نهج البلاغة/صفة خلق الإنسان

من موسوعة الأدب العربي
اذهب إلى:تصفح، ابحث

صفة خلق الإنسان

صفة خلق الإنسان - نهج البلاغة

صفة خلق الإنسان

أم هذا الذي أنشأه في ظلمات الأرحام وشغف الأستار نطفةً دهاقاً وعلقةً محاقاً. وجنيناً وراضعاً، ووليداً ويافعاً. ثمّ منحه قلباً حافظاً ولساناً لافظاً وبصراً لاحظاً. ليفهم معتبراً ويقصّر مزدجراً. حتّى إذا قام اعتداله واستوى مثاله نفر مستكبراً وخبط سادراً. ماتحاً في غرب هواه، كادحاً سعياً لدنياه. في لذّات طربه. وبدوات أربه لا يحتسب رزيّةً ولا يخشع تقيّةً. فمات في فتنته غريراً، وعاش في هفوته يسيراً. لم يفد عوضاً. ولم يقض مفترضاً. دهمته فجعات المنيّة في غبّر جماحه، وسنن مراحه. فظلّ سادراً وبات ساهراً. في غمرات الآلام. وطوارق الأوجاع والأسقام. بين أخٍ شقيقٍ ووالدٍ شفيق. وداعيةٍ بالويل جزعاً. ولادمةٍ للصدر قلقاً. والمرء في سكرة ملهيةٍ. وغمرةٍ كارثةٍ وأنّةٍ موجعةٍ. وجذبةٍ مكربةٍ. وسوقةٍ متعبةٍ. ثمّ أدرج في أكفانه مبلساً وجذب منقاداً سلساً. ثمّ ألقى على الأعواد. رجيع وصبٍ ونضو سقٍ تحمله حفدة الولدان وحشدة الإخوان إلى دار غربته. ومنقطع زورته حتّى إذا انصرف المشيّع. ورجع المتفجّع أقعد في حفرته نجيّاً لبهتة السؤال وعثرة الامتحان. وأعظم ما هنالك بليّةً نزول الحميم وتصلية الجحيم وفورات السعير وسورات الزفير. لا فترةٌ مريحةٌ. ولا دعةٌ مزيحةٌ. ولا قوّةٌ حاجزةٌ. ولا موتةٌ ناجزةٌ. ولا سنةٌ مسليةٌ بين أطوار الموتات وعذاب الساعات إنا بالله عائذون. عباد الله أين الذين عمّروا فنعموا وعلّموا ففهموا وانظروا فلهوا وسلموا فنسوا. أمهلوا طويلاً. ومنحوا جميلاً. وحذّروا أليماً. ووعدوا جسيماً. احذروا الذنوب المورّطة والعيوب المسخطة أولي الأبصار والأسماع. والعافية والمتاع. هل من مناصٍ أو خلاصٍ. أو معاذٍ أو ملاذٍ. أو فرارٍ أو محارٍ أم لا فأنّى تؤفكون أم أين تصرفون. أم بماذا تغترّون وإنّما حظّ أحدكم من الأرض ذات الطول والعرض. قيد قدّه متعفراً على خدّه الآن. عباد الله والخناق مهمل والروح مرسلٌ في فينة الإرشاد وراحة الأجساد وباحة الاحتشاد. ومهل البقيّة. وأنف المشيّة. وإنظار التوبة وانفساح الحوبة قبل الضنك والمضيق. والروع والزهوق وقبل قدوم الغائب المنتظر وأخذة العزيز المقتدر. وفي الخبر أنّه عليه السلام لمّا خطب بهذه الخطبة اقشعرت لها الجلود. وبكت العيون ورجفت القلوب. ومن الناس من يسمّي هذه الخطبة الغرّاء.

من خطبة له عليه السلام في ذكر عمرو بن العاص

عجباً لابن النابغة يزعم لأهل الشام أنّ فيّ دعابة وأنّي امرؤٌ تلعابةٌ أعافس وأمارس لقد قال باطلاً ونطق آثماً. أما وسرّ القول الكذب إنّه ليقول فيكذب. ويعد فيخلف. ويسأل فيلحف ويسأل فيبخل. ويخون العهد. ويقطع الإلّ فإذا كان عند الحرب فأيّ زاجرٍ وآمرٍ هو. ما لم تأخذ السيوف مآخذها فإذا كان ذلك كان أكبر مكيدته أن يمنح القرم سبّته أما والله إنّي ليمنعني من اللعب ذكر الموت. وإنّه ليمنعه من قول الحقّ نسيان الآخرة. إنّه لم يبايع معاوية حتّى شرط له أن يؤتيه أتيّةً ويرضخ له على ترك الدين رضيخةً

ومن خطبة له عليه السلام

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. الأوّل لا شىء قبله. والآخر لا غاية له. لا تقع الأوهام له على صفةٍ ولا تقعد القلوب منه على كيفيّةٍ ولا تناله التجزئة والتبغيض. ولا تحيط به الأبصار والقلوب منها فاتّعظوا عباد الله بالعبر النوافع. واعتبروا بالآي السواطع وازدجروا بالنذر البوالغ وانتفعوا بالذكر والمواعظ. فكأنّ قد علقتكم مخالب المنيّة. وانقطعن منكم علائق الأمنيّة. ودهمتكم مفظعات الأمور والسياقة إلى الورد المورود وكلّ نفسٍ معها سائقٌ وشهيدٌ. سائقٌ يسوقها إلى محشرها وشاهدٌ يشهد عليها بعملها ومنها في صفة الجنة درجات متفاضلات. ومنازل متفاوتاتٌ لا ينقطع نعيمها ولا يظعن مقيمها. ولا يهرم خالدها. ولا يبأس ساكنها.

ومن خطبة له عليه السلام

قد علم السرائر. وخبر الضمائر. له الإحاطة بكلّ شىء. والغلبة لكلّ شىء والقوّة على كلّ شىء. فليعمل العامل منكم في أيّام مهله قبل إرهاق أجله وفي فراغه قبل أوان شغله. وفي متنفّسه قبل أن يؤخذ بكظمه وليمهّد لنفسه وقدومه. وليتزوّد من دار ظعنه لدار إقامته. فالله الله أيّها الناس فيما استحفظكم من كتابه واستودعكم من حقوقه. فإنّ الله سبحانه لم يخلقكم عبثاً ولم يترككم سدىً ولم يدعكم في جهالةٍ ولا عمىً. قد سمّى آثاركم وعلّم أعمالكم وكتب آجالكم. وأنزل عليكم الكتاب تبياناً لكلّ شىءٍ وعمّر فيكم نبيّه أزماناً حتّى أكمل له ولكم فيما أنزل من كتابه دينه الذي رضى لنفسه وأنهى إليكم المعذرة واتّخذ عليكم الحجّة. وقدّم إليكم بالوعيد. وأنذركم بين يدي عذابٍ شديدٍ. فاستدركوا بقيّةً أيّامكم. واصبروا لها أنفسكم فإنّها قليلٌ في كثير الأيّام التي تكون منكم فيها العقلة والتشاغل عن الموعظة. ولا ترخصوا لأنفسكم فتذهب بكم الرخص فيها مذاهب الظلمة ولا تداهنوا فيهجم بكم الإدهان على المصيبة. عباد الله إنّ أنصح الناس لنفسه أطوعهم لربّه. وإن أغشّهم لنفسه أعصاهم لربّه والمغبون من غبن نفسه والمغبوط من سلم له دينه. والسعيد من وعظ بغيره والشقي من انخدع لهواه. واعلموا أنّ يسير الرياء شركٌ ومجالسة أهل الهوى منساةٌ للإيمان. ومحضرةٌ للشيطان. جانبوا الكذب فإنّه مجانبٌ للإيمان. الصادق على شرف منجاةٍ وكرامةٍ. والكاذب على شفا مهواةٍ ومهانةٍ ولا تحاسدوا فإنّ الحسد يأكل الإيمان كما تأكل النار الحطب. ولا تباغضوا فإنّها الحالقة. واعلموا أنّ الأمل يسهي العقل وينسي الذكر فأكذبوا الأمل فإنّه غرورٌ. وصاحبه مغرورٌ

