نهج البلاغة/من خطبة له عليه السلام في بعض أيام صفين

من موسوعة الأدب العربي
اذهب إلى:تصفح، ابحث

من خطبة له عليه السلام في بعض أيّام صفّين

من خطبة له عليه السلام في بعض أيّام صفّين - نهج البلاغة

من خطبة له عليه السلام في بعض أيّام صفّين

وقد رأيت جولتكم وانحيازكم عن صفوفكم، تحوزكم الجفاة الطغام، أعراب أهل الشام، وأنتم لهاميم العرب ويآفيخ الشرف والأنف المقدّم، والسنام الأعظم. ولقد شفى وحاوح صدري أن رأيتكم بأخرةٍ تحوزونهم كما حازوكم، وتزيلونهم عن مواقفهم كما أزالوكم. حسّاً بالنضال، وشجراً بالرماح. تركب أوهم أخراهم، كالإبل الهيم المطرودة ترمى عن حياضها. وتذاد عن مواردها.

ومن خطبة له عليه السلام وهي من خطب الملاحم

الحمد لله المتجلّي لخلقه بخلقه، والظاهر لقلوبهم بحجّته. خلق الخلق من غير رويّةٍ، إذ كانت الرويّات لا تليق إلاّ بذوي الضمائر وليس بذي ضميرٍ في نفسه. خرق علمه باطن غيب السترات، وأحاط بغموض عقائد السريرات منها في ذكر النبيّ صلى الله عليه وآله اختاره من شجرة الأنبياء ومشكاة الضياء، وذؤابة العلياء وسرة البطحاء. ومصابيح الظلمة، وينابيع الحكمة منها طبيب دوّار بطبّه قد أحكم مراهمه، وأحمى مواسمه. يضع ذلك حيث الحاجة إليه من قلوبٍ عميٍ، وآذان صمٍ، وألسنةٍ بكمٍ. متّبعٌ بدوائه مواضع الغفلة ومواطن الحيرة. لم يستضيئوا بأضواء الحكمة، ولم يقدحوا بزناد العلوم الثاقبة، فهم في ذلك كالأنعام السائمة، والصخور القاسية. قد انجابت السرائر لأهل البصائر. ووضحت محجّة الحقّ لخابطها، وأسفرت الساعة عن وجهها، وظهرت العلامة لمتوسمها. ما لي أراكم أشباحاً بلا أرواح، وأرواحاً بلا أشباحٍ، ونسّاكاً بلا صلاحٍ، وتجّاراً بلا أرباحٍ. وأيقاظاً نوّماً، وشهوداً غيّباً، وناظرةً عميّاً، وسامعةً صمّاً، وناطقةً بكماً. رأيت ضلالةً قد قامت على قطبها، وتفرّقت بشعبها، تكيلكم بصاعها، وتخبطكم بباعها. قائده خارجٌ من الملّة، قائمٌ على الضلّة. فلا يبقى يومئذٍ منكم إلاّ ثفالةٌ كثفالة القدر، أو نفاضةٌ كنفاضة العكم. تعرككم عرك الأديم، وتدوسكم دوس الحصيد، وتستخلص المؤمن من بينكم استخلاص الطير الحبة البطينة من بين هزيل الحبّ. أين تذهب بكم المذاهب، وتتيه بكم الغياهب، وتخدعكم الكواذب. ومن أين تؤتون وأنّى تؤفكون. فلكل أجلٍ كتابٌ، ولكلّ غيبةٍ إيابٌ. فاستمعوا من ربّانيّكم، وأحضروا قلوبكم، واستيقظوا إن هتف بكم. وليصدق رائدٌ أهله، وليجمع شمله، وليحضر ذهنه. فلقد فلق لكم الأمر فلق الخرزة، وقرفه قرف الصمغة. فعند ذلك أخذ الباطل مآخذه، وركب الجهل مراكبه، وعظمت الطاغية، وقلّت الداعية. وصال الدهر صيال السبع العقور. وهدر فنيق الباطل بعد كظومٍ. وتواخى الناس على الفجور. وتهاجروا على الدين. وتحابّوا على الكذب. وتباغضوا على الصدق. فإذا كان ذلك كان الولد غيظاً، والمطر قيظاً، وتفيض اللئام فيضاً، وتغيض الكرام غيضاً. وكان أهل ذلك الزمان ذئاباً، وسلاطينه سباعاً، وأوساطه أكالاً، وفقراؤه أمواتاً. وغار الصدق، وفاض الكذب. واستعملت المودّة باللسان. وتشاجر الناس بالقلوب. وصار الفسوق نسباً، والعفاف عجباً. ولبس الإسلام لبس الفرو مقلوباً.

