نهج البلاغة/القاصعة

من موسوعة الأدب العربي
اذهب إلى:تصفح، ابحث

القاصعة

القاصعة - نهج البلاغة

القاصعة

وهي تتضمن ذم إبليس على استكباره وتركه السجود لآدم عليه السلام، وأنه أول من أظهر العصبية وتبع الحمية وتحذير الناس من سلوك طريقته. الحمد الله الذي لبس العز والكبرياء واختارهما لنفسه دون خلقه، وجعلهما حمىً وحرماً على غيره، واصطفاهما لجلاله، وجعل اللعنة على من نازعه فيهما من عباده. ثم اختبر بذلك ملائكته المقربين ليميز المتواضعين منهم من المستكبرين، فقال سبحانه وهو العالم بمضمرات القلوب، ومحجوبات الغيوب: ' إني خالقٌ بشراً من طينٍ فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين فسجدا الملائكة كلهم أجمعون إلا إبليس' اعترضته الحمية فافتخر على آدم بخلقه، وتعصب عليه لأصله فعدو الله إمام المتعصبين، وسلف المستكبرين، الذي وضع أساس العصبية، ونازع الله رداء الجبرية. وأدرع لباس التعزُّز، وخلع قناع التذلل. ألا ترون كيف صغره الله بتكبره، ووضعه بترفعه. فجعله في الدنيا مدحوراً، وأعد له في الآخرة سعيراً. ولو أراد الله أن يخلق آدم من نورٍ يخطف الأبصار بضياؤه، ويبهر العقول رواؤه، وطببٍ يأخذ الأنفاس عرفه لفعل. ولو فعل لظلت له الأعناق خاضعةً، ولخفت البلوى فيه على الملائكة ولكن الله سبحانه يبتلى خلقه ببعض ما يجهلون أصله تمييزاً بالاختبار لهم ونفياً للاستكبار عنهم، وإبعاداً للخيلاء منهم. فاعتبروا بما كان من فعل الله بإبليس إذ أحبط عمله الطويل وجهده الجهيد، وكان قد عبد الله ستة آلاف سنةٍ لا يدري أمن سني الدنيا أم سني الآخرة عن كبر ساعةٍ واحدةٍ. فمن ذا بعدد إبليس يسلم على الله بمثل معصية ؟ كلا، ما كان الله سبحانه ليدخل الجنة بشراً بأمرٍ أخرج به منها ملكاً إن حكمه في أهل السماء وأهل الأرض لواحدٌ. وما بين الله وبين أحدٍ من خلقه هوادةٌ في إباحة حمىً حرمهُ على العالمين. فاحذروا عباد الله أن يعديكم بدائه، وأن يستفز كم بندائه، وأن يجلب عليكم بخيله ورجله. فلعمري لقد فوق لكم سهم الوعيد، وأغرق لكم بالنزع الشديد، ورما كم من مكانٍ قريبٍ. وقال: ' رب بما أغويتني لأزيِّننَّ لهم في الأرض ولأغوينهم أجمعين' قذفاً بغيبٍ بعيدٍ، ورجماً بظنٍ مصيبٍ. صدقه به أبناء الحمية، وإخوان العصبية، وفرسان الكبر والجاهلية. حتى إذا انقادت له الجامحة منكم، واستحكم الطماعية منه فيكم، فنجمت الحال من السر الخفي إلى الأمر الجليِّ. استفحل سلطانه عليكم، ودلف بجنوده نحوكم. فأقحموكم ولجأت الذلّ، وأحلوكم ورطات القتل، وأوطأوكم إثخان الجراحة طعناً في عيونكم، وحزاً في حلوقكم، ودقا لمناخركم، وقصد لمقاتلكم، سوقاً بخزائم القهر إلى النار المعدة. فأصبح أعظم في دنيكم جرحاً، وأورى في دنياكم قدحاً من الذين أصبحتم لهم مناصبين وعليهم متألبين. فاجعلوا عليه حدكم، وله جدكم، فلعمر الله لقد فخر على أصلكم، ووقع في حسبكم، ودفع في نسبكم، وأجلب بخيله عليكم، وقصد برجله سبيلكم. يقتنصونكم بكل مكانٍ، ويضربون منكم كل بنانٍ. لا تمتنعون بحيلةٍ، ولا تدفعون بعزيمةٍ. في حومة ذلٍ. وحلقة ضيق. وعرصة موتٍ. وجولة بلاءٍ. فأطفئوا ما كمن في قلوبكم من نيران العصبية وأحقاد الجاهلية، فإنما تلك الحمية تكون في المسلم من خطوات الشيطان ونخواته، ونزعاته ونفثاته. واعتمدوا وضع التذلل على رؤوسكم، وإلقاء التعزز تحت أقدمكم، وخلع التكبر من أعناقكم. واتخذوا التواضع مسلحةً بينكم وبين عدوكم إبليس وجنوده، فإن له من كل أمةٍ جنوداً وأعواناً، ورجلاً وفرساناً. ولا تكونوا كالمتكبر على ابن أمه من غير ما فضلٍ جعله الله فيه سوى ما ألحقت العظمة بنفسه من عداوة الحسد، وقدحت الحمية في قلبه من نار الغضب، ونفخ الشيطان في أنفه من ريح الكبر الذي أعقبه الله به الندامة، وألزمه آثام القاتلين إلى يوم القيامة. ألا وقد أمعنتم في البغي، وأفسدتم في الأرض مصارحةً لله بالمناصبة، ومبارزةً للمؤمنين بالمحاربةٍ. فالله في كبر الحمية وفخر الجاهلية. فإنه ملاقح الشنآن ومنافخ الشيطان التي خدع بها الأمم الماضية، والقرون الخالية. حتى أعنقوا في حنادس جهالته، ومهاوي ضلالته، ذللاً على سياقه، سلساً في قياده. أمراً تشابهت القلوب فيه، وتتابعت القرون عليه. وكبراً تضايقت الصدور به. ألا فالحذر الحذر من طاعة ساداتكم وكبرائكم الذين تكبروا عن حسبهم، وترفعوا فوق نسبهم، وألقوا الهجينة على ربهم، وجاحدوا الله ما صنع بهم. مكابرةً لقضائه، ومغالبةً لآلائه. فإنهم قواعد أساس العصبية. ودعائم أركان الفتنة، وسيوف اعتزاء الجاهلية. قاتقوا الله ولا تكونوا لنعمة عليكم أضداداً، ولا لفضله عندكم حساداً. ولا تطيعوا الأدعياء الذين شربتم بصفوكم كدرهم، وخلطتم بصحتكم مرضهم، وأدخلتم في حقّكم باطلهم، وهم أساس الفسوق وأحلاس العقوق. اتخذهم إبليس مطايا ضلالٍ. وجنداً بهم يصول على الناس. وتراجمةً ينطق على ألسنتهم. إستراقاً لعقولكم ودخولاً في عيونكم، ونفثاً في أسماعكم. فجعلكم مرمى نبله، وموطئ قدمه، ومأخذ يده. فاعتبروا بما أصاب الأمم المستكبرين من قبلكم من بأس الله وصولاته، ووقائعه ومثلاته، واتعظوا بمثاوي خدودهم، ومصارع جنودهم، واستعيذوا بالله من لواقح الكبر كما تستعيذونه من طوارق الدهر، فلو رخص الله في الكبر لأحد من عباده لرخص فيه لخاصة أنبيائه وأوليائه. ولكنه سبحانه كره إليهم التكابرُ ورضى لهم التواضع، فألصقوا بالأرض خدودهم، وعفروا في التراب وجوههم. وخفضوا أجنحتهم للمؤمنين، وكانوا أقواماً مستضعفين. وقد اختبرهم الله بالمخمصة، وابتلاهم بالمجهدة. وامتحنهم بالمخاوف، ومخضهم بالمكاره. فلا تعتبروا الرضا والسخط بالمال والولد جهلاً بمواقع الفتنة والاختبار في مواضع الغنى والاقتدار، وقد قال سبحانه وتعالى: 'أيحسبون أنما نمدهم به من مالٍ وبنين نسارع لهم في الخيرات بل لا يشعرون' فإن الله سبحانه يختبر عباده المستكبرين في أنفسهم بأوليائه المستضعفين في أعينهم. ولقد دخل موسى بن عمران ومعه أخوه هارون عليهما السلام على فرعون وعليهما مدارع الصوف وبأيديهما العصي فشرطا له إن أسلم بقاء ملكه ودوام عزه فقال:' ألا تعجبون من هذين يشرطان لي دوام العز وبقاء الملك وهما بما ترون من حال الفقر والذل، فهلا ألقي عليهما أساورةٌ من ذهب' إعظاماً للذهب وجمعه، واحتقاراً للصوف ولبسه. ولو أراد الله سبحانه بأنبيائه حيث بعثهم أن يفتح لهم كنوز الذهبان، ومعادن العقيان، ومغارس الجنان، وأن يحشر معهم طيور السماء ووحوش الأرض لفعل، ولو فعل لسقط البلاء، وبطل الجزاء، واضمحلت الأبناء، ولما وجب للقابلين أجور المبتلين، ولا استحق المؤمنون ثواب المحسنين، ولا لزمت الأسماء معانيها. ولكن الله سبحانه جعل رسله أولى قوةٍ في عزائمهم، وضعفةً فيما ترى الأعين من حالاتهم، مع قناعةٍ تملأ القلوب والعيون غنىً، وخصاصةٍ تملأ الأبصار والأسماع أذىً. ولو كانت الأنبياء أهل قوةً لا ترام وعزةٍ لا تضام، وملكٍ تمتد نحوه أعناق الرجال، وتشد إليه عقد الرِّحال لكان ذلك أهون على الخلق في الاعتبار وأبعد لهم في الاستكبار، ولا منوا عن رهبةٍ قاهرةٍ لهم أو رغبةٍ مائلةٍ بهم، فكانت النيَّات مشتركة والحسنات مقتسمةً. ولكن الله سبحانه أراد أن يكون الاتباع لرسله والتصديق بكتبه والخشوع لوجهه والاستكانة لأمره والاستسلام لطاعته أموراً له خاصةً لا تشوبها من غيرها شائبةٌ. وكلما كانت البلوى والاختبار أعظم كانت المثوبة والجزاء أجزل. ألا ترون أن الله اختبر الأولين من لدن آدم صلوات الله عليه إلى الآخرين من هذا العالم بأحجارٍ لا تضر ولا تنفع، ولا تبصر ولا تسمع. فجعلها بيته الحرام الذي جعله للناس قياماً. ثم وضعه بأوعر بقاع الأرض حجراً، وأقل نتائق الأرض مدراً. وأضيق بطون الأودية قطراً بين جبالٍ خشنةٍ، ورمالٍ دمثةٍ، وعيونٍ وشلةٍ، وقرىً منقطعةٍ. لا يزكو بها خفٌ، ولا حافرٌ ولا ظلفٌ. ثم أمر آدم وولده أن يثنوا أعطافهم نحوه، فصار مثابةً لمنتجع أسفارهم، وغاية لملقى رحالهم. تهوى إليه ثمار الأفئدة من مفاوز قفارٍ سحيقةٍ ومهاوي فجاج عميقةٍ. وجزائر بحارٍ منقطعةٍ، حتى يهزوا مناكبهم ذللاً يهلون لله حوله. ويرملون على أقدامهم شعثاً غبراً له. قد نبذوا السرابيل وراء ظهورهم، وشوهوا بإعفاء الشعور محاسن خلقهم، ابتلاءً عظيماً وامتحاناً شديداً واختباراً مبيناً، وتحميصاً بليغاً جعله الله سبباً لرحمته، ووصلةً إلى جنته. ولو أراد سبحانه أن يضع بيته الحرام ومشاعره العظام بين جناتٍ وأنهارٍ، وسهلٍ وقرارٍ، جم الأشجار، دانى الثمِّار، ملتفِّ البنا، متصل القرى، بين برةٍ سمراء، وروضةٍ خضراء، وأرياف محدقةٍ، وعراصٍ مغدقةٍ، ورياض ناضرةٍ، وطرقٍ عامرةٍ، لكان قد صغر قدر الجزاء على حسب ضعف البلاء. ولو كان الإساس المحمول عليها، والأحجار المرفوع بها بين زمردةٍ خضراء، وياقوتةٍ حمراء، ونورٍ وضياءٍ لخفف ذلك مسارعة الشكِّ في الصدور، ولوضع مجاهدة إبليس عن القلوب، ولنفى معتلج الريب من الناس، ولكن الله يختبر عباده بأنواع الشدائد، ويتعبدهم بأنواع المجاهد، ويبتليهم بضروب المكاره إخراجاً للتكبر من قلوبهم، وإسكاناً للتذلل في نفوسهم. وليجعل ذلك أبواباً فتحاً إلى فضله، وأسباباً ذللاَ لعفوه. فالله الله في عاجل البغي، وآجل وخامة الظلم، وسوء عاقبة الكبر فإنها مصيدة إبليس العظمى، ومكيدته الكبرى التي تساور قلوب الرجال مساورة السموم القاتلة. فما تكدى