نهج البلاغة/من خطبة له عليه السلام في الاستسقاء

من موسوعة الأدب العربي
اذهب إلى:تصفح، ابحث

من خطبة له عليه السلام في الاستسقاء

من خطبة له عليه السلام في الاستسقاء - نهج البلاغة

من خطبة له عليه السلام في الاستسقاء

اللهمّ قد انصاحت جبالنا، واغبّرت أرضنا، وهامت دوابنا. وتحيّرت في مرابضها، وعجّت عجيج الثكالى على أولادها، وملّت التردّد في مراتعها، والحنين إلى مواردها. اللهمّ فارحم أنين الآنّة، وحنين الحانّة. اللهمّ فارحم حيرتها في مذاهبها، وأنينها في موالجها. اللهمّ خرجنا إليك حين اعتكرت علينا حدابير السنين، وأخلفتنا مخائل الجود. فكنت الرجاء للمبتئس، والبلاغ للملتمس. ندعوك حين قنط الأنام، ومنع الغمام، وهلك السوام، أن لا تؤاخذنا بأعمالنا، ولا تأخذنا بذنوبنا. وانشر علينا رحمتك بالسحاب المنبعق، والربيع المغدق، والنبات المونق. سحّاً وابلاً تحيي به ما قد مات، وتردّ به ما قد فات. اللهمّ سقيا منك محييةً مرويةً، تامّةً عامّةً،طيبّةً مباركةً، هنيئةً مريعةً. زاكياً نبتها، ثامراً فرعها، ناضراً ورقها، تنعش بها الضعيف من عبادك، وتحيي بها الميت من بلادك. اللهمّ سقيا منك تعشب بها نجادنا، وتجري بها وهادنا، ويخضب بها جنابنا، وتقبل بها ثمارنا، وتعيش بها مواشينا، وتندى بها أقاصينا، وتستعين بها ضواحينا. من بركاتك الواسعة، وعطاياك الجزيلة على بريّتك المرملة، ووحشك المهملة. وأنزل علينا سماء مخضلةً مدراراً هاطلةً. يدافع الودق منها الودق، ويحفز القطر منها القطر غير خلّبٍ برقها، ولا جهامٍ عارضها، ولا قزعٍ ربابها، ولا شفّان ذهابها، حتّى يخصب لإمراعها المجدبون، ويحيي ببركتها المسنتون، فإنّك تنزل الغيث من بعد ما قنطوا، وتنشر رحمتك وأنت الوليّ الحميد.

تفسير ما في هذه الخطبة من الغريب

قوله عليه السلام: انصاحت جبالنا أيّ تشقّقت من المحول، يقال: انصاح الثوب إذا انشقّ. ويقال أيضاً: انصاح النبت وصاح وصوّح إذ جفّ ويبس. وقوله: وهامت دوابّنا أي عطشت، والهيام العطش. وقوله: حدابير السنين - جمع حدبار - وهي الناقة التي أنضاها السير، فشبّه بها السنة التي فشا فيها الجدب، قال ذو الرمة:

حدابير ما تنفك إلاّ مناخةً

على الخسف أو نرمي بها بلداً قفرا

وقوله: ولا قزع ربابها القزع القطع الصغار المتفرّقة من السحاب. وقوله: ولا شفّان ذهابها فإنّ تقديره ولا ذات شفّانٍ ذهابها. والشفّان الريح الباردة، والذهاب الأمطار اللينة: فحذف ذات العلم السامع به.