ومن خطبة له عليه السلام

عباد الله إنّ من أحبّ عباد الله إليه عبداً أعانه الله على نفسه فاستشعر الحزن وتجلبب الخوف فزهر مصباح الهدى في قلبه وأعدّ القرى ليومه النازل به فقرّب على نفسه البعيد وهوّن الشديد. نظر فأنصر. وذكر فاستكثر وارتوى من عذبٍ فراتٍ. سهلت له موارده فشرب نهلاً وسلك سبيلاً جدداً قد خلع سرابيل الشهوات وتخلّى من الهموم إلاّ همّاً واحداً انفرد به فخرج من صفة العمى ومشاركة أهل الهوى، وصار من مفاتيح أبواب الهدى ومغاليق أبواب الردى. قد أبصر طريقه. وسلك سبيله. وعرف مناره. وقطع غماره استمسك من العرى بأوثقها. ومن الحبال بأمتنها. فهو من اليقين على مثل ضوء الشمس. قد نصب نفسه لله سبحانه في أرفع الأمور من إصدار كلّ واردٍ عليه. وتصيير كلّ فرعٍ إلى أصله مصباح ظلماتٍ. كشّاف عشاوات. مفتاح مبهماتٍ. دفّاع معضلات دليل فلواتٍ. يقول فيفهم ويسكت فيسلم. قد أخلص لله فاستخلصه. فهو من معادن دينه. فهو من معادن دينه. وأوتاد أرضه. قد ألزم نفسه العدل فكان أوّل عدله نفى الهوى عن نفسه. يصف الحقّ ويعمل به. لا يدع للخير غايةً إلاّ أمّها ولا مظنّةً إلاّ قصدها. قد أمكن الكتاب من زمامه فهو قائده وإمامه. يحلّ حيث حلّ ثقله وينزل حيث كان منزله. وآخر قد تسمّى عالماً وليس به. فاقتبس جهائل من جهّالٍ، وأضاليل من ضلاّلٍ. ونصب للناس شركاً من حبائل غرورٍ وقول زورٍ قد حمل الكتاب على آرائه. وعطف الحقّ على أهوائه يؤمن من العظائم ويهوّن كبير الجرائم. يقول أقف عند الشبهات وفيها وقع. وأعتزل البدع وبينها اضطجع. فالصورة صورة إنسانٍ. والقلب قلب حيوانٍ. لا يعرف باب الهدى فيتّبعه. ولا باب العمى فيصدّ عنه. فذلك ميّت الأحياء فأين تذهبون. وأنّى تؤفكون. والأعلام قائمةٌ، والآيات واضحةٌ، والمنار منصوبةٌ فأين يتاه بكم. بل كيف تعمهون وبينكم عترة نبيّكم وهم أزمّة الحقّ وأعلام الدين وألسنة الصدق. فأنزلوهم بأحسن منازل القرآن وردوهم ورود اليم العطاش. أيّها الناس خذوها عن خاتم النبيّين صلى الله عليه وآله وسلّم إنّه يموت من مات منّا وليس بميّتٍ. ويبلى من بلى منّا وليس ببالٍ فلا تقولوا بما لا تعرفون. فإن أكثر الحقّ فيما تنكرون واعذروا من لا حجّة لكم عليه. وأنا هو. ألم أعمل فيكم بالثقل الأكبر وأترك فيكم الثقل الأصغر. وركزت فيكم راية الإيمان. ووقفتكم على حدود الحلال والحرام. وألبستكم العافية من عدلي وفرشتكم المعروف من قولي وفعلي وأريتكم كرائم الأخلاق من نفسي. فلا تستعملوا الرأي فيما لا يدرك قعره البصر ولا تتغلغل إليه الفكر منها حتّى يظنّ الظانّ أنّ الدنيا معقولةٌ على بني أميّة تمنحهم درّها. وتوردهم صفوها. ولا يرفع عن هذه الأمّة سوطها ولا سيفها. وكذب الظانّ لذلك، بل هي مجّةٌ من لذيذ العيش يتطعمّونها برهة ثمّ يلفظونها جملة.

ومن خطبة له عليه السلام

أمّا بعد فإنّ الله لم يقصم جبّاري دهرٍ قطٌ إلا بعد تميّلٍ ورخاءٍ. ولم يجبر عظم أحدٍ من الأمم إلاّ بعد أزلٍ وبلاءٍ وفي دون ما استقبلتم من عتبٍ وما استدبرتم من خطبٍ معتبرٌ. وما كلّ ذيقلب بلبيبٍ. ولا كلّ ذي سمعٍ بسميع. ولا كلّ ناظرٍ ببصيرٍ. فيا عجبي - وما لي لا أعجب - من خطأ هذه الفرق على اختلاف حججها في دينها لا يقتصون أثر نبيٍّ. ولا يقتدون بعمل وصيٍّ. ولا يؤمنون بغيبٍ. ولا يعفّون عن عيبٍ. يعملون في الشبهات ويسيرون في الشهوات. المعروف عندهم ما عرفوا. والمنكر عندهم ما أنكروا. مفزعهم في المعضلات إلى أنفسهم. وتعويلهم في المبهمات على آرائهم كأنّ كلّ امرىءٍ منهم إمام نفسه قد أخذ منها فيما يرى بعرىً ثقاتٍ وأسبابٍ محكماتٍ.

ومن خطبة له عليه السلام

أرسله على حين فترةٍ من الرسل. وطول هجعةٍ من الأمم واعتزامٍ من الفتن وانتشار من الأمور. وتلظٍّ من الحروب والدنيا كاسفة النور ظاهرة الغرور. على حين اصفرار من ورقها وإياس من ثمرها. واغورار من مائها. قد درست منار الهدى. وظهرت أعلام الردى. فهي متجهمّة لأهلها عابسةٌ في وجه طالبها ثمرها الفتنة. وطعامها الجيفة. وشعارها الخوف ودثارها السيف فاعتبروا عباد الله. واذكروا تيك التي آباؤكم وإخوانكم بها مرتهنون. وعليها محاسبون. ولعمري ما تقادمت بكم ولا بهم العهود. ولا خلت فيما بينكم وبينهم الأحقاب والقرون وما أنتم اليوم من يوم كنتم في أصلابهم ببعيدٍ والله ما أسمعهم الرسول شيئاً إلاّ وها أنا ذا اليوم مسمعكموه. وما أسماعكم اليوم بدون أسماعهم بالأمس. ولا شقّت لهم الأبصار ولا جعلت لهم الأفئدة في ذلك الأوان إلاّ وقد أعطيتم مثلها في هذا الزمان. والله ما بصرتم بعدهم شيئاً جهلوه. ولا أصفيتم به وحرموه ولقد نزلت بكم البليّة جائلاً خطامها رخواً بطانها. فلا يغرنّكم ما أصبح فيه أهل الغرور. فإنّما هو ظلٌّ ممدودٌ إلى أجل معدودٍ

