وحي القلم/أمراء للبيع

من موسوعة الأدب العربي
اذهب إلى:تصفح، ابحث

أمراء للبيع

أمراء للبيع - وحي القلم

أمراء للبيع

قال الشيخ تاج الدين محمد بن علي المقلب طوير الليل، أحد أئمة الفقهاء بالمدرسة الظاهرية بالقاهرة:كان شيخنا الإمام العظيم شيخ الإسلام تقي الدين بن مجد الدين بن دقيق العيد لا يخاطب السلطان إلا بقوله: 'يا إنسان' ! فما يخشاه ولا يتعبد له ولا ينحله ألقاب الجبروت والعظمة ولا يزينه بالنفاق ولا يداجيه كما يصنع غيره من العلماء ؛ وكان هذا عجيباً ؛ غير أن تمام العجب أن الشيخ لم يكن يخاطب أحداً قط من عامة الناس إلا بهذا اللفظ عينه: 'يا إنسان' ؛ فما يعلو بالسلطان والأمراء ولا ينزل بالضعفاء والمساكين، ولا يرى أحسن ما في هؤلاء وهؤلاء إلا الحقيقة الإنسانية !ثم كان لا يعظم في الخطاب إلا أئمة الفقهاء فإذا خاطب منهم أحداً قال له: 'يا فقيه' ؛ على أنه لم يكن يسمح بهذا إلا لمثل شيخ الإسلام نجم الدين ابن الرقعة، ثم يخص علاء الدين بن الباجي وحده بقوله: 'يا إمام' ؛ إذ كان آية من آيات الله في صناعة الحجة، لا يكاد يقطعه أحد في المناظرة والمباحثة ؛ فهو كالبرهان.إجلاله إجلال الحق ؛ لأن فيه المعنى وتثبيت المعنى.وقلت له يوماً: يا سيدي، أراك تخاطب السلطان بخطاب العامة ؛ فإن علوت قلت: 'يا إنسان'، وإن نزلت قلت: 'يا إنسان' ؛ أفلا يسخطه هذا منك وقد تذوَّق حلاوة ألفاظ الطاعة والخضوع، وخصه النفاق بكلمات هي ظل الكلمات التي يوصف الله بها، ثم جعله الملك إنساناً بذاته في وجود ذاته، حتى أصبح من غيره كالجبل والحصاة ؛ يستويان في العنصر ويتباينان في القدر، وأقله مهما قل هو أكثرها مهما عظمت، ووجوده شيء ووجودها شيء آخر ؟فتبسم الشيخ وقال: يا ولدي، إيش هذا ؟ إننا نفوس ألفاظ، والكلمة من قائلها هي بمعناها في نفسه لا بمعناها في نفسها ؛ فما يحسن بحامل الشريعة أن ينطق بكلام يرده الشرع عليه ؛ ولو نافق الدين لبطل أن يكون ديناً، ولو نافق العالم الديني لكان كل منافق أشرف منه ؛ فلطخة في الثوب الأبيض ليست كلطخة في الثوب الأسود، والمنافق رجل مغطى في حياته، ولكن عالم الدين رجل مشكوف في حياته لا مغطى ؛ فهو للهداية لا للتلبيس، وفيه معاني النور لا معاني الظلمة ؛ وذاك يتصل بالدين من ناحية العمل، فإذا نافق فقد كذب ؛ والعالم يتصل بالدين من ناحية العمل وناحية التبيين، فإذا نافق فقد كذب وغش وخان.وما معنى العلماء بالشرع إلا أنهم امتداد لعمل النبوة في الناس دهراً بعد دهر، ينطقون بكلمتها، ويقومون بحجتها، ويأخذون من أخلاقها كما تأخذ المرآة النور، تحويه في نفسها وتلقيه على غيرها، فهي أداةٌ لإظهاره وإظهار جماله معاً.أتدري يا ولدي ما الفرق بين علماء الحق وعلماء السوء وكلهم آخذ من نور واحد لا يختلف ؟ إن أولئك في أخلاقهم كاللوح من البلور ؛ يظهر النور نفسه فيه ويظهر حقيقته البلورية ؛ وهؤلاء بأخلاقهم كاللوح من الخشب يظهر النور حقيقته الخشبية لا غير !وعالم السوء يفكر في كتب الشريعة وحدها ؛ فيسهل عليه أن يتأول ويحتال ويغير ويبدل ويظهر ويخفي ؛ ولكن العالم الحق يفكر مع كتب الشريعة في صاحب الشريعة، فهو معه في كل حالة يسأله ماذا تفعل وماذا تقول ؟والرجل الديني لا تتحول أخلاقه ولا تتفاوت ولا يجيء كل يوم من حوادث اليوم، فهو بأخلاقه كلها، لا يكون مرة ببعضها ومرة ببعضها، ولن تراه مع ذوي السلطان وأهل الحكم والنعمة كعالم السوء هذا الذي لو نطقت أفعاله لقالت لله بلسانه: هم يعطوني الدراهم والدنانير فأين دراهمك أنت ودنانيرك ؟إن الدينار يا ولدي إذا كان صحيحاً في أحد وجهيه دون الآخر، أو في بعضه دون بعضه، فهو زائف كله ؛ وأهل الحكم والجاه حين يتعاملون مع هؤلاء يتعاملون مع قوة الهضم فيهم. . .فينزلون بذلك منزلة البهائم ؛ تقدم أعمالها لتأخذ بطونها، والبطن الآكل في العالم السوء يأكل دين العالم فيما يأكله. .فإذا رأيت لعلماء السوء وقاراً فهو البلادة، أو رقة فسمها الضعف، أو محاسنة فقل إنها النفاق، أو سكوتاً عن الظلم فتلك رشوة يأكلون بها !قال الإمام: وما رأيت مثل شيخي سلطان العلماء عز الدين بن عبد السلام فلقد كان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر شيئاً تصنعه طبيعته كما يصنع جسمه الحياة، فلا يبالي هلك فيه أو عاش ؛ إذ هو في الدم كالقلب، لا تناله يد صاحبه ولا يد غيره ؛ ولم يتعلق بمال ولا جاه ولا ترف ولا نعيم، فكان تجرده من أوهام القوة لا تغلب ؛ وانتزع خوف الدنيا من قلبه فغمرته الروح السماوية التي تخيف كل شيء ولا تخاف ؛ وكان بهذه الروح كأنه تحويل وتبديل في طباع الناس، حتى قال الملك الظاهر بيبرس وقد رأى كثرة الخلْق في جنازته حين مرَّت تحت القلعة: الآن استقر أمري في الملك، فلو أن هذا الشيخ دعا الناس إلى الخروج علي لانتزع مني المملكة !وكان سلطانه في دمشق الصالح إسماعيل، فاستنجد بالإفرنج على الملك نجم الدين أيوب سلطان مصر ؛ فغضب الشيخ وأسقط اسم الصالح من الخطبة وخرج مهاجراً، فأتبعه الصالح بعض خواصه يتلطف به ويقول له: ما بينك وبين أن تعود إلى مناصبك وما كنت عليه وأكثر مما كنت عليه إلا أن تتخشع للسلطان وتقبل يده.فقال له الشيخ: يا مسكين ! أنا لا أرضى أن يقبل السلطان يدي ! أنتم في وادٍ وأنا في وادٍ !