نهج البلاغة/في الاستسقاء

من موسوعة الأدب العربي
اذهب إلى:تصفح، ابحث

في الاستسقاء

في الاستسقاء - نهج البلاغة

في الاستسقاء

ألا وإنّ الأرض التي تحملكم والسماء التي تظلّكم مطيعتان لربّكم، وما أصبحتا تجودان لكم ببركتهما توجّعاً لكم ولا زلفةً إليكم ولا لخيرٍ ترجوانه منكم، ولكن أمرتا بمنافعكم فأطاعتا، وأقيمتا على حدود مصالحكم فقامتا. إنّ الله يبتلي عباده عند الأعمال السيّئة بنقص الثمرات وحبس البركات، وإغلاق خزائن الخيرات، ليتوب تائبٌ ويقلع مقلعٌ، ويتذكّر متذكّرٌ، ويزدجر مزدجرٌ. وقد جعل الله سبحانه الاستغفار سبباً لدرور الرزق ورحمة الخلق فقال: ' استغفروا ربّكم إنّه كان غفّاراً يرسل السماء عليكم مدراراً ويمددكم بأموالٍ وبنين ' فرحم الله امرأً استقبل توبته، واستقال خطيئته، وبادر منيّته اللهمّ إنّا خرجنا إليك من تحت الأستار والأكنان، وبعد عجيج البهائم والولدان، راغبين في رحمتك، وراجين فضل نعمتك، وخائفين من عذابك ونقمتك. اللهمّ فاسقنا غيثك ولا تجعلنا من القانطين، ولا تهلكنا بالسنين، ولا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منّا يا أرحم الراحمين. اللهمّ إنّا خرجنا إليك نشكو إليك ما لا يخفى عليك حين ألجأتنا المضايق الوعرة، وأجاءتنا المقاحط المجدبة، وأعيتنا المطالب المتعسرة، وتلاحمت علينا الفتن المستصعبة. اللهمّ إنّا نسألك أن لا تردّنا خائبين، ولا تقلبنا واجمين. ولا تخاطبنا بذنوبنا، ولا تقايسنا بأعمالنا. اللهمّ انشر علينا غيثك، وبركتك، ورزقك ورحمتك. واسقنا سقياً نافعةً مرويةً معشبةً تنبت بها ما قد فات، وتحيي بها ما قد مات. نافعةً الحيا، كثيرة المجتنى، تروي بها القيعان، وتسيل البطنان. وتستورق الأشجار، وترخص الأسعار إنّك على ما تشاء قديرٌ.

ومن خطبةٍ له عليه السلام

بعث الله رسله بما خصّهم به من وحيه، وجعلهم حجّةً له على خلقه، لئلا تجب الحجّة لهم بترك الإعذار إليهم. فدعاهم بلسان الصدق إلى سبيل الحقّ. ألا إنّ الله قد كشف الخلق كشفةً، لا أنّه جهل ما أخفوه من مصون أسراهم ومكنون ضمائرهم، ولكن ليبلوهم أيّهم أحسن عملاً، فيكون الثواب جزاءً والعقاب بواءً. أين الذين زعموا أنّهم الراسخون في العلم دوننا، كذباً وبغياً علينا أن رفعنا الله ووضعهم، وأعطانا وحرمهم، وأدخلنا وأخرجهم. بنا يستعطى الهدى ويستجلى العمى. إنّ الأئمّة من قريشٍ غرسوا في هذا البطن من هاشمٍ. ولا تصلح على سواهم، ولا تصلح الولاة من غيرهم منها آثروا عاجلاً وأخّروا آجلاً، وتركوا صافياً وشربوا آجناً. كأنّي أنظر إلى فاسقهم وقد صحب المنكر فألفه، وبسئ به ووافقه، حتّى شابت عليه مفارقه، وصبغت به خلائقه. ثمّ أقبل مزبداً كالتيّار لا يبالي ما غرّق. أو كوقع النار في الهشيم لا يحفل ما حرّق. أين العقول المستصحبة بمصابيح الهدى، والأبصار اللاّمحة إلى منار التقوى. أين القلوب التي وهبت لله وعوقدت على طاعة الله. ازدحموا على الحطام وتشاحّوا على الحرام. ورفع لهم علم الجنّة والنار فصرفوا عن الجنّة وجوههم، وأقبلوا إلى النار بأعمالهم. دعاهم ربّهم فنفروا وولّوا. ودعاهم الشيطان فاستجابوا وأقبلوا.

ومن كلامٍ له عليه السلام

أيّها الناس، إنّما أنتم في هذه الدنيا غرضٌ تنتضل فيه المنايا، مع كلّ جرعةٍ شرقٌ، وفي كلّ أكلةٍ غصصٌ. لا تنالون منها نعمةً إلاّ بفراق أخرى، ولا يعمّر معمّرٌ منكم يوماً من عمره إلاّ بهدم آخر من أجله. ولا تجدّد له زيادةٌ في أكله إلاّ بنفاد ما قبلها من رزقه. ولا يحيي له أثرٌ إلاّ مات له أثرٌ. ولا يتجدّد له جديدٌ إلاّ بعد أن يخلق له جديدٌ. ولا تقوم له نابتةٌ إلاّ وتسقط منه محصودةٌ. وقد مضت أصول نحن فروعها فما بقاء فرعٍ بعد ذهاب أصله منها وما أحدثت بدعةٌ إلاّ ترك بها سنّةٌ. فاتّقوا البدع والزموا المهيع. إنّعوازم الأمور أفضلها. وإنّ محدثاتها شرارها.

ومن كلامٍ له عليه السلام

وقد استشاره عمر بن الخطاب في الشخوص لقتال الفرس بنفسه إنّ هذا الأمر لم يكن نصره ولا خذلانه بكثرةٍ ولا قلّةٍ. وهو دين الله الذي أظهره، وجنده الذي أعدّه وأمدّه، حتّى بلغ ما بلغ وطلع حيث طلع. ونحن على موعودٍ من الله. والله منجزٌ وعده وناصرٌ جنده. ومكان القيّم بالأمر مكان النظام من الخرز يجمعه ويضمّه. فإن انقطع النظام تفرّق وذهب، ثمّ لم يجتمع بحذافيره أبداً. والعرب اليوم وإن كانوا قليلاً فهم كثيرون بالإسلام وعزيزون بالاجتماع. فكن قطباً، واستدر الرحى بالعرب، وأصلهم دونك نار الحرب، فإنّك إن شخصت من هذه الأرض انتفضت عليك العرب من أطرافها وأقطارها، حتّى يكون ما تدع وراءك من العورات أهمّ إليك ممّا بين يديك. إنّ الأعاجم إن ينظروا إليك غداً يقولوا هذا أصل العرب فإذا قطعتموه استرحتم، فيكون ذلك أشدّ لكلبهم عليك وطمعهم فيك. فأمّا ما ذكرت من مسير القوم إلى قتال المسلمين فإنّ الله سبحانه هو أكره لمسيرهم منك، وهو أقدر على تغيير ما يكره. وأمّا ما ذكرت من عددهم فإنّا لم نكن نقاتل فيما مضى بالكثرة، وإنّما كنا نقاتل بالنصر والمعونة.

ومن خطبةٍ له عليه السلام

فبعث محمّداً صلّى الله عليه وآله بالحقّ ليخرج عباده من عبادة الأوثان إلى عبادته، ومن طاعة الشيطان إلى طاعته، بقرآنٍ قد بينّه وأحكمه، ليعلم العباد ربّهم إذ جهلوه، وليقرّوا به إذ جحدوه، وليثبتوه بعد إذ أنكروه. فتجلّى سبحانه لهم في كتابه من غير أن يكونوا رأوه بما أراهم من قدرته، وخوّفهم من سطوته. وكيف محق من محق بالمثلات، واحتصد من احتصد بالنقمات. وإنّه سيأتي عليكم من بعدي زمانٌ ليس فيه شيءٌ أخفى من الحقّ ولا أظهر من الباطل، ولا أكثر من الكذب على الله ورسوله. وليس عند أهل ذلك الزمان سلعةٌ أبور من الكتاب إذا تُليَ حقّ تلاوته، ولا أنفق منه إذا حُرِّفَ عن مواضعه. ولا في البلاد شيءٌ أنكر من المعروف، ولا أعرف من المنكر. فقد نبذ الكتاب حماته، وتناساه حفظته. فالكتاب وأهله في ذلك الزمان في الناس وليسا فيهم، ومعهم وليسا معهم، لأنّ الضلالة لا توافق الهدى وإن اجتمعا. فاجتمع القوم على الفرقة. وافترقوا عن الجماعة. كأنّهم أئمّة الكتاب وليس الكتاب إمامهم. فلم يبق عندهم منه إلاّ اسمه، ولا يعرفون إلاّ خطّه وزبره. ومن قبل ما مثّلوا بالصالحين كلّ مثلةٍ، وسمّوا صدقهم على الله فريةً، وجعلوا في الحسنة عقوبة السيئة. وإنّما هلك من كان قبلكم بطول آمالهم وتغيّب آجالهم، حتّى نزل بهم الموعود الذي تردّ عنه المعذرة، وترفع عنه النوبة، وتحلّ معه القارعة والنقمة. أيّها الناس إنّه من استنصح الله وُفِّق، ومن اتّخذ قوله دليلاً هُدِيَ للتي هي أقوم فإنّ جار الله آمنٌ، وعدوّه خائفٌ. وإنّه لا ينبغي لمن عرف عظمة الله أن يتعظّم، فإنّ رفعة الذين يعلمون ما عظمته أن يتواضعوا له، وسلامة الذين يعلمون ما قدرته أن يستسلموا له. فلا تنفروا من الحقّ نِفار الصحيح من الأجرب، والباري من ذي السقم. واعلموا أنّكم لن تعرفوا الرشد حتّى تعرفوا الذي تركه، ولن تأخذوا بميثاق الكتاب حتّى تعرفوا الذي نقضه، ولن تمسّكوا به حتّى تعرفوا الذي نبذه. فالتمسوا ذلك من عند أهله فإنّهم عيش العلم موت الجهل. هم الذين يخبركم حكمهم عن علمهم، وصمتهم عن منطقهم، وظاهرهم عن باطنهم. لا يخالفون الدين ولا يختلفون فيه، فهو بينهم شاهدٌ صادقٌ، وصامتٌ ناطقٌ.

ومن خطبة له عليه السلام في ذكر أهل البصرة

كلّ واحدٍ منهما يرجو الأمر له ويعطفه عليه دون صاحبه، لا يمتاّن إلى الله بحبلٍ، ولا يمدّان إليه بسببٍ. كلّ واحدٍ منهما حامل ضبٍّ لصاحبه. وعمّا قليلٍ يكشف قناعه به. والله لئن أصابوا الذي يريدون لينتزعنّ هذا نفس هذا، وليأتينّ هذا على هذا. قد قامت الفئة الباغية فأين المحتسبون. فقد سنّت لهم السنن وقدّم لهم الخبر. ولكلّ ضلّةٍ علّةٌ، ولكلّ ناكثٍ شبهةٌ. والله لا أكون كمستمع اللدم يسمع الناعي ويحضر الباكي ثمّ لا يعتبر.

ومن كلامٍ له عليه السلام قبل موته

أيّها الناس كلّ امرئٍ لاقٍ ما يفرّ منه في فراره. والأجل مساق النفس. والهرب منه موافاته. كم اطّردت الأيّام أبحثها عن مكنون هذا الأمر فأبى الله إلاّ إخفاءه. هيهات. علمٌ مخزونٌ. أمّا وصيتّي: فالله لا تشركوا به شيئاً. ومحمّدٌ صلّى الله عليه وآله فلا تضيّعوا سنّته. أقيموا هذين العمودين، وأوقدوا هذين المصباحين. وخلاكم ذمٌّ ما لم تشردوا. حمل كلّ امرئٍ منكم مجهوده. وخفّف عن الجهلة. ربٌّ رحيمٌ، ودينٌ قويمٌ، وإمام عليمٌ. أنا بالأمس صاحبكم. وأنا اليوم عبرةٌ لكم. وغداً مفارقكم. غفر الله لي ولكم. إن تثبت الوطأة في هذه المزلّة فذاك. وإن تدحض القدم فإنّما كنّا في أفياء أغصانٍ، ومهبّ رياحٍ. وتحت ظلّ غمامٍ اضمحلّ في الجوّ متلفّقها، وعفا في الأرض مخطّها. وإنّما كنت جاراً جاوركم بدني أيّاماً، وستعقبون منّي جثّةً خلاءً: ساكنةً بعد حراكٍ، وصامتةً بعد نطقٍ. ليعظكم هدوّى، وخفوت أطرافي، وسكون أطرافي، فإنّه أوعظ للمعتبرين من المنطق البليغ والقول المسموع. وداعيكم وداع امرئٍ مرصدٍ للتلاقي، غداً ترون أيّامي ويكشف لكم عن سرائري، وتعرفونني بعد خلوّ مكاني وقيام غيري مقامي

ومن خطبةٍ له عليه السلام يومي فيها إلى ذكر الملاحم

وأخذوا يميناً وشمالاً طعناً في مسالك الغيّ، وتركاً لمذاهب الرشد. فلا تستعجلوا ما هو كائنٌ مرصدٌ. ولا تستبطئوا ما يجيء به الغد. فكم من مستعجلٍ بما إن أدركه ودّ أنّه لم يدركه. وما أقرب اليوم من تباشير غدٍ. يا قوم هذا إبّان ورود كلّ موعودٍ. ودنوٌّ من طلعة ما لا تعرفون. ألا ومن أدركها منّا يسري فيها بسراجٍ منيرٍ، ويحذو فيها على مثال الصالحين ليحلّ فيها ربقاً، ويعتق رقّاً، ويصدع شعباً، ويشعب صدعاً، في سترةٍ عن الناس لا يبصر القائف أثره ولو تابع نظره. ثمّ ليشحذنّ فيها قومٌ شحذ القين النصل. تجلى بالتنزيل أبصارهم. ويرمى بالتفسير في مسامعهم. ويُغبقون كأس الحكمة بعد الصبوح. منها وطال الأمد بهم ليستكملوا الخزي، ويستوجبوا الغير، حتّى إذا اخلولق الأجل، واستراح قومٌ إلى الفتن، وأشالوا عن لقاح حربهم. ولم يمنّوا على الله بالصبر. ولم يستعظموا بذل أنفسهم في الحقّ. حتّى إذا وافق وارد القضاء انقطاع مدّة البلاء حملوا بصائرهم على أسيافهم، ودانوا لربّهم بأمر واعظهم. حتّى إذا قبض الله رسوله صلّى الله عليه وآله رجع قومٌ على الأعقاب. وغالتهم السبل، واتّكلوا على الولائج ووصلوا غير الرحم، وهجروا السبب الذي أمروا بمودّته، ونقلوا البناء عن رصّ أساسه، فبنوه في غير موضعه. معادن كلّ خطيئةٍ، وأبوب كلّ ضاربٍ في غمرةٍ. قد ماروا في الحيرة، وذهلوا في السكرة على سنّةٍ من آل فرعون: من منقطع إلى الدنيا راكنٍ، أو مفارقٍ للدين مباينٍ.