ومن خطبة له عليه السلام

الحمد لله المعروف من غير رؤيةٍ. والخالق من غير رويةٍ الذي لم يزل قائماً دائماً إذ لا سماءٌ ذات أبراجٍ. ولا حجبٌ ذات أرتاجٍ. ولا ليل داجٍ. ولا بحرٌ ساجٍ. ولا جبلٌ ذو فجاجٍ. ولا فجٌ ذو أعوجاجٍ. ولا أرضٌ ذات مهادٍ. ولا خلقٌ ذو اعتمادٍ. ذلك مبتدع الخلق ووارثه وإله الخلق ورازقه. والشمس والقمر دائبان في مرضاته يبليان كلّ جديد ويقرّبان كلّ بعيدٍ. قسم أرزاقهم. وأحصى آثارهم وأعمالهم وعدد أنفاسهم وخائنة أعينهم. وما تخفي صدورهم من الضمير. ومستقرّهم ومستودعهم من الأرحام والظهور. إلى أن تتناهى بهم الغايات. هو الذي اشتدّت نقمته. على أعدائه في سعة رحمته. واتّسعت رحمته لأوليائه في شدّة نقمته قاهر من عازّه ومدمّر من شاقّه ومذلّ من ناواه وغالب من عاداه. ومن توكّل عليه كفاه. ومن سأله أعطاه ومن أقرضه قضاه. ومن شكره جزاه. عباد الله زنوا أنفسكم من قبل أن توزنوا. وحاسبوها من قبل أن تحاسبوا. وتنفّسوا قبل ضيق الخناق. وانقادوا قبل عنف السياق واعلموا أنّه من لم يعن على نفسه حتّى يكون له منها واعظ وزاجرٌ لم يكن له من غيرها زاجرٌ ولا واعظٌ.