ومن خطبة له عليه السلام

أرسله داعياً إلى الحقّ وشاهداً على الخلق: فبلّغ رسالات ربّه غير وانٍ ولا مقصّرٍ، وجاهد في الله أعداءه غير واهنٍ ولا معذّرٍ. إمام من أتّقى، وبصر من اهتدى منها لو تعلمون ما أعلم ممّا طوى عنكم غيبه، إذاً لخرجتم إلى الصعدات تبكون على أعمالكم، وتلتدمون على أنفسكم. ولتركتم أموالكم لا حارس لها ولا خالف عليها، ولهمّت كلّ امرىءٍ نفسه لا يلتفت إلى غيرها. ولكنّكم نسيتم ما ذكّرتم، وأمنتم ما حذّرتم، فتاه عنكم رأيكم، وتشتّت عليكم أمركم. ولوددت أنّ الله فرّق والله ميامين الرأي، ومراجيح الحلم، مقاول بالحقّ، متاريسك للبغي. مضوا قدماً، على الطريقة فوجفوا على المحجّة، فظفروا بالعقبى الدائمة والكرامة الباردة. أما والله ليسلّطنّ عليكم غلام ثقيف الذيّال الميّال. يأكل خضرتكم ويذيب شحمتكم إيهٍ أبا وذحة. أقول: الوذحة الخنفساء. وهذا القول يومىء به إلى الحجّاج، وله مع الزذحة حديث ليس هذا موضع ذكره.

ومن كلام له عليه السلام

فلا أموال بذلتموها للذي رزقها، ولا أنفس خاطرتم بها للذي خلقها. تكرمون بالله على عباده، ولا تكرمون الله في عباده. فاعتبروا بنزولكم منازل من كان قبلكم، وانقطاعكم عن أوصل إخوانكم.

ومن كلام له عليه السلام

أنتم الأنصار على الحقّ، والإخوان في الدين، والجنن يوم البأس، والبطانة دون الناس. بكم أضرب المدبر، وأرجو طاعة المقبل. فأعينوني بمناصحة خليّةٍ من الغشّ سليمةٍ من الريب. فوالله إنّي لأولى الناس بالناس.

ومن كلام له عليه السلام

وقد جمع الناس وحضّهم على الجهاد فسكتوا مليّاً. فقال عليه السلام: ما بالكم أمخرسون أنتم ؟ فقال قومٌ منهم: يا أمير المؤمنين إن سرت سرنا معك، فقال عليه السلام: ما بالكم: لا سدّدتم لرشدٍ، ولا هديتم لقصدٍ، أفي مثل هذا ينبغي لي أن أخرج إنّما يخرج في مثل هذا رجلٌ ممّن أرضاه من شجعانكم وذوي بأسكم، ولا ينبغي لي أن أدع الجند والمصر وبيت المال وجباية الأرض والقضاء بين المسلمين والنظر في حقوق المطالبين، ثمّ أخرج في كتيبةٍ أتبع أخرى أتقلقل تقلقل القدح في الجفير الفارغ، وإنّما أنا قطب الرحى تدور عليّ وأنا بمكاني، فإذا فارقته استحار مدارها واضطرب ثفالها هذا لعمر الله الرأي السوء. والله لولا رجائي الشهادة عند لقائي العدوّ - لو قد حمّ لي لقاؤه - لقرّبت ركابي، ثمّ شخصت عنكم فلا أطلبكم ما اختلف جنوب وشمالٌ. إنّه لا غناء في كثرة عددكم مع قلّة اجتماع قلوبكم. لقد حملتكم على الطريق الواضح التي لا يهلك عليها إلاّ هالكٌ، من استقام فإلى الجنّة ومن زلّ فإلى النار.

ومن كلام له عليه السلام

تالله لقد علمت تبليغ الرسالات، وإتمام العدات، وتمام الكلمات. وعندنا أهل البيت أبواب الحكم وضياء الأمر. ألا وإنّ شرائع الدين واحدةٌ، وسبله قاصدةٌ. من أخذ بها لحق وغنم، ومن وقف عنها ضلّ وندم. اعملوا ليومٍ تذخر له الذخائّر، وتبلى فيه السرائر. ومن لا ينفعه حاضر لبّه فعاز بع عنه أعجز، وغائبه أعوز وأتّقوا ناراً حرّها شديدٌ، وقعرها بعيدٌ، وحليتها حديدٌ، وشرابها صديدٌ. ألا وإنّ اللسان الصالح يجعله الله للمرء في الناس خيرٌ له من المال يورثه من لا يحمده.

