نهج البلاغة/من كتاب له عليه السلام إلى معاوية

من موسوعة الأدب العربي
اذهب إلى:تصفح، ابحث

من كتابٍ له عليه السلام إلى معاوية

من كتابٍ له عليه السلام إلى معاوية - نهج البلاغة

من كتابٍ له عليه السلام إلى معاوية

فاتق الله فيما لديك، وانظر في حقِّه عليك، وارجع إلى معرفة مالا تعذر بجهالته، فإن للطِّاعة أعلاماً واضحةً، وسبلاً نيرةً، ومحجَّةً نهجةً وغايةً مطلوبة يردها الأكياس ويخالفها الأنكاس. من نكب عنها جار عن الحق وخبط في التِّيه، وغير الله نعمته، وأحل به نقمته. فنفسك نفسك فقد بين الله لك سبيلك. حيث تناهت بك أمورك فقد أجريت إلى غاية خسرٍ ومحلَّة كفرٍ، وإن نفسك قد أولجتك شرَّاً، وأقحمتك غيّاً، وأوردتك المهالك، وأوعرت عليك المسالك.

ومن وصيةٍ له للحسن بن علي عليهما السلام كتبها إليه بحاضرين منصرفاً من صفين:

من الوالد الفان. المقر للزمان، المدبر العمر، المستسلم للدهر. الذامِّ للدنيا، الساكن مساكن الموتى. والظاعن عنها غداً. إلى المولود المؤمَّل مالا يدرك، السالك سبيل من قد هلك، غرض الأسقام ورهينة الأيام. ورمية المصائب. وعبد الدنيا. وتاجر الغرور. وغريم المنايا. وأسير الموت. وحليف الهموم. وقرين الأحزان. ونصب الآفات. وصريع الشهوات، وخليفة الأموات. أما بعد فإن فيما تبينت من إدبار الدنيا عنِّى وجموح الدهر على وإقبال الآخرة إلى ما يزعني عن ذكر من سواي، والاهتمام بما ورائي، غير أني حيث تفرد بي دون هموم الناس هم نفسي، فصدفني رأيي وصرفني عن هواي، وصرح لي محض أمري فأفضى بي إلى جدٍّ لا يكون فيه لعبٌ، وصدقٍ لا يشوبه كذبٌ. ووجدتك بعضي بل وجدتك كلِّي حتى كأن شيئاً لو أصابك أصابني، وكأن الموت لو أتاك أتاني، فعناني من أمرك ما يعنيني من أمر نفسي فكتبت إليك مستظهراً به أنا بقيت لك أو فنيت. فإني أُوصيك بتقوى الله أي بنيَّ ولزوم أمره، وعمارة قبلك بذكره، والاعتصام بحبله. وأي سببٍ أوثق من سبب بينك وبين الله إن أنت أخذت به ؟أحي قبلك بالموعظة، وأمته بالزهادة، وقوِّه باليقين، ونوِّره بالحكمة، وذلِّله بذكر الموت، وقرِّره بالفناء، وبصِّره فجائع الدنيا، وحذِّره صولة الدهر وفحش تقلب الليالي والأيام، وأعرض عليه أخبار الماضين، وذكره بما أصاب من كان قبلك من الأوليين، وسر في ديارهم وآثارهم فانظر فيما فعلوا وعما انتقلوا وأين حلوا ونزلوا، فإنك تجدهم قد انتقلوا عن الأحبة، وحلوا ديار الغربة، وكأنك عن قليلٍ قد صرت كأحدهم. فاصلح مثواك، ولاتبع آخرتك بدنياك ودع القول فيما لا تعرف والخطاب فيما لم تكلِّف. وأمسك عن طريقٍ إذا خفت ضلالته فإن الكفَّ عند حيرة الضلال خير من ركوب الأهوال. وأمر بالمعروف تكن من أهله، وأنكر المنكر بيدك ولسانك وباين من فعله بجهدك. وجاهد في الله حقَّ جهاده ولا تأخذك في الله لومة لائمٍ. وخض الغمرات للحقِّ حيث كان، وتفقه في الدِّين، وعموِّد نفسك التصبُّر على