ومن خطبةٍ له عليه السلام

وأحمد الله وأستعينه على مداحر الشيطان ومزاجره، والاعتصام من حبائله ومخاتله. وأشهد أن لا إله إلاّ الله وأشهد أنّ محمّداً عبده ورسوله ونجيبه وصفوته. لا يوازي فضله، ولا يجبر فقده. أضاءت به البلاد بعد الضلالة المظلمة، والجهالة الغالبة، والجفوة الجافية. والناس يستحلّون الحريم، ويستدلون الحكيم. يحيون على فترةٍ، ويموتون على كفرةٍ. ثمّ إنّكم معشر العرب أغراض بلايا قد اقتربت. فاتّقوا سكرات النعمة، واحذروا بوائق النقمة. وتثبّتوا في قتام العشوة، واعوجاج الفتنة عند طلوع جنينها، وظهور كمينها، وانتصاب قطبها ومدار رحاها. تبدأ في مدارج خفيّةٍ، وتؤول إلى فظاعةٍ جليّةٍ. شبابها كشباب الغلام وآثارها كآثار السلام. تتوارثها الظلمة بالعهود. أوّلهم قائدٌ لآخرهم وآخرهم مقندٍ بأوّلهم. يتنافسون في دنيا دنيّةٍ. ويتكالبون على جيفةٍ مريحةٍ، عن قليلٍ يتبرّأ التابع من المتبوع، والقائد من المقود. فيتزايلون بالبغضاء، ويتلاعنون عند اللقاء. ثمّ يأتي بعد ذلك طالع الفتنة الرجوف، والقاصمة الزحوف. فتزيغ قلوبٌ بعد استقامةٍ، وتضلّ رجالٌ بعد سلامةٍ. وتختلف الأهواء عند هجومها، وتلتيس الآراء عند نجومها. من أشرف لها قصمته ومن سعى فيها حطمته. يتكادمون فيها تكادم الحمر في العانة. قد اضطرب معقود الحبل، وعمى وجه الأمر. تغيض فيها الحكمة، وتنطق فيها الظلمة. وتدقّ أهل البدو بمسحلها، وترضّهم بكلكلها. يضيع في غبارها الوحدان، ويهلك في طريقها الركبان. ترد بمرّ القضاء. وتحلب عبيط الدماء. وتثلم منار الدين، وتنقض عقد اليقين. تهرب منها الأكياس، وتدبّرها الأرجاس. مرعادٌ مبراقٌ، كاشفةٌ عن ساقٍ. تقطّع فيها الأرحام، ويفارق عليها الإسلام. بريّها سقيمٌ، وظاعنها مقيمٌ. منها بين قتيلٍ مطلولٍ وخائفٍ مستجيرٍ. يختلون بعقد الأيمان بغرور الإيمان. فلا تكونوا أنصاب الفتن وأعلام البدع، والزموا ما عقد عليه حبل الجماعة، وينبت عليه أركان الطاعة. واقدموا على الله مظلومين ولا تقدموا عليه ظالمين. واتّقوا مدارج الشيطان ومهابط العدوان. ولا تدخلوا بطونكم لعق الحرام فإنّكم بعين من حرّم عليكم المعصية، وسهّل لكم سبيل الطاعة. ومن خطبةٍ له عليه السلامالحمد لله الدّالّ على وجوده بخلقه. وبمحدث خلقه على أزليّته. وباشتباهم على أن لا شبه له. لا تستلمه المشاعر، ولا تحجبه السواتر، لافتراق الصانع والمصنوع، والحادّ والمحدود، والربّ والمربوب. الأحد لا بتأويل عددٍ، والخالق لا بمعنى حركةٍ ونصبٍ، والسميع لا بأداةٍ، والبصير لا بتفريق آلةٍ، والشاهد لا بمماسّةٍ والبائن لا بتراخي مسافةٍ، والظاهر لا بلطافةٍ. بان من الأشياء بالقهر والقدرة عليها. وبانت الأشياء منه بالخضوع له والرجوع إليه. من وصفه فقد حدّه ومن حدّه فقد عدّه، ومن عدّة فقد أبطل أزله، ومن قال كيف فقد استوصفه، ومن قال أين فقد حيّزه. وعالمٌ إذ لا معلومٌ، وربٌّ إذ لا مربوبٌ. وقادرٌ إذ لا مقدورٌ. منها قد طلع طالعٌ لامعٌ، ولاح لائحٌ واعتدل مائلٌ، واستبدل الله بقومٍ قوماً، وبيومٍ يوماً. وانتظرنا الغير انتظار المجدب المطر. وإنّما الأئمّة قوّام الله على خلقه، وعرفاؤه على عباده، لا يدخل الجنة إلاّ من عرفهم وعرفوه، ولا يدخل النار إلاّمن أنكرهم وأنكروه. إن الله تعالى خصكم بالإسلام واستخصّكم لهُ، وذلك لأنّه اسم سلامةٍ وجماع كرامةٍ. اصطفى الله تعالى منهجه وبيّن حججه من ظاهر علمٍ وباطن حكمٍ. لا تفنى غرائبه، ولا تنقضي عجائبه. فيه مرابيع النعم، ومصابيح الظلم. لا تفتح الخيرات إلاّ بمفاتيحه، ولا تكشف الظلمات إلاّ بمصابيحه. قد أحمى حماه وأرعى مرعاه. فيه شفاء المشتفى، وكفاية المكتفى.

ومن خطبةٍ له عليه السلام

وهو في مُهلةٍ من الله يهوى مع الغافلين، ويغدو مع المذنبين. بلا سبيلٍ قاصدٍ، ولا إمامٍ قائدٍ. منها حتّى إذا كشف لهم عن جزاء معصيتهم. واستخرجهم من جلابيب غفلتهم، استقبلوا مُدبراً، واستدبروا مقبلاً. فلم ينتفعوا بما أدركوا من طلبتهم، ولا بما قضوا من وطرهم. إنّي أحذّركم ونفسي هذه المنزلة. فلينتفع امرؤٌ بنفسه، فإنّما البصير من سمع فتفكّر، ونظر فأبصر، وانتفع بالعبر ثمّ سلك جدداً واضحاً يتجنّب فيه الصرعة في المهاوي، والضلال في المغاوي. ولا يعين على نفسه الغواة بتعسّفٍ في حقٍّ، أو تحريفٍ في نطقٍ، أو تخوّفٍ من صدقٍ. فأفق أيّها السامع من سكرتك، واستيقظ من غفلتك واختصر من عجلتك، وأنعم الفكر فيما جاءك على لسان النبيّ الأُمّيِّ صلّى الله عليه وآله وسلّم ممّا لا بد منه ولا محيص عنه، وخالف من خالف ذلك إلى غيره، ودعه وما رضى لنفسه. وضع فخرك واحطط كبرك، واذكر قبرك فإنّ عليه ممرّك، وكما تدين تُدان. وكما تزرع تحصد. وما قدّمت اليوم تقدم عليه غداً، فامهد لقدمك وقدّم ليومك. فالحذر الحذر أيّها المستمع. والجدّ الجدّ أيّها الغافل ' ولا يُنبّئك مثل خبيرٍ '. إنّ من عزائم الله في الذكر الحكيم التي عليها يثيب ويعاقب ولها يرضى ويسخط، أنّه لا ينفع عبداً - وإن أجهد نفسه وأخلص فعله - أن يخرج من الدنيا لاقياً ربّه بخصلةٍ من هذه الخصال لم يتب منها: أن يشرك بالله فيما افترض عليه من عبادته، أو يشفي غيظه بهلاك نفسٍ، أو يُقرَّ بأمر فعله غيره، أو يستنجح حاجةً إلى الناس بإظهار بدعةٍ في دينه، أو يلقى الناس بوجهين، أو يمشي فيهم بلسانين. اعقل ذلك فإنّ المثل دليلٌ على شبهه. إنّ البهائم همّها بطونها. وإنّ السباع همّها العدوان على غيرها. وإنّ النساء همّهنّ زينة الحياة الدنيا والفساد فيها. إنّ المؤمنين مُستكينون. إنّ المؤمنين مشفقون. إنّ المؤمنين خائفون.

ومن خطبةٍ له عليه السلام

وناظر قلب اللبيب به يبصر أمده، ويعرف غوره ونجده. داعٍ دعا، وراعٍ رعى، فاستجيبوا للدّاعي واتّبعوا الراعي. قد خاضوا بحار الفتن، وأخذوا بالبدع دون السُنن. وأرز المؤمنين. ونطق الضالون المكذّبون. نحن الشعار والأصحاب والخزنة والأبواب. لاتؤتى البيوت إلاّ من أبوابها فمن أتاها من غير أبوابها سُمّي سارقاً. منها فيهم كرائم القرآن، وهم كنوز الرحمن. إن نطقوا صدقوا، وإن صمتوا لم يسبقوا. فليصدق رائدٌ أهله، وليحضر عقله، وليكن من أبناء الآخرة، فإنّه منها قدم وإليها ينقلب. فالناظر بالقلب العامل بالبصر يكون مبتدأ عمله أن يعلم أعملُهُ عليه أم له. فإن كان له مضى فيه، وإن كان عليه وقف عنه. فإنّ العامل بغير علمٍ كالسائر على غير طريقٍ. فلا يزيده بُعده عن الطريق إلاّ بُعداً من حاجته. والعامل بالعلم كالسائر على الطريق الواضح، فلينظر ناظرٌ أسائرٌ هو أم راجعٌ. واعلم أنّ لكلّ ظاهرٍ باطناً على مثاله، فما طاب ظاهره طاب باطنه. وما خبث ظاهره خبث باطنه. وقد قال الرسول الصادق صلّى الله عليه وآله ' إنّ الله يُحبُّ العبد، ويبغض عمله، ويحبُّ بدنه ' واعلم أنّ لكلّ عملٍ نباتاً. وكلّ نباتٍ لا غنى به عن الماء، والمياه مختلفةٌ. فما طاب سقيه طاب غرسه وحلت ثمرته، وما خبث سقيه خبث غرسه وأمرّت ثمرته.

ومن خطبةٍ له عليه السلام يذكر فيها بديع خلقه الخفاش

الحمد لله الذي انحسرت الأوصاف عن كنه معرفته وردعت عظمته العقول فلم تجد مساغاً إلى بلوغ غاية ملكوته. هو الله الحقّ المبين أحقّ وأبين ممّا ترى العيون. لم تبلغه العقول يتحديدٍ فيكون مُشبّهاً. ولم تقع عليه الأوهام بتقديرٍ فيكون مُمثّلاً، خلق الخلق على غير تمثيلٍ ولا مشورة مشيرٍ، ولا معونة معينٍ. فتمّ خلقه بأمره، وأذعن لطاعته، فأجاب ولم يدافع، وانقاد ولم ينازع. من لطائف صنعته وعجائب خلقته ما أرانا من غوامض الحكمة في هذه الخفافيش التي يقبضها الضياء الباسط لكلّ شيءٍ. ويبسطها الظلام القابض لكلّ حيٍّ. وكيف عشيت أعينها عن أن تستمدّ من الشمس المضيئة نوراً تهتدي به في مذاهبها، وتتّصل بعلانية برهان الشمس إلى معارفها. وردعها بتلألؤ ضيائها عن المضيّ في سبحات إشراقها. وأكنّها في مكامنها عن الذهاب في بلج ائتلاقها، فهي مُسدِلة الجفون بالنهار على أحداقها. وجاعلة الليل سراجاً تستدلّ به في التماس أرزاقها. فلا يردّ أبصارها إسداف ظلمته ولا تمتنع من المضيّ فيه لغسق دُجنتّه. فإذا ألقت الشمس قناعها، وبدت أوضاح نهارها، ودخل من إشراق نورها على الضباب في وجارها أطبقت الأجفان على مآقيها وتبلّغت بما اكتسبت من فيء ظلم لياليها. فسبحان من جعل الليل لها نهاراً ومعاشاً. والنهار سكناً وقراراً. وجعل لها أجنحة من لحمها تعرج بها عند الحاجة إلى الطيران كأنّها شظايا الآذان، غير ذوات ريش ولا قصب. إلاّ أنّك ترى مواضع العروق بيّنةً أعلاماً. لها جناحان لمّا يرقّا فينشقاّ. ولم يغلظا فيثقلا. تطير وولدها لاصقٌ بها لاجيءٌ إليها يقع إذا وقعت ويرتفع إذا ارتفعت. لا يفارقها حتّى تشتدّ أركانه. ويحمله للنهوض جناحه. ويعرف مذاهب عيشه ومصالح نفسه. فسبحان الباري لكلّ شيءٍ على غير مثالٍ خلا من غيره.