ومن خطبة له عليه السلام

تعرف بخطبة الأشباح وهي من جلائل خطبه عليه السلام وكان سأله سائلٌ أن يصف الله حتّى كأنّه يراه عياناً فغضب عليه السلام لذلك. الحمد لله الذي لا يفره المنع والجمود ولا يكديه الإعطاء والجود. إذ كلّ معطٍ منتقصٌ سواه. وكلّ مانعٍ مذمومٌ ما خلاه. وهو المنّان بفوائد النعم. وعوائد المزيد والقسم. عياله الخلق. ضمن أرزاقهم وقدّر أقواتهم. ونهج سبيل الراغبين إليه. والطالبين ما لديه. وليس بما سئل بأجود منه بما لم يسأل. الأوّل الذي لم يكن له قبلٌ فيكون شىءٌ قبله. والآخر الذي ليس بعدٌ فيكون شىءٌ بعده. والرادع أناسيّ الأبصار عن أن تناله أو تدركه. ما اختلف عليه دهرٌ فيختلف منه الحال. ولا كان في مكانٍ فيجوز عليه الانتقال ولو وهب ما تنفّست عنه معادن الجبال وضحكت عنه أصداف البحار من فلزّ اللحين والعقيان ونثارة الدّرّ وحصيد المرجان ما أثّر ذلك في جوده. ولا أنفد سعة ما عنده ولكان عنده من ذخائر الإنعام ما لا تنفده مطالب الأنام لأنّه الجواد الذي لا يغيضه سؤال السائلين ولا يبخله إلحاح الملحّين. فانظر أيّها السائل فما ذلك القرآن عليه من صفته فأتّم به واستضيء بنور هدايته. وما كلّفك الشيطان علمه ممّا ليس في الكتاب عليك فرضه ولا في سنّة النبي صلى الله عليه وآله وأئمّة الهدى أثره فكل علمه إلى الله سبحانه. فإنّ ذلك منتهى حقّ الله عليك. واعلم أنّ الراسخين في العلم هم الذين أغناهم عن اقتحام السدد المضروبة دون الغيوب الإقرار بجملة ما جهلوا تفسيره من الغيب المحجوب، فمدح الله اعترافهم بالعجز عن تناول ما لم يحيطوا به علماً. وسمّي تركهم التعمّق فيما لم يكلّفهم البحث عن كنهه رسوخاً. فاقتصر على ذلك ولا تقدّر عظمة الله سبحانه على قدر عقلك فتكون من الهالكين. هو القادر الذي إذا ارتمت الأوهام لتدرك منقطع قدرته وحاول الفكر المبرّأ من خطرات الوساوس أن يقع عليه في عميقات غيوب ملكوته وتولّهت القلوب إليه لتجري في كيفيّة صفاته وغمضت مداخل العقول في حيث لا تبلغه الصفات لتناول علم ذاته ردعها وهي تجوب مهاوي سدف الغيوب متخلّصةً إليه سبحانه فرجعت إذ جبهت معترفةً بأنّه لا ينال بجور الاعتساف كنه معرفته ولا تخطر ببال أولي الرويّات خاطرةٌ من تقدير جلالٍ عزّته الذي ابتدع الخلق على غير مثالٍ امتثله ولا مقدارٍ احتذى عليه من خالقٍ معهودٍ كان قبله. وأرانا من ملكوت قدرته. وعجائب ما نطقت به آثار حكمته، واعتراف الحاجة من الخلق إلى أن يقيمها بمساك قدرته ما دلّنا باضطرار قيام الحجّة له على معرفته وظهرت في البدائع التي أحدثها آثار صنعته وأعلام حكمته. فصار كلّ ما خلق حجّةً له ودليلاً عليه، وإن كان خلقاً صامتاً فحجّته بالتدبير ناطقةٌ. ودلالته على المبدع قائمةٌ. وأشهد أنّ من شبّهك بتباين أعضاء خلقك. وتلاحم حقاق مفاصلهم المحتجبة لتدبير حكمتك. لم يعقد غيب ضميره على معرفتك. ولم يباشر قلبه اليقين بأنّه لا ندّ لك وكأنّه لم يسمع تبرّأ التابعين من المتبوعين إذ يقولون ' تا لله إن كنّا لفي ضلالٍ مبينٍ إذ نسوّيكم بربّ العالمين ' كذب العادلون بك إذ شبّهوك بأصنامهم ونحلوك حلية المخلوقين بأوهامهم. وجزّءوك تجزئة المجسّمات بخواطرهم وقدّروك على الخلقة المختلفة القوى بقرائح عقولهم. وأشهد أنّ من ساواك بشيءٍ من خلقك فقد عدل بك. والعادل بك كافرٌ بما تنزّلت به محكمات آياتك. ونطقت عنه شواهد حجج بيّناتك وأنّك أنت الله الذي لم تتاه في العقول فتكون في مهبّ فكرها مكيّفاً ولا في رويّات خواطرها فتكون محدوداً مصرّفاً. منها قدّر ما خلق فأحكم تقديره. ودبّره فألطف تدبيره ووجّهه لوجهته فلم يتعدّ حدود منزلته. ولم يقصّر دون الانتهاء إلى غايته ولم يستصعب إذ أمر بالمضيّ على إرادته. وكيف وإنّما صدرت الأمور عن مشيئته. المنشئ أصناف بلا رويّة فكرٍ آل إليها ولا قريحة غريزةٍ أضمر عليها ولا تجربةٍ أفادها من حوادث الدهور ولا شريكٍ أعانه على ابتداع عجائب الأمور فتمّ خلقه وأذعن لطاعته. وأجاب دعوته ولم يعترض دونه ريث المبطيء ولا أناة المتلكيء فأقام من الأشياء أودها. ونهج حدودها ولاءم بقدرته بين متضادّها. ووصل أسباب قرائنها. وفرّقها أجناساً مختلفاتٍ في الحدود والأقدار والغرائز والهيئات. بدايا خلائق أحكم صنعها وفطرها على ما أراد وابتدعها منها في صفة السماء ونظم بلا تعليقٍ رهوات فرجها. ولاحم صدوع انفراجها ووشج بينها وبين أزواجها. وذللّ للهابطين بأمره والصاعدين بأعمال خلقه حزونة معراجها. ناداها بعد إذ هي دخانٌ. فالتحمت عرى أشراجها. وفتق بعد الارتتاق صوامت أبوابها. وأقام رصداً من الشهب الثواقب على نقابها وأمسكها من أن تمور في خراق الهواء بأيده. وأمرها أن تقف مستسلمةً لأمره. وجعل شمسها آيةً مبصرةً لنهارها وقمرها آيةً ممحوةً من ليلها فأجراهما في مناقل مجراهما. وقدّر سيرهما في مدارج درجهما. ليمّز بين الليل والنهار بهما. وليعلم عدد السنين والحساب بمقاديرهما. ثمّ علّق في جوّها فلكها. وناط بها زينتها من خفيّات دراريّها ومصابيح كواكبها ورمى مسترقي السمع بثواقب شهبها وأجراها على إذلال تسخيرها من ثبات ثابتها ومسير سائرها وهبوطها وصعودها. ونحوسها وسعودها منها في صفة الملائكة عليهم السلام ثمّ خلق سبحانه لإسكان سمواته وعمارة الصفيح الأعلى من ملكوته خلقاً بديعاً من ملائكته ملأ بهم فروج فجاجها. وحشى بهم فتوق أجوائها. وبين فجوات تلك الفروج زجل المسبّحين منهم في حظائر القدس وسترات الحجب وسرادقات المجد. ووراء ذلك الرجيج الذي تستك منه الأسماع سبحات نورٍ تردع الأبصار عن بلوغها. فتقف خاسئةً على حدودها. أنشأهم على صورٍ مختلفاتٍ وأقدارٍ متفاوتاتٍ. أولي أجنحةٍ تسبّح جلال عزّته لا ينتحلون ما ظهر في الخلق من صنعته. ولا يدّعون أنّهم يخلقون شيئاً ممّا انفرد به. بل عباد مكرمون ' لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون ' جعلهم فيما هنالك أهل الأمانة على وحيه. وحمّلهم إلى المرسلين ودائع أمره ونهيه. وعصمهم من ريب الشبهات فما منهم زائغٌ عن سبيل مرضاته. وأمدّهم بفوائد المعونة. وأشعر قلوبهم تواضع إخبات السكينة وفتح لهم أبواباً ذللاً إلى تماجيده. ونصب لهم مناراً واضحةً على أعلام توحيده. لم تثقلهم موصرات الآثام. ولم ترتحلهم عقب الليالي والأيّام. ولم ترم الشكوك بنوازعها عزيمة إيمانهم. ولم تعترك الظنون على معاقد يقينهم ولا قدحت قادحة الإحن فيما بينهم. ولا سلبتهم الحيرة ما لاق من معرفته بضمائرهم. وما سكن من عظمته وهيبة جلالته في أثناء صدورهم. ولم تطمع فيهم الوساوس فتقترع برينها على فكرهم منهم من هو في خلق الغمام الدّلّح وفي عظم الجبال الشمّخ وفي قترة الظلام الأبهم ومنهم من خرقت أقدامهم تخوم الأرض السفلى. فهي كرايات بيضٍ قد نفذت في مخارق الهواء. وتحتها ريحٌ هفّافةٌ تحبسها على حيث انتهت من الحدود المتناهية. قد استفرغتهم أشغال عبادته ووصلت حقائق الإيمان بينهم وبين معرفته. وقطعهم الإيقان به إلى الوله إليه ولم تجاوز رغباتهم ما عنده إلى ما عند غيره. قد ذاقوا حلاوة معرفته وشربوا بالكأس الرّويّة من محبّته وتمكّنت من سويداء قلوبهم وشيجة خيفته فحنوا بطول الطاعة اعتدال ظهورهم. ولم ينفد طول الرغبة إليه مادّة تضرّعهم ولا أطلق عنهم عظيم الزّلفة ربق خشوعهم ولم يتولّهم الإعجاب فيستكثروا ما سلف منهم. ولا تركت لهم استكانة الإجلال نصيباً في تعظيم حسناتهم. ولم تجر الفترات فيهم على طول دؤوبهم ولم تغض رغباتهم فيخالفوا عن رجاء ربّهم ولم تجفّ لطول المناجاة أسلات ألسنتهم ولا ملكتهم الأشغال فتنقطع بهمس الجؤار إليه أصواتهم ولم تختلف في مقاوم الطاعة مناكبهم. ولم يثنوا إلى راحة التقصير في أمره رقابهم. ولا تعدو على عزيمة جدّهم بلادة الغفلات ولا تنتضل في هممهم خدائع الشهوات. قد اتّخذوا ذا العرش ذخيرةً ليوم فاقتهم. ويمّموه عند انقطاع الخلق إلى المخلوقين برغبتهم لا يقطعون أمد غاية عبادته. ولا يرجع بهم الاستهتار بلزوم طاعته إلاّ إلى موادّ من قلوبهم غير منقطعةٍ من رجائه ومخافته. لم تنقطع أسباب الشفقة منهم فينوا في جدّهم ولم تأسرهم الأطماع فيؤثروا وشيك السعي على اجتهادهم. ولم يستعظموا ما مضى من أعمالهم. ولو استعظموا ذلك لنسخ الرجاء منهم شفقات وجلهم. ولم يختلفوا في ربّهم باستحواذ الشيطان عليهم. ولم يفرّقهم سوء التقاطع. ولا تولاّهم غلّ التحاسد. ولا شعبتهم مصارف الريب ولا اقتسمتهم أخياف الهمم. فهم أسراء إيمان. لم يفكّهم من ربقته زيغٌ ولا عدولٌ ولا ونيً ولا فتور. وليس في أطباق السموات موضع إهابٍ إلاّ وعليه ملكٌ ساجدٌ. أو ساعٍ حافدٌ. يزدادون على طول الطاعة بربّهم علماً. وتزداد عزّة ربّهم في قلوبهم عظماً. ومنها في صفة الأرض ودحوها على الماء. كبس الأرض على مور أمواج مستفحلةٍ. ولجج بحارٍ زاخرةٍ. تلتطم أواذيّ أمواجها وتصطفق متقاذفات أثباجها وترغو زبداً كالفحول عند هياجها. فخضع جماح الماء المتلاطم لثقل حملها. وسكن هيج ارتمائه إذ وطئته بكلكلها. وذلّ مستخذياً إذ تمعّكت عليه بكواهلها فأصبح بعد اصطخاب أمواجه ساجياً مقهوراً. وفي حكمة الذلّ منقاداً أسيراً. وسكنت الأرض مدحوّةً في لجّة تياره. وردّت من نخوة بأوه واعتلائه وشموخ أنفه وسموّ غلوائه وكعمته على كظة جريته فهمد بعد نزقانه. ولبد بعدزيفان وثباته. فلمّا سكن هياج الماء من تحت أكنافها وحمل شواهق الجبال الشمّخ البذّخ على أكتافها فجر ينابيع العيون من عرانين أنوفها. وفرّقها في سهوب بيدها وأخاديدها وعدل حركاتها بالراسيات من جلاميدها وذوات الشناخيب الشمّ. من صياخيدها. فسكنت من الميدان لرسوب الجبال في قطع أديمها وتغلغلها متسرّبةً في جوبات خياشيمها، وركوبها أعناق سهول الأرضين وجراثيمها وفسح بين الجو وبينها. وأعدّ الهواء متنسّماً لساكنها. وأخرج إليها أهلها على تمام مرافقها ثمّ لم يدع جرز الأرض التي تقصر مياه العيون عن روابيها ولا تجد جداول الأنهار ذريعةً إلى بلوغها حتّى أنشأ لها ناشئة سحابٍ تحيي مواتها وتستخرج نباتها. ألّف غمامها بعد افتراق لمعه وتباين قزعه، حتّى إذا تمخّضت لجّة المزن فيه. والتمع برقه في كففه ولم ينم وميضه في كنهور ربابه ومتراكم سحابه أرسله سحّاً متداركاً. قد أسفّ هيدبه، تمريه الجنوب درر أهاضيبه ودفع شآبيبه. فلما ألقت السحاب برك بوانيها، وبعاع ما استقلّت به من العبء المحمول عليها أخرج به من هوامد الأرض النبات ومن زعر الجبال الأعشاب، فهي تبهج بزينة رياضها وتزدهي بما ألبسه من ريط أزاهيرها وحلية ما سمطت به من ناضر أنوارها وجعل ذلك بلاغاً للأنام ورزقاً للأنعام. وخرق الفجاج في آفاقها وأقام المنار للسالكين على جوادّ طرقها. فلمّا مهد أرضه وأنفذ أمره اختار آدم عليه السلام خيرةً من خلقه. وجعله أوّل جبلّته وأسكنه جنّته وأرغد فيها أكله، وأوعز إليه فيما نهاه عنه. وأعلمه أنّ في الإقدام عليه التعرّض لمعصيته. والمخاطرة بمنزلته. فأقدم على ما نهاه عنه موافاةً لسابق علمه. فأهبطه بعد التوبة ليعمر أرضه بنسله وليقيم الحجّة به على عباده. ولم يخلهم بعد أن قبضه مما يؤكّد عليهم حجّة ربوبيّته، ويصل بينهم وبين معرفته، بل تعاهدهم بالحجج على ألسن الخيرة من أنبيائه، ومتحمّلي ودائع رسالاته، قرناً فقرناً حتّى تمّت بنبيّنا محمّد صلى الله عليه وآله حجّته، وبلغ المقطع عذره ونذره. وقدّر الأرزاق فكثّرها وقلّلها. وقسّمها على الضيق والسعة فعدل فيها ليبتلي من أراد بميسورها ومعسورها. وليختبر بذلك الشكر والصبر من غنيّها وفقيرها. ثمّ قرن بسعتها عقابيل فاقتها، وبسلامتها طوارق آفاتها، وبفرج أفراحها غصص أتراحها، وخلق الآجال فأطالها وقصّرها. وقدّمها وأخّرها. ووصل بالموت أسبابها. وجعله خالجاً لأشطانها وقاطعاً لمرائر أقرانها. عالم السرّ من ضمائر المضمرين. ونجوى المتخافتين. وخواطر رجم الظنون، وعقد عزيمات اليقين. ومسارق إيماض الجفون. وما ضمنته أكنان القلوب وغيابات الغيوب، وما أصغت لاستراقه مصائخ الأسماع، ومصائف الذرّ ومشاتي الهوامّ ورجع الحنين من المولهات وهمس الأقدام. ومنفسح الثمرة من ولائج غلف الأكمام، ومنقمع الوحوش من غيران الجبال وأوديتها. ومختبأ البعوض بين سوق الأشجار وألحيتها، ومغرز الأوراق من الأفنان، ومحطّ الأمشاج من مسارب الأصلاب، وناشئة الغيوم ومتلاحمها. ودرور قطر السحاب في متراكمها. وما تسفي الأعاصير بذيولها وتعفو الأمطار بسيولها. وعوم نبات الأرض في كثبان الرمال، ومستقرّ ذوات الأجنحة بذرى شناخيب الجبال، وتغريد ذوات المنطق في دياجير الأوكار، وما أوعبته الأصداف، وحضنت عليه أمواج البحار وما غشيته سدفة ليلٍ أو ذرّ عليه شارق نهارٍ. وما اعتقبت عليه أطباق الدياجير وسبحات النور. وأثر كلّ خطوةٍ. وحسّ كلّ حركةٍ ورجع كلّ كلمةٍ. وتحريك كلّ شفةٍ، ومستقر كلّ نسمةٍ، ومثقال كلّ ذرّةٍ، وهماهم كلّ نفسٍ هامّةٍ. وما عليها من ثمر شجرةٍ، أو ساقط ورقةٍ أو قرارة نطفةٍ أو نقاعة دمٍ ومضغةٍ. أو ناشئة خلقٍ وسلالةٍ. لم تلحقه في ذلك كلفةٌ. ولا اعترضته في حفظ ما ابتدعه من خلقه عارضةٌ. ولا اعتورته في تنفيذ الأمور وتدابير المخلوقين ملالةٌ ولا فترةٌ. بل نفذ فيهم علمه، وأحصاهم عدّه، ووسعهم عدله، وغمرهم فضله مع تقصيرهم عن كنه ما هو أهله. اللهمّ أنت أهل الوصف الجميل والتعداد الكثير. إن تؤمّل فخير مؤمّ لٍ، وإن ترج فأكرم مرجوّ. اللهمّ وقد بسطت لي فيما لا أمدح به غيرك، ولا أثني به على أحدٍ سواك، ولا أوجّهه إلى معادن الخيبة ومواضع الريبة. وعدلت بلساني عن مدائح الآدميّين. والثناء على المربوبين المخلوقين. اللهمّ ولكلّ مثنٍ على من أثنى عليه مثوبةٌ من جزاء أو عارفةٌ من عطاء، وقد رجوتك دليلاً على ذخائر الرحمة وكنوز المغفرة. اللهمّ وهذا مقام من أفردك بالتوحيد الذي هو لك ولم ير مستحقاً لهذه المحامد والممادح غيرك. وبي فاقةٌ إليك لا يجبر مسكنتها إلاّ فضلك ولا ينعش من خلّتها إلاّ منك وجودك، فهب لنا في هذا المقام رضاك، وأغننا عن مدّ الأيدي إلى سواك إنّك على كلّ شىءٍ قديرٌ.