أبداً، ولا تشوى أحداً، ولا عالماً لعلمه، ولا مقلاً في طمره. وعن ذلك ما حرس الله عبادهُ المؤمنين بالصلوات والزكوات، ومجاهدة الصيام في الأيام المفروضات تسكيناً لأطرافهم، وتخشيعاً لأبصارهم، وتذليلاً لنفوسهم، وتخفيضاً لقلوبهم، وإذهاباً للخيلاء عنهم لما في ذلك من تعفير عتاق الوجوه بالتراب تواضعاً، والتصاق كرائم الجوارح بالأرض تصاغراً، ولحوق البطون بالمتون من الصيام تذللاً. مع ما من الزكاة من صرف ثمرات الأرض وغير ذلك إلى أهل المسكنة والفقر. انظروا إلى ما في هذه الأفعال من قمع نواجم الفخر، وقدع طوالع الكبر. ولقد نظرت فما وجدت أحداً من العالمين يتعصبُ لشيءٍ من الأشياء إلا عن علةٍ تحتمل تمويه الجهلاء، أو حجَّةٍ تليط بعقول السفهاء غيركم. فإنكم تتعصبون لأمرٍ لا يعرف له سببٌ ولا علةٌ، أما إبليس فتعصب على آدم لأصله. وطعن عليه في خلقته فقال: أنا أرى وأنت طينيٌّ. وأما الأغنياء من مترفة الأمم فتعصبوا الآثار مواقع النعم فقالوا: نحن أكثر أموالاً وأولاداً وما نحن بمعذبين فإن كان لا بدَّ من العصبية فليكن تعصبكم لمكارم الخصال، ومحامد الأفعال، ومحاسن الأمور التي تفاضلت فيها المجداء والنجداء من بيوتات العرب ويعاسيب القبائل بالأخلاق الرغيبة، والأحلام العظيمة، والأخطار الجليلة، والآثار المحمودة. فتعصبوا لخلال الحمد من الحفظ للجوار، والوفاء بالذمام، والطاعة للبرِّ، والمعصية للكبر، والأخذ بالفضل، والكف عن البغي، والإعظام للقتل، والإنصاف للخلق، والكظم للغيظ، واجتناب الفساد في الأرض. واحذروا ما نزل بالأمم قبلكم من المثلات بسوء الأفعال وذميم الأعمال. فتذكروا في الخير والشرِّ أحوالهم. واحذروا أن تكونوا أمثالهم. فإذا تفكرتم في تفاوت حاليهم فالزموا كلَّ أمرٍ لزمت العزة به شأنهم، وزاحت الأعداء له عنهم ومدت العافية فيه عليهم، وانقادت النعمة لهُ معهم، ووصلت الكرامة عليه حبلهم من الاجتناب للفرقة، واللزوم للألفة، والتحاض عليها والتواصي بها، واجتنبوا كل أمرٍ كسر فقرتهم، وأوهن منتهم. من تضاغن القلوب، وتشاحن الصدور، وتدابرُ النفوس، وتخاذل الأيدي، وتدبروا أحوال الماضين من المؤمنين قبلكم كيف كانوا في حال التحميص والبلاء. ألم يكونوا أثقل الخلائق أعباءً، وأجهد العباد بلاءً، وأضيق أهل الدنيا حالاً. اتخذتهم الفراعنة عبيداً فساموهم سوء العذاب، وجرعوهم المرار فلم تبرح الحال بهم في ذلِّ الهلكة وقهر الغلبة. لا يجدون حيلةً في امتناع، ولا سبيلاً إلى دفاع. حتى إذا رأى الله جدَّ الصبر منهم على الأذى في محبته، والاحتمال للمكروه من خوفه جعل لهم من مضايق البلاء فرجاً، فأبدلهم العز مكان الذلِّ، والأمن مكان الخوف فصاروا ملوكاً حكاماً. وأئمةً أعلاماً، بلغت الكرامة من الله لهم ما لم تبلغ الآمال إليه بهم. فانظروا كيف كانوا حيث كانت الأملاء مجتمعةً، والأهواء متفقةً، والقلوب معتدلةً، والأيدي مترادفةً، والسيوف متناصرةً، والبصائر نافذةً، والعزائم واحدةً، ألم يكونوا أرباباً في أقطار الأرضين، وملوكاً على رقاب العالمين. فانظروا إلى ما صاروا إليه في آخر أمورهم حين وقعت الفرقة، وتشتتت الألفة واختلفت الكلمة والأفئدة، وتشعبوا مختلفين، وتفرقوا متحازبين قد خلع الله عنهم لباس كرامته، وسلبهم غضارة نعمته. وبقى قصص أخبارهم فيكم عبراً للمعتبرين. فاعتبروا بحال ولد إسماعيل وبني إسحاق وبني إسرائيل عليهم السلام. فما أشد اعتدال الأحوال، وأقرب اشتباه الأمثال. تأملوا أمرهم في حال تشتتهم وتفرقهم ليالي كانت الأكاسرة والقياصرة أربابا لهم، يحتازونهم عن ريف الآفاق، وبحر العراق وخضرة الدنيا إلى منابت الشيح، ومهافي الريح، ونكد المعاش. فتركوهم عالةً مساكين إخوان دبرٍ ووبرٍ، أذل الأمم داراً، وأجدبهم قراراً. لا يأوون إلى جناح دعوةٍ يعتصمون بها، ولا إلى ظلِّ ألفةٍ يعتمدون على عزِّها. فالأحوال مضطربةٌ، والأيدي مختلفةٌ، والكثرة متفرقةٌ. في بلاء أزلٍ، وإطباق جهلٍ ! من بناتٍ موءودةٍ، وأصنامٍ معبودةٍ، وأرحامٍ مقطوعةٍ، وغاراتٍ مشنونةٍ. فانظروا إلى مواقع نعم الله عليهم حين بعث إليهم رسولاً، فعقد بملته طاعتهم، وجمع على دعوته ألفتهم. كيف نشرت النعمة عليهم جناح كرامتها، وأسالت لهم جداول نعيمها، والتفت الملة بهم في تربعت الأمور بهم، في ظل سلطانٍ قاهرٍ وآوتهم الحال إلى كنف عزٍ غالبٍ. وتعطفت الأمور عليهم في ذرى ملكٍ ثابتٍ. فهم حكامٌ على العالمين، وملوكٌ في أطراف الأرضين. يملكون الأمور على من كان يملكها عليهم. ويمضون الأحكام فيمن كان يمضيها فيهم. لا تغمز لهم قناةٌ، ولا تقرع لهم صفاةٌ. ألا وإنكم قد نفضتم أيديكم من حبل الطاعة. وثلمتم حصن الله المضروب عليكم بأحكام الجاهلية. فإن الله سبحانه قد امتن على جماعة هذه الأمة فيما عقد بينهم من حبل هذه الألفة التي ينتقلون في ظلهّا، ويأوون إلى كنفها، بنعمةٍ لا يعرف أحدٌ من المخلوقين لها قيمةً لأنها أرجح من كل ثمنٍ وأجل من كل خطرٍواعلموا أنكم صرتم بعد الهجرة أعراباً، وبعد الموالاة أحزاباً. ما تتعلقون من الإسلام إلاّ باسمه. ولا تعرفون من الإيمان إلاّ رسمه. تقولون النار ولا العار، كأنكم تريدون أن تكفئوا الإسلام على وجهه، انتهاكاً لحريمه، ونقضاً لميثاقه الذي وضعه الله لكم حرماً في أرضه وأمناً بين خلقه. وإنكم إن لجأتم إلى غيره حاربكم أهل الكفر، ثم لا جبرائيل ولا ميكائيل ولا مهاجرون ولا أنصار ينصرنكم إلاّ المقارعة بالسيف حتى يحكم الله بينكم. وإن عندكم الأمثال من بأس الله وقوارعه، وأيامه ووقائعه فلا تستبطئوا وعيده جهلاً بأخذه، وتهاوناً ببطشه، ويأساً من بأسه. فإن الله سبحانه لم يلعن القرن الماضي بين أيديكم إلاّ لتركهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. فلعن الله السفهاء لرُكُوب المعاصي، والحلماء لترك التناهي. ألا وقد قطعتم قيد الإسلام وعطلتم حدوده وأمتم أحكامه ألا وقد أمرني الله بقتال أهل البغي والنكث والفساد في الأرض فأما الناَّكثون فقد قاتلت، وأما القاسطون فقد جاهدت. وأما المارقة فقد دوَّخت. وأما شيطان الردهة فقد كفيته بصعقةٍ سمعت لها وجبة قلبه ورجةُ صدره. وبقيت بقيةٌ من أهل البغي. ولئن أذن الله في الكرة عليهم لأذيلنَّ منهم إلا ما يتشذر في أطراف البلاد تشذراً. أنا وضعت في الصغر بكلا كل العرب، وكسرت نواجم قرون ربيعة ومضر. وقد علمتم موضعي من رسول الله صلى الله عليه وآله وبالقرابة القريبة، والمنزلة الخصيصة. وضعني في حجره وأنا ولدٌ يضمني إلى صدره، ويكنفني إلى فراشه، ويمسني جسده ويشمني عرفه. وكان يمضغ الشيء يمضغ الشيء ثم يلقمنيه. وما وجد لي كذبةً في قولٍ، ولا خطلةً في فعلٍ. ولقد قرن الله به صلى الله عليه وآله من لدن أن كان فطيماً أعظم ملكٍ من ملائكته يسلك به طريق المكارم، ومحاسن أخلاق العالم ليله ونهاره. ولقد كنت أتبعه اتباع الفصيل أثر أمه يرفع لي في كل يومٍ من أخلاقه علماً ويأمرني بالاقتداء به. ولقد كان يجاور في كل سنةٍ بحراء فأراه ولا يراه غيري. ولم يجمع بيتٌ واحدٌ يومئذٍ في الإسلام غير رسول الله صلى الله عليه وآله وخديجة وأنا ثالثهما أرى نور الوحى والرسالة، وأشم ريح النبوة. ولقد سمعت رنة الشيطان حين نزل الوحي عليه صلى الله عليه وآله، فقلت يا رسول الله ما هذه الرنة فقال هذا الشيطان أيس من عبادته. إنك تسمع ما أسمع وترى ما أرى أنك لست بنبيٍ. ولكنك وزيرٌ وإنك لعلى خيرٍ. ولقد كنت معه صلى الله عليه وآله لما أتاه الملأ من قريشٍ، فقالوا له: يا محمد إنك قد ادعيت عظيماً لم يدعه آباؤك ولا أحد من بيتك، ونحن نسألك أمراً إن أجبتنا إليه وأريتناه علمنا أنك نبيٌ ورسولٌ، وإن لم تفعل علمنا أنك ساحرٌ كذابٌ. فقال صلى الله عليه وآله: وما تسألون قالوا تدعو لنا هذه الشجرة حتى تنقلع بعروقها وتتف بين يديك، فقال صلى الله عليه وآله: إن الله على كل شيءٍ قديرٌ، فإن فعل الله لكم ذلك أتؤمنون وتشهدون بالحقّ قالوا نعم، قال فإني سأريكم ما تطلبون، وإني لأعلم أنكم لا تفيئون إلى خيرٍ، وإن فيكم من يطرح في القليب، ومن يخرب الأحزاب. ثم قال صلى الله عليه وآله: يأيتها الشجرة إن كنت تؤمنين بالله واليوم الآخر وتعلمين أني رسول الله فانقلعي بعروقك حتى تقفي بين يدي بإذن الله. فو الذي بعثه بالحق لانقلعت بعروقها وجاءت ولها دوىٌّ شديدٌ وقصفٌ كقصفِ أجنحة الطير حتى وقفت بين يدي رسول الله صلى الله عليه وآله مرفرفةً، وألقت بغصنها الأعلى على رسول الله صلى الله عليه وآله، وببعض أغصانها على منكبي، وكنت عن يمينه صلى الله عليه وآله فلما نظر القوم إلى ذلك قالوا - علوًّا واستكباراً -: فمرها فليأتك نصفها ويبقي نصفها فأمرها بذلك، فأقبل إليه نصفها كأعجب إقبالٍ وأشده دوياً، فكادت تلتف برسول الله صلى الله عليه وآله فقالوا - كفراً وعتواًُ - فمر هذا النصف فليرجع إلى نصفه كما كان فأمره صلى الله عليه وآله فرجع. فقلت أنا: لا إله إلا الله فإني أول مؤمن بك يا رسول الله، وأول من أقر. بأن الشجرة فعلت ما فعلت بأمر الله تعلى تصديقاً بنبوتك وإجلالاً لكلمتك. فقال القوم كلهم: بل ساحرٌ كذابٌ، عجيبُ السحر خفيفٌ فيه، وهل يصدقك في أمرك سيماهم سيما الصديقين، وكلامهم كلام الأبرار. عُمَّارُ الليل ومنارُ النهار. متمسكون بجل القرآن. يحيون سنن الله وسنن رسوله لا يستكبرون ولا يعلون، ولا يغلون ولا يفسدون. قلوبهم في الجنانٍ وأجسادهم في العمل.