ثم قدم إلى مصر في سنة 639، فأقبل عليه السلطان نجم الدين أيوب وتحلى به وولاه خطابة مصر وقضاءها، وكان أيوب ملكاً شديد البأس، لا يجسر أحد أن يخاطبه إلا مجيبا، ولا يتكلم أحد بحضرته ابتداء ؛ وقد جمع من المماليك الترك ما لم يجتمع مثله لغيره من أهل بيته، حتى كان أكثر أمراء عسكره منهم، وهم معروفون بالخشونة والبأس والفظاظة والاستهانة بكل أمر ؛ فلما كان يوم العيد صعد إليه الشيخ وهو يعرض الجند ويظهر ملكه وسطوته والأمراء يقبلون الأرض بين يديه ؛ فناداه الشيخ بأعلى صوته ؛ ليسمع هذا الملأ العظيم: يا أيوب ! ثم أمره بإبطال منكرٍِ انتهى إلى علمه في حانة تباع فيها الخمر ؛ فرسم السلطان لوقته بإبطال الحانة واعتذر إليه.فحدثني الباجي قال: سألت الشيخ بعد رجوعه من القلعة وقد شاع الخبر، فقلت: يا سيدي، كيف كانت الحال ؟قال: يا بني، رأيته في تلك العظمة فخشيت على نفسه أن يدخلها الغرور فتبطره فكان ما باديته به.قلت: أما خِفتَه ؟قال: يا بني، استحضرت هيبة الله تعالى فكان السلطان أمامي كالقط ولو أن حاجة من الدنيا كانت في نفسي لرأيته الدنيا كلها ؛ بيد أني نظرت بالآخرة فامتدت عيني فيه إلى غير المنظور للناس، فلا عظمة ولا سلطان ولا بقاء ولا دنيا، بل هو لا شيء في صورة شيء.نحن يا ولدي مع هؤلاء كالمعنى الذي يصحح معنى آخر، فإذا أمرناهم، فالذي يأمرهم فينا هو الشرع لا الإنسان، وهم قوم يرون لأنفسهم الحق في إسكات الكلمة الصحيحة أو طمسها أو تحريفها ؛ فما بد أن يقابلوا من العلماء والصالحين بمن يرون لأنفسهم الحق في إنطاق هذه الكلمة وبيانها وتوضيحها ؛ فإذا كان ذلك فههنا المعنى بإزاء المعنى ؛ فلا خوف ولا مبالاة ولا شأن للحياة والموت.وإنما الشر كل الشر أن يتقدم إليهم العالم لحظوظ نفسه ومنافعها، فيكون باطلاً مزوراً في صورة الحق ؛ وههنا تكون الذات مع الذات، فيخشع الضعف أمام القوة، ويذل الفقر بين يدي الغنى، وترجو الحياة لنفسها وتخشى على نفسها ؛ فإذا العالم من السلطان كالخشبة البالية النخرة حاولت أن تقارع السيف !كلا يا ولدي ! إن السلطان والحكام أدوات يجب تعيين عملها قبل إقامتها، فإذا تفككت واحتاجت إلى مسامير دقت فيها المسامير ؛ وإذا انفتق الثوب فمن أين للإبرة أن تسلك بالخيط الذي فيها إذا هي لم تخُزّه ؟إن العالم الحق كالمسمار ؛ إذا أوجد المسمار لذاته دون عمله كفرت به كل خشبة. .قال الإمام تقي الدين: وطغى الأمراء من المماليك وثقلت وطأتهم على الناس ؛ وحيثما وجدت القوة المسلطة المستبدة جعلت طغيانها واستبدادها أدباً وشريعة ؛ إلا أن تقوم بأزائها قوة معنوية أقوى منها ؛ ففكر شيخنا في هؤلاء الأمراء، وقال: إن خداع القوة الكاذبة لشعور الناس باب من الفساد ؛ إذ يحسبون كل حسن منها هو الحسن، وإن كان قبيحاً في ذاته ولا أقبح منه ؛ ويرون كل قبيح عندها هو القبيح، وإن كان حسناً ولا أحسن منه.وقال: ما معنى الإمارة والأمراء ؟ وإنما قوة الكل الكبير هي عماد الفرد الكبير، فلكل جزء من هذا الكل حقه وعمله ؛ وكان ينبغي أن تكون هذه الإمارة أعمالاً نافعة قد كبرت وعظمت فاستحقت هذا اللقب بطبيعة فيها كطبيعة أن العشرة أكثر من الواحد، لا أهواء وشهوات ورذائل ومفاسد تتخذ لقبها في الضعفاء بطبيعة كطبيعة أن الوحش مفترس.