نهج البلاغة/الغراء

من موسوعة الأدب العربي
اذهب إلى:تصفح، ابحث

الغرّاء

الغرّاء - نهج البلاغة

الغرّاء

الحمد لله الذي علا بحوله. ودنا بطوله. مانحٍ كلّ غنيمةٍ وفضلٍ. وكاشف كلّ عظيمةٍ وأزلٍ أحمده على عواطف كرمه. وسوابغ نعمه. وأومن به أوّلاً بادياً. وأستهديه قريباً هادياً. وأستعينه قادراً قاهراً. وأتوكّل عليه كافياً ناصراً. وأشهد أن محمّداً صلى الله عليه وآله عبده ورسوله. أرسله لإنقاذ أمره وإنهاء عذره وتقديم نذره. أوصيكم عباد الله بتقوى الله الذي ضرب لكم الأمثال ووقّت لكم الآجال. وألبسكم الرياش وأرفع لكم المعاش، وأحاطكم بالإحصاء. وأرصد لكم الجزاء. وآثركم بالنعم السوابغ والرفد الروافغ. وأنذركم بالحجج البوالغ. وأحصاكم عدداً. ووظّف لكم مدداً في قرار خبرةٍ ودار عبرةٍ. أنتم مختبرون فيها ومحاسبون عليها فإنّ الدنيا رنقٌ مشربها ردغٌ مشرعها. يونق منظرها ويوبق مخبرها. غرورٌ حائلٌ. وظلٌّ زائلٌ. وسنادٌمائلٌ حتّى إذا أنس نافرها واطمأنّ ناكرها قمصت بأرجلها. وقنصت بأحبلها. وأقصدت بأسهمها. وأعلقت المرء أوهاق المنيّة. فائدةٌ له إلى ضنك المضجع ووحشة المرجع. ومعاينة المحلّ وثواب العمل. وكذلك الخلف يعقب السلف. لا تقلع المنيّة اختراماً ولا يرعوي الباقون اجتراماً. يحتذون مثالاً ويمضون أرسالاً إلى غاية الانتهاء. وصيّور الفناء حتّى إذا تصرّمت الأمور وتقضّت الدهور وأزف النشور أخرجهم من ضرائح القبور وأوكار الطيور. وأوجرة السباع. ومطارح المهالك سراعاً إلى أمره. مهطعين إلى معاده. رعيلاً صموتاً قياماً صفوفاً ينفذهم البصر ويسمعهم الداعي. عليهم لبوس الاستكانة. وضرع الاستسلام والذلّة. قد ضلّت الحيل. وانقطع الأمل. وهوت الأفئدة كاظمةً وخشعت الأصوات مهينمةً. وألجم العرق. وعظم الشفق وأرعدت الأسماع لزبرة الداعي إلى فصل الخطاب ومقابضة الجزاء. ونكال العقاب. ونوال الثواب. عباد مخلوقون اقتداراً. ومربوبون اقتساراً ومقبوضون احتضاراً. ومضمّنون أجداثاً. وكائنون رفاتاً. ومبعوثون أفراداً. ومدينون جزاءً. ومميّزون حساباً. قد أمهلوا في طلب المخرج وهدوا سبيل المنهج. وعمّروا مهل المستعتب. وكشفت عنهم سدف الريب وخلّوا لمضمار الجياد. وروية الارتياد. وأناة المقتبس المرتاد في مدّة الأجل ومضطرب المهل. فيالها أمثالاً صائبةً. ومواعظ شافيةً. لو صادفت قلوباً زاكيةً. وأسماعاً واعيةً. وآراء عازمةً. وألباباً حازمةً. فاتّقوا الله تقيّةً من سمع فخشع. واقترف فاعترف ووجل فعمل. وحاذر فبادر. وأيقن فأحسن. وعبّر فاعتبر. وحذّر فازدجر وأجاب فأناب. ورجع فتاب. واقتدى فاحتذى. وأرى فرأى. فأسرع طالباً. ونجا هارباً. فأفاد ذخيرةً وأطاب سريرةً. وعمر معاداً. واستظهر زاداً. ليوم رحيله. ووجه سبيله. وحال حاجته. وموطن فاقته. وقدّم أمامه لدار مقامه. فاتّقوا الله عباد الله جهة ما