ومن خطبة له عليه السلام

كلّ شىءٍ خاشعٌ له. وكلّ شىءٍ قائمٌ به. غنى كلّ فقيرٍ. وعزّ كلّ ذليلٍ، وقوّة كلّ ضعيفٍ، ومفزع كلّ ملهوفٍ. من تكلم سمع نطقه، ومن سكت علم سرّه، ومن عاش فعليه رزقه. ومن مات فإليه منقلبه. لم ترك العيون فتخبر عنك. بل كنت قبل الواصفين من خلقك. لم تخلق الخلق لوحشةٍ، ولا استعملتهم لمنفعةٍ. ولا يسبقك من طلبت، ولا يفلتك من أخذت. ولا ينقص سلطانك من عصاك، ولا يريد في ملكك من أطاعك، ولا يردّ أمرك من سخط قضاءك، ولا يستغني عنك من تولّى عن أمرك. كلّ سرٍّ عندك علانيةٌ، وكلّ غيبٍ عندك شهادةٌ. أنت الأبد لا أمد لك، وأنت المنتهى لا محيص عنك، وأنت الموعد لا منجا منك إلاّ إليك. بيدك ناصية كلّ دابّةٍ، وإليك مصير كلّ نسمةٍ. سبحانك ما أعظم ما نرى من خلقك وما أصغر عظيمه في جنب قدرتك، وما أهول ما نرى من ملكوتك، وما أحقر ذلك فيما غاب عنّا من سلطانك، وما أسبغ نعمك في الدنيا. وما أصغرها في نعم الآخرة. منها من ملائكةٍ أسكنتهم سمواتك ورفعتهم عن أرضك، هم أعلم خلقك بك، وأخوفهم لك، وأقربهم منك. لم يسكنوا الأصلاب، ولم يضمّنوا الأرحام، ولم يخلقوا من ماءٍ مهينٍ، ولم يشعبهم ريب المنون. وإنّهم على مكانهم منك، ومنزلتهم عندك، واستجماع أهوائهم فيك، وكثرة طاعتهم لك، وقلّة غفلتهم عن أمرك، لو عاينوا كنه ما خفي عليهم منك لحقروا أعمالهم، ولزروا على أنفسهم. ولعرفوا أنّهم لم يعبدوك حقّ عبادتك، ولم يطيعوك حقّ طاعتك. سبحانك خالقاً ومعبوداً بحسن بلائك عند خلقك. خلقت داراً وجعلت فيها مأدبةً: مشرباً ومطعماً وأزواجاً وخدماً وقصوراً وأنهاراً وزروعاً وثماراً. ثمّ أرسلت داعياً يدعو إليها. فلا الدّاعي أجابوا، ولا فيما رغّبت رغبوا، ولا إلى ما شوّقت إليه اشتاقوا. أقبلوا على جيفةٍ افتضحوا بأكلها، واصطلحوا على حبّها، ومن عشق شيئاً أعشى بصره، وأمرض قلبه. فهو ينظر بعينٍ غير صحيحةٍ، ويسمع بأذنٍ غير سميعةٍ. قد خرقت الشهوات عقله، وأمتت الدنيا قلبه، وولهت عليها نفسه. فهو عبدٌ لها، ولمن في يده شىءٌ منها. حيثما زالت زال إليها وحيثما أقبلت أقبل عليها. ولا يزدجر من الله بزاجرٍ، ولا يتّعظ منه بواعظٍ. وهو يرى المأخوذين على الغرّة - حيث لا إقالة ولا رجعة - كيف نزل بهم ما كانوا يجهلون، وجاءهم من فراق الدنيا ما كانوا يأمنون، وقدموا من الآخرة على ما كانوا يوعدون. فغير موصوفٍ ما نزل بهم، اجتمعت عليهم سكرة الموت وحسرة الفوت. ففترت لها أطرافهم، وتغيّرت لها ألوانهم. ثمّ ازداد الموت فيهم ولوجاً. فحيل بين أحدهم وبين منطقه، وإنّه لبين أهله ينظر ببصره ويسمع بأذنه، على صحّةٍ من عقله، وبقاءٍ من لبّه. يفكر فيم أفنى عمره، وفيم أذهب دهره. ويتذكّر أموالاً جمعها أغمض في مطالبها، وأخذها من مصرّحاتها ومشتبهاتها. قد لزمته تبعات جمعها، وأشرف على فراقها، تبقى لمن وراءه ينعمون فيها ويتمتّعون بها. فيكون المهنأ لغيره، والعبء على ظهره. والمرء قد غلقت رهونه بها. فهو يعضّ يده ندامةً على ما أصحر له عند الموت من أمره، ويزهد فيما كان يرغب فيه أيّام عمره. ويتمنّى أنّ الذي كان يغبطه بها ويحسده عليها قد حازها دونه. فلم يزل الموت يبالغ في جسده حتّى خالط لسانه سمعه. فصار بين أهله لا ينطق بلسانه، ولا يسمع بسمعه، يردّد طرفه بالنظر في وجوههم، يرى حركات ألسنتهم ولا يسمع رجع كلامهم. ثمّ ازداد الموت التياطاً به. فقبض بصره كما قبض سمعه. وخرجت الروح من جسده، فصار جيفةً بين أهله، قد أوحشوا من جانبه، وتباعدوا من قربه. ولا يسعد باكياً، ولا يجيب داعياً. ثمّ حملوه إلى مخطٍّ في الأرض، وأسلموه فيه إلى عمله، وانقطعوا عن زورته. حتّى إذا بلغ الكتاب أجله، والأمر مقاديره، وألحق آخر الخلق بأوّله، وجاء من أمر الله ما يريده من تجديد خلقه، أماد السماء وفطرها وأرجّ الأرض وأرجفها، وقلع جبالها ونسفها. ودكّ بعضها بعضاً من هيبة جلالته ومخوف سطوته. وأخرج من فيها. فجدّدهم بعد أخلاقهم وجمعهم بعد تفرّقهم. ثمّ ميزّهم لما يريد من مسألتهم عن خفايا الأعمال وخبايا الأفعال. وجعلهم فريقين أنعم على هؤلاء وانتقم من هؤلاء. فأمّا أهل طاعته فأثابهم بجواره، وخلّهم في داره، حيث لا يظعن النزّال، ولا تتغيّر بهم الحال. ولا تنوبهم الأفزاع، ولا تنالهم الأسقام، ولا تعرض لهم الأخطار، ولا تشخصهم الأسفار. وأمّا أهل المعصية فأنزلهم شرّ دارٍ، وغلّ الأيدي إلى الأعناق، وقرن النواصي بالأقدام، وألبسهم سرابيل القطران، ومقطّعات النيران. في عذابٍ قد اشتدّ حرّه، وبابٍ قد أطبق على أهله في نارٍ لها كلبٌ ولجبٌ، ولهبٌ ساطعٌ وقصيفٌ هائلٌ، لا يظعن مقيمها، ولا يفادى أسيرها ولا تفصم كبولها. لا مدّة للدّار فتفنى، ولا أجل للقوم فيقضى، منها في ذكر النبيّ صلى الله عليه وآله قد حقّر الدنيا وصغّرها وأهون بها وهوّنها. وعلم أنّ الله زواها عنه اختياراً، وبسطها لغيره احتقاراً. فأعرض عنها بقلبه، وأمات ذكرها عن نفسه، وأحبّ أن تغيب زينتها عن عينه لكيلا يتّخذ منها رياشاً، أو يرجو فيها مقاماً. بلّغ عن ربّه معذراً، ونصح لأمّته منذراً، ودعا إلى الجنّة مبشّراً نحن شجرة النبوّة، ومحطّ الرسالة، ومختلف الملائكة، ومعادن العلم، وينابيع الحكم. ناصرنا ومحبّنا ينتظر الرحمة، وعدوّنا ومبغضنا ينتظر السطوة.