وفكر الشيخ فهداه تفكيره إلى أن هؤلاء الأمراء مماليك، فحكم الرق مستصحب عليهم لبيت مال المسلمين، ويجب شرعاً بيعهم كما يباع الرقيق !وبلغهم ذلك فجزعوا له وعظم فيه الخطب عليهم ؛ ثم احتدم الأمراء وأيقنوا أنهم بإزاء الشرع لا بإزاء القاضي ابن عبد السلام.وأفتى الشيخ أنه لا يصح لهم بيع ولا شراء ولا زواج ولا طلاق ولا معاملة، وأنه لا يصحح لهم شيئاً من هذا حتى يباعوا ويحصل عنقهم بطريق شرعي !ثم جعلوا يتسببون إلى رضاء، ويتحملون عليه بالشفاعات، وهو مُصِرٌّ لا يعبأ بجلالة أخطارهم، ولا يخشى اتسامه بعداوتهم، فرفعوا الأمر إلى السلطان، فأرسل إليه فلم يتحول عن رأيه وحكمه.واستشنع السلطان فعله وحنق عليه وأنكر منه دخوله فيما لا يعنيه، وقبح عمله وسياسته وما تطاول إليه، وهو رجل ليس له إلا نفسه وما تكاد تصل يده إلى ما يقيمه وهم وافرون وفي أيديهم القوة ولهم الأمر والنهي.وانتهى ذلك إلى الشيخ الإمام فغضب ولم يبالِ بالسلطان ولا كبر عليه إعراضه، وأزمع الهجرة من مصر، فاكترى حميراً أركب أهله وولده عليها ومشى هو خلفهم يريد الخروج إلى الشام، فلم يبعد إلا قليلاً نحو نصف بريد حتى طار الخبر في القاهرة ففزع الناس وتبعوه لا يتخلف منهم رجل ولا امرأة ولا صبي، وصار فيهم العلماء والصلحاء والتجار والمحترفون كأن خروجه خروج نبي من بين المؤمنين به، واستعلنت قوة الشرع في مظهرها الحاكم الآمر من هذه الجماهير، فقيل للسلطان: إن ذهب هذا الرجل ذهب ملكك !فارتاع السلطان، فركب بنفسه ولحق بالشيخ يترضاه ويستدفع به غضب الأمة، وأطلق له أن يأمر بما شاء، وقد أيقن أنه ليس رجل الدينار والدرهم والعيش والجاه ولبْس طيلسان العلماء كما يلصق الريش على حجر في صورة الطائر.ورجح الشيخ وأمر أن يعقد المجلس ويجمع الأمراء وينادي عليهم للمساومة في بيعهم، وضرب لذلك أجلاً بعد أن يكون الأمر قد تعالمه كل القاهرة ؛ ليتهيأ من يتهيأ للشراء والسوم في هذا الرقيق الغالي !وكان من الأمراء المماليك نائب السلطنة، فبعث إلى الشيخ يلاطفه ويسترضيه، فلم يعبأ الشيخ به ؛ فهاج هائجه وقال: كيف يبيعنا هذا الشيخ وينادي علينا وينزلنا منزلة العبيد ويفسد محلنا من الناس ويبتذل أقدارنا ونحن ملوك الأرض ؟ وما الذي يفقد هذا الشيخ من الدنيا فيدرك ما نحن فيه ؟ إنه يفقد ما لا يملك، ويفقد غير الموجود، فلا جرم لا يبالي ولا يرجع عن رأيه ما دام هذا الرأي لا يمر في منافعه، ولا في شهواته ولا في أطماعه، كالذين نراهم من علماء الدنيا ؛ أما والله لأضربنه بسيفي هذا، فما يموت رأيه وهو حي.ثم ركب النائب في عسكره وجاء إلى دار الشيخ واستل سيفه وطرق الباب، فخرج ابنه عبد اللطيف ورأى ما رأى فانقلب إلى أبيه وقال له: انج بنفسك، إنه الموت، وإنه السيف، وإنه وإنه. . .