم.أراد ما كان من قتل باغرٍ التركي له بمواطأةٍ من ابنه المنتصر، على ما نورده في أخباره.

وروعت كل مأمونٍ ومؤتمنٍ

وأسلمت كل منصورٍ ومنتصر

المأمون هو عبد الله بن الرشيد وهو أول من لقب بالمأمون، ولقب به بعد ذلك ولدٌ من أولاد المعتمد بن عباد ويحيى بن ذي النون صاحب طليطلة.والمؤتمن فأول من لقب به مروان بن الحكم على قول من يقول إنه كان لبني أمية ألقاب، ثم لقب به القاسم بن الرشيد.وكان الرشيد لما كتب العهد بين الأمين والمأمون جعل ابنه المؤتمن بعد المأمون، وجعل أمر المؤتمن إلى أخيه المأمون إذا أفضت الخلافة إليه إن شاء أمضاه وإن شاء خلعه، فلما أفضت الخلافة إلى المأمون أزال المؤتمن فارتاع لذلك.وتلقب بالمؤتمن محمد بن ياقوت مولى المعتضد صاحب فارس.وتلقب به سلامة الطولوني، وعبد العزيز بن عبد الرحمن بن أبي عامر ثم تسمى بالمنصور.وأما المنصور فأول من لقب به هشام بن عبد الملك بن مروان على تلك الرواية، ثم المنصور أبو جعفر عبد الله بن علي العباسي، ثم أبو طاهرٍ إسماعيل ابن القائم بن المهدي صاحب إفريقية، ثم محمد بن أبي عامر بالأندلس، وتلقب به ابن زيرى الصنهاجى، وتلقب به سابور صاحب بطليوس، وعبد الله بن محمد ابن مسلمة التجيبي، وحفيده يحيى بن محمد بن عبد الله، وعبد العزيز بن أبي عامر، ثم تلقب به جماعةٌ من الملوك بعد نظم هذه المرثية.وأما المنتصر فهو محمد ابن المتوكل، وممن تلقب بالمنتصر مدرار بن اليسع صاحب سجلماسة.وكل هؤلاء أبادهم الموت.

وأعثرت آل عباسٍ - ولعاً لهم -

بذيل زباء من بيضٍ ومن سمر

أشار في هذا البيت إلى مكان من تغلب الأتراك والديلم على خلفاء الدولة العباسية حتى لم يبق لهم إلا اسم الخلافة، على ما سيرد في أخبارهم.وقوله:

بذيل زباء من بيضٍ ومن سمر

تنبيهاً على كثرة عدد المتغلبين على الأمر وقدرتهم على السلاح.

ولا وفت بعهود المستعين ولا

بما تأكد المعتز من مرر

المستعين هو أحمد بن المعتصم العباسي.أشار إلى ما كان من قيام المعتز على المستعين وهرب المستعين من سامرا إلى بغداد.والمعتز هو أبو عبد الله محمد بن المتوكل، وسترد أخبارهم إن شاء الله تعالى:

وأوثقت في عراها كل معتمدٍ

وأرقت بقذاها كل مقتدرالمعتمد هو أبو العباس بن المتوكل، وهو أول من لقب بهذا اللقب، وتلقب به محمد بن عباد بإشبيلية.والمقتدر هو أبو الفضل جعفر بن المعتضد، وهو أول من لقب بالمقتدر، ثم لقب به أحمد بن سليمان بن هود الجذامي بسرقسطة.ثم أخذ ابن عبدونٍ في رثاء بني الأفطس، فقال:

بني المظفر والأيام ما برحت

مراحلاً والورى منها على سفر

سحقاً ليومكم يوماً ولا حملت

بمثله ليلةٌ في مقبل العمر

من للأسرة أو من للأعنة أو

من للأسنة يهديها إلى الثغر

من للبراعة أو من لليراعة أو

من للسماة أو للنف والضرر

أو رفع كارثةٍ أو دفع آزفةٍ

أو قمع حادثةٍ تعيا على القدر

من للظبى وعوالي الخط قد عقدت

أطراف ألسنها بالعي والحصر

وطوقت بالثنايا السود بيضهم

أعجب بذاك وما منها سوى ذكر

ويح السماح وويح الجود لو سلما

وحسرة الدين والدنيا على عمر

سقت ثرى الفضل والعباس هاميةٌ

تعزى إليهم سماحاً لا إلى مطر

ثلاثةٌ ما ارتقى النسران حيث رقوا

وكل ما طار من نسرٍ ولم يطر

ثلاثةٌ ما رأى العصران مثلهم

فضلاً ولو عززا بالشمس والقمر

ومر من كل شيءٍ فيه أطيبه

حتى التمتع بالآصال والبكر

من للجلال الذي عمت مهابته

قلوبنا وعيون الأنجم الزهر

أين الإباء الذي أرسوا قواعده

على دائمٍ من عزٍ ومن ظفر

أين الوفاء الذي أصفوا مشاربه

فلم يرد أحدٌ منها على كدر

كانوا رواسي أرض الله مذ نأوا

عنها استطارت بمن فيها ولم تقر

كانوا مصابحيها فمذ خبوا غبرت

هذي الخليقة يا لله في سدر

كانوا شجا الدهر فاستهوتهم خدعٌ

منه بأحلام عادٍ في خطا الخضر

من لي ولا من بهم إن أطبقت محنٌ

ولم يكن وردها بفضي إلى صدر

من لي ومن لا بهم إن أظلمت نوبٌ

ولم يكن ليلها يفضي إلى سحر

من لي ولا بمن بهم إن عطلت سننٌ

وأخفتت ألسن الأيام والسير

على الفضائل إلا الصبر يعدهم

سلام مرتقبٍ للأجر منتظر

يرجو عسى، وله في أختها طمعٌ

والدهر ذو عقبٍ شتى وذو غير

قرطت آذان من فيها بفاضحةٍ

على الحسان حصى الياقوت والدرر

ومن أجود الرثاء وأصنعه وأتقنه وأبدعه مراثي أبي تمامٍ حبيب بن أوسٍ الطائي، فمن ذلك ما قاله يرثي به غالب بن السعدي:

هو الدهر لا يشوي وهن المصائب

وأكثر آمال الرجال كواذب

فيا غاباً لا غالبٌ لرزيةٍ

بل الموت لا شك الذي هو غالب

وقالت: أخي، قالوا: أخٌ من قرابةٍ ؟

فقلت لهم إن الشكول أقارب

نسيبي في رأيٍ وعزمٍ ومنصبٍ

وإن باعدتنا في الأصول المناسب

كأن لم يقل يوماً: كأن، فتنثني

إلى قوله الأسماع وهي رواغب

ولم يصدع النادي بلفظة فيصلٍ

سنانيةٍ في صفيحتها التجارب

ومنها:

مضى صاحبي واستخلف البث والأسى

علي، فلى من ذا وهذاك صاحب

عجبت لصبري بعده وهو ميتٌ

وكنت امرأً أبكي دماٍ وهو غائب

على أنها الأيام قد صرن كلها

عجائب حتى ليس فيها عجائب

وقال يرثي محمد بن الفضل الحميري:

ريب دهرٍ أصم دون العتاب

مرصدٌ بالأوجال والأوصاب

جف در الدنيا فقد أصبحت تك

تال أرواحنا بغير حساب

لو بدت سافراً أهينت ولكن

شغف الخلق أنها في النقاب

إن ريب الزمان يحسن أن يه

دي الرزايا إلى ذوي الحاسب

فلهذا يجف بعد اخضرارٍ

قبل روض الوهاد روض الروابي

جاء منها:

ذهبت يا محمد الغر من أي

امك الواضحات أي ذهاب

عبس اللحد منك والثرى منك وجهاً

غير ما عابسٍ ولا قاطب

أطفأ اللحد والثرى لبك المس

روج يسمى مقطع الأسباب

منزلاً موحشاً وإن كان معمو

راً بجل الصديق والأحباب

يا شهاباً خبا لآل عبيد الله

أعزز بفقد هذا الشهاب

ومنها:

أنزلته الأيام عن ظهرها من

بعد إثبات رجله في الركاب

حين تم الشباب واغتدت الدن

يا إليه مفتوحة الأبواب

وحكى الصارم المحلى سوى أ

ن حلاه جواهر الآداب

قصدت نحوه المنية حتى

وهبت حسن وجهه للتراب

وقال يرثي بن أبي ربعي:

أي ندًى بين الثرى والجيوب

وسؤددٍ لدنٍ ورأيٍ صليب

يا ابن أبي ربعيٍ استقبلت

من يومك الدنيا بيومٍ عصيب

شق جيوباً من أناسٍ لو اس

طاعوا لشقوا ما وراء الجيوب

كنت على البعد قريباً فقد

صرت على قربك غير القريب

راحت وفود الأرض عن قبره

فارغة الأيدي ملاء القلوب

قد علمت ما رزئت، إنما

يعرف فقد الشمس بعد المغيب

إذا البعيد الوطن انتابه

حل إلى نهيٍ ووادٍ خصيب

أدنته أيدي العيس من ساحةٍ

كأنها مسقط رأس الغريب

أظلمت الآمال من بعده

وعريت من كل حسنٍ وطيب

كانت خدوداً صقلت برهةً

واليوم صارت مألفاً للشحوب

كم حاجةٍ صارت ركوباً به

ولم تكن من قبله بالركوب

حل عقاليها كما أطلقت

من عقد المزنة ريح الجنوب

إذا تيممناه في مطلبٍ

كان قلبياً ورشاء القليب

ونعمةٍ منه تسربلتها

كأنها طرة بردٍ قشيب

من اللواتي ونى شاكرٌ

قامت لمسديها مقام الخطيب

متى تنخ ترحل بتفضيله

أو غاب يوماً حضرت بالمغيب

فما لنا اليوم ولا للعلا

من بعده غير الأسى والنحيب

وقال يرثي أحمد بن هارون القرشي:

دأب عيني البكاء، والحزن دابي

فاتركيني - وقيت ما بي - لما بي

سأجزي بقاء أيام عمري

بين بثي وعبرتي واكتئابي

فيك يا أحمد بن هارون خصت

ثم عمت رزيتي ومصابي

فجعتني الأيام في الصادق النط

ق فتى المكرمات والآداب

بخليلٍ دون الأخلاء لا بل

صاحبي المصطفى على أصحابي

أفلما تسربل المجد واجتا

ب من الحمد أيما مجتاب

وتراءته أعين الناظريه

قمراً باهراً ورئبال غاب

وعلا عارضيه ماء الندى الجا

ري وماء الحجا وماء الشباب

أرسلت نحوه النية عيناً

قطعت منه أوثق الأسباب

وقال يرثي أبا الصقر:

لو صح الدمع لي أو ناصح الكمد

لقلما صحباني الروح والجسد

خان الصفاء أخٌ خان الزمان له

أخاً فلم يتخون جسمه الكمد

تساقط الدمع أدنى ما بليت به

للوجد إذ لم تساقط مهجةٌ ويد

فوالذي رتكت تطوي الفجاج له

سفائن البر في خد الثرى تخد

لأنفدن أسًى إن لم أمت أسفاً

وينفد العمر بي أو ينفد الأمد

عني إليك فإني عنك في شغلٍ

لي منه يومٌ سيبلي مهجتي وغد

وإن بجرية نابت جأرت لها

إلى ذرى جلدي فاستؤهل الجلد

هي النوائب فاشجي أوفعي عظةً

فإنها شجرٌ أثمارها رشد

هبي ترى قلقاً من تحته أرقٌ

يحدوهما كمدٌ يعنو له الجسد

صماء سم العدا في جنبها ضربٌ

وشرب كأس الردى في ظلها شهد

هناك أم النهى لم تود من حزن

ولم تجد لبني الدنيا بما تجد

لو يعلم الناس علمي بالزمان وما

عانت يداه لما ربوا ولا ولدوا

لا يبعد الله ملحوداً أقام به

شخص الحجا وسقاه الواحد الصمد

يا صاحب القبر، دعوى غير متئبٍ

إن قال أودي الندى والبدر والأسد

بات الثرى بأخي جذلان مبتهجاً

وبت يحكم في أجفاني السهد

لهفي عليك وما لهفي بمجديةٍ

ما لم يزرك بنفسي حر ما أجد

أمسى أبو الصقر يعفو الترب أحسنه

دوني ودلو الردى في مائه يرد

ويلٌ لأمك أقصر إنه حدثٌ

لم يعتقد مثله قلبٌ ولا خلد

غال الزمان شقيق الجود لم يقه

أهلٌ ولم يفده مالٌ ولا ولد

حين ارتوى الماء وافترت شبيبته

عن مضحكٍ للمعالي ثغره برد

وقيل: أحمدها، بل قيل: أمجدها

بل قيل: أنجدها إن فرت النجد

رؤد الشباب كنصل السيف لا جعدٌ

في راحتيه ولا في عوده أود

سقى الحبيس ومحبوساً ببرزخه

من السمي كغيث الودق يطرد

بحيث حل أبو صقرٍ فودعه

صفو الحياة ومن لذاتها الرغد

بحيث حل فقيد المجد مغترباً

ومورثٍ حسراتٍ ليس تفتقد

وقال يرثي عمير بن الوليد:

أعيدي النوح معولةً أعيدي

وزيدي في بكائك ثم زيدي

وقومي حاسراً في حسراتٍ

خوامش للنحور وللخدود

هو الخطب الذي ابتدأ الرزايا

وقال لأعين الثقلين جودي

ألا رزئت خسران فتاها

غداة ثوى عمير بن الوليد

ألا رزئت بمسئول منيلٍ

ألا رزئت بمتلافٍ مفيد

ألا إن الندى والجود حلا

بحيث حللت من حفر الصعيد

بنفسي أنت من ملكٍ رمته

منيته بسهم ردًى سديد

تجلت غمرة الهيجاء عنه

خضيب الوجه من دمه الجسيد

فيا بحر المنون ذهبت منه

ببحر الجود في السنة الصلود

ويا أسد المنون فرست منه

غداة فرسته أسد الأسود

أبالبطل النجيد فتكت منه

نعم وبقاتل البطل النجيد

تراءى للطعان وقد تراءت

وجوه الموت من حمرٍ وسود

فيالك وقعةً جللاً أعادت

أسًى وصبابةً جلد الجليد

ويالك ساعةً أهدت غليلاً

إلى أكبادنا أبد الأبيد

ألا أبلغ مقالتي الإمام ال

خليفة والأمين بن الرشيد

بأن أميرنا لم يأل عدلاً

ونصحاً في الرعايا والجنود

أفاض نوال راحته عليهم

وسامح بالطريف وبالتليد

وأضحى دونهم للموت حتى

سقاه الموت من مقرٍ هبيد

وما ظفروا به حتى قراهم

قشاعم أنسرٍ وضباع بيد

بطعنٍ في نحورهم رشيقٍ

وضربٍ في رءوسهم عتيد

فيا يوم الثلاثاء اصطبحنا

غداةً منك هائلة الورود

ويا يوم الثلاثاء اعتمدنا

بفقدٍ فيك للسند العميد

وكم أسخنت فينا من عيونٍ

وكم أعثرت فينا من جدود

فما زجرت طيورك عن سنيحٍ

ولا طلعت نجومك بالسعود

ألا أيها الملك المردى

رداء الموت في جدثٍ جديد

حضرت فناء بابك واعتراني

شجًى بين المخنق والوريد

رأيت به مطايا مهملاتٍ

وأفراساً صوافن بالوصيد

فكنت عتاد إما فك عانٍ

وإما قتل طاغيةٍ عنود

رأيت مؤمليك عدت عليهم

عوادٍ صعدتهم في كؤود

وأضحت عند غيرك في هبوطٍ

حظوظٌ كن عند في صعود

وأصبحت الوفود وقفاً

على أن لا مفاد لمستفيد

فكلهم أعد اليأس وقفاً

عليك ونص راحلة العقود

لقد سخنت عيون الجود لما

ثويت وأقصدت غرر القصيد

وقال يرثي محمد بن حميد الطوسي:

كذا فليجل الخطب وليفدح الأمر

فليس لعينٍ لم يفض ماؤها عذر

توفيت الآمال بعد محمدٍ

وأصبح في شغلٍ عن السفر السفر

وما كان إلا مال من قل ماله

وذخراً لمن أمسى وليس له ذخر

وما كان يدري المجتدى جود كفه

إذا ما استهلت أنه خلق العسر

ألا في سيبل الله من عطلت له

فجاج سبيل الله واثغر الثغر

فتًى كلما فاضت عيون قبيلةٍ

دماً ضحكت عنه الأحاديث والذكر

فتًى دهره شطران فيما ينوبه

ففي بأسه شطرٌ وفي جوده شطر

فتًى مات بين الضرب والطعن ميتةً

تقوم مقام النصر إذا فاته النصر

وما مات حتى مات مضرب سيفه

من الشل واعتلت عليه القنا السمر

وقد كان فوت الموت سهلاً فرده

عليه الحفاظ المر والخلق الوعر

ونفسٌ تعاف العار حتى كأنه

هو الكفر يوم الروع أو دونه الكفر

فأثبت في مستنقع الموت رجله

وقال لها من تحت أخمصك الحشر

غدا غدوةً والحمد نسج رداثه

فلم ينصرف إلا وأكفانه الأجر

تردى ثياب الموت حمراً فما أتى

لها الليل إلا وهي من سندسٍ خضر

كأن بني نبهان يوم وفاته

نجوم سماءٍ خر من بينها البدر

يعزون عن ثاوٍ تعزى به العلا

ويبكي عليه الجود والبأس والشعر

وأنى لهم صبرٌ قد مشى

إلى الموت حتى استشهدا هو والصبر !