ومن خطبة له عليه السلام

روى أنَّ صاحباً لأمير المؤمنين عليه السلام يقال له همامٌ كان رجلاً عابداً، فقال يا أمير المؤمنين صف لي المتقين حتى كأني أنظر إليهم. فتثاقل عليه السلام عن جوابه ثم قال: يا همام اتق الله وأحسن فإن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون، فلم يقنع همامٌ بهذا القول حتى عزم عليه، فحمد الله وأثنى عليه وصلى على النبي صلى الله عليه وآله ثم قال:أما بعد، فإن الله سبحانه وتعالى خلق الخلق حين خلقهم غنيًّا عن طاعتهم، آمناً من معصيتهم، لأنه لا تضره معصية من عصاه ولا تنفعهُ طاعةُ من أطاعهُ. فقسم بينهم معيشتهم، ووضعهم من الدنيا مواضعهم. فالمتقون فيها هم أهل الفضائل. منطقهم الصواب، وملبسهم الاقتصاد، ومشيهم التواضع غضوا أبصارهم عما حرم الله عليهم، ووقفوا أسماعهم على العلم النافع لهم. نزلت في الرخاء. ولولا الأجل الذي كتب لهم لم تستقرَّ أرواحهم في أجسادهم طرفة عينٍ شوقا إلى الثواب، وخوفاً من العقاب. عظم الخالق في أنفسهم فصغر ما دونه في أعينهم، فهم والجنة كمن قد رآها فهم فيها منعَّمون، وهم والنار كمن قد رآها فهم فيها معذبون. قلوبهم محزونةٌ، وشرورهم مأمونةٌ. وأجسادهم نحيفةٌ، وحاجاتهم خفيفةٌ، وأنفسهم عفيفةٌ. صبروا أياماً قصيرةً أعقبتهم راحةً طويلةً. تجارةٌ مربحةٌ يسرها لهم ربهم. أرادتهم الدنيا فلم يريدوها. وأسرتهم ففدوا أنفسهم منها. أما الليل فصافون أقدامهم تالين لأجزاء القرآن يرتلونه ترتيلاً. يحزنون به أنفسهم ويستثيرون به دواء دائهم. فإذا مروا بآيةٍ فيها تشوقٌ ركنوا إليها طمعاً، وتطلعت نفوسهم إليها شوقاً، وظنوا أنها نصب أعينهم. وإذا مروا بآيةٍ فيها تخويفٌ أصغوا إليها مسامع قلوبهم وظنوا أن زفير جهنم وشهيقها في أصول آذانهم فهم حانون على أوساطهم، مفترشون لجبابهم وأكفهم وركبهم وأطراف أقدامهم، يطلبون إلى الله تعالى في فكاك رقابهم. وأما النهار فحلماء علماء، أبرارٌ أتقياء. قد براهم الخوف برى القداح ينظر إليهم الناظر فيحسبهم مرضى وما بالقوم من مرضٍ ويقول قد خولطوا. ولقد خالطهم أمرٌ عظيمٌ. لا يرضون من أعمالهم القليل. ولا يستكثرون الكثير. فهم لأنفسهم متهمون. ومن أعمالهم مشفقون إذا زكى أحدهم خاف مما يقال له فيقول: أنا أعلم بنفسي من غيري، وربى أعلم بي من نفسي. اللهم لا تؤاخذني بما يقولون، واجعلني أفضل مما يظنون، واغفر لي مالا يعلمون. فمن علامة أحدهم أنك ترى له قوةً في دينٍ، وحزماً في لينٍ، وإيماناً في يقينٍ. وحرصاً في علمٍ، وعلماً في حلم. وقصداً في غنىً. وخشوعاً في عبادةٍ. وتجملاً في ناقةٍ. وصبراً في شدَّةً. وطلباً في حلالٍ ونشاطاً في هُدىً. وتحرجاً عن طمعٍ. يعمل الأعمال الصالحة وهو على وجلٍ. يمسي وهمه الشكر، ويصبح وهمه الذكر. يبيت حذراً ويصبح فرحاً. حذراً لما حذر من الغفلة. وفرحاً بما أصاب من الفضل والرحمة. إن استصعبت عليه نفسه فيما تكره لم يعطها سؤلها فيما تحب. قرة عينه فيما لا يزول. وزهادته فيما لا يبقى. يمزج الحلم بالعلم. والقول بالعمل. تراه قريباً أمله. قليلاً زلله. خاشعاً قلبهُ. قانعةً نفسه. منزوراً أكله. سهلاً أمره. حريزاً دينه ميَّتةً شهوتهُ. مكظوماً غيظه. الخير منه مأمولٌ، والشر منه مأمونٌ. إن كان في الغافلين كتب في الذاكرين. وإن كان في الذاكرين لم يكتب من الغافلين. يعفو عمن ظلمه، ويعطى من حرمهُ، ويصل من قطعهُ. بعيداً فحشه. ليناً قوله. غائباً منكرهُ. حاضراً معروفهُ. مقبلاً خيرهُ. مدبراً شرهُ. في الزلازل وقور، وفي المكاره صبورٌ. وفي الرخاء شكورٌ. لا يحيفُ على من يبغضُ. ولا يأثم فيمن يحب. يعترفُ بالحق قبل أن يشهد عليه. لا يضيع ما استحفظ. ولا ينسى ما ذكِّرَ. ولا ينابز بالألقاب. ولا يضار بالجار. ولا يشمت بالمصائب. ولا يدخل في الباطل. ولا يخرج من الحقِّ. إن صمت لم يغمه صمتهُ. وإن ضحك لم يعل صوته. وإن بغى عليه صبر حتى يكون الله هو الذي ينتقم له. نفسه منه في عناءٍ. والناس منه في راحةٍ. أتعب نفسه لآخرته، وأراح الناس من نفسه. بعده عمن تباعد عنه زهدٌ ونزاهةٌ. ودنوهُ ممن دنا منه لينٌ ورحمةٌ. ليس تباعدهُ بكبرٍ وعظمةٍ، ولا دنوهُ بمكرٍ وخديعةٍ. قال فصعق همامٌ صعقةً كانت نفسه فيها. فقال أمير المؤمنين عليه السلام: أما والله لقد كنت أخافها عليه. ثم قال: أهكذا تصنع المواعظ البالغة بأهلها. فقال له قائلٌ فما بالك يا أمير المؤمنين فقال: ويحك إنَّ لكل أجلٍ وقتاً لا يعدوه وسبباً لا يتجاوزه. فمهلاً لا تعد لمثلها فإنما نفث الشيطان على لسانك.

ومن خطبة له عليه السلام يصف فيها المنافقين

نحمده على ما وفق له من الطاعة، وذاد عنه من المعصية. ونسأله لمنته تماماً وبحبله اعتصاماً. ونشهد أن محمداً عبده ورسوله خاض إلى رضوان الله كل غمرةٍ، وتجرع فيه كل غصةٍ. وقد تلون له الأدنون، وتألب عليه الأقصون. وخلعت إليه العرب أعنتها، وضربت محاربته بطون رواحلها، حتى أنزلت بساحته عداوتها من أبعد الدار وأسحق المزار. أوصيكم عباد الله بتقوى الله. وأحذِّرُ كم أهل النفِّاقٍ فإنهم الضالون المضلون، والزالون المزلون. يتلونون ألواناً، ويفتنون افتناناً، ويعمدونكم بكل عمادٍ، ويرصدونكم بكلِّ مرصادٍ. قلوبهم دويةٌ، وصفاحهم نقيةٌ. يمشون الخفاء، ويدبون الضراء وصفهم دواءٌ، وقولهم شفاءٌ، وفعلهم الداءُ العياءُ. حسدة الرخاء، ومؤكدوا البلاء، ومقنطوا الرجاء. لهم بكل طريقٍ صريعٌ وإلى كل قلبٍ شفيعٌ، ولكل شجوٍ دموعٌ. يتقارضون الثناء، ويتراقبون الجزاء. وإن سألوا ألحفوا، وإن عدلوا كشفوا، وإن حكموا أسرفوا. قد أعدوا لكل حقٍ باطلاً، ولكل قائمٍ مائلاً، ولكل حيٍّ قائلاً، ولكل بابٍ مفتاحاً، ولكل ليلٍ مصباحاً. يتوصلون إلى الطمع باليأس ليقيموا به أسواقهم، وينفقوا به أعلاقهم. يقولون فيشبهون، ويصفون فيموهون. قد هونوا الطريق، وأضلعوا المضيق. فهم لمَّة الشيطان وحمة النيران أولئك حزبُ الشيطان ألا إن حزب الشيطان هم الخاسرون.

ومن خطبة له عليه السلام.

الحمد لله الذي أظهر من آثار سلطانه وجلال كبريائه ما حير فتزهق كلُّ مهجةٍ، وتبكم كل لهجةٍ. وتدرك الشم الشوامخ، والصم الرواسخ. فيصير صلدها سراباً رقرقاً، ومعهدها قاعاً سملقاً. فلا شفيعٌ يشفع ولا حميمٌ يدفع، ولا معذرةٌ تنفعُ.

ومن خطبة له عليه السلام.

بعثهُ حين لا علمٌ قائمٌ. ولا منارٌ ساطعٌ. ولا منهجٌ واضح. أوصيكم عباد الله بتقوى الله. وأحذركم الدنيا فإنها دار شُخُوصٍ، ومحلةُ تنغيصٍ. ساكنها ظاعنٌ. وقاطنها بائنٌ. تميد بأهلها ميدان السفينة تقصفها العواصف في لجج البحار. فمنهم الغرق الوبقُ ومنهم الناجي بطون الأمواج تحفزه الرياح بأذيالها، وتحمله على أهوالها. فما غرق منها فليس بمستدركٍ، وما نجا منها فإلى مهلكٍ. عباد الله الآن فاعلموا والألسنُ مطلقةٌ، والأبدان صحيحةٌ، والأعضاء لدنةٌ، والمنقلب فسيح، والمجالُ عريضٌ، قبل إرهاق الفوتٍ، وحلول الموت. فحققوا عليكم نزولهُ، ولا تنتظروا قدومهُ. ومن كلام له عليه السلام. ولقد علم المستحفظون من أصحاب محمدٍ صلى الله عليه وآله أنِّى لم أردَّ على الله ولا على رسوله ساعةً قطُّ. ولقد واسيتهُ بنفسي في المواطن التي تنكص فيها الأبطال، وتتأخر فيها الأقدامُ نجدة أكرمني الله بها. ولقد قبض رسول الله صلى الله عليه وآله وإن رأسه لعلى صدري ولقد سالت نفسه في كفِّى فأمررتها على وجهي. ولقد وليت غسله صلى الله عليه وآله والملائكة أعواني، فضجت الدارُ والأفنيةُ ملأ يهبط وملأ يعرج وما فارقت سمعي هينمةٌ منهم. يصلون عليه حتى وارينارهُ في ضريحهِ. فمن ذا أحقُّ به منِّي حياً وميتاً ؟ فانفذوا على بصائركم، ولتصدق نيَّاتكم في جهاد عدوِّكم. فو الذي لا إله إلا هو إنِّي لعلي جادة الحق وإنهم لعلي مزلَّة الباطل. أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم.