ومن خطبة له عليه السلام

إنّ أفضل ما توسّل به المتوسّلون إلى سبحانه الإيمان به وبرسوله والجهاد في سبيله، فإنّه ذروة الإسلام، وكلمة الإخلاص فإنّها الفطرة. وإقام الصلاة فإنّها الملّة. وإيتاء الزكاة فإنّها فريضةٌ واجبةٌ. وصوم شهر رمضان فإنّه جنّةٌ من العقاب. وحجّ البيت واعتماره فإنّهما ينفيان الفقر ويرحضان الذنب. وصلة الرحم، فإنّها مثراةٌ في المال، ومنسأةٌ في الأجل. وصدقة السرّ فإنّها تكفّر الخطيئة. وصدقة العلانية فإنّها تدفع ميتة السوء. وصنائع المعروف فإنّها تقي مصارع الهوان. أفيضوا في ذكر الله فإنّه أحسن الذكر. وارغبوا فيما وعد المتّقين فإنّ وعده أصدق الوعد. واقتدوا بهدى نبيّكم فإنّه أفضل الهدى. واستنوا بسنّته فإنّها أهدى السنن. وتعلّموا القرآن فإنّه أحسن الحديث، وتفقّهوا فيه فإنّه ربيع القلوب، واستشفوا بنوره فإنّه شفاء الصدور. وأحسنوا تلاوته فإنّه أحسن القصص، فإنّ العالم العامل بغير علمه كالجاهل الحائر الذي لا يستفيق من جهله، بل الحجّة عليه أعظم، والحسرة له ألزم، وهو عند الله ألوم.

ومن خطبة له عليه السلام

أمّا بعد فإنّي أحذّركم الدنيا فإنّها حلوة خضرةٌ حفّت بالشهوات وتحبّبت بالعاجلة، وراقت بالقليل، وتحلّت بالآمال، وتزيّنت بالغرور. لا تدوم حبرتها، ولا تؤمن فجعتها. غرّارةٌ ضرّارةٌ. حائلةٌ زائلةٌ. نافدةٌ بائدةٌ، أكّالةٌ غوّالةٌ. لا تعدو - إذا تناهت إلى أمنيّة أهل الرغبة فيها والرضاء بها - أن تكون كما قال الله تعالى سبحانه ' كماءٍ أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض فأصبح هشيماً تذروه الريّاح وكان الله على كلّ شىءٍ مقتدراً ' لم يكن امرؤٌ منها في حبرةٍ إلاّ أعقبته بعدها عبرة، ولم يلق في سرّائها بطناً إلاّ منحته من ضرّائها ظهراً. ولم تطلّه فيها ديمة رخاءٍ إلاّ هتنت عليه مزنة بلاءٍ. وحرّى إذا أصبحت له منتصرةً أن تمسى له متنكّرةً وإن جانبٌ منها اعذوذب واحلولى أمرّ منها جانبٌ فأوبى. لا ينال امرؤٌ من غضارتها رغباً إلاّ أرهقته من نوائبها تعباً. ولا يمسي منها في جناح أمنٍ إلاّ أصبح على قوادم خوفٍ. غرّارةٌ غرورٌ ما فيها، فانيةٌ فانٍ من عليها. لا خير في شىءٍ من أزوادها إلاّ التقوى. من أقلّ منها استكثر ممّا يؤمنه. ومن استكثر منها استكثر ممّا يوبقه، وزال عمّا قليلٍ عنه. كم من واثقٍ بها فجعته، وذي طمأنينةٍ إليها قد صرعته. وذي أبّهةٍ قد جعلته حقيراً وذي نخوةٍ قد ردّته ذليلاً. سلطانها دولٌ، وعيشها رنقٌ، وعذبها أجاجٌ، وحلوها صبرٌ، وغذاؤها سمامٌ، وأسبابها رمامٌ. حيّها بعرض كوتٍ. وصحيحها بعرض سقم. ملكها مسلوبٌ، وعزيزها مغلوبٌ وموفورها منكوبٌ. وجارها محروبٌ. ألستم في مساكن من كان قبلكم أطول أعماراً، وأبقى آثاراً وأبعد آمالاً، وأعدّ عديداً، وأكثف جنوداً. تعبّدوا للدنيا أيّ تعبّدٍ، وآثروها أيّ إيثارٍ. ثمّ ظعنوا عنها بغير زادٍ مبلّغٍ ولا ظهرٍ قاطعٍ فهل بلغكم أنّ الدنيا سخت لهم نفساً بفديةٍ، أو أعانتهم بمعونةٍ أو أحسنت لهم صحبةً. بل أرهقتهم بالقوادح، وأوهنتهم بالقوارع، وضعضعتهم بالنوائب وعفّرتهم للمناخر، ووطئتهم بالمناسم، وأعانت عليهم ريب المنون. فقد رأيتم تنكّرها لمن دان لها، وآثرها وأخلد لها، حتّى ظعنوا عنها لفراق الأبد. وهل زوّدتهم إلاّ السغب، أو أحلّتهم إلاّ الضنك، أو نوّرث لهم إلاّ الظلمة، أو أعقبتهم إلاّ الندامة. أفهذه تؤثرون أم إليها تطمئنون ؟ أم عليها تحرصون ؟ فبئست الدار لمن لم يتّهمها ولم يكن فيها على وجلٍ منها فاعلموا - وأنتم تعلمون - بأنّكم تاركوها وظاعنون عنها. واتّعظوا فيها بالذين قالوا ' من أشدّ منّا قوّةً '. حملوا إلى قبورهم فلا يدعون ركباناً، وأنزلوا الأجداث. فلا يدعون ضيفاناً. وجعل لهم من الصفيح أجنانٌ، ومن التراب أكفانٌ، ومن الرفات جيرانٌ، فهم جيرةٌ لا يجيبون داعياً، ولا يمنعون ضيماً، ولا يبالون مندبةً. إن جيدوا لم يفرحوا، وإن قحطوا لم يقنطوا. جميعٌ وهم آحادٌ، وجيرةٌ وهم أبعادٌ. متدانون لا يتزاورون، وقريبون لا يتقاربون. حلماء قد ذهبت أضغانهم، وجهلاء قد ماتت أحقادهم. لا يخشى فجعهم، ولا يرجى دفعهم استبدلوا بظهر الأرض بطناً، وبالسعة ضيقاً، وبالأهل غربةً، وبالنور ظلمةً. فجاءوها كما فارقوها، حفاةً عراةً. قد ظعنوا عنها بأعمالهم إلى الحياة الدائمة والدار الباقية، كما قال سبحانه ' كما بدأنا أوّل خلقٍ نعيده وعداً علينا إنا كنّا فاعلين '. ^