من خطبة له عليه السلام لمّا أريد على البيعة بعد قتل عثمان رضي الله عنه

دعوني والتمسوا غيري فإنّا مستقبلون أمراً له وجوهٌ وألوانٌ. لا تقوم له القلوب ولا تثبت عليه العقول. وإنّ الآفاق قد أغامت والمحجّة قد تنكّرّت. واعلموا إنّي إن أجبتكم ركبت بكم ما أعلم ولم أصغ إلى قول القائل وعتب العاتب. وإن تركتموني فأنا كأحدكم ولعليّ أسمعكم وأطوعكم لمن ولّيتموه أمركم. وأنا لكم وزيراً خيرٌ لكم منّي أميراً. ومن خطبة له عليه السلامأمّا بعد أيّها الناس. فأنا فقأت عين الفتنة، ولم تكن ليجرأ عليها أحدٌ غيري بعد أن ماج غيهبها واشتد كلبها. فاسألوني قبل أن تفقدوني. فوالذي نفسي بيده لا تسألوني عن شىءٍ فيما بينكم وبين الساعة، ولا عن فئةٍ تهدي مائةً وتضلّ مائةً إلاّ أنبأتكم بناعقها وقائدها وسائقها، ومناخ ركابها ومحطّ رحالها. ومن يقتل من أهلها قتلاً، ويموت منهم موتاً. ولو قد فقدتموني ونزلت بكم كرائه الأمور وحوازب الخطوب لأطرق كثيرٌ من السائلين وفشل كثيرٌ من المسؤلين. وذلك إذا قلّصت حربكم وشمّرت عن ساقٍ، وضاقت الدنيا عليكم ضيقاً تستطيلون معه أيّام البلاء عليكم حتّى يفتح الله لبقيّة الأبرار منكم. إن الفتن إذا أقبلت شبّهت وإذا أدبرت نبّهت. ينكرن مقبلاتٍ ويعرفن مدبراتٍ. يحمن حول الرياح يصبن بلداً ويخطئن بلداً. ألا إنّ أخوف الفتن عندي عليكم فتنة بني أميّة، فإنّها فتنةٌ عمياء مظلمةٌ عمّت خطّتها وخصّت بليتها، وأصاب البلاء من أبصر فيها، وأخطأ البلاء من عمي عنها. وايم الله لتجدنّ بني أميّة لكم أرباب سوءٍ بعدي كالناب الضروس تعذم بفيها وتخبط بيدها، وتزبن برجلها، وتمنع درّها. لا يزالون بكم حتّى لا يتركوا منكم إلاّ نافعاً لهم أو غير ضائرٍ بهم. ولا يزال بلاؤهم حتّى لا يكون انتصار أحدكم منهم إلاّ كانتصار العبد من ربّه. والصاحب من مستصحبه. ترد عليكم فتنتهم شوهاء مخشيّة وقطعاً جاهليّةً. ليس فيها منار هدىً، ولا علم يرى نحن أهل البيت منها بمنجاةٍ ولسنا فيها بدعاةٍ. ثمّ يفرّجها الله عنكم كتفريج الأديم بمن يسومهم خسفاً ويسوقهم عنفاً، ويسقيهم بكأس مصبّرةٍ لا يعطيهم إلاّ السيف. ولا يحلسهم إلاّ الخوف. فعند ذلك تودّ قريشٌ بالدنيا وما فيها لو يرونني مقاماً واحداً ولو قدر جزر جزورٍ لأقبل منهم ما أطلب اليوم بعضه فلا يعطونني.