ومن خطبة له عليه السلام.

يعلم عجيج الوحوش في الفلوات، ومعاصي العباد في الخلوات، واختلاف النينان في البحار الغامرات، وتلاطم الماء بالرياح العاصفات وأشهد أن محمداً نجيبُ الله وسفيرُ وحيه ورسول رحمته. أما بعد، فإني أوصيكم بتقوى الله الذي ابتدأ خلقكم، وإليه يكون معادكم، وبه نجاح طلبتكم، وإليه منتهى رغبتكم، ونحوه قصد سبيلكم، وإليه مرامي مفزعكم. فإن تقوى الله دواءٌ داء قلوبكم، وبصر عمى أفئدتكم، وشفاءٌ مرض أجسادكم، وصلاح فساد صدوركم، وطهور دنس أنفسكم، وجلاء عشا أبصاركم وأمن فزع جأشكم، وضياء سواد ظلمتكم. فاجعلوا طاعة الله شعاراً دون دثاركم، ودخيلاً دون شعاركم، ولطيفاً بين أضلاعكم وأميراً فوق أموركم، ومنهلاً لحين ورودكم، وشفيعاً لدرك طلبتكم وجنةً ليوم فزعكم، ومصابيح لبطون قبوركم، وسكناً لطول وحشتكم، ونفساً لكرب مواطنكم. فإن طاعة الله حرزٌ من متالف مكتنفةٍ، ومخاوف متوقعةٍ، وأوار نيرانٍ موقدةٍ. فمن أخذ بالتقوى عزبت عنه الشدائد بعد دنوها، وأحلولت له الأمور بعد مرارتها، وانفرجت عنه الأمواج بعد تراكمها، وأسهلت له الصعاب بعد إنصابها، وهطلت عليه الكرامة بعد قحوطها، وتحدَّبت عليه الرحمة بعد نفورها، وتفجرت عليه النعم بعد نضوبها، ووبلت عليه البركة بعد إرذاذها. فاتقوا الله الذي نفعكم بموعظته، ووعظكم برسالته، وامتن عليكم بنعمته. فعبدوا أنفسكم لعبادته، واخرجوا إليه من حق طاعته. ثم إن هذا الإسلام دين الله الذي اصطفاه لنفسه، واصطنعه على عينه، وأصفاه خيرة خلقه، وأقام دعائمه على محبته أذل الأديان بعزَّته، ووضع الملل برفعه، وأهان أعداءه بكرامته، وخذل محادِّيه بنصره، وهدم أركان الضلالة بركنه. وسقى من عطش من حياضه، وأتأق الحياض بمواتحه. ثم جعله لا انفصام لعروته، ولا فك لحلقته، ولا انهدام لأساسه، ولا زوال لدعائمه، ولا انقلاع لشجرته، ولا انقطاع لمدته، ولا عفاء لشرائعه، ولا جذَّ لفروعه، ولا ضنك لطرقه، ولا وعوثة لسهولته، ولا سواد لوضحه، ولا عوج لانتصابه، ولا عصل في عوده، ولا وعث لفجِّه، ولا انطفاء لمصباحه، ولا مرارة لحلاوته، فهو دعائم أساخ في الحق أسناخها، وثبت لها أساسها وينابيع غزرت عيونها، ومصابيح شبت نيرانها، ومنارٌ اقتدى بها سفارها، وأعلامٌ قصد بها فجاجها، ومناهل روى بها ورادها. جعل فيه منتهى رضوانه، وذروة دعائمه، وسنام طاعته. فهو عند الله وثيق الأركان، رقيع البنيان، منير البرهان، مضيءُ النيران، عزيزُ السلطان، مشرف المنار معوز المثار. فشرفوه واتبعوه، وأدوا إليه حقه، وصنعوه مواضعه. ثم إن الله بعث محمداً صلى الله عليه وآله بالحقِّ حين دنا من الدنيا الانقطاع، وأقبل من الآخرة الإطلاع. وأظلمت بهجتها بعد إشراقٍ، وقامت بأهلها على ساقٍ. وخشن منها مهادٌ، وأزف منها قيادٌ. في انقطاع من حلقتها، وانتشارٍ من سببها، وعفاءٍ من أعلامها، وتكشفٍ من عوراتها، وقصرٍ من طولها. جعله الله بلاغاً لرسالته، وكرامةً لأمته، وربيعاً لأهل زمانه، ورفعةً لأعوانه، وشرفاً لأنصاره. ثم أنزل عليه الكتاب نوراً لا تطفأ مصابيحه، وسراجاً لا يخبو توقده، وبحراً لا يدرك قعره، ومنهاجاً لا يضل نهجه، وشعاعاً لا يظلم ضوءهُ، وفرقاناً لا يخمد برهانه، وتبياناً لا تهدم أركانه وشفاءً لا تخشى أسقامه، وعزاً لا تهزم أنصاره، وحقاً لا تخذل أعوانه. فهو معدن الإيمان وبحبوحته، وينابيع العلم وبحوره، ورياض العدل وغدرانُهُ، وأثافي الإسلام وبنيانهُ، وأودية الحق وغيطانه. وبحرٌ لا ينزفه المستنزفون، وعيونٌ لا ينضبها الماتحون ومناهل لا يغيضها الواردون، ومنازلُ لا يضل نهجها المسافرون، وأعلامٌ لا يعمى عنها السائرون وآكامٌ لا يجوز عنها القاصدون. جعله الله ريا لعطش العلماء، وربيعاً لقلوب الفقهاء، ومحاجَّ لطرق الصلحاء، ودواءٌ ليس بعده داءٌ، ونوراً ليس معه ظلمةٌ وحبلاً وثيقاً عروته، ومعقلاً منيعاً ذروته، وعزاًّ لمن تولاه، وسلماً لمن دخله، وهدى لمن خاصم به، وفلجاً لمن حاج به، وحاملاً لمن حمله، ومطية لمن أعمله، وآيةً لمن توسم، وجنةً لمن استلام. وعلماً لمن وعى، وحديثاً لمن روى، وحكماً لمن قضى. ومن كلام له عليه السلام يوصي به أصحابه. تعاهدوا أمر الصلاة وحافظوا عليها، واستكثروا منها، وتقربوا بها، فإنها كانت على المؤمنين كتاباً موقوتاً، ألا تسمعون إلى جواب أهل النار حين سئلوا: ما سلككم في سقر قالوا لم نكُ من المصلين وإنها لتحتُّ الذنوب حت الورق، وتطلقها إطلاق الربق وشبهها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالحمة تكون على باب الرجل فهو يغتسل منها في اليوم والليلة خمس مراتٍ فما عسى أن يبقى عليه من الدرن. وقد عرف حقها رجالٌ من المؤمنين الذين لا تشغلهم عنها زينة متاع ولا قرة عين من ولدٍ ولا مالٍ. يقول الله سبحانه رجالٌ لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وكان رسول الله صلى الله عليه وآله نصباً بالصلاة بعد التبشير له بالجنة لقول الله سبحانه وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها فكان يأمر أهله ويصبر عليها نفسه. ثم إن الزكاة جعلت مع الصلاة قرباناً لأهل الإسلام فمن أعطاها طيب النفس بها فإنها تجعل له كفارةً، ومن النار حجازاً ووقايةً. فلا يتبعنَّها أحدٌ نفسه، ولا يكثرن عليها لهفهُ. فإن من أعطاها غير طيب النفس بها يرجو بها ما هو أفضل منها فهو جاهلٌ بالسنة مغبون الأجر. ضال العمل. طويلُ الندم. ثم أداء الأمانة، فقد خاب من ليس من أهلها. إنها عرضت على السموات المبنية، والأرضين المدحوة، والجبال ذات الطول المنصوبة، فلا أطول ولا أعرض ولا أعلى ولا أعظم منها. ولو امتنع شيءٌ بطولٍ أو عرضٍ أو قوةٍ أو عزٍ لامتنعن، ولكن أشفقن من العقوبة، وعقلن ما جهل من هو أضعف منهن وهو الإنسان إنه كان ظلوماً جهولاً. إن الله سبحانه وتعالى لا يخفى عليه ما العباد مقترفون في ليلهم ونهارهم. لطف به خيراً، وأحاط به علماً، وأعضاؤكم شهودٌ، وجوارحكم جنودٌ، وضمائركم عيونه، وخلواتكم عيانه. ومن كلام له عليه السلام. والله ما معاوية بأدهى منِّى ولكنه يغدر ويفجر. ولولا كراهية الغدر لكنت من أدهى الناس، ولكن كل غدرةٍ فجرةٌ، وكل فجرةٍ كفرةٌ، ولكل غادرٍ لواء يعرف به يوم القيامة. والله ما أستغفل بالمكيدة، ولا أستغمز بالشديدة. ومن كلام له عليه السلامأيها الناس لا تستوحشوا في طريق الهدى لقلة أهله، فإن الناس قد اجتمعوا على مائدةٍ شعبها قصيرٌ، وجوعها طويلٌ. أيها الناس إنما يجمع الناس الرضاء والسخط. وإنما عقر ناقة ثمود رجلٌ واحدٌ فعمهم الله بالعذاب لما عموه بالرضا فقال سبحانه: فعقروها فأصبحوا نادمين فما كان إلا أن خارت أرضهم بالخسفة خوار السكة المحماة في الأرض الخوارة. أيها الناس من سلك الطريق الواضح ورد الماء، ومن خالف وقع في التِّيهِ. ومن كلام له عليه السلام عند دفن سيدة النساء فاطمة عليها السلام:السلام عليك يا رسول الله عنى وعن ابنتك النازلة في جوارك والسريعة اللحاق بك. قل يا رسول الله عن صفيتك صبري، ورق عنها تجلدي. إلا أن لي في التأسِّي بعظيم فرقتك، وفادح مصيبتك موضع تعزٍ. فلقد وسدتك في ملحودة قبرك، وفاضت بين نحري وصدري نفسك. إنا لله وإنا إليه راجعون. فلقد استرجعت الوديعة، وأخذت الرهينة. أما حزني فسرمدٌ، وأما ليلى فمسهدٌ إلى أن يختار الله لي دارك التي أنت بها مقيمٌ. وستنبِّئك ابنتك بتضافر أمتك على هضمها فأحفها السؤال واستخبرها الحال. هذا ولم يطل العهد. ولم يخل منك الذكر. والسلام عليكما سلام مودع لا قالٍ ولا سمٍ. فإن أنصرف فلا عن ملالةٍ. وإن أقم فلا عن سوء ظنٍ بما وعد الله الصابرين. ومن كلام له عليه السلامأيها الناس إنما الدنيا دار مجازٍ والآخرة دار قرارٍ، فخذوا من ممركم لمقركم. ولا تهتكوا أستاركم عند من يعلم أسراركم وأخرجوا من الدنيا قلوبكم من قبل أن تخرج منها أبدانكم. ففيها اختبرتم، ولغيرها خلقتم. إنَّ المرء إذا هلك قال الناس ما ترك وقالت الملائكة ما قدم. لله آباءكم فقدموا بعضاً يكن لكم قرضاً ولا تخلفوا كلاًّ فيكون عليكم. ومن كلام له عليه السلام كان كثيراً ما ينادي به أصحابه:تجهزوا رحمكم الله فقد نودي فيكم بالرحيل. وأقلوا العرجة على الدنيا. وانقلبوا بصالح ما بحضرتكم من الزاد فإن أمامكم عقبةً كؤوداً، ومنازل مخوفةً مهولةً لا بد من الورود عليها والوقوف عندها. اعلموا أن ملاحظ المنية نحوكم دانيةٌ. وكأنكم بمخالبها وقد نشبت فيكم، وقد دهمتكم فيها مفظعات الأمور ومعضلات المحذور. فقطعوا علائق الدنيا، واستظهروا بزاد التقوى وقد مضى شيءٌ من هذا الكلام فيما تقدم بخلاف هذه الرواية. ومن كلام له عليه السلام كلم به طلحة والزبير بعد بيعته بالخلافة وقد عتبا من ترك مشورتهما والاستعانة في الأمور بهما:لقد نقمتما يسيراً وأرجأتما كثيراً. ألا تخبراني أي شيءٍ لكما فيه حقٌ دفعتكما عنه، وأي قسمٍ استأثرت عليكما به، أم أي حقٍ رفعه إلى أحدٌ من المسلمين ضعفت عنه أم جهلتهُ، أم أخطأت بابه. والله ما كانت لي في الخلافة رغبةٌ، ولا في الولاية إربةٌ. ولكنكم دعوتموني إليها وحملتموني عليها. فلما أفضت إلى نظرت إلى كتاب الله وما وضع لنا وأمرنا بالحكم به فاتبعته، وما استسن النبي صلى الله عليه وآله وسلم فاقتديته. فلم أحتج في ذلك إلى رأيكما ولا رأى غيركما، ولا وقع حكم جهلته فأستشير كما وإخواني المسلمين، ولو كان ذلك لم أرغب عنكما ولا عن غيركما وأما ما ذكرتما من أمر الأسوة فإن ذلك أمرٌ لم أحكم أنا فيه برأيي ولا وليته هوىً منِّى. بل وجدت أنا وأنتما ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد فرغ منه، فلم أحتج إليكما فيما فرغ الله من قسمه وأمضى فيه حكمه. فليس لكما والله عندي ولا لغيركما في هذا عتبي. أخذ الله بقلوبنا وقلوبكم إلى الحق، وألهمنا وإياكم الصبر. ثم قال عليه السلام رحم الله امرأً رأى حقاً فأعان عليه، أو رأى جوراً فرده وكان عوناً بالحق على صاحبه. ومن كلام له عليه السلام وقد سمع قوماً من أصحابه يسبون أهل الشام أيام حربهم بصفين:إني أكره لكم أن تكونوا سبابين، ولكنكم لو وضعتم أعمالهم وذكرتم حالهم كان أصوب في القول وأبلغ في العذر، وقليتم مكان سبكم إياهم. اللهم أحقن دماءنا ودماءهم، وأصلح ذات بيننا وبينهم، وأهدهم من ضلالتهم حتى يعرف الحق من جهله ويرعوي عن الغي والعدوان من لهج به. وقال له عليه السلام في بعض أيام صفين وقد رأى الحسن عليه السلام يتشّرع إلى الحرباملكوا عني هذا الغلام لا يهدني، فإنني أنفس بهذين يعني الحسن والحسين عليهما السلام على الموت لئلاَّ ينقطع بهما نسل رسول الله صلى الله عليه وآله وقوله عليه السلام املكوا عنيِّ هذا الغلام من أعلى الكلام وأفصحه. ومن كلام له عليه السلام قاله لما اضطرب عليه أصحابهُ في أمر الحكومة:أيها الناس إنه لم يزل أمري معكم على ما أحب حتى نهكتكم الحرب، وقد والله أخذت منكم وتركت، وهي لعدوكم أنهك. لقد كنت أمس أميراً فأصبحت اليوم مأموراً. وكنت أمس ناهباً فأصبحت اليوم منهياً. وقد أحببتم البقاء وليس لي أن أحملكم على ما تكرهون. ومن كلام له عليه السلام بالبصرة وقد دخل على العلاء بن زياد الحارثي وهو من أصحابه يعوده فلما رأى سعة داره قال:ما كنت تصنع بسعة هذه الدار في الدنيا. أما أنت إليها في الآخرة كنت أحوج، وبلى إن شئت بلغت بها الآخرة تقرى فيها الضيف وتصل فيها الرحم، وتطلع منها الحقوق مطالعها، فإذاً أنت قد بلغت بها الآخرة. فقال له العلاء يا أمير المؤمنين أشكو إليك أخي عاصم بن زيادٍ، قال وماله قال لبس العباء وتخلى عن الدنيا. قال عليَّ به. فلما جاء قال:يا عديَّ نفسه لقد استهام بك الخبيث، أما رحمت أهلك وولدك. أترى الله أحل لك الطيبات وهو يكره أن تأخذها ؟ أنت أهون على الله من ذلك. قال: يا أمير المؤمنين هذا أنت في خشونة ملبسك وجشوبة مأكلك. قال:ويحك إنيِّ لست كأنت، إن الله فرض على أئمة العدل أن يقدروا أنفسهم بضعفة الناس كيلا يتبيغ بالفقير فقره. ومن كلام له عليه السلام وقد سأله سائل عن أحاديث البدع وعما في أيدي الناس من اختلاف الخبر، فقال عليه السلام:إن في أيدي الناس حقاً وباطلاً. وصدقاً وكذباً. ناسخاً ومنسوخاً وعاماً وخاصاً. ومحكماً ومتشابهاً. وحفظاً ووهما. ولقد كذب على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على عهده حتى قام خطيباً فقال: 'من كذب على متعمداً فليتبوأ مقعده من النار'. وإنما أتاك بالحديث أربعة رجالٍ ليس لهم خامسٌ:رجلٌ منافقٌ مظهر للإيمان، متصنع بالإسلام لا يتأثم ولا يتحرج، يكذب على رسول الله صلى الله عليه وآله متعمداً، فلو علم الناس أنه منافقٌ كاذبٌ لم يقبلوا منه ولم يصدقوا قوله، ولكنهم قالوا صاحب رسول الله صلى الله عليه وآله رأى وسمع منه ولقف عنه فيأخذون بقوله، وقد أخبرك الله عن المنافقين بما أخبرك، ووصفهم به لك، ثم بقوا بعده عليه وآله السلام فتقربوا إلى أئمة الضلالة والدعاة إلى النار بالزور والبهتان، فولوهم الأعمال وجعلوهم حكاماً على رقاب الناس، وأكلوا بهم الدنيا. وإنما الناس مع الملوك والدنيا إلا من عصم الله فهو أحد الأربعة. ورجلٌ سمع من رسول الله شيئاً لم يحفظه على وجهه فوهم فيه ولم يتعمد كذباً فهو في يديه ويرويه ويعمل به ويقول أنا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وآله، فلو علم المسلمون أنه وهم فيه لم يقبلوه منه، ولو علم هو أنه كذلك لرفضه. ورجلٌ ثالث سمع من رسول الله صلى الله عليه وآله شيئاً يأمر به ثم نهى عنه وهو لا يعلم، أو سمعه ينهى عن شيءٍ ثم أمر به وهو لا يعلم، فحفظ المنسوخ ولم يحفظ الناسخ، فلو علم أنه منسوخٌ لرفضه، ولو علم المسلمون إذ سمعوه منه أنه منسوخٌ لرفضوه. وآخر رابعٌ لم يكذب على الله ولا على رسوله، مبغض للكذب خوفاً من الله وتعظيماً لرسول الله صلى الله عليه وآله ولم يهم، بل حفظ ما سمع على وجهه، فجاء به على ما سمعه لم يزد فيه ولم ينقص منه، فحفظ الناسخ فعمل به، وحفظ المنسوخ فجنب عنه، وعرف الخاص والعام فوضع كل شيءٍ موضعه، وعرف المتشابه ومحكمه. وقد كان يكون من رسول الله صلى الله عليه وآله الكلام له وجهان: فكلامٌ خاصٌ وكلامٌ عامٌ، فيسمعه من لا يعرف ما عنى الله به ولا ما عنى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فيحمله السامع ويوجهه على غير معرفةٍ بمعناه وما قصد به وما خرج من أجله. وليس كل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من كان يسأله ويستفهمه حتى أن كانوا ليحبون أن يجئ الأعرابي والطارئ فيسأله عليه السلام حتى يسمعوا. وكان لا يمر بي من ذلك شيءٌ إلا سالت عنه وحفظته. فهذه وجوه ما عليه الناس في اختلافهم وعللهم في رواياتهم.