ومن كلامٍ له عليه السلام خاطب به أهل البصرة على جهة اقتصاص الملاحم

فمن استطاع عند ذلك أن يعتقل نفسه على الله عزّ وجلّ فليفعل. فإن أطعتموني فإنّي حاملكم إن شاء الله على سبيل الجنة، وإن كان ذا مشقّةٍ شديدةٍ ومذاقةٍ مريرةٍ. وأما فلانة فأدركها رأي النساء، وضعن غلا في صدرها كمرجل القين، ولو دعيت لتنال من غيري ما أتت إليّ لم تفعل، ولها بعد حرمتها الأولى والحساب على الله تعالى. منه سبيلٌ أبلج المنهاج أنور السراج. فبالإيمان يُستدلّ على الصالحات. وبالصالحات يُستدلّ على الإيمان. وبالإيمان يُعمر العلم. وبالعلم يُرهب الموت وبالموت تُختم الدنيا. وبالدنيا تُحرز الآخرة. وإنّ الخلق لا مقصر لهم عن القيامة. مُرقلين في مضمارها إلى الغاية القصوى. منه قد شخصوا من مستقرّ الأجداث، وصاروا إلى مصائر الغايات. لكلّ دارٍ أهلها، لا يستبدلون بها ولا ينقلون عنها. وإنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لخُلُقان من الله سبحانه. وإنّهما لا يقربان من أجلٍ ولا ينقصان من رزقٍ. وعليكم بكتاب الله فإنّه الحبل المتين والنور المبين. والشفاء النافع، والري الناقع والعصمة للمتمسك والنجاة للمتعلّق. لا يعوجّ فيقام ولا يزيغ فيستعتب. ولا تخلقه كثرة الردّ وولوج السمع. من قال به صدق ومن عمل به سبق. وقام إليه رجلٌ فقال يا أمير المؤمنين أخبرنا عن الفتنة وهل سألت رسول الله صلّى الله عليه وآله عنها فقال عليه السلام: لمّا أنزل الله سبحانه قوله 'آلم أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنّا وهم لا يفتنون 'علمت أنّ الفتنة لا تنزل بنا ورسول الله صلّى الله عليه وآله بين أظهرنا. فقلت يا رسول الله ما هذه الفتنة التي أخبرك الله تعالى بها فقال: ' يا عليّ إنّ أمتّي سيفتنون من بعدي ' فقلت يا رسول الله: أوليس قد قلت لي يوم أُحدٍ حيث استشهد من استشهد من المسلمين وحيزت عنّي الشهادة فشقّ ذلك عليَّ فقلت لي: ' أبشر فإنّ الشهادة من ورائك ' فقال لي: ' إنّ ذلك لكذلك فكيف صبرك إذاً ' فقلت: يا رسول الله ليس هذا من مواطن الصبر، ولكن من مواطن البشرى والشكر. فقال' ' يا عليّ إنّ القوم سيُفتنون بأموالهم ويمنّون بدينهم على ربّهم، ويتمنّون رحمته، ويأمنون سطوته. وتستحلّون حرامه بالشبهات الكاذبة والأهواء الساهية. فيستحلّون الخمر بالنبيذ، والسحت بالهدية. والربا بالبيع ' قلت يا رسول الله: بأيّ المنازل أُنزلهم عند ذلك أبمنزلة رِدّةٍ أم بمنزلة فِتنةٍ فقال ' بمنزلة فِتنةٍ '. ومن خطبةٍ له عليه السلامالحمد لله الذي جعل الحمد مفتاحاً لذكره. وسبباً للمزيد من فضله ودليلاً على آلائه وعظمته. عباد الله إنّ الدهر يجري بالباقين كجريه بالماضين. لا يعود ما قد ولّى منه، ولا يبقى سرمداً ما فيه. آخر فعاله كأوّله. متسابقةٌ أموره، متظاهرةٌ أعلامه. فكأنّكم بالساعة تحدوكم حدو الزاجر بشوله. فمن شغل نفسه بغير نفسه تحيّر في الظلمات، وارتبك في الهلكات. ومدّت به شياطينه في طغيانه، وزيّنت له سيّئ أعماله. فالجنة غاية السابقين. والنار غاية المفرّطين. اعلموا عباد الله أنّ التقوى دار حصنٍ عزيزٍ. والفجور دار حصنٍ ذليلٍ لا يمنع أهله ولا يحرز من لجأ إليه. ألا وبالتقوى تقطع حمّة الخطايا. وباليقين تدرك الغاية القصوى0عباد الله، الله الله في أعزّ الأنفس عليكم، وأحبّها إليكم. فإنّ الله قد أوضح لكم سبيل الحقّ وأنار طرقه. فشقوةٌ لازمةٌ أو سعادة دائمةٌ. فتزوّدوا في أيام الفناء لأيّام البقاء. فقد دللتم على الزاد وأمرتم بالظعن. وحثثتم على المسير. فإنّما أنتم كركبٍ وقوفٍ لا يدرون متى يؤمرون بالمسير. ألا فما يصنع بالدنيا من خلق للآخرة وما يصنع بالمال من عمّا قليلٍ يسلبه، وتبقى عليه تبعته وحسابه. عباد الله، إنّه ليس لما وعد الله من الخير متركٌ، ولا فيما نهى عنه من الشرّ مرغبٌ. عباد الله، احذروا يوماً تفحص فيه الأعمال. ويكثر فيه الزلزال. وتشيب فيه الأطفال. اعلموا عباد الله أنّ عليكم رصداً من أنفسكم، وعيوناً من جوارحكم، وحفّاظ صدقٍ يحفظون أعمالكم. وعدد أنفاسكم. لا تستركم منهم ظلمة ليلٍ داج، ولا يُكِنُّكم منهم بابٌ ذو رِتاج وإنّ غداً من اليوم قريبٌ. يذهب اليوم بما فيه، ويجيء الغد لاحقاً به، فكأنّ كلّ امرئٍ منكم قد بلغ من الأرض منزل وحدته، ومخطً حفرته. فياله من بيت وحدةٍ، ومنزل وحشةٍ، ومفرد غربةٍ. وكأنّ الصيحة قد أتتكم، والساعة قد غشيتكم، وبرزتم لفصل القضاء. قد زاحت عنكم الأباطيل. واضمحلّت عنكم العلل. واستحقّت بكم الحقائق. وصدرت بكم الأمور مصادرها. فاتّعظوا بالعبر، واعتبروا بالغير، وانتفعوا بالنُذر.

ومن خطبةٍ له عليه السلام

أرسله على حين فترةٍ من الرسل، وطول هجعةٍ من الأمم، لا تذوقها ولا تتطعم بطعمها أبداً ما كرّ الجديدان.

ومن خطبةٍ له عليه السلام

ولقد أحسنت جواركم، وأحطت بجهدي من ورائكم. وأعتقتكم من ربقٍ الذلّ. وحلق الضيم شُكراً منّي للبرّ القليل، وإطراقاً عمّا أدركه البصر وشهده البدن من المنكر الكثير.

ومن خطبةٍ له عليه السلام

أمره قضاءٌ وحكمةٌ، ورضاه أمانٌ ورحمةٌ. يقضي بعلمٍ، ويعفو بحلمٍ. اللهمّ لك الحمد على ما تأخذ وتعطي، وعلى ما تعافى وتبتلى: حمداً يكون أرضى الحمد لك، وأحبّ الحمد إليك، وأفضل الحمد عندك، حمداً يملأ ما خلقت، ويبلغ ما أردت. حمداً لا يحجب عنك ولا يقصر دونك. حمداً لا ينقطع عدده، ولا يفنى مدده. فلسنا نعلم كنه عظمتك، إلاّ أنّا نعلم أنّك حيٌّ قيّومٌ لا تأخذك سنةٌ ولا نومٌ. لم ينته إليك نظرٌ، ولم يدركك بصرٌ. أدركت الأبصار، وأحصيت الأعمال، وأخذت بالنواصي والأقدام. وما الذي نرى وانتفاض من المبرم. فجاءهم بتصديق الذي بين يديه، والنور المقتدى به. ذلك القرآن فاستنطقوه ولن ينطق ولكن أخبركم عنه. ألا إنّ فيه علم ما يأتي، والحديث عن الماضي، ودواء دائكم، ونظم ما بينكم. منها فعند ذلك لايبقى بيت مدرٍ ولا وبرٍ إلاّ وأدخله الظلمة تُرحةً، وأولجوا فيه نقمةً. فيومئذٍ لا يبقى لكم في السماء ولا في الأرض ناصرٌ. اصفيتم بالأمر غير أهله، وأوردتموه غير مورده. وسينتقم الله ممّن ظلم مأكلاً بمأكلٍ ومشرباً بمشربٍ، من مطاعم العلقم ومشارب الصبر والمقر. ولباس شعار الخوف ودثار السيف. وإنّما هم مطايا الخطيئات وزوامل الآثام. فأقسم ثمّ أقسم، لتنخمنّها أميّة من بعدي كما تلفظ النُخامة ثمّ من خلقك ونعجب له من قدرتك ونصفه من عظيم سلطانك، وما تغيّب عنّا منه، وقصرت أبصارنا عنه، وانتهت عقولنا دونه، وحالت سواتر الغيوب بيننا وبينه أعظم. فمن فرّغ قلبه وأعمل فكره ليعلم كيف أقمت عرشك، وكيف ذرأت خلقك، وكيف علّقت في الهواء سمواتك، وكيف مددت على مور الماء أرضك رجع طرفه حسيراً، وعقله مبهوراً، وسمعه والهاً، وفكره حائراً. منها يدّعي بزعمه إنّه يرجو الله. كذب والعظيم، ما باله لا يتنيّن رجاؤه في عمله فكلّ من رجا عرف رجاؤه في عمله. وكلّ رجاءٍ إلاّ رجاء الله تعالى فإنّه مدخول وكلّ خوفٍ محقّقٌ إلا خوف الله فإنّه معلولٌ يرجو الله في الكبير، ويرجو العباد في الصغير، فيُعطى العبد ما لا يُعطى الربّ. فما بال الله جلّ ثناؤه يُقصّر به عمّا يصنع لعباده ؟ أتخاف أن تكون في رجائك له كاذباً أوتكون لا تراه للرجاء موضعاً ؟ وكذلك إن هو خاف عبداً من عبيده أعطاه من خوفه ما لا يُعطى ربّه، فجعل خوفه من العباد نقداً، وخوفه من خالقهم ضماراً ووعداً. وكذلك من عظمت الدنيا في عينه، وكبر موقعها في قلبه آثرها على الله تعالى فانقطع إليها وصار عبداً لها. ولقد كان في رسول الله صلّى الله عليه وآله كافٍ لك في الأسوة. ودليلٌ لك على ذمّ الدنيا وعيبها، وكثرة مخازيها ومساويها، إذ قبضت عنه أطرافها، ووطئت لغيره أكنافها، وفطم عن رضاعها، وزوى عن زخارفها. وإن شئت ثنيّت بموسى كليم الله صلّى الله عليه وسلّم إذ يقول 'ربِ إنّي لِما أنزلت إليَّ من خيرٍ فقيرٌ ' والله ما سأله إلاّ خبراً يأكله لأنه كان يأكل بقلة الأرض. ولقد كانت خضرة البقل تُرى من شفيف صفاق بطنه، لهزاله وتشذّب لحمه. وإن شئت ثلّثت بداود صلّى الله عليه صاحب المزامير وقارئ أهل الجنة، فلقد كان يعمل سفائف الخوص بيده، ويقول لجلسائه أيّكم يكفيني بيعها. ويأكل قرص الشعير من ثمنها. وإن شئت قلت في عيسى بن مريم عليه السلام، فلقد كان يتوسّد الحجر ويلبس الخشن ويأكل الجشب. وكان إدامه الجوع، وسراجه بالليل القمر. وظلاله في الشتاء مشارق الأرض ومغاربها، وفاكهته وريحانه ما تنبت الأرض للبهائم. ولم تكن له زوجةٌ تفتنه، ولا ولد يحزنه، ولا مال يلفته، ولا طمع يُذلّه. دابّته رجلاه، وخادمه يداه. فتأسّ بنبيّك الأطيب الأطهر صلّى الله عليه وآله، فإنّ فيه أُسوةً لمن تأسّى، وعزاءً لمن تعزّى. وأحبّ العباد إلى الله المتأسّي بنبيّه والمقتصّ لأثره. قضم الدنيا قضماً، ولم يُعرها طرفاً. أهضم أهل الدنياكشحاً، وأخمصهم من الدنيا بطناً. عرضت عليه الدنيا فأبى أن يقبلها. وعلم أنّ الله سبحانه ابغض شيئاً فأبغضه، وحقر شيئاً فحقره، وصغّر شيئاً فصغّره. ولم لم يكن فينا إلاّ حبنّا ما أبغض الله ورسوله وتعظيمنا ما صغّر الله ورسوله لكفى به شقاقاً لله ومّحادّةً عن أمر الله. ولقد كان صلّى الله عليه وآله وسلّم يأكل على الأرض، ويجلس جلسة العبد، ويخصف بيده نعله، ويرقع بيده ثوبه، ويركب الحمار العاري ويُردف خلفه. ويكون الستر على باب بيته فتكون فيه التصاوير فيقول يا فلانة - لإحدى أزواجه - غيّبه عنّي فإنّي إذا نظرت إليه ذكرت الدنيا وزخارفها. فأعرض عن الدنيا بقلبه، وأمات ذكرها من نفسه، وأحبّ أن تغيب زينتها عن عينه، لكيلا يتّخذ منها رياشاً، ولا يعتقدها قراراً ولا يرجو فيها مقاماً، فأخرجها من النفس، وأشخصها عن القلب، وغيّبها عن البصر. وكذا من أبغض شيئاً أبغض أن ينظر إليه وأن يذكر عنده ولقد كان في رسول الله صلى الله عليه وآله ما يدلّك على مساوئ الدنيا وعيوبها. إذ جاع فيها مع خاصته، وزويت عنه زخارفها مع عظيم زلفته. فلينظر ناظرٌ بعقله أكرم الله محمّداً بذلك أم أهانه فإن قال أهانه فقد كذب والعظيم، وإن قال أكرمه فليعلم أنّ الله قد أهان غيره حيث بسط الدنيا له وزواها عن أقرب الناس منه. فتأسّى متأسٍّ بنبيّه، واقتصّ أثره، وولج مولجه، وإلاّ فلا يأمن الهلكة فإنّ الله جعل محمّداً صلى الله عليه وآله علماً للساعة، ومبشّراً بالجنة، ومنذراً بالعقوبة. خرج من الدنيا خميصاً، وورد الآخرة سليماً. لم يضع حجراً على حجرٍ حتّى مضى لسبيله، وأجاب داعي ربّه. فما أعظم منّة الله عندنا حين أنعم علينا به سلفاً نتّبعه، وقائداً نطأ عقبه. والله لقد رقعت مدرعتي هذه حتّى استحييت من راقعها. ولقد قال لي قائلٌ ألا تنبذها فقلت اغرب عنّي فعند الصباح يحمد القوم السري.