ومن خطبة له عليه السلام ذكر فيها ملك الموت وتوفية النفس

هل تحسّ به إذا دخل منزلاً ؟ أم هل تراه إذا توفّى أحداً بل كيف يتوفّى الجنين في بطن أمه. أيلج عليه من بعض جوارحها ؟ أم الروح أجابته بإذن ربّها ؟ أم هو ساكنٌ معه في أحشائها. كيف يصف آلهه من يعجز عن صفة مخلوق مثله. ومن خطبة له عليه السلاموأحذّركم الدنيا فإنّها منزل قلعةٍ، وليست بدار نجعةٍ. قد تزيّنت بغرورها، وغرّت بزينتها. دارٌ هانت على ربّها، فخلط حلالها بحرامها وخيرها بشرّها، وحياتها بموتها، وحلوها بمرّها. لم يصفها الله تعالى لأوليائه، ولم يضنّ بها على أعدائه. خيرها زهيدٌ، وشرّها عتيدٌ. وجمعها ينفد، وملكها يسلب، وعامرها يخرب. فما خير دارٍ تنقض نقض البناء، وعمرٍ يفنى فناء الزاد، ومدّة تنقطع انقطاع السير. اجعلوا ما افترض الله عليكم من طلبكم، واسألوه من أداء حقّه ما سألكم. واسمعوا دعوة الموت آذانكم قبل أن يدعى بكم. إنّ الزاهدين في الدنيا تبكي قلوبهم وإن ضحكوا، ويشتدّ حزنهم وإن فرحوا، ويكثر مقتهم أنفسهم وإن اغتبطوا بما رزقوا. قد غاب عن قلوبكم ذكر الآجال، وحضرتكم كواذب الآمال. فصارت الدنيا أملك بكم من الآخرة، والعاجلة أذهب بكم من الآجلة، وإنّما أنتم إخوانٌ على دين الله ما فرّق بينكم إلاّ خبث السرائر، وسوء الضمائر. فلا توازرون ولا تناصحون، ولا تباذلون ولا توادّون. ما بلكم تفرحون باليسير من الدنيا تدركونه ولا يحزنكم الكثير من الآخرة تحرمونه. ويقلقكم اليسير من الدنيا يفوتكم حتّى يتبيّن ذلك في وجوهكم وقلّة صبركم عمّا زوى منها عنكم كأنّها دار مقامكم. وكأنّ متاعها باقٍ عليكم. وما يمنع أحدكم أن يستقبل أخاه بما يخاف من عيبه إلاّ مخافة أن يستقبله بمثله. قد تصافيتم على رفض الآجل وحبّ العاجل، وصار دين أحدكم لعقةً على لسانه. صنيع من قد فرغ من عمله وأحرز رضا سيّده.