ومن خطبة له عليه السلام:

وكان من اقتدار جبروته وبديع لطائف صنعته أن جعل من ماء البحر الزاخر المتراكم المتقاصف يبساً جامداً. ثم فطر منه أطباقاً ففتقها سبع سمواتٍ بعد ارتتاقها فاستمسكت بأمره، وقامت على حدِّه. وأرسى أرضاً يحملها المثعنجر والقمقام المسخر. قد ذلَّ لأمره، وأذعن لهيبته، ووقف الجاري منه لخشيته. وجبل جلاميدها ونشوز متونها وأطوادها. فأرساها في مراسيها. وألزمها قرارتها فمضت رؤوسها في الهواء، ورست أصولها في الماء. فأنهد جبالها عن سهولها، وأساخ قواعدها في متون أقطارها ومواضع أنصابها. فأشهق قلالها، وأطال أنشازها. وجعلها للأرض عماداً، وأرزها فيها أوتاداً فسكنت على حركتها من أن تميد بأهلها أو تسيخ بحملها أو تزول عن مواضعها. فسبحان من أمسكها بعد موجان مياهها، وأجمدها بعد رطوبة أكنافها. فجعلها لخلقه مهاداً، وبسطها لهم فراشاً فوق بحرٍ لجيٍ راكدٍ لا يجري، وقائمٍ لا يسري تكركره الرياح العواصف. وتمخضه الغمام الذوارفُ إن في ذلك لعبرة لمن يخشى.

ومن خطبة له عليه السلام:

اللهم أيما عبدٍ من عبادك سمع مقالتنا العادلة غير الجائرة والمصلحة في الدين والدنيا غير المفسدة فأبي بعد سمعه لها إلا النكوص عن نصرتك، والإبطاء عن إعزاز دينك، فإنا نستشهدك عليه بأكبر الشاهدين شهادةً. ونستشهد عليه جميع من أسكنته أرضك وسماواتك، ثم أنت بعد المغنى عن نصره والآخذ له بذنبه.

ومن خطبة له عليه السلام:

الحمد الله العلي عن شبه المخلوقين، الغالب لمقال الواصفين. الظاهر بعجائب تدبيره للناظرين، الباطن بجلال عزته من الفكر المتوهمين. العالم بلا اكتساب ولا ازديادٍ ولا علمٍ مستفادٍ، المقدر لجميع الأمور بلا رويةٍ ولا ضميرٍ. الذي لا تغشاه الظلم ولا يستضئ بالأنوار، ولا يرهقه ليل ولا يجري عليه نهارٌ. ليس إدراكه بالأبصار ولا علمه بالأخبار. منها في ذكر النبي صلى الله عليه وآله: أرسله بالضياء وقدمه في الاصطفاء فرتق به المفاتق، وساور به المغالب. وذلل به الصعوبة، وسهل به الحزونة حتى سرح الضلال عن يمينٍ وشمالٍ. ومن كلام له عليه السلام:وأشهد أنه عدلٌ فصل. وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وسيد عباده كلما نسخ الله الخلق فرقتين جعله في خيرهما. لم يسهم فيه عاهرٌ ولا ضرب فيه فاجرٌ. ألا وإن الله جعل للخير أهلاً. وللحق دعائم، وللطاعة عصماً وإن لكم عند كل طاعةٍ عوناً من الله يقول على الألسنة ويثبت الأفئدة. فيه كفاءٌ لمكتفٍ، وشفاءٌ لمشتفٍ. واعلموا أن عباد الله المستحفظين علمه يصونون مصونه، ويفجرون عيونه. يتواصلون بالولاية. ويتلاقون بالمحبة. ويتساقون بكأسٍ رويةٍ، ويصدرون بريةٍ. لا تشوبهم الريبة ولا تسرع فيهم الغيبة. على ذلك عقد خلقهم وأخلاقهم. فعليه يتحابون وبه يتواصلون. فكانوا كتفاضل البذر ينتقى، فيؤخذ منه ويلقى. قد ميزه التخليص، وهذَّبه التمحيص. فليقبل امرؤٌٌ كرامةً بقبولها. وليحذر قارعةً قبل حلولها. ولينظر امرؤٌٌ في قصير أيامه، وقليل مقامه في منزلٍ حتى يستبدل به منزلاً. فليصنع لمتحوله ومعارف منتقله. فطوبى لذي قلبٍ سليمٍ أطاع من يهديه، وتجنب من يرديه، وأصاب سبيل السلامة ببصر من بصره وطاعة هادٍ أمره. وبادر الهدى قبل أن تغلق أبوابه وتقطع أسبابه. واستفتح التوبة وأماط الحوبة. فقد أقيم على الطريق وهدى نهج السبيل.