ومن خطبةٍ له عليه السلام

بعثه بالنور المضئ والبرهان الجليّ، والمنهاج البادي والكتاب الهادي. أسرته خير أسرةٍ، وشجرته خير شجرةٍ. أغصانها معتدلةٌ وثمارها متهدّلةٌ. مولده بمكة وهجرته بطيبة. علا بها ذكره وامتدّ بها صوته. أرسله بحجّةٍ كافيةٍ، وموعظةٍ شافيةٍ، ودعوةٍ متلافيةٍ. أظهر به الشرائع المجهولة، وقمع به البدع المدخولة، وبيّن به الأحكام المفصولة. فمن يتّبع غير الإسلام ديناً تتحقّق شقوته، وتنفصم عروته، وتعظم كبوته. ويكون مآبه إلى الحزن الطويل والعذاب الوبيل. وأتوكّل على الله توكّل الإنابة إليه. وأسترشده السبيل المؤدّي إلى جنته، القاصدة إلى محلّ رغبته. أوصيكم عباد الله بتقوى الله وطاعته فإنّها النجاة غداً والمنجاة أبداً. رهّب فأبلغ، ورغّب فأسبغ. ووصف لكم الدنيا وانقطاعها، وزوالها وانتقالها. فأعرضوا عمّا يعجبكم فيها لقلّة ما يصحبكم منها. أقرب دارٍ من سخط الله، وأبعدها من رضوان الله. فغضّوا عنكم - عباد الله - غمومها وأشغالها لما قد أيقنتم به من فراقها وتصرّف حالاتها. فاحذروها حذر الشفيق الناصح والمجدّ الكادح. واعتبروا بما قد رأيتم من مصارع القرون قبلكم. قد تزايلت أوصالهم، وزالت أبصارهم وأسماعهم، وذهب شرفهم وعزّهم، وانقطع سرورهم ونعيمهم. فبدّلوا بقرب الأولاد فقدها، وبصحبة الأزواج مفارقتها. لا يتفاخرون، ولا يتناسلون، ولا يتزاورون، ولا يتجاورون. فاحذروا عباد الله حذر الغالب لنفسه، المانع لشهوته، الناظر بعقله. فإنّ الأمر واضحٌ، والعلم قائمٌ، والطريق جددٌ، والسبيل قصدٌ.

ومن خطبةٍ له عليه السلام

لبعض أصحابه وقد سأله: كيف دفعكم قومكم عن هذا المقام وأنتم أحق به ؟ فقال: يا أخا بني أسدٍ إنّك لقلق الوضين ترسل في غير سددٍ، ولك بعد ذمامه الصهر وحقّ المسألة، وقد استعلمت فاعلم. أمّا الاستبداد علينا بهذا المقام ونحن الأعلون نسباً، والأشدّون برسول الله صلى الله عليه وآله نوطاً، فإنّها كانت أثرةٌ شحّت عليها نفوس قومٍ، وسخت عنها نفوس آخرين. والحكم، والله المعود إليه القيامة ودع عنك نهباً صيح في حجراته وهلمّ الخطب في ابن أبي سفيان، فلقد أضحكني الدهر بعد إبكائه. ولا غرو والله فياله خطباً. يستفرغ العجب، ويكثر الأود. حاول القوم إطفاء نور الله من مصباحه، وسدّ فوّاره من ينبوعه، وجدحوا بيني وبينهم شرباً وبيئاً. فإن ترتفع عنّا وعنهم محن البلوى أحملهم من الحق على محضه، وإن تكن الأخرى ' فلا تذهب نفسك عليهم حسراتٍ إنّ الله عليمٌ بما يصنعون '

ومن خطبةٍ له عليه السلام

الحمد لله خالق العباد، وساطع الهاد، ومُسيل الوهاد، ومُخصب النجاد. ليس لأوّليّته ابتداءٌ، ولا لأزليّته انقضاءٌ. هو الأوّل لم يزل، والباقي بلا أجلٍ. خرّت له الجباه، ووحّدته الشفاه. حدّ الأشياء عند خلقه لها إبانة له من شبهها. لا تُقدّره الأوهام بالحدود والحركات، ولا بالجوارح والأدوات. لا يقال له متى، ولا يضرب له أمدٌ بحتّى. الظاهر لا يقال ممّا، والباطن لا يقال فيما. لا شبحٌ فيتقضّى، ولا محجوبٌ فيحوى. لم يقرب من الأشياء بالتصاقٍ، ولم يبعد عنها بافتراقٍ. لا يخفى عليه من عباده شخوص لحظةٍ، ولا كرور لفظةٍ، ولا ازدلاف ربوةٍ، ولا انبساط خطوةٍ في ليلٍ داجٍ، ولا غسقٍ ساج، يتفيّأ عليه القمر المنير، وتعقبه الشمس ذات النور في الأفول والكرور، وتقلّب الأزمنة والدهور. من إقبال ليلٍ مُقبلٍ وإدبار نهارٍ مدبرٍ. قبل كلّ غايةٍ ومدةٍ، وكلّ إحصاءٍ وعدّةٍ. تعالى عمّا ينحله المحدّدون من صفات الأقدار، ونهايات الأقطار. وتأثُل المساكن، وتمكُّن الأماكن. فالحدّ لخلقه مضروبٌ، وإلى غيره منسوبٌ. لم يخلق الأشياء من أصولٍ أزليّةٍ، ولا أوائل أبديّة، بل خلق فأقام حدّه، وصوّر ما صوّر فأحسن صورته ليس لشيءٍ منه امتناعٌ، ولا له بطاعة شيءٍ انتفاعٌ. علمه بالأموات الماضين كعلمه بالأحياء الباقين، وعلمه بما في السموات العُلى كعلمه بما في الأرضين السفلى. منها أيّها المخلوق السويّ، والمنشأ المرعيّ في ظلمات الأرحام، ومضاعفات الأستار. بدئت من سلالةٍ من طينٍ، ووضعت في قرار مكينٍ، إلى قدرٍ معلومٍ، وأجلٍ مقسومٍ. تمور في بطن أمّك جنيناً لا تحير دعاءً ولا تسمع نداءً. ثمّ أخرجت من مقرّك إلى دارٍ لم تشهدها، ولم تعرف سبل منافعها. فمن هداك لاجترار الغذاء من ثدي أمّك، وعرّفك عند الحاجة مواضع طلبك وإرادتك. هيهات، إنّ من يعجز عن صفات ذي الهيئة والأدوات فهو عن صفات خالقه أعجز. ومن تناوله بحدود المخلوقين أبعد. ^

ومن كلامٍ له عليه السلام

لمّا اجتمع الناس عليه وشكوا ما نقموه من عثمان وسألوه مخاطبته عنهم واستعتابه لهم، فدخل عليه فقال إنّ الناس ورائي وقد استفسروني بينك وبينهم ووالله ما أدري ما أقول لك ما أعرف شيئاً تجهله، ولا أدلك على أمرٍ لا تعرفه. إنّك لتعلم ما نعلم. ما سبقناك إلى شيءٍ فنخبرك عنه، ولا خلونا بشيءٍ فنبلغكه. وقد رأيت كما رأينا، وسمعت كما سمعنا، وصحبت رسول الله صلى الله عليه وآله كما صحبنا. وما ابن أبي قحافة ولا ابن الخطاب أولى بعمل الحقّ منك، وأنت أقرب إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وشيجة رحمٍ منهما. وقد نلت من صهره ما لم ينالا. فالله الله في نفسك، فإنّك والله ما تُبصّر من عمىً ولا تعلّم من جهلٍ، وإنّ الطرق لواضحةٌ، وإنّ أعلام الدين لقائمةٌ. فاعلم أنّ أفضل عباد الله عند الله لإمامٌ عادلٌ هّدى وهدى، فأقام سُنّةً معلومةً، وأمات بدعةً مجهولةً. وإنّ السنن لنيّرة لها أعلامٌ، وإنّ البدع لظاهرةٌ لها أعلامٌ. وإنّ شرّ الناس عند الله إمامٌ جائرٌ ضلّ وضُلّ به، فأمات سُنّةً مأخوذةً، وأحيى بدعةً متروكةً. وإنّي سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول ' يؤتى يوم القيامة بالإمام الجائر وليس معه نصيرٌ ولا عاذرٌ فيُلقى في جهنّم فيدور فيها كما تدور الرحى ثمّ يرتبط في قعرها ' وإنّي أنشدك الله أن لا تكون إمام هذه الأمّة المقتول، فإنّه يقال: يقتل في هذه الأمّة إمامٌ يفتح عليها القتل والقتال إلى يوم القيامة، ويلبس أمورها عليها، ويبثّ الفتن عليها، فلا يبصرون الحقّ من الباطل. يموجون فيها موجاً، ويمرجون فيها مرجاً. فلا تكوننّ لمروان سيّقةً يسقك حيث شاء بعد جلال السنّ وتقضّي العمر. فقال له عثمان رضي الله عنه' ' كلّم الناس في أن يؤجّلوني حتّى أخرج إليهم من مظالمهم ' فقال عليه السلام: ما كان بالمدينة فلا أجل فيه، وما غاب فأجله وصول أمرك إليه.