المكروه ونعم الخلق التصبُّر. وألجئ نفسك في الأمور كلها إلى إلهك فإنك تلجئها إلى كهفٍ حريزٍ، ومانعٍ عزيزٍ. وأخلص في المسألة لربك فإنَّ بيده العطاء والرحمان، وأكثر الاستخارة وتفهم وصيتي ولا تذهبن عنها صفحاً فإن خير القول ما نفع. وأعلم أنه لا خير في علمٍ لا ينفع، ولا ينتفع بعلمٍ لا يحق تعلمه. أي بُنيَّ إني رأيتني قد بلغت سناً، ورأيتني أزداد وهناً بادرت بوصيتي إليك، وأوردت خصالاً منها أن يعجل بي أجلي دون أن أفضي إليك بما في نفسي، وأن أنقص في رأيي كما نقصت في جسمي، أو يسبقني إليك بعض غلبات الهوى وفتن الدنيا، فتكون كالصعب النفور. وإنما قلب الحدث كالأرض الخالية ما ألقى فيها من شيءٍ قبلته. فبادرتك بالأدب قبل أن يقسو قلبك ويشتغل لبُّك لتستقبل بجد رأيك من الأمر ما قد كفاك أهل التجارب بغيته وتجربته، فتكون قد كفيت مؤونة الطلب، وعوفيت من علاج التجربة، فأتاك من ذلك ما قد كنا نأتيه، واستبان لك ما ربَّما أظلم علينا منه. أي بُنيَّ إني وإن لم أكن عمرت عمر من كان قبلي فقد نظرت في أعمالهم، وفكرت في أخبارهم، وسرت في آثارهم حتى عدت كأحدهم. بل كأني بما انتهى إلى من أمورهم قد عمرت مع أولهم إلى آخرهم، فعرفت صفو ذلك من كذره، ونفعه من ضرره، فاستخلصت لك من كل أمرٍ نخيله وتوخيت لك جميلة، وصرفت عنك مجهوله، ورأيت حيث عناني من أمرك ما يعني الوالد الشفيق وأجمعت عليه من أدبك أن يكون ذلك وأنت مقبل العمر ومقتبل الدهر، ذو نيةٍ سليمةٍ ونفسٍ صافيةٍ، وأن أبتدئك بتعليم كتاب الله وتأويله، وشرائع الإسلام وأحكامه، وحلاله وحرامه، لا أجاوز ذلك بك إلى غيره. ثم أشفقت أن تلتبس عليك ما اختلف الناس فيه من أهوائهم وآرائهم مثل الذي التبس عليهم، فكان إحكام ذلك على ما كرهت من تنبيهك له أحب إلى من إسلامك إلى أمرٍ لا آمن عليك به الهلكة. ورجوت أن يوفِّقك الله فيه لرشدك، وأن يهديك لقصدك، فعهدت إليك وصيتي هذه. وأعلم يا بُنيَّ أن أحب ما أنت آخذٌ به إلى من وصيتي تقوى الله والاقتصار على ما فرضه الله عليك، والأخذ بما مضى عليه الأولون من آبائك، والصالحون من أهل بيتك، فإنهم لم يدعوا أن نظروا لأنفسهم كما أنت ناظرٌ، وفكروا كما أنت مفكرٌ، ثم ردهم آخر ذلك إلى الأخذ بما عرفوا والإمساك عما لم يكلفوا. فإن أبت نفسك أن تقبل ذلك دون أن تعلم كما علموا فليكن طلبك ذلك بتفهمٍ وتعلمٍ، ولا بتورط الشبهات وعلوِّ الخصومات. وأبدأ قبل نظرك في ذلك بالاستعانة بإلهك والرغبة إليه في توفيقك وترك كلِّ شائبةٍ أولجتك في شبهةٍ، أو أسلمتك إلى ضلالةٍ. فإذا أيقنت أن قد صفا قلبك فخشع، وتم رأيك فاجتمع، وكان همك في ذلك هما واحداً فانظر فيما فسرت لك. وإن أنت لم يجتمع لك ما تحب من نفسك، وفراغ نظرك وفكرك فاعلم أنك إنما تخبط العشواء، وتتورط الظلماء. وليس طالب الدِّين من خبط أو خلط، والإمساك عن ذلك أمثل. فتفهم يا بُنيَّ وصيتي، وأعلم أن