فتًى كان عذب الروح لاعن غضاضةٍ

ولكن كبراً أن يكون له كبر

فتًى سلبته الحيل وهو حمًى لها

وبزته نار الحرب وهو لها جمر

وقد كانت البيض المآثير في الوغى

بواتر فهي الآن من بعده بتر

أمن بعد طي الحادثات محمداً

يكون لأثواب العلا أبداً نشر !

إذا شجرات العرف جذت أصولها

ففي أي فرعٍ يوجد الورق النضر !

لئن أبغض الدهر الخؤن لفقده

لعهدي به ممن يحب له الدهر

لئن غدرت في الروع أيامه به

لما زالت الأيام شيمتها الغدر

لئن ألبست في المصيبة طيءٌ

لما عريت منها تميمٌ ولا بكر

كذلك ما ننفك نفقد هالكاً

يشاركنا في فقده البدو والحضر

سقى الغيث غيثاً وارت الأرض شخصه

وإن لم يكن فيها سحابٌ ولا قطر

وكيف احتمالي للسحاب صنيعةً

بإسقائها فبراً وفي لحده البحر

ثوى في الثرى من كان يحيا به الثرى

ويغمر صرف الدهر نائله الغمر

مضى طاهر الأثواب لم تبق روضةٌ

غداة ثوى إلا اشتهت أنها قبر

عليك سلام الله وقفاً فإنني

رأيت الكريم الحر ليس له عمر

وقال يرثي إدريس بن بدرٍ السامي:

دموعٌ أجابت داعي الحزن همع

توصل منا عن قلوب تقطع

عفاءٌ على الدنيا طويلٌ فإنها

تفرق من حيث ابتدت تتجمع

تبدلت الأشياء حتى خلتها

ستثني غروب الشمس من حيث تطلع

لها صيحةٌ في كل روحٍ ومهجةٍ

وليست لشيءٍ ما خلا القلب تسمع

أإدريس ضاع المجد بعدك كله

ورأى الذي يرجوه بعدك أضيع

وغودر وجه العرف الأسود بعد ما

يرى وهو كالبكر الكعاب تصنع

وأصبحت الأحزان لا لمبرةٍ

تسلم شزراً والمعالي تودع

وضل بك المرتاد من حيث يهتدي

وضرت بك الأيام من حيث تنفع

وأضحت قريحات القلوب من الجوى

تقيظ ولكن المدامع تربع

عيونٌ حفظن الليل فيك محرماً

وأعطينك الدمع الذي كان يمنع

وقد كان يدعى لابس الصبر حازماً

فأصبح يدعى حازماً حين يجزع

وقالوا عزاءً: ليس للموت مدفعٌ

فقلت: ولا للحزن للمرء مدفع

لإدريس يومٌ ما تزال لذكره

دموعي وإن سكنتها تتفرع

ولما نضا ثوب الحياة وأوقعت

به نائبات الدهر ما يتوقع

غدا ليس يدري كيف يصنع معدمٌ

درى دمعه من وجده كيف يصنع

وماتت نفوس الغالبيين كلهم

وإلا فصبر الغالبيين أجمع

غدوا في زوايا نعشه وكأنما

قريشٌ قريشٌ حين مات مجمع

ولم أنس سعي الجود خلف سريره

بأكسف بالٍ يستقيم ويظلع

وتكبيره خمساً عليه معالناً

وإن اكن تكبير المصلين أربع

وما كنت أدري يعلم الله قبلها

بأن الندى في أهله يتشيع

وقمنا فقلنا بعد أن أفرد الثرى

به ما يقال في السحابة تقلع

- هذا مأخوذٌ من قول مسلمٍ:

فاذهب كما ذهبت غوادي مزنةٍ

أثنى عليها السهل والأوعار -

ألم تك ترعانا من الدهر إن سطا

وتحفظ من أموالنا ما نضيع

وتبسط كفاً في الحقوق كأنما

أناملها في البأس والجود أذرع

وتلبس أخلاقاً كراماً كأنها

على العرض من فرط الحصانة أدرع

وتربط جأشاً والكماة قلوبهم

تزعزع خوفاً من قناً تتزعزع

وأمنية المرتاد يحضرك الندى

فيشفع في مثل الفلا فيشفع

فأنطق فيه حامدٌ وهو فيه مفحمٌ

وأفحم فيه حاسدٌ وهو فيه مصقع

ألا إن في ظفر المنية مهجةً

تظل لها عين العلا وهي تدمع

هي النفس إن تبك المكارم فقدها

فمن بين أحشاء المكارم تنزع

ألا إن أنفاً لم يعد وهو أجدع

لفقدك عند المكرمات لأجدع

وإن امرأً لم يمس فيك مفجعاً

بملحوده، في عقله لمفجع

وقال يرثي القاسم بن طوق بن مالك:

جوىً ساور الأحشاء والقلب واغله

ودمعٌ يضيم العين والجفن هامله

وفاجع موت لا عدوٌ يخافه

فيبقي، ولا يبقي صديقاً يجامله

وأي أخي عز وذي جبرية

ينابذه أو أي رامٍ يناضله

إذا ما جرى مجرى دم المرء حكمه

وبثت على طرق النفوس حبائله !

فلو شاء هذا الدهر أقصر شره

كما أقصرت عنا لهاه ونائله

سنشكوه إعلاناً وسراً ونيةً

شكية من لا يستطيع يقاتله

فمن مبلغٌ عني ربيعة أنه

تقشع طل الجود عنها ووابله

وأن الحجا منها استطارت صدوعه

ولو لم يزايلنا لكنا نزايله

ولم يعلموا أن الزمان يريده

بفجعٍ ولا أن المنايا تراسله

ومنها:

طواه الردى طي الرداء وغيبت

فضائله عن قومه وفواضله

طوى شيماً كانت تروح وتغتدي

وسائل من أعيت عليه وسائله

فيا عارضاً للعرف أقلع مزنه

ويا وادياً للجود جفت مسايله

وقال يرثي محمد بن حميد وأخاه قحطبة:

بأبي وغير أبي - وذاك قليل -

ثاوٍ عليه ثرى النباج مهيل

خذلته أسرته كأن سراتهم

جهلو بأن الخاذل المخذول

أكال أشلاء الفوارس بالقنا

أضحى بهن وشلوه مأكول

كفى، فقتل محمدٍ لي شاهدٌ

أن العزيز مع القضاء ذليل

ومنها:

هيهات لا يأتي الزمان بمثله

إن الزمان بمثله لبخيل

ما أنت بالمقتول صبراً إنما

أملي غداة نعيك المقتول

ومنها:

من ذا يحدث البقاء ضميره !

هيهات ! أنت على الفناء دليل

يا ليت شعري بالمكارم كلها

ماذا، وقد فقدت نداك، تقول ؟

ومنها:

يا يوم قحطبةٍ لقد أبقيت لي

حرقاً أرى أيامها ستطول

ليثٌ لو أن الليث قام مقامه

لانصاع وهو يراعةٌ إجفيل

لما رأى جمعاً قليلاً في الوغى

وأولو أميرا الحفاظ من القليل قليل

لاقى الكريهة وهو مغمد روعه

فيها ولكن بأسه مسلول

ومشى إلى الموت الزؤام كأنما

هو من محبته إليه خليل

ومنها:

أضحت عراص محمدٍ و محمدٍ

وأخيهما وكأنهن طلول

أبني حميدٍ ليس أول ما عفا

بعد الأسود من الأسود الغيل

مازال ذاك الصبر وهو عليكم

بالموت في ظل السيوف كفيل

مستبسلون كأن مهجاتهم

ليست لهم إلا غداة تسيل

ألفوا المنايا فالقتل لديهم

من لم يخل العيش وهو قتيل

إن كان ريب الدهر أثكلنيكم

فالموت أيضاً ميتٌ مثكول

وقال يعزي مالك بن طوقان:

أمالك إن الحزن أحلام حالم

ومهما تدم فالحزن ليس بدائم

أمالك إفراط الصبابة تاركٌ

حناً واعوجاجاً في قناة المكارم

تأمل رويداً هل عدن سالماً

إلى آدمٍ أم هل تعد ابن سالم !