ومن خطبةٍ له عليه السلام يذكر فيها عجيب خلقه الطاووس

ابتدعهم خلقاً عجيباً من حيوانٍ ومواتٍ، وساكنٍ ذي حركاتٍ. فأقام من شواهد البيّنات على لطيف صنعته وعظيم قدرته ما انقادت له العقول معترفةً به ومُسلّمةً له. ونعقت في أسماعنا دلائله على وحدانيّته، وما ذرأ من مختلف صور الأطيار التي أسكنها أخاديد الأرض وخروق فجاجها، ورواسي أعلامها. من ذات أجنحةٍ مختلفةٍ، وهيئات متباينةٍ، مصرّفةٍ في زمام التسخير ومرفرفةٍ بأجنحتها في مخارق الجو المنفسح، والقضاء المنفرج. كوّنها بعد أن لم تكن في عجائب صورٍ ظاهرةٍ، وركّبها في حقاق مفاصل محتجبةٍ. ومنع بعضها بعبالة خلقه أن يسمو في السماء خُفوفاً، وجعله يدفّ دفيفاً. ونسقها على اختلافها في الأصابيغ بلطيف قدرته ودقيق صنعته. فيها مغموسٌ في قالب لونٍ لا يشوبه غير لون ما غمس فيه. ومنها مغموسٌ في لون صبغٍ قد طوّق بخلاف ما صبغ به ومن أعجبها خلقاً الطاووس الذي أقامه في أحكم تعديلٍ، ونضّد ألوانه في أحسن تنضيدٍ بجناحٍ أشرج قصبه، وذنبٍ أطال مسحبه. إذا درج إلى الأنثى نشره من طيّه، وسما به مطّلاً على رأسه كأنّه قلعٌ داريٌّ عنجه نوتيّه. يختال بألوانه، ويميس بزيفانه. يُفضى كإفضاء الديكة، ويؤرّ بملاقحةٍ أرّ الفحول المغتلمة في الضراب. أحيلك من ذلك على معاينةٍ، لا كمن يحيل على ضعيف إسناده. ولو كان كزعم من يزعم أنّه يُلقح بدمعةٍ تسفحها مدامعه، فتقف في ضفّتي جفونه وأنّ تطعم ذلك، ثمّ تبيض لا من لقاح فحلٍ سوى الدمع المنبجس لما كان ذلك بأعجب من مطاعمة الغراب. تخال قصبه مداري من فضّةٍ وما أنبت عليها من عجيب داراته وشموسه خالص العقيان وفلذ الزبرجد فإن شبّهته بما أنبت الأرض قلت جنّيٌ جُني من زهرة كلّ ربيعٍ. وإن ضاهيته بالملابس فهو كموشيّ الحلل، أو مونق عصب اليمن. وإن شاكلته بالحلي فهو كفصوص ذات ألوانٍ قد نطّقت باللجين المكلّل. يمشي مشي المزح المختال ويتصفّح ذنبه وجناحيه فيقهقه ضاحكاً لجمال سرباله وأصابيغ وشاحه فإذا رمى ببصره إلى قوائمه زقا معولاً بصوت يكاد يبين عن استغاثته، ويشهد بصادق توجّعه، لأنّ قوائمه حمشٌ كقوائم الديكة الخلاسيّة وقد نجمت من ظنبوب ساقه صيصيّةٌ خفيّةٌ. وله في موضع العرف قُنزُعةٌ خضراء موشاةٌ. ومخرج عنقه كالإبريق. ومغرزها إلى حيث بطنه كصبغ الوسمة اليمانيّة، أو كحريرةٍ ملبسةٍ مرأةً ذات صقالٍ وكأنّه متلفّع بمعجرٍ أسحم. إلاّ أنّه يخيّل لكثرة مائه وشدّة بريقه أنّ الخضرة الناضرة ممتزجةٌ به. ومع فتق سمعه خطٌّ كمستدقّ القلم في لون الأقحوان أبيضٌ يققٌ. فهو ببياضه في سواد ما هنالك يأتلق. وقلّ صبغٌ إلاّ وقد أخذ منه بقسطٍ، وعلاه بكثرة صقاله وبريقه وبصيص ديباجه ورونقه. فهو كالأزاهير المبثوثة لم تربّها أمطار ربيعٍ ولا شموس قيظٍ. وقد يتحسّر من ريشه، ويعرى من لباسه، فبسقط تترى، وينبت تباعاً، فينحتّ من قصبه انحتات أوراق الأغصان، ثمّ يتلاحق نامياً حتّى يعود كهيئته قبل سقوطه. لا يخالف سالف ألوانه، ولا يقع لونٌ في غير مكانه. وإذا تصفّحت شعرةً من شعرات قصبه أرتك حمرةً ورديةً، وتارةً خضرةً زبرجديّةً، وأحياناً صفرة عسجديّةً. فكيف تصل إلى صفة هذا عمائق الفطن، أو تبلغه قرائح العقول، أو تستنظم وصفه أقوال الواصفين. وأقلّ أجزائه قد أعجز الأوهام أن تدركه، والألسنة أن تصفه. فسبحان الذي بهر العقول عن وصف خلقٍ جلاّه للعيون فأدركته محدوداً مكوّناً، ومؤلّفاً ملوّناً. وأعجز الألسن عن تلخيص صفته، وقعد بها عن تأدية نعته. وسبحان من أدمج قوائم الذرة والهمجة إلى ما فوقهما من خلق الحيتان والأفيلة. ووأى على نفسه أن لا يضطرب شبحٌ ممّا أولج فيه الروح إلاّ وجعل الحمام موعده، والفناء غايته. مها في صفة الجنة فلو رميت ببصر قلبك نحو ما يوصف لك منها لعزفت نفسك عن بدائع ما أخرج إلى الدنيا من شهواتها ولذّاتها وزخارف مناظرها، ولذهلت بالفكر في اصطفاق أشجارٍ غيّبت عروقها في كثبان المسك على سواحل أنهارها، وفي تعليق كبائس اللؤلؤ الرطب في عساليجها وأفنانها، وطلوع تلك الثمار مختلفةً في غلف أكمامها. تحنى من غير تكلّفٍ فتأتي على منية مجتنيها، ويطاف على نزّالها في أفنية قصورها بالأعسال المصفقّة، والخمور المروّقة. قومٌ لم تزل الكرامة تتمادى بهم حتّى حلّوا دار القرار، وأمنوا نقلة الأسفار. فلو شغلت قلبك أيّها المستمع بالوصول إلى ما يهجم عليك من تلك المناظر المونقة لزهقت نفسك شوقاً إليها، ولتحمّلن من مجلسي هذا إلى مجاورة أهل القبور استعجالاً بها. جعلنا الله وإيّاكم ممّن سعى بقلبه إلى منازل الأبرار برحمته. تفسير بعض ما في هذه الخطبة من الغريب قوله عليه السلام ويؤرّ بملاقحةٍ الأرّ كناية عن النكاح، يقال أرّ المرأة يؤرّها أي نكحها، وقوله كأنّه قلعٌ داريٌّ عنجه نوتيه: القلع شراع السفينة، وداريّ منسوب إلى دارين، وهي بلدةٌ على البحر يجلب منها الطيب. وعنجه أي عطفه. يقال عنجت الناقة - كنضرت - أعنجها عنجاً إذا عطفتها. والنوتيّ الملاح. وقوله ضفتّي جفونه، أراد جانبي جفونه. والضفّتان الجانبان. وقوله وفلذ الزبرجد، الفلذ: جمع فلذةٍ، وهي القطعة. وقوله كبائس اللؤلؤ الرطب، الكباسة: العذق والعساليج الغصون، واحدها عسلوج.

ومن خطبةٍ له عليه السلام

ليتأسّ صغيركم بكبيركم، وليرأف كبيركم بصغيركم. ولا تكونوا كجفاة الجاهليّة لا في الدين يتفقّهون، ولا عن الله يعقلون. كقيض بيضٍ في أداحٍ يكون كسرها وِزراً. ويُخرج حِضانها شرّاًمنها افترقوا بعد ألفتهم، وتشتتوا عن أصلهم. فمنهم آخذٌ بغصن أينما مال مال معه. على أنّ الله تعالى سيجمعهم لشرّ يومٍ لبني أميّة كما تجتمع قزع الخريف يؤلّف الله بينهم، ثمّ يجعلهم ركاماً كركام السحاب. ثمّ يفتح لهم أبواباً يسيلون من مستثارهم كسيل الجنّتين، حيث لم تسلم عليه قارةٌ، ولم تثبت عليه أكمةٌ، ولم يردّ سننه رصّ طودٍ، ولا حداب أرضٍ. يزعزعهم الله في بطون أوديته، ويُمكّن لقومٍ في ديار قومٍ وايم الله ليذوبنّ ما في أيديهم بعد العلوّ والتمّكين كما تذوب الألية على النار. أيّها الناس لو لم تتخاذلوا عن نصر الحقّ، ولم تهنوا عن توهين الباطل. لم يطمع فيكم من ليس مثلكم، ولم يقو من قوي عليكم. لكنّكم تهتم متاه بني إسرائيل. ولعمري ليضعّفنّ لكم التيه من بعدي أضعافاً بما خلّفتم الحقّ وراء ظهوركم، وقطعتم الأدنى ووصلتم الأبعد. واعلموا أنّكم إن اتّبعتم الداعي لكم سلك بكم منهاج الرسول، وكفيتم مؤونة الاعتساف، ونبذتم الثقل الفادح عن العناق.

ومن خطبة له عليه السلام في أوّل خلافته

إنّ الله تعالى أنزل كتاباً هادياً بيّن فيه الخير والشرّ. فخذوا نهج الخير تهتدوا، واصدفوا عن سمت الشرّ تقصدوا. الفرائض الفرائض، أدّها إلى الله تؤدّكم إلى الجنة. إنّ الله حرّم حراماً غير كجهولٍ، وأحل حلالاً غير مدخولٍ. وفضّل حرمة المسلم على الحرم كلّها، وشدّ بالإخلاص والتوحيد حقوق المسلمين في معاقدها. فالمسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده إلاّ بالحقّ. ولا يحلّ أذى المسلم إلاّ بما يجب. بادروا أمر العامّة وخاصّة أحدكم وهو الموت فإنّ الناس أمامكم، وإنّ الساعة تحدوكم من خلفكم. تخففّوا تلحقوا، فإنّما ينتظر بأوّلكم آخركم. اتّقوا الله في عباده وبلاده فإنّكم مسئولون حتّى عن البقاع والبهائم، أطيعوا الله ولا تعصوه، وإذا رأيتم الخير فخذوا به، وإذا رأيتم الشرّ فأعرِضوا عنه. ومن كلامٍ له عليه السلامبعدما بويع بالخلافة، وقد قال له قومٌ من الصحابة لو عاقبت قوماً ممّن أجلب على عثمان فقال عليه السلام:يا إخوتاه إنّي لست أجهل ما تعلمون، ولكن كيف لي بقوةٍ والقوم المجلبون على حدّ شوكتهم، يملكوننا ولا نملكهم. وهاهم هؤلاء قد ثارت معهم عبدانكم، والتفّت إليهم أعرابكم، وهم خلالكم يسومونكم ما شاءوا. وهل ترون موضعاً لقدرةٍ على شيءٍ تريدونه. إنّ هذا الأمر أمر جاهليّةٍ. وإنّ لهؤلاء القوم مادّةً. إنّ الناس من هذا الأمر - إذا حرّك - على أمورٍ: فرقةٌ ترى ما ترون، وفرقة ترى ما لا ترون، وفرقة لا ترى هذا ولا ذاك، فاصبروا حتّى يهدأ الناس، وتقع القلوب مواقعها، وتؤخذ الحقوق مُسمحةً فاهدأوا عنّي، وانظروا ماذا يأتيكم به أمري. ولا تفعلوا فعلة تضعضع قوةً، وتُسقط مُنّةً، وتُرث وهناً وذِلّةً. وسأمسك الأمر ما استمسك. وإذا لم أجد بُدّاً فآخر الدواء الكي.

ومن خطبة له عليه السلام عند مسير أصحاب الجمل إلى البصرة

إنّ الله بعث رسولاً هادياً بكتابٍ ناطقٍ وأمرٍ قائم، لا يهلك عنه إلاّ هالكٌ. وإنّ المبتدعات المشبّهات هنّ المهلكات إلاّ ما حفظ الله منها. وإنّ في سلطان الله عصمةً لأمركم. فأعطوه طاعتكم غير ملومّةٍ ولا مستكرهٍ بها. والله لتفعلنّ أو لينقلنّ الله عنكم سلطان الإسلام، ثمّ لا ينقله إليكم أبداً حتّى يأرز الأمر إلى غيركم. إنّ هؤلاء قد تمالأوا على سخطة إمارتي، وسأصبر ما لم أخف على جماعتكم. فإنّهم إن تممّوا على فيالة هذا الرأي انقطع نظام المسلمين، وإنّما طلبوا هذه الدنيا حسداً لمن أفاءها الله عليه، فأرادوا ردّ الأمور على أدبارها. ولكم علينا العمل بكتاب الله تعالى وسيرة رسول الله صلى الله عليه وآله والقيام بحقّه والنعش لسنّته. ومن كلامٍ له عليه السلامكلّم به بعض العرب وقد أرسله قومٌ من أهل البصرة لمّا قرُب عليه السلام منها ليعلم لهم منه حقيقة حاله مع أصحاب الجمل لتزول الشبهة من نفوسهم فبيّن له عليه السلام من أمره معهم ما علم به أنّه على الحقّ، ثمّ قال له بايع، فقال إنّي رسول قومٍ ولا أحدِث حدثاً حتّى أرجع إليهم. فقال عليه السلام:أرأيت لو أنّ الذين وراءك بعثوك رائداً تبتغي لهم مساقط الغيث فرجعت إليهم وأخبرتهم عن الكلأ والماء فخالفوا إلى المعاطش والمجادب ما كنت صانعاً قال كنت تاركهم ومخالفهم إلى الكلأ والماء. فقال عليه السلام فامدد إذاً يدك. فقال الرجل فوالله ما استطعت أن أمتنع عند قيام الحجّة عليّ، فبايعته عليه السلام. والرجل يُعرف بكليب الجرميّ. ومن كلامٍ له عليه السلام لمّا عزم على لقاء القوم بصفّيناللهمّ ربّ السقف المرفوع، والجوّ المكفوف، الذي جعلته مغيضاً لليل والنهار، ومجرىً للشمس والقمر، ومختلفاً للنجوم السيّارة. وجعلت سكانّه سبطاً من ملائكتك لا يسأمون من عبادتك. وربّ هذه الأرض التي جعلتها قراراً للأنام ومدرجاً للهوامّ والأنعام، وما لا يحصى ممّا يُرى وممّا لا يُرى. وربّ الجبال الرواسي التي جعلتها للأرض أوتاداً، وللخلق اعتماداً، إن أظهرتنا على عدوّنا البغي وسدّدنا للحقّ. وإن أظهرتم علينا فارزقنا الشهادة واعصمنا من الفتنة. أين المانع للذمار والغائر عند نزول الحقائق من أهل الحفاظ. العار وراءكم والجنة أمامكم.