ومن كلام له عليه السلام

وقد قام إليه رجلٌ من أصحابه فقال: نهيتنا عن الحكومة ثمّ أمرتنا بها فما ندري أي الأمرين أرشد فصفّق عليه السلام إحدى يديه على الأخرى ثمّ قال: هذا جزاء من ترك العقدة. أمّا والله لو أني حين أمرتكم بما أمرتكم به حملتكم على المكروه الذي يجعل الله فيه خيراً، فإن استقمتم هديتكم، وإن اعوججتم قومّتكم، وإن أبيتم تداركتكم لكانت الوثقى، ولكن بمن وإلى من ؟. أريد أم أداوي بكم وأنتم دائي، كناقش الشوكة بالشوكة وهو يعلم أنّ ضلعها معها. اللهمّ قد ملّت أطبّاء هذا الداء الدويّ، وكلّت النزعة بأشطان الركيّ. أين القوم الذين دعوا إلى الإسلام فقبلوه. وقرأوا القرآن فأحكموه. وهيجوا إلى القتال فولهوا وله اللقاح إلى أولادها، وسلبوا السيوف أغمادها. وأخذوا بأطراف الأرض زحفاً زحفاً وصفّاً صفّاً. بعضٌ هلك وبعضٌ نجا. لا يبشّرون بالأحياء، ولا يعزّون عن الموتى. مره العيون من البكاء. خمص البطون من الصيام. ذبل الشفاه من الدعاء. صفر الألوان من السهر. على وجوههم غبرة الخاشعين. أولئك إخواني الذاهبون. فحقّ لنا أن نظمأ إليهم ونعضّ الأيدي على فراقهم. إنّ الشيطان يسنّي لكم طرقه، ويريد أن يحلّ دينكم عقدةً عقدةً، ويعطيكم بالجماعة الفرقة فاصدقوا عن نزغاته ونفثاته. واقبلوا النصيحة ممّن أهداها إليكم، وأعقلوها على أنفسكم. ومن كلام له عليه السلام قاله للخوارج وقد خرج إلى معسكرهم وهم مقيمون على إنكار الحكومة، فقال عليه السلام:أكلّكم شهد معنا صفّين فقالوا: منّا من شهد ومنّا من لم يشهد. قال: فامتازوا فرقتين، فليكن من شهد صفّين فرقةً، ومن لم يشهدها فرقةً حتّى أكلم كلاًّ بكلامه. ونادى الناس فقال: أمسكوا عن الكلام وأنصتوا لقولي، وأقبلوا بأفئدتكم إليّ، فمن نشدناه شهادةً فليقل بعلمه فيها. ثمّ كلّمهم عليه السلام بكلامٍ طويلٍ منه:ألم تقولوا عند رفعهم المصاحف حيلةً وغيلةً، ومكراً وخديعةً: إخواننا وأهل دعوتنا، استقالونا واستراحوا إلى كتاب الله سبحانه، فالرأي القبول منهم والتنفيس عنهم. فقلت لكم: هذا أمرٌ ظاهره إيمانٌ وباطنه عدوانٌ، وأوّله رحمةٌ وآخره ندامةٌ. فأقيموا على شأنكم، وألزموا طريقتكم، وعضّوا على الجهاد بنواجذكم. ولا تلتفتوا إلى ناعقٍ نعق: أن أجيب أضلّ، وإن ترك ذلّ. وقد كانت هذه الفعلة، وقد رأيتكم أعطيتموها، والله لئن أبيتها ما وجبت عليّ فريضتها، ولا حمّلني الله ذنبها. ووالله إن جئتها إنّي للمحقّ الذي يتّبع. وإنّ الكتاب لمعي. ما فارقته مذ صحبته. فلقد كنّا مع رسول الله صلّى الله عليه وآله وإنّ القتل ليدور على الآباء والأبناء والإخوان والقرابات، فما نزداد على كلّ مصيبةٍ وشدّةٍ إلاّ إيماناً، ومضيّاً على الحقّ، وتسليماً للأمر، وصبراً على مضض الجراح. ولكنّا إنّما أصبحنا نقاتل إخواننا في الإسلام على ما دخل فيه من الزيغ والاعوجاج والشبهة والتأويل. فإذا طمعنا في خصلةٍ، يلّم الله بها شعثنا ونتدانى بها إلى البقية فيما بيننا رغبنا فيها وأمسكنا عمّا سواها.