مالك الموت هو مالك الحياة، وأن الخالق هو المميت، وأن المفني هو العميد، وأن المبتلي هو المعافي، وأن الدنيا لم تكن لتستقرَّ إلا على ما جعلها الله عليه من النعماء، والابتلاء، والجزاء في العماد أو ما شاء مما لا نعلم، فإن أشكل عليك شيءٌ من ذلك فاحمله على جهالتك به فإنك أول ما خلقت جاهلاً ثم علمت. وما أكثر ما تجهل من الأمر ويتحير فيه رأيك ويضل فيه بصرك، ثم تبصره بعد ذلك. فاعتصم بالذي خلقك ورزقك وسواك، وليكن له تعبدك وإليه رغبتك ومنه شفقتك. وأعلم يا بُنيَّ أنه لو كان لربك شريكٌ لأتتك رسله، ولرأيت آثار ملكه وسلطانه، ولعرفت أفعله وصفاته، ولكنه إلاٌ واحدٌ كما وصف نفسه. لا يضادُّه في ملكه أحدٌ، ولا يزول أبداً. ولم يزل أول قبل الأشياء بلا أولَّيةٍ. وآخر بعد الأشياء بلا نهاية. عظم عن أن تثبت ربوبيَّته بإحاطة قلب أو بصرٍ. فإذا عرفت ذلك فافعل كما ينبغي لمثلك أن يفعله في صغر خطره، وقلة مقدرته، وكثرة عجزة، وعظيم حاجته إلى ربه في طلب طاعته، والرهبة من عقوبته، والشفقة من سخطه. فإنه لم يأمرك إلا بحسنٍ ولم ينهك إلا عن قبيحٍ. يا بُنيَّ إني قد أنبأتك عن الدنيا وحالها وزوالها وانتقالها، وأنبأتك عن الآخرة وما أعد لأهلها فيها، وضربت لك فيهما الأمثال لتعتبر بها وتحذو عليها. إنما مثل من خبر الدنيا كمثل قومٍ سفرٍ نبا بهم منزلٌ جديبٌ فأموا منزلاً خصيباً وجناباً مريعاً، فاحتملوا وعثاء الطريق وفراق الصديق، وخشونة السفر، وجشوبة المطعم ليأتوا سعة دارهم ومنزل قرارهم، فليس يجدون لشيءٍ من ذلك ألماً، ولا يرون نفقةً مغرماً، ولا شيء أحب إليهم مما قربهم من منزلهم، وأدناهم من محلهم. ومثل من اغتر بها كمثل قومٍ كانوا بمنزلٍ خصيبٍ فنابهم إلى منزلٍ جديبٍ، فليس شيءٌ أكره إليهم ولا أفظع عندهم من مفارقة ما كانوا فيه إلى ما يهجمون عليه ويصيرون إليه. يا بُنيَّ اجعل نفسك ميزاناً فيما بينك وبين غيرك، فأحبب لغيرك ما تحب لنفسك، وأكره له ما تكره لها، ولا تظلم كما لا تحب أن تظلم، وأحسن كما تحب أن يحسن إليك، واستقبح من نفسك ما تستقبح من غيرك، وأرض من الناس بما ترضاه لهم من نفسك. ولا تقل مالا تعلم وإن قل ما تعلم، ولا تقل مالا تحب أن يقال لك. واعلم أنَّ الإعجاب ضدَّ الصواب وآفة الألباب. فاسع في كدحك ولا تكن خازناً لغيرك. وإذا أتت هديت لقصدك فكن أخشع ما تكون لربك. واعلم أن أمامك طريقاً ذا مسافةٍ بعيدةٍ ومشقَّةٍ شديدةٍ. وأنَّه لا غنى لك فيه عن حسن الارتياد. قدِّر بلاغك من الزاد مع خفَّة الظهر. فلا تحملن على ظهرك فوق طاقتك فيكون ثقل ذلك وبالاً عليك. وإذا وجدت من أهل الفاقة من يحمل لك زادك إلى يوم القيامة فيوافيك به غداً حيث تحتاج إليه فاغتنمه وحمِّله إيَّاه. وأكثر من تزويده وأنت قادرٌ عليه فلعلَّك تطلبه فلا تجده. وأغتنم من استقرضك في حال غناك ليجعل قضاءه لك في يوم عسرتك. وأعلم أن أمامك عقبةً