ومن خطبة له عليه السلام

الحمد لله الذي لا توارى عنه سماءً سماءً ولا أرضٌ أرضاًمنها وقال قائلٌ: إنّك على هذا الأمر يا ابن أبي طالب لحريص فقلت بل أنت والله لأحرص وأبعد، وأنا أخصّ وأقرب، وإنّما طلبت حقّاً لي وأنتم تحولون بيني وبينه، وتضربون وجهي دونه. فلمّا قرعته بالحجّة في الملأ الحاضرين هبّ لا يدري ما يُجيبني به. اللهمّ إنّي أستعينك على قريشٍ ومن أعانهم، فإنّهم قطعوا رحمي، وصغّروا عظيم منزلتي، وأجمعوا على منازعتي أمراً هو لي. ثمّ قالوا إلاّ أنّ في الحقّ أن تأخذه وفي الحقّ أن تتركه. منها في ذكر أصحاب الجمل فخرجوا يجرّون حرمة رسول الله صلى الله عليه وآله كما تجرّ الأمة عند شرائها، متوجّهين بها إلى البصرة، فحبسا نساءهما في بيوتهما، وابرزا حبيس رسول الله صلى الله عليه وآله لهما ولغيرهما في جيشٍ ما منهم رجلٌ إلاّ وقد أعطاني الطاعة وسمح لي بالبيعة طائعاً غير مكرهٍ فقدموا على عاملي بها وخزّان بيت مال المسلمين وغيرهم من أهلها. فقتلوا طائفةً صبراً، وطائفةً غدراً. فوالله لو لم يصيبوا من المسلمين إلاّ رجلاً واحداً معتمدين لقتله بلا جرمٍ جرّه، لحلّ لي قتل ذلك الجيش كلّه إذ حضروه فلم ينكروا ولم يدفعوا عنه بلسان ولا يدٍ. دع ما أنّهم قد قتلوا من المسلمين مثل العدة التي دخلوا بها عليهم.

ومن خطبة له عليه السلام

أمين وحيه، وخاتم رسله، وبشير رحمته، ونذير نقمته أيّها الناس إنّ أحقّ الناس بهذا الأمر أقواهم عليه، وأعلمهم بأمر الله فيه. فإن شغب شاغبٌ استعتب فإن أبى قوتل. ولعمري لئن كانت الإمامة لا تنعقد حتّى يحضرها عامّة الناس فما إلى ذلك سبيلٌ، ولكن أهلها يحكمون على من غاب عنها ثمّ ليس للشاهد أن يرجع ولا للغائب أن يختار. ألا وإنّي أقاتل رجلين: رجلاً ادّعى ما ليس له، وآخر منع الذي عليه. أوصيكم بتقوى الله فإنّها خير ما تواصى العباد به، وخير عواقب الأمور عند الله. وقد فتح باب الحرب بينكم وبين أهل القبلة، ولا يحمل هذا العلم إلاّ أهل البصر والصبر والعلم بمواضع الحقّ. فامضوا لما تؤمرون به، وقفوا عند ما تنهون عنه. ولا تعجلوا في أمرٍ تنكرونه غيراً. ألا وإنّ هذه الدنيا التي أصبحتم تتمنّونها وترغبون فيها، وأصبحت تغضبكم وترضيكم ليست بداركم، ولا منزلكم الذي خلقتم له ولا الذي دعيتم إليه. ألا وإنّها ليست بباقيةٍ لكم ولا تبقون عليها. وهي وإن غرّتكم منها فقد حذّرتكم منها شرّها. فدعوا غرورها لتحذيرها، وإطماعها لتخويفها. وسابقوا فيها إلى الدار التي دعيتم إليها وانصرفوا بقلوبكم عنها. ولا يخنن أحدكم خنين الأمة على ما زوى عنه منها. واستتمّوا نعمة الله عليكم بالصبر على طاعة الله والمحافظة على ما استحفظكم من كتابه. ألا وإنّه لا يضرّكم تضييع شيءٍ من دنياكم بعد حفظكم قائمة دينكم. ألا وإنّه لا ينفعكم بعد تضييع دينكم شيءٌ حافظتم عليه من أمر دنياكم. أخذ الله بقلوبنا وقلوبكم إلى الحقّ، وألهمنا وإيّاكم الصبر. ومن كلامٍ له عليه السلام في معنى طلحة بن عبيد اللهقد كنت وما أهدّد بالحرب، ولا أرهّب بالضرب. وأنا على ما قد وعدني ربّي من النصر. والله ما استعجل متجرّداً للطلب بدم عثمان إلاّ خوفاً من أن يطالب بدمه لأنّه مظنّته، ولم يكن في القوم أحرص عليه منه، فأراد أن يغالط بما أجلب فيه ليُلبس الأمر ويقع الشك والله ما صنع في أمر عثمان واحدةً من ثلاث: لئن كان ابن عفان ظالماً - كما كان يزعم - لقد كان ينبغي له أن يؤازر قاتليه أو ينابذ ناصريه. ولئن كان مظلوماً لقد كان ينبغي له أن يكون من المنهنهين عنه، والمعذّرين فيه. ولئن كان في شكٍ من الخصلتين لقد كان ينبغي له أن يعتزله ويركد جانباً ويدع الناس معه، فما فعل واحدةً من الثلاث، وجاء بأمرٍ لم يعرف بابه، ولم تسلم معاذيره.

ومن خطبة له عليه السلام

أيّها الغافلون غير المغفول عنهم، والتاركون المأخوذ منهم مالي أراكم عن الله ذاهبين، وإلى غيره راغبين. كأنّكم نعمٌ أراح بها سائمٌ إلى مرعىً وبيٍّ ومشربٍ دويٍّ. إنّما هي كالمعلوفة للمدى لا تعرف ماذا يراد بها، إذا أحسن إليها تحسب يومها دهرها، وشبعها أمرها. والله لو شئت أن أخبر كلّ رجلٍ منكم بمخرجه ومولجه وجميع شأنه لفعلت، ولكن أخاف أن تكفروا فيّ برسول الله صلى الله عليه وآله. ألا وإنّي مفضيه إلى الخاصّة ممّن يؤمن ذلك منه والذي بعثه بالحقّ واصطفاه على الخلق ما انطق إلاّ صادقاً. وقد عهد إليّ بذلك كلّه، وبمهلك من يهلك ومنجي من ينجو، ومآل هذا الأمر. وما أبقي شيئاً يمرّ على رأسي إلا أفرغه في أذني وأفضى به إليّ. أيّها الناس إنّي والله ما أحثّكم على طاعةٍ إلاّ وأسبقكم إليها، ولا أنهاكم عن معصيةٍ إلاّ وأتناهى قبلكم عنها.

ومن خطبة له عليه السلام

انتفعوا ببيان الله، واتّعظوا بواعظ الله، واقبلوا نصيحة الله. فإنّ الله قد أعذر إليكم بالجلية. واتّخذ عليكم الحجّة. وبيّن لكم محابّه من الأعمال ومكارهه منها لتتّبعوا هذه وتجتنبوا هذه، فإنّ رسول الله صلى الله عليه وآله كان يقول ' إنّ الجنّة حُفّت بالمكاره وإنّ النار حُفّت بالشهوات ' واعلموا أنّه ما من طاعة الله شيءٌ إلاّ يأتي في كرهٍ. وما من معصية الله شيءٌ إلاّ يأتي في شهوةٍ. فرحم الله رجلاً نزع عن شهوته. وقمع هوى نفسه، فإنّ هذه النفس أبعد شيءٍ منزعاً. وإنّها لا تزال تنزع إلى معصيةٍ في هوى. واعلموا عباد الله أنّ المؤمن لا يصبح ولا يمسي إلاّ ونفسه ظنون عنده، فلا يزال زارياً عليها ومستزيداً لها. فكونوا كالسابقين قبلكم والماضين أمامكم قوّضوا من الدنيا تقويض الراحل وطووها طيّ المنازل. واعلموا أنّ هذا القرآن هو الناصح الذي لا يغشّ، والهادي الذي لا يُضلّ، والمحدّث الذي لا يكذب. وما جالس هذا القرآن أحدٌ إلاّ قام عنه بزيادةٍ أو نقصانٍ: زيادةٍ في هدىً، أو نقصان في عمىً. واعلموا أنّه ليس على أحدٍ بعد القرآن من فاقةٍ، ولا لأحدٍ قبل القرآن من غِنىً فاستشفوه من أدوائكم واستعينوا به على لأوائكم، فإنّ فيه شفاءً من أكبر الداء وهو الكفر والنفاق والغيّ والضلال. فاسألوا الله به، وتوجّهوا إليه بحبّه، ولا تسألوا به خلقه إنّه ما توجّه العباد إلى الله بمثله. واعلموا أنّه شافعٌ مشفّعٌ، وقائلٌ مصدّقٌ. وأنّه من شفع له القرآن يوم القيامة شفع فيه، ومن محل به القرآن يوم القيامة صدق عليه، فإنّه يُنادي مناديٍ يوم القيامة: ' ألا إنّ كلّ حارثٍ مُبتلى في حرثه وعاقبة عمله غير حرثه القرآن ' فكونوا من حرثته وأتباعه واستدلّوه على ربّكم، واستنصحوه على أنفسكم، واتّهموا عليه آرائكم، واستغشوا فيه أهواءكم. العمل العمل، ثمّ النهاية النهاية. والاستقامة الاستقامة، ثمّ الصبر الصبر، والورع الورع. إنّ لكم نهايةً فانتهوا إلى نهايتكم. وإنّ لكم عَلماً فاهتدوا بعلمكم. وإنّ للإسلام غايةً فانتهوا إلى غايته. واخرجوا إلى الله بما افترض عليكم من حقّه، وبيّن لكم من وظائفه. أنا شاهدٌ لكم وحجيجٌ يوم القيامة عنكم. ألا وإنّ القدر السابق قد وقع، والقضاء الماضي قد تورّد. وأنّي متكلّمٌ بعدة الله وحجّته، قال الله تعالى: ' إنّ الذين قالوا ربّنا الله ثمّ استقاموا تتنزّل عليهم الملائكة ألاّ تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنّة التي كنتم توعدون ' وقد قلتم ربّنا الله فاستقيموا على كتابه، وعلى منهاج أمره، وعلى الطريقة الصالحة من عبادته. ثم لا تمرقوا منها ولا تبتدعوا فيها ولا تخالفوا عنها. فإنّ أهل المروق منقطعٌ بهم عند الله يوم القيامة. ثمّ إيّاكم وتهزيع الأخلاق وتصريفها. واجعلوا اللسان واحداً. وليخزن الرجل لسانه فإنّ هذا اللسان جموحٌ بصاحبه. والله ما أرى عبداً يتّقي تقوى تنفعه حتّى يختزن لسانه. وإنّ لسان المؤمن من وراء قلبه. وإنّ قلب المنافق من وراء لسانه. لأنّ المؤمن إذا أراد أن يتكلّم بكلامٍ تدبّره في نفسه، فإن كان خيراً أبداه، وإن كان شرّاً واراه. وإنّ المنافق يتكلّم بما أتى على لسانه لا يدري ماذا له وماذا عليه. وقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله: ' لا يستقيم لإيمان عبدٍ حتّى يستقيم قلبه. ولا يستقيم قلبه حتّى يستقيم لسانه ' فمن استطاع منكم أن يلقى الله تعالى وهو نقيّ الراحة من دماء المسلمين وأموالهم، سليم اللسان من أعراضهم فليفعل واعلموا عباد الله أنّ المؤمن يستحلّ العام ما استحلّ عاماّ أوّل، ويُحرّم العام ما حرّم عاماً أوّل. وإنّ ما أحدث الناس لا يحلّ لكم شيئاً ممّا حرّم عليكم، ولكنّ الحلال ما أحلّ الله والحرام ما حرّم الله. فقد جرّبتم الأمور وضرستموها، ووعظتم بمن كان قبلكم وضُربت الأمثال لكم ودُعيتم إلى الأمر الواضح. فلا يصمّ عن ذلك إلا أصمّ، ولا يعمى عن ذلك إلاّ أعمى ومن لم ينفعه الله بالبلاء والتجارب لم ينتفع بشيءٍ من العظة. وأتاه التقصير من أماه حتّى يعرف ما أنكر، ويُنكر ما عرف. وإنما الناس رجلان: متّبعٌ شرعةً، ومبتدع بدعةً ليس معه من الله سبحانه برهان سنّةٍ ولا ضياء حجّةٍ. وإنّ الله سبحانه لم يعظ أحداً بمثل هذا القرآن، فإنّه حبل الله المتين وسببه الأمين، وفيه ربيع القلب وينابيع العلم، وما للقلب جلاءٌ غيره، مع أنّه قد ذهب المتذكّرون وبقي الناسون والمتناسون. فإذا رأيتم خيراً فأعينوا عليه. وإذا رأيتم شرّاً فاذهبوا عنه فإنّ رسول الله صلى الله عليه وآله كان يقول: ' يا ابن آدم اعمل الخير ودع الشرّ فإذا أنت جوادٌ قاصدٌ 'ألا وإنّ الظلم ثلاثةٌ: فظلمٌ لا يغفر، وظلمٌ لا يترك، وظلمٌ مغفور لا يطلب. فأمّا الظلم الذي لا يغفر فالشرك بالله، قال الله تعالى: ' إنّ الله لا يغفر أن يشرك به ' وأمّا الظلم الذي يغفر فظلم العبد نفسه عند بعض الهنات. وأمّا الظلم الذي لا يترك فظلم العباد بعضهم بعضاً. القصاص هناك شديدٌ، ليس هو جرحاً بالمدى ولا ضرباً بالسياط، ولكنّه ما يستصغر ذلك معه. فإيّاكم والتلوّن في دين الله، فإنّ جماعة فيما تكرهون من الحقّ خيرٌ من فرقةٍ فيما تحبّون من الباطل. وإن الله سبحانه لم يعط أحداً بفرقةٍ خيراً ممّن مضى ولا ممّن بقي. يأيّها الناس طوبى لمن شغله عيبه عن عيوب الناس، وطوبى لمن لزم بيته، وأكل قوته، واشتغل بطاعة ربّه، وبكى على خطيئته، فكان من نفسه في شغلٍ، والناس منه في راحةٍ. ومن كلامٍ له عليه السلام في معنى الحكمتينفأجمع رأي ملئكم على أن اختاروا رجلين فأخذنا عليهما أن يجعجعا عند القرآن، ولا يجاوزاه، وتكون ألسنتهما معه وقلوبهما تبعه. فتاها عنه وتركا الحقّ وهما يبصرانه. وكان الجور هواهما، والاعوجاج دأبهما. وقد سبق استثناؤنا عليهما في الحكم بالعدل والعمل بالحقّ سوء رأيهما وجور حكمهما، والثقة في أيدينا لأنفسنا حين خالفنا سبيل الحقّ، وأتيا بما لا يعرف من معكوس الحكم.

