نهاية الأرب في فنون الأدب/ولاية عقبة بن نافع ثانية
ولاية عقبة بن نافع ثانية
قال: وكانت ولايته في سنة اثنتين وستين، فسار من الشام.فلما مر على مصر، ركب إليه مسلمة بن مخلد وسلم عليه، واعتذر من فعل أبي المهاجر، وأقسم بالله لقد خالفه فيما صنع.فقبل عقبة عذره.ومضى مسرعاً حتى قدم إفريقية.فأوثق أبا المهاجر في الحديد، وأمر بخراب مدينته، ورد الناس إلى القيروان. ثم عزم على الغزو وترك بالقيروان جنداً وعليهم زهير بن قيس ودعا أولاده فقال لهم: إني بعت نفسي من الله تعالى بيعاً مربحاً أن أجاهد من كفر حتى ألحق بالله.ولست أدري أتروني بعدها أو أراكم، لأن أملي الموت في سبيل الله.ثم قال: عليكم سلام الله، اللهم تقبل مني نفسي في رضاك. ومضى في عسكر عظيم حتى أشرف على مدينة باغاية، وقاتل أهلها قتالاً شديداً، وأخذ لهم خيلاً لم ير المسلمون في مغازيهم أصلب منها.ودخل الروم حصنهم. فكره عقبة أن يقيم عليه.فمضى إلى لميش، وهي من أعظم مدن الروم.فلجأ إليها من كان حولها منهم.وخرجوا إليه وقاتلوه قتالاً شديداً حتى ظن الناس أنه الفناء.فهزمهم وتبعهم إلى باب حصنهم وأصاب غنائم كثيرة. وكره المقام عليها فرحل إلى بلاد الزاب.فسأل عن أعظم مدائنهم قدراً فقالوا: مدينة يقال لها أربة فيها الملك، وهي مجمع ملوك الزاب، وحولها ثلاثمائة قرية وستون قرية كلها عامرة.فلما بلغهم أمره لجئوا إلى حصنهم، وهرب بعضهم إلى الجبال والوعر.فنزل عليها وقت المساء.فلما أصبح أمر بالقتال فكانت بينهم حروب حتى يئس المسلمون من الحياة.فأعطاه الله الظفر.فانهزم القوم وقتل أكثر فرسان الروم.وذهب عزهم من الزاب وذلوا آخر الدهر. ورحل حتى نزل تاهرت.فلما بلغ الروم خبره، استعانوا بالبربر فأجابوهم ونصروهم.فقام عقبة وخطب الناس وحرضهم على القتال والتقوا واقتتلوا فلم يكن للروم والبربر طاقة بقتالهم.فقتلهم قتلاً ذريعاً وفرق جموع الروم عن المدينة. ثم رحل حتى نزل طنجة.فلقيه رجل من الروم يقال له إيليان وكان شريفاً في قومه.فأهدى إليه هدية حسنة ولاطفه ونزل على حكمه.فسأله عن بحر الأندلس.فقال: إنه محفوظ لا يرام.فقال: دلني على رجال البربر والروم.فقال: قد تركت الروم خلفك وليس أمامك إلا البربر.وفرسانهم في عدد لا يعلمه إلا الله تعالى وهم أنجاد البربر وفرسانهم.فقال عقبة: فأين موضعهم ؟ قال: في السوس الأدنى، وهم قوم ليس لهم دين، يأكلون الميتة، ويشربون الدم من أنعامهم.وهم أمثال البهائم، يكفرون بالله ولا يعرفونه.فقال عقبة لأصحابه: ارحلوا على بركة الله.فرحل من طنجة إلى السّوس الأدنى.وهو في جنوب مدينة طنجة التي تسمى تارودانت.فانتهى إلى أوائلهم فقتلهم قتلاً ذريعاً.وهرب من بقي منهم، وتفرقت خيله في طلبهم. ومضى حتى دخل السّوس الأقصى فاجتمع البربر في عدد كثير لا يحصيهم إلا الله تعالى.فقاتلهم قتالاً لم يسمع بمثله.فقتل خلقاً كثيراً منهم.وأصاب نساء لم ير الناس مثلهن.فقيل: إن الجارية كانت تساوي بالمشرق ألف مثقال وأكثر وأقل. وسار حتى بلغ البحر المحيط لا يدافعه أحد ولا يقوم له.فدخل فيه حتى بلغ الماء لبان فرسه.ورفع يده إلى السماء وقال: يا رب، لولا هذا البحر لمضيت في البلاد إلى ملك ذي القرنين مدافعاً عن دينك، ومقاتلاً من كفر بك وعبد غيرك. ثم قال لأصحابه: انصرفوا على بركة الله وعونه.فخلا الناس عن طريق عساكره هاربين.وخاف المشركون منه أشد مخافة.وانصرف إلى إفريقية.فلما انتهى إلى ماء اسمه اليوم ماء فرس ولم يكن به ماء، فأصابهم عطش أشفى منه عقبة ومن معه على الموت.فصلى ركعتين ودعا الله عز وجل.فجعل فرسه يبحث الأرض بيديه حتى كشف عن صفاة.فانفرج منها الماء.وجعل الفرس يمص ذلك الماء فنادى عقبة في الناس أن احتفروا فحفروا سبعين حساً فشربوا وأسقوا.فسمى ماء فرس. وسار حتى انتهى إلى مدينة طبنة، وبينها وبين القيروان ثمانية أيام.فأمر أصحابه أن يتقدموا فوجاً بعد فوج إلى إفريقية ثقة منه بما دوخ من البلاد، وأنه لم يبق أحد يخشاه.وسار يريد تهوذة لينظر إليها وإلى بادس، ويعرف ما يسدهما من الفرسان، فيترك فيهما بقدر الحاجة.فلما نظر الروم إلى قلة ما معه، طمعوا فيه وأغلقوا أبواب حصونهم دونه، وشتموه، ورموه بالنبل والحجارة، وهو يدعوهم إلى الله عز وجل.فلما توسط البلاد بعث الروم إلى كسيلة ابن بهرم الأوربي وكان في عسكر عقبة.