كؤوداً، الخفُّ فيها احسن حالاً من المثقل، والمبطئ عليها أقبح حالاً من المسرع، وأنَّ مهبطك بها لا محالة على جنَّةٍ أو على نارٍ. فارتد لنفسك قبل نزولك ووطئ المنزل قبل حلولك، فليس بعد الموت مستعتبٌ، ولا إلى الدنيا منصرفٌ. واعلم أنَّ الذي بيده خزائن السماوات والأرض قد أذن لك في الدعاء وتكفَّل لك بالإجابة، وأمرك أن تسأله ليعطيك وتسترحمه ليرحمك، ولم يجعل بينك وبينه من يحجبه عنك، ولم يلجئك إلى من يشفع لك إليه، ولم يمنعك إن أسأت من التوبة، ولم يعاجلك بالنقمة، ولم يعيِّرك بالإنابة ولم يفضحك حيث الفضيحة بك أولى، ولم يشدِّد عليك في قبول الإنابة، ولم يناقشك بالجريمة، ولم يؤيسك من الرحمة. بل جعل نزوعك عن الذنب حسنة، وحسب سيِّئتك واحدةً، وحسب حسنتك عشراً، وفتح لك باب المتاب. فإذا ناديته سمع نداءك، وإذا ناجيته علم نجواك فأفضيت إليه بحاجتك، وأبثثته ذات نفسك، وشكوت إليه همومك، واستكشفته كروبك، واستعنته على أمورك، وسألته من خزائن رحمته ما لا يقدر على إعطائه غيره من زيادة الأعمار وصحَّة الأبدان وسعة الأرزاق. ثمَّ جعل في يديك مفاتيح خزائنه بما أذن لك من مسألته، فمتى شئت استفتحت بالدعاء أبواب نعمته، واستمطرت شآبيب رحمته. فلا يقنِّطنَّك إبطاء إجابته فإنَّ العطيَّة على قدر النيَّة. وربَّما أُخِّرت عنك الإجابة ليكون ذلك أعظم لأجر السائل وأجزل لعطاء الآمل. وربَّما سألت الشيء فلا تؤتاه وأوتيت خيراً منه عاجلاً أو آجلاً، أو صرف عنك لما هو خيرٌ لك. فلربَّ أمرٍ قد طلبته فيه هلاك دينك لو أوتيته. فلتكن مسألتك فيما يبقي لك جماله وينفي عنك وباله. فالمال لا يبقى لك ولا تبقى له. واعلم إنَّك إنَّما خلقت للآخرة لا للدنيا، وللفناء لا للبقاء، وللموت لا للحياة، وأنَّك في منزلٍ قلعةٍ ودارٍ بلغةٍ، وطريقٍ إلى الآخرة، وأنَّك طريد الموت الذي لا ينجو منه هاربه، ولا بد أنَّه مدركه، فكن منه على حذرٍ أن يدركك وأنت على حالٍ سيِّئةٍ قد كنت تحدِّث نفسك منها بالتوبة فيحول بينك وبين ذلك، فإذا أنت قد أهلكت نفسك. يا بنيَّ أكثر من ذكر الموت وذكر ما تهجم عليه وتفضي بعد الموت إليه حتى يأتيك وقد أخذت منه حذرك، وشددت له أزرك، ولا يأتيك بغتةً فيبهرك. وإيَّاك أن تغترَّ بما ترى من إخلاد أهل الدنيا عليها، وتكالبهم عليها، فقد نبَّأ الله عنها، ونعت لك نفسها، وتكشَّفت لك عن مساويها، فإنما أهلها كلابٌ عاويةٌ، وسباعٌ ضاريةٌ، يهرُّ بعضها بعضاً، ويأكل عزيزها ذليلها، ويقهر كبيرها صغيرها، نعمٌ معقَّلةٌ، وأخرى مهملةٌ قد أضلَّت عقولها وركبت مجهولها، سروح عاهةٍ بوادٍ وعثٍ. ليس لها راع يقيمها، ولا مقيمٌ يسيمها. سلكت بهم الدنيا طريق العمى، وأخذت بأبصارهم عن منار الهدى، فتاهوا في حيرتها، وغرقوا في نعمتها، واتخذوها ربّاً فلعبت بهم ولعبوا بها ونسوا ما وراءها. رويداً يسفر الظلام. كأن قد وردت الأظعان. يوشك من سرع أن