ومن دعاءٍ كان يدعو به عليه السلام كثيراً:

الحمد الله الذي لم يصبح بي ميتاً ولا سقيماً، ولا مضروباً على عروقي بسوءٍ، ولا مأخوذاً بأسوأ عملي. ولا مقطوعاً دابري، ولا مرتداً عن ديني، ولا منكراً لربي، ولا مستوحشاً من إيماني، ولا ملتبساً عقلي، ولا معذباً بعذاب الأمم من قبلي. أصبحت عبداً مملوكاً ظالماً لنفسي، لك الحجَّة على ولا حجة لي. لا أستطيع أن آخذ إلا ما أعطيتني، ولا أتقى إلا ما وقيتني. اللهم إني أعوذ بك أن أفتقر في غناك، أو أصل في هداك، أو أضام في سلطانك، أو أضطهد و الأمر لك. الهم اجعل نفسي أول كريمةٍ تنتزعها من كرائمي، وأول وديعةٍ ترتجعها من ودائع نعمك عندي. اللهم إنا نعود بك أن نذهب عن قولك، أو نفتتن عن دينك. أو تتابع بنا أهواؤنا دون الهدى الذي جاء من عندك.

ومن خطبة له عليه السلام بصفين

أما بعد فقد جعل الله لي عليكم حقاً بولاية أمركم، ولكم على من الحق مثل الذي عليكم. فالحق أوسع الأشياء في التواصف، وأضيقها في التناصف. ولا يجري إلا جرى عليه، ولا يجري عليه إلا جرى له، ولو كان لأحدٍ أن يجري له ولا يجري عليه لكان ذلك خالصاً لله سبحانه دون خلقه لقدرته على عباده ولعدله في كل ما جرت عليه صروف قضائه. ولكنه جعل حقه على العباد أن يطيعوه، وجعل جزاءهم عليه مضاعفة الثواب تفضلاً منه وتوسعاً بما هو من المزيد أهله. ثم جعل سبحانه من حقوقه حقوقاً افترضها لبعض الناس على بعضٍ، فجعلها تتكافأ في وجوهها ويجب بعضها بعضاً. ولا يستوجب بعضها إلا ببعضٍ. وأعظم ما افترض سبحانه من تلك الحقوق حق الوالي على الرعية وحق الرعية على الوالي. فريضةً فرضها الله سبحانه لكلٍ على كلٍ، فجعلها نظاماً لألفتهم وعزاً لديهم. فليست تصلح الرعية إلا بصلاح الولاة، ولا تصلح الولاة إلا باستقامة الرعية. فإذا أدت الرعية إلى الوالي حقه، وأدى الوالي إليها حقها، عزَّ الحق بينهم، وقامت، مناهج الدين، واعتدلت معالم العدل، وجرت على أذلالها السنن فصلح بذلك الزمان، وطمع في بقاء الدولة، ويئست مطامع الأعداء. وإذا غلبت الرعية وإليها، وأجحف الوالي برعيته اختلفت هنالك الكلمة. وظهرت معالم الجوز. وكثر الإدغال في الدين وتركت محاج السنن. فعمل بالهوى. وعطلت الأحكام. وكثرت علل النفوس. فلا يستوحش لعظيم حقٍ عطل. ولا لعظيم باطلٍ فعل. فهنالك تذل الأبرار وتعز الأشرار، وتعظم تبعات الله عند العباد. فعليكم بالتناصح في ذلك وحسن التعاون عليه، فليس أحدٌ وإن اشتد على رضاء الله حرصه وطال في العمل اجتهاده ببالغٍ حقيقة ما الله أهله من الطاعة له،. ولكن من واجب حقوق الله على العباد النصيحة بمبلغ جهدهم، والتعاون على إقامة الحق بينهم. وليس امرؤٌ وإن عظمت في الحقِّ منزلته، وتقدمت في الدين فضيلته بفوق أن يعاون على ما حمله الله من حقه، ولا امرؤ وإن صغرته النفوس واقتحمته العيون بدون أن يعين على ذلك أو يعان عليه. فأجابه عليه السلام رجلٌ من أصحابه بكلامٍ طويلٍ يكثر فيه الثناء عليه ويذكر سمعه وطاعته له فقال عليه السلام:إن من حق من عظم جلال الله في نفسه، وجل موضعه من قلبه أن يصغر عنده لعظم ذلك كل ما سواه. وإن أحق من كان كذلك لمن عظمت نعمة الله عليه ولطف إحسانه إليه. فإنه لم تعظم نعمة الله على أحدٍ إلا ازداد حق الله عليه عظماً، وإن من أسخف حالات الولات عند صالح الناس أن يظن بهم حب الفخر، ويوضع أمرهم على الكبر. وقد كرهت أن يكون جال في ظنكم أني أحب الإطراء واستماع الثناء. ولست بحمد الله كذلك. ولو كنت أحب أن يقال ذلك لتركته انحطاطاً لله سبحانه عن تناول ماهو أحق به من العظمة والكبرياء. وربما استحلى الناس الثناء بعد البلاء. فلا تثنوا على بجميل ثناءٍ لإخراجي نفسي إلى الله وإليكم من التقية في حقوقٍ لم أفرغ من أدائها، وفرائض لابد من إمضائها، فلا تكلموني بما تكلم به الجبابرة، ولا تتحفظوا مني بما يتحفظ به عند أهل البادرة. ولا تخالطوني بالمصانعة. ولا تظنوا بي استثقالاً في حقٍ قيل لي ولا التماس إعظامٍ لنفسي. فإنه من استثقل الحق أن يقال له أو العدل أن يعرض عليه كان العمل بهما أثقل عليه. فلا تكفوا عن مقالةٍ بحقٍ أو مشورةٍ بعدلٍ، فإني لست في نفسي بفوق أن أخطئ، ولا آمن ذلك من فعلي إلا أن يكفي الله من نفسي ماهو أملك به مني. فإنما أنا وأنتم عبيدٌ مملوكون لربٍ لا رب غيره. يملك منا ما لا نملك من أنفسنا، وأخرجنا مما كنا فيه إلى ما صلحنا عليه، فأبدلنا بعد الضلالة بالهدى، وأعطانا البصيرة بعد العمي. ومن كلام له عليه السلام:اللهم إني أستعديك على قريشٍ فإنهم قد قطعوا رحمي، وأكفأوا إنائي، وأجمعوا على منازعتي حقاً كنت أولى به من غيري، وقالوا: ألا إن في الحق أن تمنعه، فاصبر مغموماً أو مت متأسفاً، فنظرت فإذا ليس لي رافدٌ ولا ذابٌ ولا مساعدٌ إلا أهل بيتي، فضننت بهم عن المنية فأغضيت على القذى، وجرعت ريقي على الشجي، وصبرت من كظم الغيظ على أمر من العلقم، وآلم للقلب من حزِّ الشفار وقد مضى هذا الكلام في أثناء خطبةٍ متقدمةٍ إلا أني كررته ههنا لاختلاف الروايتين ومنه قي ذكر السائرين إلى البصرة لحربه عليه السلام. فقدموا على عمالي وخزان بيت مال المسلمين الذي في يدي، وعلى أهل مصرٍ كلهم في طاعتي وعلى بيعتي، فشتتوا كلمتهم، وأفسدوا على جماعتهم. ووثبوا على شيعتي فقتلوا طائفةً منهم غراً، وطائفةٌ عضوا على أسيافهم فضاربوا بها حتى لقوا الله صادقين. ومن كلام له عليه السلاملما مر بطلحة وعبد الرحمن بن عتاب بن أسيدٍ وهما قتيلان يوم الجمللقد أصبح أبو محمدٍ بهذا المكان غريباً. أما والله لقد كنت أكره أن تكون قريشٌ قتلى تحت بطون الكواكب. أدركت وترى بني عبد منافٍ وأفلتتني أعيان بني جمحٍ، لقد أتلعوا أعناقهم إلى أمرٍ لم يكونوا أهله فوقصوا دونه. ومن كلام له عليه السلامقد أحيي عقله وأمات نفسه، حتى دق جليلة ولطف غليظه، وبرق له لامعٌ كثير البرق فأبان له الطريق وسلك به السبيل، وتدافعته الأبواب إلى باب السلامة ودار الإقامة، وثبتت رجلاه بطمأنينة بدنه في قرار الأمن والراحة بما استعمل قلبه وأرضى ربه. ومن كلام له عليه السلامبعد تلاوته 'ألهاكم التكاثر حتى زرتم المقابر '. ياله مراماً ما أبعده، وزوراً ما أغفله، وخطراً ما أفظعه. لقد استخلوا منهم أي مدكرٍ، وتناوشوهم من مكانٍ بعيدٍ أفبمصارع آبائهم يفخرون أم بعديد الهلكي يتكاثرون يرتجعون منهم أجساداً خوت، وحركاتٍ سكنت. ولأن يكونوا عبراً أحق من أن يكونوا متفخراً، ولأن يهبطوا بهم جناب ذلةٍ أحجى من أنت يقوموا بهم مقام عزة. لقد نظروا إليهم بأبصار العشوة. وضربوا منهم في غمرة جهالةٍ. ولو استنطقوا عنهم عرصات تلك الديار الخاوية والربوع الخالية لقالت ذهبوا في الأرض ضلالاً، وذهبتم في أعقابهم جهالاً. تطأون في هامهم، وتستثبتون في أجسادهم، وترتعون فيما لفظوا، وتسكنون فيما خربوا، وإنما الأيام بينكم وبينهم بواكٍ ونوائح عليكم. أولئكم سلف غايتكم، وفراط مناهلكم الذين كانت لهم مقاوم العز وحلبات الفخر ملوكاً وسوقاً. سلكوا في بطون البرزخ سبيلاً سلطت الأرض عليهم فيه، فأكلت من لحومهم وشربت من دمائهم. فأصبحوا في فجوات قبورهم جماداً لا ينمون، وضماراً لا يوجدون. لا يفزعهم ورود الأهوال، ولا يحزنهم تنكر الأحوال، ولا يحفلون بالرواجف، ولا يأذنون للقواصف. غيباً لا ينتظرون، وشهوداً لا يحضرون. وإنما كانوا جميعاً فتشتتوا، وآلافاً فافترقوا. وما عن طول عهدهم ولا بعد محلهم عميت أخبارهم وصمت ديارهم، ولكنهم سقوا كأساً بدلتهم بالنطق خرساً، وبالسمع صمماً، وبالحركات سكوناً. فكأنهم في ارتجال الصفة صرعى سباتٍ. جيرانٌ لا يتأنسون، وأحباء لا يتزاورون. بليت بينهم عرى التعارف وانقطعت منهم أسباب الإخاء. فكلهم وحيدٌ وهم جميعٌ. وبجانب الهجر وهم أخلاء. لا يتعارفون لليلٍ صباحاً ولا لنهارٍ مساءً. أي الجديدين ظعنوا فيه كان عليهم سرمداً. شاهدوا من أخطار دارهم أفظع مما خافوا، ورأوا من آياتها أعظم مما قدروا. فكلتا الغايتين مدت لهم إلى مباءةٍ فاتت مبالغ الخوف والرجاء. فلو كانوا ينطقون بها لعيوا بصفة ما شاهدوا وما عانوا ولئن عميت آثارهم وانقطعت أخبارهم. لقد رجعت فيهم أبصار العبر، وسمعت عنهم آذان العقول، وتكلموا من غير جهات النطق. فقالوا كلحت الوجوه النواضر وخوت الأجساد النواعم. ولبسنا أهدام البلى. وتكاءدنا ضيق المضجع. وتوارثنا الوحشة. وتهكمت علينا الربوع الصموت فانمحت محاسن أجسادنا، وتنكرت معارف صورنا، وطالت في مساكن الوحشة إقامتنا. ولم نجد من كربٍ فرجاً، ولا من ضيقٍ متسعاً. فلو مثلتهم بعقلك أو كشف عنهم محجوب الغطاء لك وقد ارتسخت أسماعهم بالهوام فاستكت، واكتحلت أبصارهم بالتراب فخسفت، وتقطعت الألسنة في أفواههم بعد ذلاقتها، وهمدت القلوب في صدورهم بعد يقظتها. وعاث في كلِّ جارحةٍ منهم جديد بلى سمجها، وسهل طرق الآفة إليها، مستسلمات فلا أيد تدفع، ولا قلوبٌ تجزع لرأيت أشجان قلوبٍ، وأقذاء عيونٍ. لهم في كل فظاعةٍ صفة حالٍ لا تنتقل، وغمرةٌ لا تنجلي. وكم أكلت الأرض من عزيز جسدٍ وأنيق لونٍ كان في الدنيا غذي ترفٍ وربيب شرفٍ. يتعلل بالسرور في ساعة حزنه، ويفزع إلى السلوة إن مصبيةٌ نزلت به ضناًّ بغضارة عيشه وشحاحةً بلهوه ولعبه. فبينا هو يضحك إلى الدنيا وتضحك إليه في ظل عيشٍ غفولٍ إذ وطىء الدهر به حسكه، ونقضت الأيام قواه، ونظرت إليه الحتوف من كثبٍ. فخالطه بثٌ لا يعرفه، ونجىُّ همٍ ما كان يجده. وتولدت فيه فترات عللٍ آنس ما كان بصحته. ففزع إلى ما كان عوده الأطباء من تسكين الحار بالقار، وتحريك البارد بالحار، فلم يطفئ بباردٍ إلا ثور حرارةً، ولا حرك بحارٍ إلا هيج برودةً، ولا اعتدل بممازجٍ لتلك الطبائع إلا أمد منها كل ذات داءٍ حتى فتر معلله، وذهل ممرضه. وتعايا أهله بصفة دائه، وخرسوا عن جواب السائلين عنه. وتنازعوا دونه شجيَّ خبرٍ يكتمونه، فقائلٌ يقول هو لما به، وممنٍ لهم إياب عافيته، ومصير لهم على فقده، يذكرهم أسى الماضين من قبله. فبينا هو كذلك على جناحٍ من فراق الدنيا وترك الأحبة، إذ عرض له عارضٌ من جناحٍ من فراق الدنيا وترك الأحبة، إذ عرض له عارضٌ من غصصه فتحيرت نوافذ فطنته، ويبست رطوبة لسانه. فكم من مهمٍ من جوابه عرفه فعيَّ عن ردِّه، ودعاءٍ مؤلمٍ لقلبه سمعه فتصام عنه من كبيرٍ كان يعظمه أو صغيرٍ كان يرحمه. وإن للموت لغمراتٍ هي أفظع هي أفظع من أن تستغرق بصفةٍ أو تعتدل على قلوب أهل الدنيا. ومن كلام له عليه السلام:قاله عند تلاوته رجالٌ لا تلهيهم تجارةٌ ولا بيعٌ عن ذكر الله إن الله سبحانه جعل الذكر جلاءً للقلوب تسمع به بعد الوقرة وتبصر به بعد العشوة، وتنقاد به بعد المعاندة. وما برح لله - عزت آلاؤه - في البرهة بعد البرهة وفي أزمان الفترات عبادٌ ناجاهم في فكرهم، وكلمهم في ذات عقولهم، فاستصبحوا بنور يقظةٍ في الأسماع والأبصار والأفئدة. يذكرون بأيام الله، ويخرفون مقامه بمنزلة الأدلة في الفلوات. من أخذ القصد حمدوا إليه طريقه وبشروه بالنجاة. ومن أخذ يميناً وشمالاً ذموا إليه الطريق، وحذروه من الهلكة، وكانوا كذلك مصابيح تلك الظلمات وأدلة تلك الشبهات وإن للذكر لأهلاَ أخذوه من الدنيا بدلاً فلم تشغلهم تجارةٌ ولا بيعٌ عنه، يقطعون به أيام الحياة ويهتفون بالزواجر عن محارم الله في أسماع الغافلين. ويأمرون بالقسط ويأتمرون به، وينهون عن المنكر ويتناهون عنه. فكأننا قطعوا الدنيا إلى الآخرة وهم فيها فشاهدوا ما وراء ذلك، فكأنما اطلعوا غيوب أهل البرزخ في طول الإقامة فيه، وحققت القيامة عليهم عداتها. فكشفوا غطاء ذلك لأهل الدنيا حتى كأنهم يرون مالا يرى الناس، ويسمعون مالا يسمعون. فلو مثلتهم لعقلك في مقاومهم المحمودة، ومجالسهم المشهودة وقد نشروا دواوين أعمالهم، وفرغوا لمحاسبة أنفسهم عن كل صغيرةٍ وكبيرةٍ أمروا بها فقصروا عنها، أو نهوا عنها ففرطوا فيها، وحملوا ثقل أوزارهم ظهورهم فضعفوا عن الاستقلال بها فنشجوا نشيجاً وتجاوبوا نحيباً. يعجون إلى ربهم من مقاوم ندمٍ واعترافٍ لرأيت أعلام هدىً، ومصابيح دجىً. قد حفت بهم الملائكة، وتنزلت عليهم السكينة، وفتحت لهم أبواب السماء، وأعدت لهم مقاعد الكرامات في مقامٍ أطلع الله عليهم فيه فرضى سعيهم وحمد مقامهم يتنسمون بدعائه روح التجاوز. رهائن فاقةٍ إلى فضله، وأساري ذلةٍ لعظمته. جرح طول الأسى قلوبهم، وطول البكاء عيونهم. لكل باب رغبةٍ إلى الله منهم يد قارعةُ يسألون من لا تضيق لديه المنادح ولا يخيب عليه الراغبون. فحاسب نفسك لنفسك فإن غيرها من الأنفس لها حسيبٌ غيرك. ومن كلام له عليه السلامقاله عند تلاوته 'يأيها الإنسان ما غرك بربك الكريم'. أدحض مسئولٍ حجةٍ، وأقطع مغترٍّ معذرةً. لقد أبرح جهالةً بنفسه. يا أيها الإنسان ما جرأك على ذنبك، وما غرَّك بربك، وما آنسك بهلكة نفسك. أما من دائك بلولٌ. أم ليس من نومتك يقظةٌ أما ترحم من نفسك ما ترحم من غيرك. فربما ترى الضاحي لحر الشمس فتظله، أو ترى المبتلي بألمٍ يمض جسده فتبكى رحمةً له، فما صبرك على دائك، وجلدك على مصابك، وعزاك عن البكاء على نفسك. وهي أعز الأنفس عليك. وكيف لا يوقظك خوف بيات نقمةٍ وقد تورطت بمعاصيه مدارج سطواته. فتداو من داء الفترة في قلبك بعزيمةٍ، ومن كرى الغفلة في ناظرك بيقظةٍ. وكن لله مطيعاً، وبذكره آنساً. وتمثل في حال توليك عنه إقباله عليك. يدعوك إلى عفوه ويتغمدك بفضله وأنت متولٍ عنه إلى غيره. فتعالى من قوىٍ ما أكرمه، وتواضعت من ضعيفٍ ما أجرأك على معصيته وأنت في كنف ستره مقيمٌ، وفي سعة فضله متقلبٌ. فلم يمنعك فضله ولم يهتك عنك ستره، بل لم تخل من لطفه مطرف عينٍ، في نعمةٍ يحدثها لك، أو سيئةٍ يسترها عليك، أو بليةٍ يصرفها عنك. فما ظنك به لو أطعته وأيم الله لو أن هذه الصفة كانت في متفقين في القوة، متوازيين في القدرة لكنت أول حاكمٍ على نفسك بذميم الأخلاق ومساوي الأعمال. وحقاً أقول ما الدنيا غرتك ولكن بها اغتررت. ولقد كاشفتك العظات وآذنتك على سواءٍ. ولهى بما تعدك من نزول البلاء بجسمك والنقص في قوتك أصدق وأوفى من أن تكذبك أو تغرك. ولرب ناصح لها عندك متهمٌ، وصادقٍ من خبرها مكذبٌ. ولئن تعرفتها في الديار الخاوية والربوع الخالية لتجدنها من حسن تذكيرك وبلاغ موعظتك بمحلة الشفيق عليك والشحيح بك. ولنعم دار من لم يرض بها داراً، ومحل من لم يوطنها محلاً. وإن السعداء بالدنيا غداً هم الهاربون منها اليوم. إذا رجفت الراجفة. وحقت بجلائلها القيامة. ولحق بكل منسكٍ أهله، وبكل معبودٍ عبدته، وبكل مطاع أهل طاعته، فلم يجز في عدله وقسطه يومئذٍ خرق بصرٍ في الهواء، ولا همس قدمٍ في الأرض إلا بحقه. فكم حجةٍ يوم ذاك داحضةٍ، وعلائق عذرٍ منقطعةٍ. فتحر من أمرك ما يقوم به عذرك، وتثبت به حجتك. وخذ ما يبقى لك مما لا تبقى له. وتيسر لسفرك. وشم برق النجاة. وأرخل مطايا التشمير. ومن كلام له عليه السلاموالله لأن أبيت على حسك السعدان مسهداً، وأجر في الأغلال مصفداً، أحب إلى من أن ألقى الله ورسوله يوم القيامة ظالماً لبعض العباد، وغاصباً لشيءٍ من الحطام. وكيف أظلم أحداً لنفسٍ يسرع إلى البلى قفولها، ويطول في الثرى حلولها. والله لقد رأيت عقيلاً، وقد أملق حتى استماحني من بركم صاعاً، ورأيت صبيانه شعث الشعور غبر الألوان من فقرهم كأنما سودت وجوههم بالعظلم، وعاودني مؤكداً وكرر على القول مردداً فأصغيت إليه سمعي فظن أني أبيعه ديني وأتبع قياده مفارقاً طريقي، فأحميت له حديدةً ثم أدنيتها من جسمه ليعتبر بها فضج ضجيج ذي دنفٍ من ألمها، وكاد أن يحترق من ميبسمها، فقلت له ثكلتك الثواكل يا عقيل، أنتن من حديدةٍ أحماها إنسانها للعبه، وتجرني إلى نارٍ سجرها جبارها لغضبه. أنتن من الأذى ولا أئن من لظى. وأعجب من ذلك طارقٌ طرقنا بملفوفةٍ في وعائها، ومعجونةٍ شنئتها كأنما عجنت بريق حيةٍ أو قيئها، فقلت أصلة أم زكاةٌ أم صدقةٌ فذلك محرمٌ علينا أهل البيت. فقال لا ذا ولا ذاك ولكنها هديةٌ. فقلت هبلتك الهبول، أعن دين الله أتيتني لتخدعني، أمختبط أنت أم ذو جنةٍ أم تهجر. والله لو أعطيت الأقاليم السبعة بما تحت أفلاكها على أن أعطى الله في نملةٍ أسلبها جلب شعيرةٍ ما فعلت وإن دنياكم عندي لأهون من ورقةٍ في فم جرادةٍ تقضمها ما لعليٍ ولنعيمٍ يفني ولذةٍ لا تبقى. نعوذ بالله من سبات العقل وقبح الزلل وبه نستعين.