ومن خطبة له عليه السلام

فتبارك الله الذي لا يبلغه بعد الهمم. ولا يناله حسن الفطن. الأوّل الذي لا غاية له فينتهي. ولا آخر له فينقضي منها في وصف الأنبياء فاستودعهم في أفضل مستودع، وأقرّهم في خير مستقرٍّ. تناسختهم كرائم الأصلاب إلى مطهرّات الأرحام. كلّما مضى منهم سلفٌ قام منهم بيدين الله خلفٌ. حتّى أفضت كرامة الله سبحانه إلى محمّدٍ صلى الله عليه وآله، فأخرجه من أفضل المعادن منبتاً وأعزّ الأرومات مغرساً. من الشجرة التي صدع منها أنبياءه وانتخب منها أمناءه. عترته خير العتر، وأسرته خير الأسر، وشجرته خير الشجر. نبتت في حرمٍ وبسقت في كرمٍ، لها فروعٌ طوالٌ وثمرةٌ لا تنال. فهو إمام من اتّقى وبصيرة من اهتدى. سراجٌ لمع ضوءه. وشهابٌ سطع نوره، وزند برق لمعه. سيرته القصد وسنّته الرشد. وكلامه الفصل. وحكمه العدل. أرسله على حين فترةٍ من الرسل، وهفوةٍ عن العمل، وغباوةٍ من الأمم. اعملوا رحمكم الله على أعلام بيّنة. فالطريق نهجٌ يدعو إلى دار السلام. وأنتم في دار مستعتبٍ على مهل وفراغ. والصحف منشورةٌ. والأقلام جاريةٌ. والأبدان صحيحةٌ. والألسن مطلقةٌ. والتوبة مسموعةٌ. والأعمال مقبولةٌ.

ومن خطبة له عليه السلام

بعثه والناس ضلاّل في حيرةٍ. وخابطون في فتنةٍ. قد استهوتهم الأهواء، واستنزلتّهم الكبرياء، واستخفّتهم الجاهلية الجهلاء. حيارى في زلزالٍ من الأمر، وبلاءٍ من الجهل. فبالغ صلى الله عليه وآله في النصيحة، ومضى على الطريقة، ودعا إلى الحكمة والموعظة الحسنة. ومن خطبة أخرىالحمد لله الأوّل فلا شىء قبله. والآخر فلا شىء بعده. والظاهر فلا شىء فوقه. والباطن فلا شىء دونه منها في ذكر الرسول صلى الله عليه وآله مستقرّه خير مستقرٍّ. ومنبته أشرف منبتٍ. في معادن الكرامة، ومماهد السلامة. قد صرفت نحوه أفئدة الأبرار، وثنيت إليه أزمّة الأبصار. دفن به الضغائن وأطفأ به الثوائر. ألّف به إخواناً، وفرّق به أقراناً. أعزّ به الذلّة، وأّلّ به العزّة. كلامه بيانٌ وصمته لسانٌ.

ومن خطبة له عليه السلام

ولئن أمهل الظالم فلن يفوت أخذه. وهو له بالمرصاد على مجاز طريقه. وبموضع الشجى من مساغ ريقه. أما والذي نفسي بيده ليظهرنّ هؤلاء القوم عليكم، ليس لأنّهم أولى بالحقّ منكم، ولكن لإسراعهم إلى باطل صاحبهم وإبطائكم عن حقّي. ولقد أصبحت الأمم تخاف ظلم رعاتها. وأصبحت أخاف ظلم رعيّتي. استنفرتكم للجهاد فلم تنفروا. وأسمعتكم فلم تسمعوا، ودعوتكم سرّاً وجهراً فلم تستجيبوا، ونصحت لكم فلم تقبلوا. أشهودٌ كغيّابٍ وعبيدٌ كأرباب أتلو عليكم الحكم فتنفرون منها. وأعظكم بالموعظة البالغة فتتفرقون عنها. واحثّكم على جهاد أهل البغي فما آتى على آخر القول حتّى أراكم متفرّقين أيادي سبا ترجعون إلى مجالسكم وتتخادعون عن مواعظكم. أقوّمكم غدوةً وترجعون إلى عشيّةً كظهر الحيّة، عجز المقوّم وأعضل المقوّمأيّها الشاهدة أبدانهم. الغائبة عقولهم. المختلفة أهواؤهم. المبتلى بهم أمراؤهم. صاحبكم يطيع الله وأنتم تعصونه. وصاحب أهل الشام يعصي الله وهم يطيعونه. لوددت والله أنّ معاوية صارفني بكم صرف الدينار بالدرهم فأخذ منّي عشرةً منكم وأعطاني رجلاً منهم. يا أهل الكوفة منيت بكم بثلاثٍ واثنتين: صمٌ ذوو أسماع، وبكم ذوو كلامٍ، وعميٌ ذوو أبصار. لا أحرار صدقٍ عند اللقاء ولا إخوان ثقةٍ عند البلاء. تربت أيديكم. يا أشباه الإبل غاب عنها رعاتها كلّما جمعت من جانب تفرّقت من جانبٍ آخر. والله لكأنّي بكم فيما إخال أن لو حمس الوغى وحمى الضراب وقد انفرجتم عن ابن أبي طالب انفراج المرأة عن قبلها. وإنّي لعلى بيّنةٍ من ربّي، ومنهاج من نبيّ. وإنّي لعلى الطريق الواضح ألقطه لقطاً. انظروا أهل بيت نبيّكم فالزموا سمتهم واتّبعوا أثرهم فلن يخرجوكم من هدىً، ولن يعيدوكم في ردى. فإن لبدوا فالبدوا وإن نهضوا فانهضوا. ولا تسبقوهم فتضلّوا، ولا تتأخّروا عنهم فتهلكوا. لقد رأيت أصحاب محمّدٍ صلى الله عليه وآله فما أرى أحداً يشبههم، لقد كانوا يصبحون شعثاً غبراً وقد باتوا سجّداً وقياماً يراوحون بين جباههم وخدودهم ويقفون على مثل الجمر من ذكر معادهم. كأنّ بين أعينهم ركب المعزى من طول سجودهم. إذا ذكر الله هملت أعينهم حتّى تبلّ جيوبهم. ومادوا كما يميد الشجر يوم الريح العاصف خوفاً من العقاب ورجاء الثواب.

ومن كلام له عليه السلام

والله لا يزالون حتّى لا يدعوا لله محرّماً إلاّ استحلّوه ولا عقداً إلاّ حلّوه. وحتّى لا يبقى بيت مدرٍ ولا وبرٍ إلاّ دخله ظلمهم ونبابه سوء رعيهم وحتّى يقوم الباكيان يبكيان باكٍ يبكي لدينه وباكٍ يبكي لدنياه. وحتّى تكون نصرة أحدكم من أحدهم كنصرة العبد من سيّده. إذا شهد أطاعه، وإذا غاب اغتابه. وحتّى يكون أعظمكم فيها غناءً أحسنكم بالله ظنّاً. فإن أتاكم الله بعافيةٍ فأقبلوا. وإن ابتليتم فاصبروا. فإنّ العافية للمتّقين.