متى ترع هذا الموت عيناً بصيرةً

نجد عادلاً منه شبيهاً بظالم

فإن تك مفجوعاً بأبيض لم تكن

تشد على جدواه عقد التمائم

بفارسٍ دغميٍ وهضبة وائلٍ

وكوكب عتابٍ وحمزة هاشم

شجا الريح فازدادت لفقده

وأحدث شجواً في بكاء الحمائم

فمن قبله ما قد أصيب نبينا

أبو القاسم النور المبين بقاسم

وخبر قيسٌ بالجليلة في ابنه

فلم يتغير وجه قيس بن عاصم

وقال عليٌ في التعازي لأشعثٍ

وخاف عليه بعض تلك المآثم:

أتصبو للبلوى عزاءً وحسبةً

فتؤجر، أم تسلو سلو البهائم ؟

خلقنا رجالاً للتجلد والأسى

وتلك الغواني للبكا والمآتم

وأي فتًى في الناس أحرض من فتًى

غدا في خفارات الدموع السواجم

وهل من حكيمٍ ضيع الصبر بعدما

رأى الحكماء الصبر ضربة لازم

فلا برحت تسطو ربيعة منكم

بأرقم عطافٍ وراء الأراقم

فأنت وصنواك الشقيقان إخوةٌ

خلقتم سعوطاً للأنوف الرواغم

ثلاثة أركانٍ، وما انهد سؤددٌ

إذا ثبتت فيه ثلاث دعائم

وقال يرثي عمير بن الوليد:

كف الندى أمست بغير بنان

وقناته أضحت بغير سنان

جبل الجبال غدت عليه ملمةٌ

تركته وهو مهدم الأركان

أنعى عمير بن الوليد لغارةٍ

بكرٍ من الغارات أو لعوان

أنعى فتى الفتيان غير مكذبٍ

قولي، وأنعى فارس الفرسان

عثر الزمان ونائبات صروفه

بمقيلنا عثرات كل زمان

لم يترك الحدثان يوم سطا به

أحداً نصول به على الحدثان

قد كنت حشو الدرع ثم أراك قد

أصبحت حشو اللحد والأكفان

شغلت قلوب الناس ثم عيونهم

مذ مت بالخفقان والهملان

واستعذبوا الأحزان حتى إنهم

يتحاسدون مضاضة الأحزان

ما يرعوي أحدٌ إلى أحدٍ ولا

يشتاق إنسانٌ إلى إنسان

أأصاب منك الموت فرصة ساعةٍ

فعدا عليك وأنتما أخوان !

فمن الذي أبقى ليوم تكرمٍ

ومن الذي أبقى ليوم طعان !

وقال يرثي ابناً له:

كان الذي حفت أن يكونا

إنا إلى الله راجعونا

أمسى المرجى أبو عليٍ

موسداً في الثرى يمينا

حين استوى وانتهى شباباً

وحقق الرأي والظنونا

أصبت فيه وكان عندي

على المصيبات لي معينا

كنت كثيراً به عزيزاً

وكنت صباً به ضنينا

دافعت إلا النون عنه

والمرء لا يدفع المنونا

آخر عهدي به صريعاً

للموت بالداء مستكينا

إذا شكا غصةً وكرباً

يمنعه الموت أن يبينا

يشخص طوراً بناظريه

وتارةً يطبق الجفونا

ثم قضى نحبه وأمسى

في جدثٍ للثرى دفينا

باشر برد الثرى بوجهٍ

قد كان من قبله مصونا

بعيد دارٍ قريب جارٍ

قد فارق الإلف والقرينا

بني يا واحد البنينا

غادرتني مفرداً حزينا

هون رزئي بك الرزايا

علي في الناس أجمعينا

آليت أنساك ما تجلى

صبح نهارٍ لمصبحينا

وما دعا طائرٌ هديلاً

ورجعت والهٌ حنينا

تصرف الدهر بي صروفاً

وعاد لي شأنه شؤونا

وحز في اللحم بل براه

واجتث من طلحتي فنونا

أصاب مني صميم قلبي

وخفت أن يقطع الوتينا

والمرء رهنٌ بحالتيه

فشدةً مرةً ولينا

شارك هذه الصفحة:

تابع موسوعة الأدب العربي على شبكات التواصل الإجتماعي