ومن خطبة له عليه السلام

لا يشغله شأنٌ. ولا يغيّره زمانٌ، ولا يحويه مكانٌ. ولا يصفه لسانٌ. ولا يعزب عنه عدد قطر الماء، ولا نجوم السماء، ولا سوافي الريح في الهواء، ولا دبيب النمل على الصفا، ولا مقيل الذرّ في الليلة الظلماء. يعلم مساقط الأوراق وخفيّ طرف الأحداق. وأشهد أن لا إله إلاّ الله غير معدولٍ به، ولا مشكوكٍ فيه، ولا مكفورٍ دينه ولا محجودٍ تكوينه. شهادة من صدقت نيتّه وصفت دخلته، وخلص يقينه، وثقلت موازينه. وأشهد أنّ محمّداً عبده ورسوله المجتبى من خلائقه، والمعتام لشرح حقائقه والمختص بعقائل كراماته. والمصطفى لكرائم رسالاته. والموضّحة به أشراط الهدى. والمجلوّ به غربيب العمى. أيّها الناس إنّ الدنيا تغرّ المؤّمل لها والمخلد إليها، ولا تنفس بمن نافس فيها، وتغلب من غلب عليها. وايم الله ما كان قومٌ قطّ في غضّ نعمةٍ من عيشٍ فزال عنهم إلاّ بذنوب اجترحوها، لأنّ الله ليس بظلاّمٍ للعبيد. ولو أنّ الناس حين تنزل بهم االنقم وتزول عنهم النعم فزعوا إلى ربّهم بصدق من نيّاتهم وولهٍ من قلوبهم لردّ عليهم كلّ شاردٍ، وأصلح لهم كل فاسدٍ. وإنّي لأخشى عليكم أن تكونوا في فترةٍ. وقد كانت أمورٌ مضت ملتم فيها ميلةً منتك فيها عندي غير محمودين، ولئن رُدّ عليكم أمركم إنّكم لسعداء. وما عليّ إلاّ الجهد، ولو أشاء أن أقول لقلت. عفا الله عمّا سلف. ومن كلامٍ له عليه السلاموقد سأله ذعلب اليماني، فقال: هل رأيت ربّك يا أمير المؤمنين فقال عليه السلام: أفأعبد ما لا أرى فقال: وكيف تراه فقال لا تراه العيون بمشاهدة العيان، ولكن تدركه القلوب بحقائق الإيمان. قريبٌ من الأشياء غير ملامسٍ. بعيدٌ منها غير مباينٍ. متكلّمٌ لا برويّةٍ، مُريدٌ لا بهمّةٍ. صانعٌ لا بجارحةٍ. لطيفٌ لا يوصفُ بالخفاء. كبيرٌ لا يوصفُ بالجفاء بصيرٌ لا يوصفُ بالحاسة. رحيمٌ لا يوصفُ بالرِّقَّةِ. تعنو الوُجُوهُ لعظمته، وتجبُ القلوبُ مِنْ مخافته. ومن كلام خطبةٍ له عليه السلام في ذمِّ أصحابهِأحمدُ الله على ما قضى مِن أمرٍ وقدَّر مِن فعلٍ، وعلى ابتلائي بكم أيُّها الفرقةُ التي إذا أمرتُ لم تُطع، وإذا دعوتُ لم تُجب. إن أمهلتم خُضتم، وإن حُوربتُم خرتُم. وإن اجتمع الناس على إمامٍ طعنتم، وإن أُجبتم إلى مشاقةٍ نكصتُم. لا أبا لغير كُم. ما تنتظرونَ نصركم والجهاد على حقِّكم. الموت أو الذلَّ لكم. فو الله لئن جاء يومي - وليأتينيِّ - ليفرِّقنَّ بيني وبينكم وأنا لصحبتكم قالٍ، وبكم غير كثيرٍ. لله أنتم. أما دينٌ يجمعكمُ ؟ ولا حميةٌ تشحذكُم ؟ أو ليس عجباً أنَّ معاوية يدعو الجفاة الطعام فيتبعُونَهُ على غير معونةٍ ولا عطاءٍ. وأنا أدعوكم - وأنتم تريكةُ الإسلام وبقية الناس - إلى المعونة وطائفةٍ من العطاء فتفرقون عنِّى وتختلفون علىَّ. إنه لا يخرج إليكم من أمري رضىً فترضونهُ، ولا سخطٌ فتجتمعون عليه وإن أحبَّ ما أنا لاقٍ إلى الموتُ. قد دراستكم الكتاب. وفاتحتكم الحجاج، وعرفتكم ما أنكرتم. وسوَّغتكم ما مجبتم، لو كان الأعمى يلحظ، أو النائم يستيقظ. وأقرب يقومٍ من الجهل بالله قائدهم معاوية، ومؤدبُهم ابن النابغة. ومن كلام له عليه السلاموقد أرسل رجلاً من أصحابه يعلم له علم أحوال قومٍ من جند الكوفة قد هموا باللحاق بالخوارج وكانوا على خوفٍ منه عليه السلام، فلما عاد إليه الرجلُ قال لهُ: أأمنوا فقطنوا أم جبنوا فظعنوا'. فقال الرجلُ: بل ظعنوا يا أمير المؤمنين. فقال عليه السلام:بعداً لهم كما بعدت ثمود. أما لو أشرعت الأسنة إليهم وصبت السيوف على هاماتهم. لقد ندموا على ما كان منهم. إن الشيطان اليوم قد استفلَّهم، وهو غداً متبرَّئ منهم ومتخلٍّ عنهم. فحسبهم بخروجهم من الهدى، وارتكاسهم في الضلال والعمى، وصدهم عن الحقَّ، وجماحهم في التيه.

ومن خطبة له عليه السلام

روى عن نوفٍ البكاليِّ قال خطبنا هذه الخطبة بالكوفة أمير المؤمنين عليه السلام وهو قائم على حجارةٍ نصبها له جعدة بن هبيرة المخزومي، وعليه مدرعة من صوفٍ وحمائل سيفه ليفٌ، وفي رجليه نعلان من ليفٍ، وكأن جبينه ثفنةُ بعيرٍ فقال عليه السلامالحمد الله الذي إليه مصائر الخلق، وعواقبُ الأمر. نحمده على عظيم إحسانه ونيِّر برهانه، ونوامي فضله وامتنانه، حمداً يكون لحقَّه قضاءً ولشكره أداءً، وإلى ثوابه مقرِّباً ولحسن مزيده موُجباً، ونستعينُ به استعانة راج لفضله، مؤمِّلٍ لنفعه، وائقٍ بدفعه، معترفٍ له بالطول، مذعنٍ له بالعمل والقول. ونؤمنُ به إيمان من رجاهُ مُوقناً، وأناب إليه مؤمناً، وخنع لهُ مذعناً، وأخلص لهُ موحِّداً، وعظمهُ ممجِّداً، ولاذ به راغباً مجتهداً. لم يولد سبحانهُ فيكون في العز مشاركاً. ولم يلد فيكون موروثاً هالكاً. ولم يتقدمهُ وقتٌ ولا زمانٌ. ولم يتعاورهُ زيادة ولا نقصانٌ بل ظهر للعقول بما أرانا من علامات التدبير المتقن والقضاء المبرم. فمن شواهد خلقه خلق السموات موطداتٍ بلا عمدٍ، قائمات بلا سندٍ. دعاهنَّ فأجبن طائعاتٍ مذعناتٍ، غير متلكئاتٍ ولا مبطئاتٍ. ولولا إقرارُهُنَّ لهُ بالرُّبوبية وإذعانهنَّ بالطواعية لما جعلهن موضعاً لعرشه، ولا مسكناً لملائكته، ولا مصعداً للكلم الطيب والعمل الصالح من خلقه. جعل نجومها أعلاماً يستدل بها الحيران في مختلف فجاج الأقطار. لم يمنع ضوء نورها أدلهمامُ سجف الليل المظلم. ولا استطاعت جلابيب سواد الحنادس أن تردَّ ما شاع في السموات من تلألؤ نور القمر. فسبحان من لا يخفى عليه سواد غسق داج ولا ليلٍ ساج في بقاع الأرضين المتطأطئات، ولا في يفاع السفع المتجاورات. وما يتجلجل به الرعد في أفق السماء، وما تلاشت عنه بروق الغمام، وما تسقط من ورقةٍ تزيلها عن مسقطها عواصفُ الأنواء وانهطال السماء ويعلم مسقط القطرة ومقرها، ومسحب الذرة ومجرَّها، وما يكفي البعوضة من قواتها، وما تحمل الأنثى في بطنها. الحمد لله الكائن قبل أن يكون كرسيٌ أو عرشٌ، وأسماء أو أرض أو جانٌّ أو إنسٌ لا يدرك بوهمٍ. ولا يقدر بفهمٍ. ولا يشغلهُ سائلٌ، ولا ينقصهُ نائلٌ ولا يبصر بعينٍ. ولا يحد بأينٍ. ولا يوصف بالأزواج، ولا يخلق بعلاج ولا يدرك بالحواسِّ، ولا يقاسُ بالناَّس. الذي كلم موسى تكليماً، وأراهُ من آياته عظيماً. بلا جوارح ولا أدواتٍ، ولا نطقٍ ولا لهواتٍ. بل إن كنت صادقاً أيها المتكلفُ لوصف ربك فصف جبرائيل وميكائيل وجنود الملائكة المقربين في حجرات القدس مرجحنِّين، متولِّهةً عقولهم أن يحدوا أحسن الخالقين. فإنما يدرك بالصفاتِ ذوو الهيئات والأدوات، ومن ينقضي إذا بلغ أمد حدِّه بالفناء، فلا إله إلا هو أضاء بنوره كل ظلامٍ، وأظلم بظلمته كل نورٍ. أوصيكم عباد الله بتقوى الله الذي ألبسكم الرياش واسبغ عليكم المعاش. ولو أن أحداً يجد إلى البقاء سلماً، أو إلى دفع الموت سبيلاً، لكان ذلك سليمان بن داود عليه السلام الذي سخِّر له ملك الجن والإنس مع النبوة وعظيم الزلفة. فلما استوفى طعمته، واستكمل مدته، رمته قسيُّ الفناء بنبال المو. وأصبحت الديار منه خاليةً، والمساكن معطلةً، وورثها قوم آخرون، وإن لكم في القرون السالفة لعبرةً. أين العمالقة وأبناء العمالقة. أين الفراعنة وأبناء الفراعنة. أين أصحاب مدائن الرسِّ الذين قتلوا النبيين وأطفأوا سنن المرسلين. وأحيوا سنن الجبارين. وأين الذين ساروا بالجيوش وهزموا الألوف. وعسكروا العساكر ومدنوا المدائن. منها قد لبس للحكمة جنتها. وأخذها بجميع أدبها من الإقبال عليها والمعرفة بها والتفرغ لها. وهي عند نفسه ضالته التي يطلبها، وحاجته التي يسأل عنها. فهو مغترب إذا اغترب الإسلام، وضرب بعسيب ذنبه، وألصق الأرض بجرانه. بقيةٌ من بقايا حجته، خلفيةٌ من خلاف أنبيائه ثم قال عليه السلام:أيها الناس إني قد بثثت لكم المواعظ التي وعظ الأنبياء بها أممهم، وأديت إليكم ما أدت الأوصياء إلى من بعدهم. وأدبتكم بسوطي فلم تستقيموا. وحدوتكم بالزواجر فلم تستوثقوا لله أنتم ! أتتوقعون إماماً غيري يطأ بكم الطريق، ويرشد كم السبيل ألا إنه قد أدبر من الدنيا ما كان مقبلاً، وأقبل منها ما كان مدبراً، وأزمع الترحال عباد الله الأخيار، وباعوا قليلاً من الدنيا لا يبقى بكثيرٍ من الآخرة لا يفنى. ما ضر إخواننا الذين سفكت دماؤهم وهم بصفين أن لا يكونوا اليوم أحياء ؟ يسيغون الغصص ويشربون الرنق. قد والله لقوا الله فوفَّاهم أجورهم، وأحلهم دار الأمن بعد خوفهم. أين إخواني الذين ركبوا الطريق ومضوا على الحق ؟ أين عمار ؟ أين ابن التيهان ؟ وأين ذو الشهادتين ؟ وأين نظراؤهم من إخوانهم الذين تعاقدوا على المنية، وأبرد برؤوسهم إلى الفجرة. قال ثم ضرب بيده على لحيته الشريفة الكريمة فأطال البكاء، ثم قال عليه السلام:أوه على إخواني الذين تلوا القرآن فأحكموه، وتدبروا الفرض فأقاموه، أحيوا السنة وأماتوا البدعة. دعوا للجهاد فأجابوا، ووثقوا بالقائد فاتبعوه ثم نادى بأعلى صوته: الجهاد الجهاد عباد الله. ألا وإني معسكر في يومي هذا فمن أراد الرواح إلى الله فليخرج. قال نوفٌ: وعقد للحسين عليه السلام في عشرة آلافٍ، ولقيس بن سعد رحمة الله في عشرة آلافٍ، ولأبي أيوب الأنصاري في عشرة آلافٍ، ولغيرهم على أعدادٍ أُخر وهو يريد الرجعة إلى صفين، فما دارت الجمعة حتى ضربه الملعون ابن ملجمٍ لعنهُ الله، فتراجعت العساكر فكنَّا كأغنام فقدت راعيها تختطفها الذِّئاب منكل مكانٍ.