خلقكم له. واحذروا منه كنه ما حذّركم من نفسه واستحقّوا منه ما أعدّ لكم بالتنجّز لصدق ميعاده والحذر من هول معاده. منها جعل لكم أسماعاً لتعي ما عناها وأبصاراً لتجلو عن عشاها وأشلاءً جامعةً لأعضائها. ملائمةً لأحنائها في تركييب صورها ومدد عمرها. بأبدانٍ قائمةٍ بأرفاقها وقلوبٍ رائدةٍ لأرزاقها. في مجلّلات نعمه وموجبات مننه. وحواجز عافيته. وقدّر لكم أعماراً سترها عنكم. وخلّف لكم عبراً من آثار الماضين قبلكم من مستمتع خلاقهم ومستفسح خناقهم. أرهقتهم المنايا دون الآمال. وشذّبهم عنها تخرّم الآجال. لم يمهدوا في سلامة الأبدان، ولم يعتبروا في أنف الأوان. فهل ينتظر أهل بضاضة الشباب إلا حواني الهرم. وأهل غضارة الصحّة إلاّ نوازل السقم. وأهل مدّة البقاء إلاّ آونة الفناء مع قرب الزيال وأزوف الانتقال وعلز القلق. وألم المضض وغصص الجرض. وتلفّت الاستغاثة بنصرة الحفدة والأقرباء والأعزّة والقرناء. فهل دفعت الأقارب أو نفعت النواحب وقد غودر في محلّة الأموات رهيناً وفي ضيق المضجع وحيداً. قد هتكت الهوامّ جلدته وأبلت النواهك جدّته. وعفّت العواصف آثاره. ومحا الحدثان معالمه وصارت الأجساد شحبةً بعد بضّتها، والعظام نخرةً بعد قوّتها والأرواح مرتهنة بثقل أعبائها موقنةً بغيب أنبائها. لا تستزاد من صالح عملها، ولا تستعتب من سيىءٍ زللها أولستم أبناء القوم والآباء وإخوانهم والأقرباء. تحتذون أمثلتهم. وتركبون قدّتهم وتطأون جادّتهم. فالقلوب قاسيةٌ عن حظّها. لاهيةٌ عن رشدها سالكةٌ في غير مضمارها. كأنّ المعنيّ سواها وكأنّ الرشد في إحراز دنياها. واعلموا أنّ مجازكم على الصراط ومزالق دحضه وأهاويل زلله وتارات أهواله فاتّقوا الله تقيّة ذي لبٍّ شغل التفكّر قلبه. وانصب الخوف بدنه، وأسهر التهجّد غرار نومه وأظمأ الرجاء هواجر يومه وظلف الزهد شهواته، وأرجف الذكر بلسانه وقدم الخوف لإبّانه، وتنكّب المخالج عن وضح السبيل، وسلك أقصد المسالك إلى النهج المطلوب، ولم تفتله فاتلات الغرور، ولم تعم عليه مشتبهات الأمور. ظافراً بفرحة البشرى وراحة النعمى في أنعم نومه وآمن يومه. قد عبر معبر العاجلة حميداً. وقدّم زاد الآجلة سعيداً. وبادر من وجلٍ. وأكمش في مهلٍ ورغب في طلبٍ وذهب عن هرب وراقب في يومه غده. ونظر قدماً أمامه فكفى بالجنة ثواباً ونوالاً. وكفى بالنار عقاباً ووبالاً. وكفى بالله منتقماً ونصيراً. وكفى بالكتاب حجيجاً وخصيماً أوصيكم بتقوى الله الذي أعذر بما أنذر. واحتجّ بما نهج. وحذّركم عدوّاً نفذ في الصدور خفيّاً ونفث في الآذان تجيّاً، فأضل وأردى، ووعد فمنّى، وزيّن سيّئات الجرائم. وهوّن موبقات العظائم. حتّى إذا استدرج قرينته واستغلق رهينته أنكر ما زيّن واستعظم ما هوّن وحذّر ما أمّن. ^

ومنها في

شارك هذه الصفحة:

تابع موسوعة الأدب العربي على شبكات التواصل الإجتماعي