ومن خطبة له عليه السلام

الحمد لله الواصل الحمد بالنعم والنعم بالشكر. نحمده على آلائه كما نحمده على بلائه. ونستعينه على هذه النفوس البطاء عمّا أمرت به، السراع إلى مانهيت عنه. ونستغفره ممّا أحاط به علمه وأحصاه كتابه: علمٌ غير قاصرٍ وكتابٌ غير مغادرٍ. ونؤمن به إيمان من عاين الغيوب ووقف على الموعود، إيماناً نفى إخلاصه الشرك ويقينه الشكّ. ونشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له، وأنّ محمّداً عبده ورسوله صلى الله عليه وآله وسلّم شهادتين تصعدان القول وترفعان العمل. لا يخفّ ميزانٌ توضعان فيه، ولا يثقل ميزانٌ ترفعان عنه. أوصيكم عباد الله بتقوى الله التي هي الزاد وبها المعاد: زادٌ مبلّغٌ ومعادٌ منجحٌ. دعا إليها أسمع داعٍ واعٍ. فأسمع داعيها وفاز واعيها. عباد الله إنّ تقوى الله حمت أولياء الله محارمه. وألزمت قلوبهم مخافته، حتّى أسهرت لياليهم، وأظمأت هواجرهم. فأخذوا الراحة بالنصب، والريّ بالظمأ. واستقربوا الأجل فبادروا العمل، وكذّبوا الأمل فلاحظوا الأجل. ثمّ إنّ الدنيا دار فناءٍ وعناءٍ وغيرٍ وعبرٍ فمن الفناء أنّ الدهر موتر قوسه، لا تخطىء سهامه، ولا توسى جراحه. يرمي الحيّ بالموت، والصحيح بالسقم، والناجي بالعطب. آكلٌ لا يشبع، وشاربٌ لا ينقع. ومن العناء أنّ المرء يجمع ما لا يأكل ويبني ما لا يسكن. ثمّ يخرج إلى الله مالاً حمل، ولا بناءً نقل. ومن غيرها أنّك ترى المرحوم مغبوطاً والمغبوط مرحوماً ليس ذلك إلاّ نعيماً زلّ، وبؤساً نزل. ومن عبرها أنّ المرء يشرف على أمله فيقطعه حضور أجله. فلا أمل يدرك ولا مؤمّل يترك، فسبحان الله ما أغرّ سرورها وأظمأ ريّها وأضحى فيئها. لا جاءٍ يردّ، ولا ماضٍ يرتدّ. فسبحان الله ما أقرب الحيّ من الميت للحاقه به، وأبعد الميت من الحيّ لانقطاعه عنه. إنّه ليس بشيءٌ بشرٍ من الشرّ إلاّ عقابه، وليس شىءٌ بخيرٍ من الخير إلاّ ثوابه. وكلّ شىءٍ من الدنيا سماعه أعظم من عيانه. وكلّ شىءٍ من الآخرة عيانه أعظم من سماعه. فليكفكم من العيان السماع، ومن الغيب الخبر. واعلموا أنّ ما نقص من الدنيا وزاد في الآخرة خيرٌ ممّا نقص من الآخرة وزاد في الدنيا. فكم من منقوصٍ رابحٍ ومزيدٍ خاسرٍ. إنّ الذي أمرتم به أوسع من الذي نهيتم عنه. وما أحلّ لكم أكثر ممّا حرّم عليكم. فذروا ما قلّ لما كثر، وما ضاق لما اتّسع. قد تكفّل لكم بالرزق وأمرتم بالعمل، فلا يكوننّ المضمون لكم طلبه أولى بكم من المفروض عليكم عمله، مع أنّه والله لقد اعترض الشكّ ودخل اليقين، حتّى كأنّ الذي ضمن لكم قد فرض عليكم، وكأنّ الذي قد فرض عليكم قد وضع عنكم. فبادروا العمل وخافوا بغتة الأجل، فإنّه لا يرجى من رجعة العمر ما يرجى من رجعة الرزق. ما فات من الرزق رجى غداً زيادته. وما فات أمس من العمر لم يرج اليوم رجعته، الرجاء مع الجائي، واليأس مع الماضي. فاّتقوا الله حقّ تقاته ولا تموتنّ إلاّ وأنتم مسلمون.

شارك هذه الصفحة:

تابع موسوعة الأدب العربي على شبكات التواصل الإجتماعي