ومن خطبة له عليه السلام

الحمد الله المعروف من غير رؤية، والخالق من غيرٍ منصبةٍ. خلق الخلائق بقدرته، واستعبد الأرباب بعزته، وساد العظماء بجوده. وهو الذي أسكن الدنيا خلقه، وبعث إلى الجنَّ واٌنسِ رُسلهُ ليكشفوا لهم عن غطائها، وليحذروهم من ضرائها، وليضربوا لهم أمثالهم، وليبصروهم عيوبها، وليهجموا عليهم بمعتبرٍ من تصرف مصاحِّها وأسقامها، وحلالها وحرامها. وما أعد الله للمطيعين منهم والعصاة من جنةٍ ونارٍ وكرامةٍ وهوانٍ. أحمده إلى نفسه كما استحمد إلى خلقه جعل لكل شيءٍ قدراً، ولكل قدرٍ أجلاً، ولكل أجلٍ كتاباً. منها فالقرآن آمرٌ زاجرٌ، وصامتٌ ناطقٌ. حجة الله على خلقه. أخذ عليهم ميثاقهُ. وارتهن عليه أنفسهم. أتم نوره، وأكمل به دينه، وقبض نبيه صلى الله عليه وآله وقد فرغ إلى الخلق من أحكام الهدى به. فعظموا منه سبحانه ما عظم من نفسه. فإنه لم يخف عنكم شيئاً من دينه. ولم يترك شيئاً رضيه أو كرهه إلاَّ وجعل له علماً بادياً وآيةً محكمةً تزجر عنه أو تدعو إليه. فرضاه فيما بقى واحدٌ، وسخطه فيما بقى واحدٌ. واعلموا أنه لن يرضى عنكم بشيءٍ سخطه على من كان قبلكم، ولن يسخط عليكم بشيءٍ رضيه ممن كان قبلكم، وإنما تسيرون في أثرٍ بينٍ، وتتكلمون برجع قول قد قاله الرجال من قبلكم. قد كفاكم مؤونة دنيا كم، وحثكم على الشكر، وافترض من ألسنتكم الذكر. وأوصاكم بالتقوى وجعلها منتهى رضاه وحاجته من خلقه. فاتقوا الله الذي أنتم بعينه ونواصيكم بيده، وتقلُّبكم في قبضته. وإن أسررتم علمه، وإن أعلنتم كتبه. قد وكل بذلك حفظةً كراماً لا يسقطون حقاً، ولا يثبتون باطلاً. ، أعلموا أنه من يتق الله يجمل له مخرجاً من الفتن ونوراً من الظلم، ويخلده فيما اشتهت نفسه، وينزله منزل الكرامة عنده. في دارٍ اصطنعها لنفسه. ظلها عرشه. ونورها بهجته. وزوَّارها ملائكته. ورفقاؤها رسله. فبادروا المعاد. وسابقوا الآجال. فإن الناس يوشك أن ينقطع بهم الأمل، يرهقهم الأجل، ويسد عنهم باب التوبة. فقد أصبحتم في مثل ما سأل إليه الرجعة من كان قبلكم. وأنتم بنو سبيلٍ على سفرٍ من دارٍ ليست بداركم، وقد أوذنتم منها بالارتحال، وأمرتم فيها بالزاد. وأعلموا أنه ليس لهذا الجلد الرقيق صبر على النار، فارحموا نفوسكم فإنكم قد جربتموها في مصائب الدنيا. أفرأيتم جزع أحد كم من الشوكة تصيبه، والعثرة تدميه، والرمضاء تحرقه فكيف إذا كان بين طابقين من نارٍ، ضجيع حجرٍ وقرين شيطانٍ. أعلمتم أنَّ مالكاً إذا غضب على النار حطم بعضها بعضاً لغضبه، وإذا زجرها توثبت بين أبوابها جزعاً من زجرته. أيها اليفن الكبير الذي قد لهزه القتير، كيف أنت إذا التحمت أطواق النار بعظام الأعناق ! ونشبت الجوامع حتى أكلت لحوم السواعد. فالله الله معشر العباد وأنتم سالمون في الصحة قبل السقم. وفي الفسحة قبل الضيق فاسعوا في فكاك رقابكم من قبل أن تغلق رهائنها. أسهروا عيونكم، وأضمروا بطونكم واستعملوا أقدامكم، وأنفقوا أموالكم، وخذوا من أجسادكم وجودوا بها على أنفسكم، ولا تبخلوا بها عنها فقد قال الله سبحانه ' إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم' وقال تعالى ' من ذا الذي يقرض الله قرضاً حسناً فيضاعفه له وأجرٌ كريمٌ ' فلم يستنصر كم من ذلٍ، ولم يستقرضكم من قلٍ، استنصر كم وله جنود السموات والأرض وهو العزيز الحكيم. واستقرضكم وله خزائن السموات والأرض وهو الغنى الحميد. أراد أن يبلوكم أيكم أحسن عملاً. فبادروا بأعمالكم تكونوا مع جيران الله في داره. رافق بهم رسله، وأزارهم ملائكته، وأكرم أسماعهم أن تسمع حسيس نارٍ أبداً، وصان أجسادهم أن تلقى لغوباً ونصباً 'ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم' أقول ما تسمعون والله المستعان على نفسي وأنفسكم، وهو حسبي ونعم الوكيل. ومن كلام له عليه السلامقاله للبرج بن مسهر الطائي، وقد قال له بحيث يسمعه: لا حكم إلا الله، وكان من الخوارجأسكت قبحك الله يا أثرم، فو الله لقد ظهر الحق فكنت فيه ضئيلاً شخصك، خفياً صوتك، حتى إذا نعر الباطل نجمت نجوم قرن الماعز.

ومن خطبة له عليه السلام

الحمد الله الذي لا تدركه الشواهد، ولا تحويه المشاهد، ولا تراه النواظر، ولا تحجبه السواتر، الدالِّ على قدمه بحدوث خلقه، وبحدوث خلقه على وجوده، وباشتباههم على أن لا شبه له. الذي صدق في ميعاده، وارتفع عن ظلم عباده. وقام بالقسط في خلقه، وعدل عليهم في حكمه. مستشهد بحدوث الأشياء على أزلته، وبما وسمها به من العجز على قدرته، وبما اصطرَّها إليه من الفناء على دوامه. واحدٌ لا بعددٍ، ودائمٌ لا بأمدٍ، وقائمٌ لا بعمدٍ. تتلقاهُ الأذهان لا بمشاعرةٍ. وتشهد له المرائي لا بمحاضرةٍ. لم تحط به الأوهام، بل تجلى لها بها، وبها امتنع منها، وإليها حاكمها. ليس بذي كبرٍ امتدت به النهايات فكبرته تجسيماً، ولا بذي عظمٍ تناهت به الغابات فعظَّمته تجسيداً. بل كبر شأناً، وعظم سلطاناً. وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الصفيُّ، وأمينه الرَّضىُّ، صلى الله عليه وآله. أرسله بوجوب الحجج، وظهور الفلج وإيضاح المنهج، فبلغ الرسالة صادعاً بها، وحمل على المحجَّة دالاًّ عليها. وأقام أعلام الاهتداء ومنار الضياء. وجعل الإسلام متينةً وعرى الإيمان وثيقةً. منها في صفة خلق أصنافٍ من الحيوان: ولو فكروا في عظيم القدرة وجسيم النعمة لرجعوا إلى الطريق وخافوا عذاب الحريق ولكن القلوب عليلةٌ، والبصائر مدخولةٌ. ألا تنظرون إلى صغير ما خلق كيف أحكم خلقهُ، وأتقن تركيبه، وفلق له السَّمع والبصر، وسوَّى له العظم والبشر. انظروا إلى النملة في صغر جثَّتها ولطافة هيئتها، لا تكاد تنال بلحظ البصر، ولا بمستدرك الفكر، وتعدها في مستقرِّها. تجمع في حرِّها لبردها، وفي ورودها لصدرها، مكفولةٌ برزقها مرزوقةٌ بوفقها. لا يغفلها المنان، ولا يحرمها الديَّان ولو في الصفا اليابس والحجر الجامس. ولو فكرت في مجارى أكلها في علوها وسفلها وما في الجوف من شراسيف بطنها وما في الرأس من عينها وأذُنها لقضيت من خلقها عجباً، ولقيت من وصفها تعباً. فتعالى الذي أقامها على قوائمها، وبناها على دعائمها، لم يشركه في فطرتها فاطرٌ، ولم يعنه في خلقها قادرٌ. ولو ضربت في مذاهب فكرك لتبلغ غاياته، ما دلتك الدلالةُ إلا على أنّ فاطر النملة هو فاطر النخلة، لدقيق تفصيل كل شيءٍ، وغامض اختلاف كلِّ حيٍّ وما الجليل واللطيف والثقيل والخفيف والقوى والضعيفُ في خلقه إلا سواءٌ، وكذلك السماء والهواء والرياح والماء. فانظر إلى الشمس والقمر والنبات والشجر والماء والحجر واختلاف هذه الليل والنهار، وتفجر هذه البحار، وكثرة هذه الجبال، وطول هذه القلال وتفرق هذه اللغات، والألسن المختلفات. فالويل لمن جحد المقدر وأنكر المدبِّر. زعموا أنهم كالنبات ما لهم زارعٌ، ولا لاختلاف صورهم صانعٌ. ولم يلجأوا إلى حجةٍ فيما ادعوا، ولا تحقيقٍ لما أوعوا. وهل يكون بناءٌ من غير بانٍ، أو جنايةٌ من غير جانٍ. وإن شئت قلت في الجرادة إذ خلق لها عينين حمراوين. وأسرج لها حدقتين قمراوين. وجعل لها السمع الخفي، وفتح لها الفم السَّويَّ، وجعل لها الحس القويَّ، ونابين بهما تقرضُ، ومنجلين بهما تقبض يرهبها الزراع في زرعهم، ولا يستطيعون ذبَّها. ولو أجلبوا بجمعهم، حتى ترد الحرث في نزواتها، وتقضى منه شهواتها. وخلقها كلُّه لا يكون إصبعاً مستدقَّةً. فتبارك الله الذي يسجد لهُ من في السموات والأرض طوعاً وكرهاً، ويعنو لهُ خدّاً ووجهاً، ويلقى إليه بالطاعة سلماً وضعفاً، ويعطى لهُ القياد رهبةً وخوفاً. فالطير مسخرةٌ لأمره. أحصى عدد الرِّيش منها والنَّفس، وأرسى قوائمها على الندى واليبس. وقدر أقواتها، وأحصى أجناسها. فهذا غرابٌ وهذا عقابٌ. وهذا حمامٌ وهذا نعامٌ. دعا كلَّ طائرٍ باسمه، وكفل لهُ برزقه. وأنشأ السَّحاب الثقال فأهطل ديمها وعدد قسمها، فبل الأرض بعد جفوفها، وأخرج نبتها بعد جدوبها.

ومن خطبة له عليه السلام

شارك هذه الصفحة:

تابع موسوعة الأدب العربي على شبكات التواصل الإجتماعي