يلحق. واعلم أنَّ من كانت مطيته الليل والنهار فإنَّه يسار به وإن كان واقفاً، ويقطع المسافة وإن كان مقيماً وادعاً. واعلم يقيناً أنَّك لن تبلغ أملك ولن تعدو أجلك، وأنَّك في سبيل من كان قبلك. فخفِّض في الطلب، وأجمل في المكتسب فإنَّه ربَّ طلبٍ قد جرَّ إلى حربٍ. فليس كلُّ طالبٍ بمرزوقٍ، ولا كلًّ مجملٍ بمحرومٍ. وأكرم نفسك عن كلِّ دنيةٍ وإن ساقتك إلى الرغائب فإنَّك لن تعتاض بما تبذل من نفسك عوضاً، ولا تكن عبد غيرك وقد جعلك الله حرّاً. وما خير خيرٍ لا ينال إلا بشرٍّ، ويسرٍ لا ينال إلا بعسرٍ. وإيَّاك أن توجف بك مطايا الطمع فتوردك مناهل الهلكة. وإن استطعت أن لا يكون بينك وبين الله ذو نعمةٍ فافعل. فإنَّك مدركٌ قسمك وآخذٌ سهمك. وإنَّ اليسير من الله سبحانه أعظم وأكرم من الكثير من خلقه وإن كان كلٌّ منه. وتلافيك ما فرط من صمتك أيسر من إدراكك ما فات منطقك، وحفظ ما في الوعاء بشد الوكاء. وحفظ ما في يديك احبُّ إليَّ من طلب ما في يد غيرك. ومرارة اليأس خيرٌ من الطلب إلى الناس. والحرفة مع العفَّة خيرٌ من الغنى مع الفجور. والمرء أحفظ لسرِّه. ورُبَّ ساعٍ فيما يضره. من أكثر أهجر. ومن تفكَّر ابصر. قارن أهل الخير تكن منهم. وباين أهل الشرِّ تبن عنهم. بئس الطعام الحرام. وظلم الضعيف أفحش الظلم. إذا كان الرفق خرقاً كان الخرق رفقاً. ربَّما كان الدواء داء والداء دواء. وربَّما نصح غير الناصح وعشَّ المستنصح. وإيَّاك واتِّكالك على المنى فإنَّها بضائع الموتى، والعقل حفظ التجارب. وخير ما جرَّبت ما وعظك. بادر الفرصة قبل أن تكون غصَّة. ليس كلُّ طالبٍ يصيب، ولا كلُّ غائبٍ يؤوب. ومن الفساد إضاعة الزاد ومفسدة المعاد. ولكلِّ أمرٍ عاقبةٌ. سوف يأتيك ما قدر لك. التاجر مخاطرٌ. ورُبَّ يسير أنمى من كثيرٍ. لا خير في معينٍ مهينٍ ولا صديقٍ ظنينٍ. ساهل الدهر ما ذلَّ لك قعوده. ولا تخاطر بشيءٍ رجاء أكثر منه. وإيَّاك أن تجمح بك مطيَّة اللجاج. احمل نفسك من أخيك عند صرمه على الصلة، وعند صدوده على اللطف والمقاربة، وعند جموده على البذل، وعند تباعده على الدنو، وعند شدَّته على اللين، وعند جرمه على العذر حتى كأنَّك له عبدٌ وكأنَّه ذو نعمةٍ عليك. وإيَّاك أن تضع ذلك في غير موضعه أو أن تفعله بغير أهله. لا تتَّخذنَّ عدوَّ صديقك صديقاً فتعادي صديقك. وامحض أخاك النصيحة حسنةً كانت أو قبيحة. وتجرَّع الغيظ فإنِّي لم أر جرعةً أحلى منها عاقبةً ولا ألذَّ مغبَّةً. ولن لمن غالظك فإنَّه يوشك أن يلين لك. وخذ على عدوك بالفضل فإنَّه أحلى الظفرين وإن أردت قطيعة أخيك فاستبق له من نفسك بقيَّة ترجع إليها إن بدا له ذلك يوماً ما. ومن ظنَّ بك خيراً فصدِّق ظنه. ولا تضيعنَّ حقَّ أخيك اتكالاً على ما بينك وبينه فإنَّه ليس لك بأخٍ من أضعت حقَّه. ولا يكن أهلك أشقى الخلق بك. ولا ترغبنَّ فيمن زهد فيك. زلا يكوننَّ أخوك أقوى على قطيعتك