ومن دعاءٍ له عليه السلام:

اللهم صن وجهي باليسار، ولا تبذل جاهي بالإقتار فأستزرق طالبي رزقك، وأستعطف شرار خلقك، وابتلي بحمد من أعطاني، وأفتتن بذم من منعني، وأنت من وراء ذلك كله ولي الإعطاء والمنع ' إنك على كل شيءٍ قديرٌ'.

ومن خطبة له عليه السلام

دارٌ بالبلاء محفوفةٌ، وبالغدر معروفةٌ. ولا تدوم أحوالها، ولا تسلم نزالها أجوال مختلفةٌ، وتاراتٌ متصرفةٌ. العيش فيها مذمومٌ والأمان فيها معدومٌ. وإنما أهلها فيها أغراض مستهدفةٌ ترميهم بسهامها وتفنيهم بحمامها. واعلموا عباد الله أنكم وما أنتم فيه من هذه الدنيا على سبيلٍ من قد مضى قبلكم ممن كان أطول منكم أعماراً، وأعمر دياراً، وأبعد آثاراً. أصبحت أصواتهم هامدةً، ورياحهم راكدةً، وأجسادهم باليةً، وديارهم خاليةً وآثارهم عافيةً. فاستبدلوا بالقصور المشيدة والنمارق الممهدة الصخور والأحجار المسندة، والقبور اللاطئة الملحدة. التي قد بني بالخراب فناؤها، وشيد بالتراب بناؤها. فحملها مقتربٌ، وساكنها مغتربٌ، بين أهل محلةٍ موحشين وأهل فراغ متشاغلين لا يستأنسون بالأوطان، ولا يتواصلون تواصل الجيران على ما بينهم من قرب الجوار ودنو الدار. وكيف يكون بينهم تزاورٌ وقد طحنهم بكلكله البلى، وأكلتهم الجنادل والثرى. وكأن قد صرتم إلى ما صاروا إليه، وأرتهنكم ذلك المضجع، وصمتكم ذلك المستودع. فكيف بكم لو تناهت بكم الأمور، وبعثرت القبور هنالك تبلو كل نفسٍ ما أسلفت وردوا إلى الله مولاهم الحق وصل عنهم ما كانوا يفترون.