ومن كلام له عليه السلام قاله لأصحابه في ساحة الحرب

وأيّ امرئٍ منكم أحسّ من نفسه رباطة جأشٍ عند اللقاء، ورأى من أحدٍ من إخوانه فشلاً فليذبّ عن أخيه بفضل نجدته التي فضّل بها عليه كما يذّب عن نفسه. فلو شاء الله لجعله مثله. إنّ الموت طالبٌ حثيثٌ لا يفوته المقيم ولا يعجزه الهارب. إنّ أكرم الموت القتل. والذي نفس ابن أبي طالبٍ بيده لألف ضربةٍ بالسيف أهون عليّ ممن ميتةٍ على الفراش منه وكأنّي أنظر إليكم تكشّون كشيش الضباب. لا تأخذون حقّاً ولا تمنعون ضيماً. قد خلّيتم والطريق. فالنجاة للمقتحم والهلكة للمتلوّم منه فقدّموا الذارع، وأخّروا الخاسر، وعضّوا على الأضراس، فإنّه أنبي للسيوف عن الهام. والتوتا في أطراف الرما فإنّه أمور للأسنّة. وغضّوا الأبصار فإنّه أربط للجأش وأسكن للقلوب. أميتوا الأصوات فإنّه أطرد للفشل. ورايتكم فلا تميلوها ولا تخلّها، ولا تجعلوها إلاّ بأيدي تشجعانكم والمانعين الذمار منكم. فإنّ الصابرين على نزول الحقائق هم الذين يحفان براياتهم، ويكتنفون حف أفيها: وراءها وأمامها. ولا يتأخّرون عنها فيسلموها، ولا يتقدّمون عليها فيفردوها. أجزأ امرؤ قرنه، وآسى أخاه بنفسه، ولم يكل قرنه إلى أخيه فيجتمع عليه قرنه وقرن أخيه. وأيم الله لئن فررتم من سيف العاجلة لا تسلموا من سيف الآخرة. وأنتم لهاميم العرب والسنام الأعظم. إنّ في الفرار موجدة الله، والذلّ اللازم والعار الباقي. وإنّ الفار لغير مزيدٍ في عمره ولا محجوزٍ بينه وبين يومه. الرائح إلى الله كالظمآن يرد الماء. الجنّة تحت أطراف العوالي. اليوم تبلى الأخبار. والله لأنا أشوق إلى لقائهم منهم إلى ديارهم. اللهمّ فإن ردّوا الحقّ فافضض جماعتهم، وشتّت كلمتهم، وأبسلهم بخطاياهم. إنّهم لن يزولوا عن مواقفهم دون طعنٍ دراكٍ. يخرج منه النسيم، وضربٍ يفلق الهام، ويطيح العظام، ويندر السواعد والأقدام. وحتّى يرموا بالمناسر تتبعها المناسر، ويرجموا بالكتائب تقفوها الحلائب، وحتّى يجرّ ببلادهم الخميس يتلوه الخميس، وحتّى تدعق الخيول في نواحر أرضهم، وبأعنان مساربهم ومسارحهم. أقول: الدعق: الدق، أي تدق الخيول بحوافرها أرضهم. ونواحر أرضهم متقابلاتهما. يقال: منازل بني فلانٍ تتناحر، أي تتقابل.

شارك هذه الصفحة:

تابع موسوعة الأدب العربي على شبكات التواصل الإجتماعي