ومن خطبة له عليه السلام

نحمده على ما كان ونستعينه من أمرنا على ما يكون. ونسأله المعافاة في الأديان كما نسأله المعافاة في الأبدان. عباد الله أوصيكم بالرفض لهذه الدنيا التاركة لكم وإن لم تحبّوا تركها. والمبلية لأجسامكم وإن كنتم تحبّون تجيدها فإنّما مثلكم ومثلها كسفرٍ سلكوا سبيلاً فكأنّهم قد قطعوه وأمّوا علماً فكأنّهم قد بلغوه. وكم عسى المجرى إلى الغاية أن يجري إليها حتّى يبلغها. وما عسى أن يكون بقاء من له يومٌ لا يعدوه وطالبٌ حثيثٌ يحدوه في الدنيا حتّى يفارقها فلا تنافسوا في عزّ الدنيا وفخرها. ولا تعجبوا بزينتها ونعيمها. ولا تجزعوا من ضرّائها وبؤسها. فإنّ عزّها وفخرها إلى انقطاع. وإنّ زينتها ونعيمها إلى زوالٍ، وضرّائها وبؤسها إلى نفادٍ. وكلّ مدّةٍ فيها إلى انتهاء. وكلّ حيٍّ فيها إلى فناءٍ. أوليس لكم في آثار الأوّلين مزدجرٌ وفي آبائكم الماضين تبصرةٌ ومعتبرٌ إن كنتم تعقلون. أولم تروا إلى الماضين منكم لا يرجعون. وإلى الخلف الباقين لا يبقون. أولستم ترون أهل الدنيا يصبحون ويمسون على أحوال شتّى، فميّتٌ يبكي وآخر يعزّي، وصريعٌ مبتلىً. وعائدٌ يعود وآخر بنفسه يجود. وطالبٌ للدنيا والموت يطلبه. وغافلٌ وليس بمغفولٍ عنه. وعلى أثر الماضي ما يمضي الباقي. ألا فاذكروا هاذم اللذّات، ومنغّص الشهوات، وقاطع الأمنيّات. عند المساورة للأعمال القبيحة. واستعينوا الله على أداء واجب حقّه. وما لا يحصى من أعداد نعمه وإحسانه

ومن خطبة له أخرى

الحمد لله الناشر في الخلق فضله. والباسط فيهم بالجود يده. نحمده في جميع أموره. ونستعينه على رعاية حقوقه. ونشهد أن لا إله غيره وأنّ محمّداً عبده ورسوله. أرسله بأمره صادعاً وبذكره ناطقاً. فأدّى أميناً ومضى رشيداً. وخلّف فينا راية الحقّ من تقدّمها مرق، ومن تخلّف عنها زهق. ومن لزمها لحق دليلها مكيث الكلام. بطيء القيام، سريعٌ إذا قام. فإذا أنتم النتم له رقابكم وأشرتم إليه بأصابعكم، جاءه الموت فذهب به، فلبثتم بعده ما شاء الله، حتّى يطلع الله لكم من يجمعكم ويضمّ نشركم. فلا تطمعوا في غير مقبلٍ، ولا تيأسوا من مدبرٍ. فإن المدبر عسى أن تزلّ إحدى قائمتيه، وتثبت الأخرى وترجعا حتّى تثبتا جميعاً. ألا إنّ مثل آل محمّدٍ صلى الله عليه وآله كمثل نجوم السماء إذا خوى نجمٌ طلع نجمٌ فكأنّكم قد تكاملت من الله فيكم الصنائع، وأراكم ما كنتم تأملون.

ومن خطبة له أخرى

الأوّل قبل كلّ أوّلٍ. والآخر بعد كلّ آخرٍ. بأوّليتّه وجب أن لا أوّل له. وبآخريتّه وجب أن لا آخر له. وأشهد أن لا إله إلاّ الله شهادةً يوافق فيها السرّ الإعلان والقلب اللسان. أيّها الناس لا يجرمنّكم شقاقي، ولا يستهوينّكم عصياني، ولا تتراموا بالأبصار عند ما تسمعونه منّي. فوالذي فلق الحبّة وبرأ النسمة إنّ الذي أنبئكم به عن النبيّ الأمّيّ صلى الله عليه وآله. ما كذب المبلّغ ولا جهل السامع. ولكأنّي أنظر إلى ضليلٍ قد نعق بالشام، وفحص براياته في ضواحي كوفان. فإذا فغرت فاغرته، واشتدت شكيمته، وثقلت في الأرض وطأته عضّت الفتنة أبناءها بأنيابها، وماجت الحرب بأمواجها. وبد من الأيّام كلوحها، ومن الليالي كدوحها. فإذا أينع زرعه، وقام على ينعه. وهدرت شقاشقه، وبرقت بوارقه، عقدت رايات الفتن المعضلة، وأقبلن كالليل المظلم، والبحر الملتطم. هذا وكم يخرق الكوفة من قاصفٍ، ويمرّ عليها من عاصف. وعن قليلٍ تلتفّ القرون بالقرون، ويحصد القائم ويحطم المحصود.

ومن كلام له يجري مجرى الخطبة

وذلك يوم يجمع الله فيه الأوّلين والآخرين لنقاش الحساب وجزاء الأعمال، خضوعاً قياماً قد ألجمهم العرق، ورجفت بهم الأرض. فأحسنهم حالاً من وجد لقدميه موضعاً ولنفسه متّسعاً منه فتنٌ كقطع الليل المظلم. لا تقوم لها قائمةٌ، ولا تردّ لها رايةٌ، تأتيكم مزمومةً مرحولةً، يحفزها قائدها ويجهدها راكبها. أهلها قومٌ شديدٌ كلبهم، قليل سلبهم يجاهدهم في سبيل الله قومٌ أذلّةٌ عند المتكبرين. في الأرض مجهولون، وفي السماء معروفون. فويلٌ لك يا بصرة عند ذلك من جيشٍ من نقم الله لا رهج له ولا حسّ. وسيبتلى أهلك بالموت الأحمر والجوع الأغبر.

ومن خطبة له عليه السلام

انظروا إلى الدنيا نظر الزاهدين فيها، الصافين عنها. فإنّها والله عمّا قليلٍ تزيل الثاوي الساكن، وتفجع المترف الآمن. لا يرجع ما تولّى منها فأدبر، ولا يدري ما هو آتٍ منها فينتظر. سرورها مشوبٌ بالحزن. وجلد الرجال فيها إلى الضعف والوهن. فلا يغرّنّكم كثرة ما يعجبكم فيها، لقلة ما يصحبكم منها رحم الله امرأً تفكّر فاعتبر. واعتبر فأبصر. فكأنّ ما هو كائنٌ من الدنيا عن قليلٍ لم يكن، وكأنّ ما هو كائنٌ من الآخرة عمّا قليلٍ لم يزل. وكلّ معدود منقضٍ، وكلّ متوقّعٍ آتٍ، وكلّ آتٍ قريبٌ دانٍ منها العالم من عرف قدره. وكفى بالمرء جهلاً ألا يعرف قدره. وإنّ من أبغض الرجال إلى الله لعبداً وكله الله إلى نفسه. جائراً عن قصد السبيل، سائراً بغير دليل. إن دعي إلى حرث الدنيا عمل، وإن دعي إلى حرث الآخرة كسل، كأنّ ما عمل له واجبٌ عليه، وكأنّ ما ونى فيه ساقطٌ عنه. منها وذلك زمانٌ لا ينجو فيه إلاّ كلّ مؤمنٍ نومةٍ إن شهد لم يعرف وإن غاب لم يفتقد. أولئك مصابيح الهدى، وأعلام السرى. ليسوا بالمسابيح ولا المذاييع البذر أولئك يفتح الله لهم أبواب رحمته. ويكشف عنهم ضرّاء نقمته. أيّها الناس سيأتي عليكم زمانٌ يكفأ فيه الإسلام كما يكفأ الإناء بما فيه. أيّها الناس إنّ الله قد أعاذكم من أن يجور عليكم، ولم يعذكم من أن يبتليكم، وقد قال جلّ من قائلٍ ' إنّ في ذلك لآياتٍ وإن كنّا لمبتلين '. أما قوله عليه السلام' كلّ مؤمنٍ نومةٍ' فإنّما أراد به الخامل الذكر القليل الشرّ. والمسابيح جمع مسياحٍ وهو الذي يسيح بين الناس بالفساد والنمائم. والمذابيع جمع مذياع: وهو الذي إذا سمع لغيره بفاحشةٍ أذاعها ونوّه بها. والبذر جمع بذورٍ: وهو الذي يكثر سفهه ويلغو منطقه.