ومن دعائه له عليه السلام:

اللهم إنك آنس الآنسين لأوليائك. وأحضرهم بالكفاية للمتوكلين عليك. تشاهدهم في سرائرهم، وتطلع عليهم في ضمائرهم وتعلم مبلغ بصائرهم. فأسرارهم لك مكشوفةٌ، وقلوبهم إليك ملهوفةٌ. إن أوحشتهم الغربة آنسهم ذكرك وإن صبت عليهم المصائب لجأوا إلى الاستجارة بك، علماً بأن أزمة الأمور بيدك، ومصادرها عن قضائك. اللهم إن فههت عن مسألتي أو عميت عن طلبتي فدلني على مصالحي، وخذ بقلبي إلى مراشدي، فليس ذلك بنكرٍ من هداياتك ولا ببدع من كفاياتك. اللهم احملني على عفوك ولا تحملني على عدلك. ومن كلام له عليه السلام:لله بلاء فلانٍ فقد قوم الأود وداوي العمد. خلف الفتنة وأقام السنة. ذهب نقي الثوب، قليل العيب. أصاب خيرها وسبق شرها. أدى إلى الله طاعته واتقاه بحقه. رحل وتركهم في طرقٍ متشعبةٍ لا يهتدي فيها الضال ولا يستيقن المهتدي. ومن كلام له عليه السلام في وصف بيعته بالخلافة وقد تقدم بألفاظٍ مختلفةٍ:وبسطتم يدي فكففتها، ومددتموها فقضتها، ثم تداككتم على تداك الإبل الهيم على حياضها يوم ورودها حتى انقطعت النعل وسقطت الرداء ووطئ الضعيف وبلغ من سرور الناس ببيعتهم إياي أن ابتهج بها الصغير وهدج إليها الكبير وتحامل نحوها العليل، وحسرت إليها الكعابُ.

ومن خطبة له عليه السلام:

فإن تقوى الله مفتاح سدادٍ، وذخيرةُ معادٍ. وعتقٌ من كل ملكةٍ، ونجاةٌ من كل هلكةٍ. بها ينجح الطالب، وينجو الهارب، وتنال الرغائب. فاعملوا والعمل يرفع، والتوبة تنفع، والدعاء يسمع. والحال هادئة، والأقلام جاريةٌ: وبادروا بالأعمال عمراً ناكساً، ومرضاً حابساً أو موتاً خالساً. فإن الموت هادم لذاتكم، ومكدر شهواتكم، ومباعد طياتكم. زائرٌ غير محبوبٍ، وقرتٌ غير مغلوبٍ، وواترٌ غير مطلوبٍ. قد أعلقتكم حبائله وتكنفتكم غوائله، وأقصدكم معابله. وعظمت فيكم سطوته وتتابعت عليكم عدوته، وقلت عنكم نبوته. فيوشك أن تغشاكم دواجي ظلله، واحتدام علله. وحنادس غمراته، وغواشي سكراته، وأليم إزهاقه، ودجو إطباقه، وجشوبة مذاقه. فكأن قد أتاكم بغتةً فأسكت نجيكم، وفرق نديكم، وعفي آثاركم، وعطل دياركم، وبعث وراثكم يقتسمون تراثكم بين حميم خاصٍ لم ينفع، وقريبٍ محزونٍ لم يمنع، وآخر شامتٍ لم يجزع. فعليكم بالجد والاجتهاد، والتأهب والاستعداد، التزود في منزل الزاد. ولا تغرنكم الدنيا كما غرت من كان قبلكم كم الأمم الماضية والقرون الخالية الذين احتلبوا درتها، وأصابوا غرتها، وأفنوا عدتها، وأخلقوا جدتها. أصبحت مساكنهم أجداثاً، وأموالهم ميراثاً لا يعرفون من أتاهم، ولا يحفلون من بكاهم، ولا يجيبون من دعاهم فاحذروا الدنيا فإنها غدارةٌ، غرارةٌ خدوعٌ معطيةٌ منوعٌ، ملبسة نزوع. لا يدوم رخاؤها، ولا ينقضي عناؤها، ولا يركد بلاؤها منها في صفة الزهاد كانوا قوماً من أهل الدنيا وليسوا من أهله فكانوا فيها كمن ليس منها. عملوا فيها بما يبصرون، وبادروا فيها ما يحذرون. تقلب أبدانهم بين ظهراني أهل الآخرة، يرون أهل الدنيا يعظمون موت أجسادهم وهم أشد إعظاماً لموت قلوبٍ أحيائهم.

ومن خطبة له عليه السلام خطبها بذي قارٍ وهو متوجهٌ إلى البصرة ذكرها الواقدي في كتاب الجملٍ:

فصدع بما أمر به، وبلغ رسالات ربه فلم الله به الصدع. ورتق به الفتق. وألف به ذوي الأرحام بعد العداوة الواغرة في الصدور، والضغائن القادحة في القلوب. ومن كلام له عليه السلام:كلم به عبد الله بن زمعة وهو من شيعته وذلك أنه قدم عليه في خلافته يطب منه مالاً فقال عليه السلام:إن هذا المال ليس لي ولا لك وإنما هو فيءٌ للمسلمين وجلب أسيافهم، فإن شركتهم في حربهم كان لك مثل حظهم، وإلا فجناة أيديهم لا تكون لغير أفواههم. ومن كلام له عليه السلام:ألا إن اللسان بضعةٌ من الإنسان فلا يسعده القول إذا امتنع ولا يمهله النطق إذا اتسع. وإنا لأمراء الكلام، وفينا تنشبت عروقه وعلينا تهدلت غصونه. وأعلموا رحمكم الله أنكم في زمانٍ القائل فيه بالحق قليلٌ، واللسان عن الصدق كليل، واللازم للحق ذليلٌ. أهله معتكفون على العصيان مصطلحون على الإدهان فتاهم عارمٌ، وشائبهم آثمٌ، وعالمهم منافقٌ وقارئهم مماذقٌ. لا يعظم صغيرهم كبيرهم، ولا يعول غنيهم فقيرهم. ومن كلام له عليه السلامروى اليماني عن أحمد بن قتيبة عن عبد الله بن يزيد عن مالك بن دحية قال: كنا عند أمير المؤمنين عليه السلام وقد ذكر عنده اختلاف الناس فقال:إنما فرق بينهم مبادئ طينهم وذلك أنهم كانوا فلقةً من سبخ أرضٍ وعذبها، وحزن تربةٍ وسهلها. فهم على حسب قرب أرضهم يتقاربون، وعلى قدر اختلافها يتفاوتون. فتام الرواء ناقص العقل، وماد القامة قصير الهمة، وزاكي العمل قبيح المنظر، وقريبٌ القعر بعيد السبر، ومعروف الضريبة منكر الحليبة، وتائه القلب متفرق اللبِّ، وطليق اللسان حديد الجنان. ومن كلام له عليه السلامقاله وهو يلي غسل رسول الله صلى الله عليه وآله وتجهيزهُ. بأبي أنت وأمي لقد انقطع بموتك ما لم ينقطع بموت غيرك من النبوة والأنباء وأخبار السماء. خصصت حتى صرت مسلياً عمن سواك وعممت حتى صار الناس فيك سواءً. ولولا أنك أمرت بالصبر ونهيت عن الجزع لأنفدنا عليك ماء الشئون، ولكان الداء مماطلاً والكمد محالفاً وقلالك، ولكنه مالا يملك رده ولا يستطاع دفعه. بأبي أنت وأمي اذكرنا عند ربك واجعلنا من بالك. ومن كلام له عليه السلاماقتص فيه ذكر ما كان منه بعد هجرة النبي صلى الله عليه وآله ثم لحاقه به:فجعلت أتبع مأخذ رسول الله صلى الله عليه وآله فأطأ ذكره حتى انتهيا إلى العرج في كلامٍ طويلٍ. قوله عليه السلام: فأطأ ذكره. من الكلام الذي رمى به إلى غايتي الإيجار والفصاحة، أراد أني كنت أعطي خبره صلى الله عليه وآله من بدء خروجي إلى أن انتهيت إلى هذا الموضع فكني عن ذلك بهذه الكناية العجيبة.

ومن خطبة له عليه السلام

فاعملوا وأنتم في نفس البقاء والصحف منشورةٌ، والتوبة مبسوطةٌ. والمدبر يدعى، والمسيء يرجى، قبل أن يخمد العمل، وينقطع المهل، وينقضي الأجل، ويسد باب التوبة وتصعد الملائكة فأخذ امرؤٌ من نفسه لنفسه. وأخذ من حيٍ لميتٍ، ومن فانٍ لباقٍ، و من ذاهبٍ لدائمٍ. امرؤٌ خاف الله وهو معمرٌ إلى أجله، ومنظورٌ إلى عمله، امرؤُ ألجم نفسه بلجامها وزمها بزمامها، فأمسكها بلجامها عن معاصي الله وقادها بزمامها إلى طاعة الله. ومن كلام له عليه السلام في شأن الحكمين وذم أهل الشام:جفاةٌ طغامٌ، وعبيدٌ أقزامٌ. جمعوا منكل أوبٍ، وتلقطوا من كل شوبٍ ممن ينبغي أن يفقه ويؤدب، ويعلم ويدرب، ويولي عليه ويؤخذ على يديه. ليسوا من المهاجرين والأنصار، ولا من الذين تبوأ والدار. ألا وإن القوم اختاروا لأنفسهم أقرب القوم مما تكرهون، وإنما عهدكم بعبد الله بن قيس بالأمس يقول: إنها فتنةٌ فقطعوا أوتاركم وشيموا سيوفكم فإن كان صادقاً فقد أخطأ بمسيره غير مستكرهٍ، وإن كان كاذباً فقد لزمته التهمة. فادفعوا في صدر عمرو بن العاص بعبد الله ابن العباس، وخذوا مهل الأيام وحوطوا قواصي الإسلام. ألا ترون إلى بلادكم تغزى، إلى صفاتكم ترمي.

ومن خطبة له عليه السلام يذكر فيها آل محمدٍ صلى الله عليه وآله:

هم عيش العلم وموت الجهل. يخبركم حلمهم عن علمهم. وصمتهم عن حكم منطقهم. لا يخالفون الحق ولا يختلفون فيه. هم دعائم الإسلام وولائج الاعتصام بهم عاد الحق في نصابه، وانزاح الباطل عن مقامه، وانقطع لسانه عن منبته. عقلوا الذين عقل وعايةٍ ورعايةٍ، ولا عقل سماعٍ وروايةٍ. فإن رواة العلم كثيرٌ ورعاته قليلٌ. ومن كلام له عليه السلامقاله لعبد الله بن عباسٍ وقد جاءه برسالةٍ من عثمان وهو محصورٌ يسأله فيها الخروج إلى ماله بينبع ليقل هتف الناس باسمه للخلافة بعد أن كان سأله مثل ذلك من قبل، فقال عليه السلام:يا ابن عباسٍ ما يريد عثمان إلا أن يجعلني جملاً ناضحاً بالغرب أقبل وأدبر، بعث إلى أن أخرج، ثم بعث إلى أن أقدم، ثم هو الآن يبعث إلى أن أخرج. والله لقد دفعت عنه حتى خشيت أن أكون آثماً.

ومن خطبة له عليه السلام

ومن كلام له عليه السلام يحث فيه أصحابه على الجهاد والله مستأديكم شكره ومورثكم أمره، وممهلكم في مضمارٍ محدودٍ. لتتنازعوا سبقه. فشدوا عقد المآزر، واطووا فضول الخواصر، ولا تجتمع عزيمةٌ ووليمةٌ. ما أنقض النوم اليوم، وأمحي الظلم لتذاكير الهمم. وصلى الله على سيدنا محمدٍ النبي الأمي وعلى آله مصابيح الدجى والعروة الوثقى تسليماً كثيراً.

شارك هذه الصفحة:

تابع موسوعة الأدب العربي على شبكات التواصل الإجتماعي