منك على الإحسان، ولا يكبرنَّ عليك ظلم من ظلمك فإنَّه يسعى في مضرَّته ونفعك. وليس جزاء من سرَّك أن تسوءه. واعلم يا بني أنَّ الرزق رزقان: رزقٌ تطلبه، ورزقٌ يطلبك فإن أنت لم تأته أتاك. ما اقبح الخضوع عند الحاجة والجفاء عند الغنى إنَّ لك من دنياك ما أصلحت به مثواك. وإن جزعت على ما تفلَّت من يديك فاجزع على كلِّ ما لم يصل إليك. استدل على ما لم يكن بما قد كان. فإنَّ الأمور أشباهٌ. ولا تكوننَّ ممَّن لا تنفعه العظة إلا إذا بالغت في إيلامه، فإنَّ العاقل يتَّعظ بالآداب والبهائم لا تتَّعظ إلا بالضرب. اطرح عنك واردات الهموم بعزائم الصبر وحسن اليقين. من ترك القصد جار والصاحب مناسب. والصديق من صدق غيبه. والهوى شريك العناء رُبَّ قريبٍ ابعد من بعيدٍ، ورُبَّ بعيدٍ أقرب من قريبٍ. والغريب من لم يكن له حبيبٌ. من تعدَّى الحقَّ ضاق مذهبه. ومن اقتصر على قدره كان أبقى له. وأوثق سببٍ أخذت به سببٌ بينك وبين الله. ومن لم يبالك فهو عدوُّك قد يكون اليأس إدراكاً إذا كان الطمع هلاكاً. ليس كلُّ عورةٍ تظهر ولا كلُّ فرصةٍ تصاب. وربَّما أخطأ البصير قصده وأصاب الأعمى رشده. أخِّر الشرّ فإنَّك إذا شئت تعجَّلته. وقطيعة الجاهل تعدل صلة العاقل. من أمن الزمان خانه، ومن أعظمه أهانه. ليس كلُّ من رمى أصاب. إذا تغيَّر السلطان تغيَّر الزمان. سل عن الرفيق قبل الطريق، وعن الجار قبل الدار. إيَّاك أن تذكر في الكلام ما يكون مضحكاً وإن حكيت ذلك عن غيرك. وإيََّاك ومشاورة النساء فإنَّ رأيهنَّ إلى أفنٍ وعزمهنَّ إلى وهنٍ. وأكفف عليهنَّ من أبصارهنَّ بحجابك إيَّاهنَّ فإنَّ شدَّة الحجاب أبقى عليهنَّ، وليس خروجهنَّ بأشدَّ من إدخالك من لا يوثق به عليهنَّ، وإن اسطعت أن لا يعرفن غيرك فافعل. ولا تملك المرأة من أمرها ما جاوز نفسها، ولا تطمعها في أن تشفع بغيرها. وإيَّاك والتغاير في غير موضع غيرةٍ فإنَّ ذلك يدعو الصحيحة إلى السقم والبريئة إلى الريب. واجعل لكلِّ إنسانٍ من خدمك عملاً تأخذه به فإنَّه أحرى أن لا يتواكلوا في خدمتك. وأكرم عشيرتك فإنَّهم جناحك الذي به تطير، وأصلك الذي إليه تصير، ويدك التي بها تصول. استودع الله دينك ودنياك. واسأله خير القضاء لك في العاجلة والآجلة والدنيا والآخرة. والسلام.

من كلام له عليه السلام إلى معاوية

وارديت جبلاً من الناس كثيراً خدعتهم بغيِّك، وألقيتهم في موج بحرك، تغشاهم الظلمات وتتلاطم بهم الشبهات، فجازوا عن وجهتهم ونكصوا على أعقابهم، وتولوا على أدبارهم، وعوَّلوا على أحسابهم إلا من فاء من أهل البصائر فإنَّهم فارقوهم بعد معرفتك، وهربوا إلى الله من موازرتك إذ حملتهم على الصعب وعدلت بهم عن القصد. فاتق الله يا معاوية في نفسك وجاذب الشيطان قيادك، فإنَّ الدنيا منقطعة عنك والآخرة قريبةٌ منك. والسلام. ^

شارك هذه الصفحة:

تابع موسوعة الأدب العربي على شبكات التواصل الإجتماعي