ومن خطبة له عليه السلام وقد تقدّم مختارها بخلاف هذه الرواية

أمّا بعد فإنّ الله سبحانه بعث محمّداً صلى الله عليه وآله وليس أحدٌ من العرب يقرأ كتاباً، ولا يدّعي نبوّةً ولا وحياً. فقاتل بمن أطاعه من عصاه. يسوقهم إلى منجاتهم، ويبادر بهم الساعة أن تنزل بهم. يحسر الحسير ويقف الكسير فيقيم عليه حتّى يلحقه غايته إلاّ هالكاً لا خير فيه. حتّى أراهم منجاتهم، وبوّأهم محلّتهم فاستدارت رحاهم، واستقامت قناتهم. وايم الله لقد كنت من ساقتها حتّى تولّت بحذافيرها، واستوسقت في قيادها، ما ضعفت ولا جبنت، ولا خنت ولا وهنت. وايم الله لأبقرنّ الباطل حتّى أخرج الحقّ من خاصرته.

ومن خطبة له عليه السلام

حتّى بعث الله محمّداً صلى الله عليه وآله شهيداً وبشيراً ونذيراً: خير البرية طفلاً، وأنجبها كهلاً. أطهر المطهرّين شيمةً، وأجود المستمطرين ديمةً. فما احلولت لكم الدنيا، في لذّتها ولا تمكّنتم من رضاع أخلافها، إلاّ من بعد ما صادفتموها جائلاً خطامها، قلقاً وضينها. قد صار حرامها عند أقوامٍ بمنزلة السدر المخضود، وحلالها بعيداً غير موجود. وصادفتموها والله ظلاًّ ممدوداً إلى أجلٍ معدودٍ. فالأرض لكم شاغرةٌ، وأيديكم فيها مبسوطةٌ، وأيدي القادة عنكم مكفوفةٌ، وسيوفكم عليهم مسلّطةٌ، وسيوفهم عنكم مقبوضةٌ. ألا إنّ لكلّ دمٍ ثائراً، ولكّ حقٍ طالباً. وإنّ الثائر في دمائنا كالحاكم في حقّ نفسه. وهو الله الذي لا يعجزه من طلب، ولا يفوته من هرب. فأقسم بالله يا بني أميّة عمّا قليلٍ لتعرفنّها في أيدي غيركم وفي دار عدوّكم. ألا وإنّ أبصر الأبصار ما نفذ في الخير طرفه. ألا إنّ أسمع الأسماع ما وعى التذكير وقبلهأيّها الناس استصبحوا من شعلة مصباح واعظٍ متّعظٍ. وامتاحوا من صفو عينٍ قد روّقت من الكدر. عباد الله لا تركنوا إلى جهالتكم، ولا تنقادوا لأهوائكم، فإنّ النازل بهذا المنزل نازلٌ بشفا جرفٍ هارٍ، ينقل الردى على ظهره من موضعٍ إلى موضعٍ لرأيٍ يحدثه بعد رأيٍ، يريد أن يلصق ما لا يلتصق ويقرّب ما لا يتقارب. فالله الله أن تشكوا إلى من لا يشكي شجوكم، ولا ينقض برأيه ما قد أبرم لكم. إنّه ليس على الإمام إلاّ ما حمّل من أمر ربّه. الإبلاغ في الموعظة، والاجتهاد في النصيحة، والإحياء للسنّة، وإقامة الحدود على مستحقيّها، وإصدار السهمان على أهلها. فبادروا العلم من قبل تصويح نبته، ومن قبل أن تشغلوا بأنفسكم عن مستثار العلم من عند أهله. وانهوا عن المنكر وتناهوا عنه، فإنّما أمرتم بالنهي بعد التناهي.

ومن خطبة له عليه السلام

الحمد لله الذي شرع الإسلام فسهّل شرائعه لمن ورده، وأعزّ أركانه على من غالبه فجعله أمناً لمن علقه، وسلماً لمن دخله، وبرهاناً لمن تكلّم به، وشاهداً لمن خاصم به، ونوراً لمن استضاء به، وهماً لمن عقل، ولبّاً لمن تدبّر، وآيةً لمن توسّم، وتبصرةً لمن عزم، وعبرةً لمن اتّعظ، ونجاةً لمن صدّق، وثقةً لمن توكّل، وراحةً لمن فوّض، وجنّةً لمن صبر. فهو أبلج المناهج واضح الولائج، مشرف المنار، مشرق الجوادّ، مضيء المصابيح كريم المضمار، رفيع الغاية، جامع الحلبة، متنافس السبقة شريف الفرسان. التصديق منهاجه، والصالحات مناره، والموتغايته. والدنيا مضماره، والقيامة حلبته، والجنّة سبقته منها في ذكر النبيّ صلى الله عليه وآله حتّى أورى قبساً لقابسٍ، وأنار علماً لحابسٍ، فهو أمينك المأمون، وشهيدك يوم الدين وبعيثك نعمةً. ورسولك بالحقّ رحمةً. اللهمّ رحمةً. اللهمّ أقسم له مقسماً من عدلك، وأجزه مضاعفات الخير من فضلك. اللهمّ أعل على بناء البانين بناءه، وأكرم لديك نزله، وشرّف لديك منزلته. وآته الوسيلة وأعطه السناء والفضيلة، واحشرنا في زمرته غير خزايا ولا نادمين ولا ناكبين، ولا ناكثين، ولا ضالّين، ولا مضلّين، ولا مفتونين وقد مضى هذا الكلام فيما تقدّم إلاّ أنّنا كرّرناه في الروايتين من الإختلاف منها في خطاب أصحابه وقد بلغتم من كرامة الله لكم منزلةً تكرم بها إماؤكم، وتوصل بها جيرانكم، ويعظّمكم من لا فضل لكم عليه، ولا يد لكم عنده، ويهابكم من لا يخاف لكم سطوةً، ولا لكم عليه إمرةٌ وقد ترون عهود الله منقوضةً فلا تغضبون، وأنتم لنقض ذمم آبائكم تأنفون. وكانت أمور الله عليكم ترد وعنكم تصدر وإليكم ترجع. فمكّنتم الظلمة من منزلتكم، وألقيتم إليهم أزمتّكم وأسلمتم أمور الله في أيديهم. يعملون في الشبهات، ويسيرون في الشهوات. وايم الله لو فرّقوكم تحت كلّ كوكبٍ لجمعكم الله لشر يومٍ لهم.

شارك هذه الصفحة:

تابع موسوعة الأدب العربي على شبكات التواصل الإجتماعي