فما اكترث الشيخ لذلك ولا جزع ولا تغير، بل قال له: يا ولدي ! أبوك أقل من أن يقتل في سبيل الله !وخرج لا يعرف الحياة ولا الموت، فليس فيه الإنساني بل الإلهي، ونظر إلى نائب السلطنة وفي يده السيف، فانطلقت أشعة عينيه في أعصاب هذه اليد فيبست ووقع السيف منها.وتناوله بروحه القوية، فاضطرب الرجل وتزلزل وكأنما تكسر من أعصابه فهو يرعد ولا يستقر ولا يهدأ.وأخذ النائب يبكي ويسأل الشيخ أن يدعو له ؛ ثم قال: يا سيدي، ما تصنع بنا ؟قال الشيخ: أنادي عليكم وأبيعكم !وفيم تصرف ثمننا ؟في مصالح المسلمين.ومن يقبضه ؟أنا.وكان الشرع هو الذي يقول: 'أنا'، فتم للشيخ ما أراد، ونادى على الأمراء واحداً واحداً، واشتط في ثمنهم، لا يبيع الواحد منهم حتى يبلغ الثمن آخر ما يبلغ ؛ وكان كل أمير قد أعد من شيعته جماعة يستامونه ؛ ليشتروه. . .ودمغ الظلم والنفاق والطغيان والتكبر والاستطالة على الناس بهذه الكلمة التي أعلنها الشرع:^قال محدثي: التقى هذان الشيخان بعد فراق أربعين سنة، وكانت مثابتهما ذلك المكان القائم على شاطئ البحر في إسكندرية في جهة كذا ؛ وهما صديقان كانا في صدر أيامهما - حين كانت لهما أيام. . .رجلي حكومة يعملان في ديوان واحد، وكانا في عيشهما أخويِّ جدٍّ وهزلٍ، وفضائلَ ورذائلَ، يجتمعان دائماً اجتماع السؤال والجواب، فلا تنقطع وسيلة أحدهما من الآخر ؛ وكأن بينهما في الحياة قرابة الابتسامة من الابتسامة والدمعة من الدمعة.ولبثا كذلك ما شاء الله، ثم تبددا وأخذتهما الآفاق كدأب 'الموظفين' ؛ ينتظمون وينتشرون، ولا يزال أحدهم ترفعه أرض وتخفضه أخرى، وكأن 'الموظف' من تفسير قوله تعالى: { وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ } !وافترق الصديقان على مضض، وكثيراً ما يكون أمر الحكومة بنقل بعض 'موظفيها' هو أمرها بتمزيق بعضهم من بعض ؛ ثم تصرفت بهما الدنيا فذهبا على طرفي طريق لا يلتقيان، وأصبح كلاهما من الآخر كيومه الذي مضى. .يحفظ ولا يرى. .قال المحدث: وكنت مع الأستاذ 'م'، وهو رجل في السبعين من عمره، غير أنه يقول عن نفسه إنه شاب لم يبلغ من العمر إلا سبعين سنة. .ويزعم أن في جمسه الناموس الأخضر الذي يحيي الشجرة حياة واحدة إلى الآخر.رجل فارهٌ، متأنق، فاخر البزة، جميل السمت، فارع الشطاط كالمصبوب في قالب لا عوج فيه ولا انحناء، مجتمع كله لم يذهب منه شيء، قد حفظته أساليب القوة التي يعانيها في رياضته اليومية ؛ وهو منذ كان في آنفته وشبابه لا يمشي إلا مستأخر الصدر مشدود الظهر، مرتفع العنق، مسنداً قفاه إلى طوقه ؛ وبذلك شب وشاب على استواء واحد، وكلما سئل عن سر قامته وعوده لم يزد على قوله: إن هذا من عمل إسناد القفا.وهو دائماً عطر عبق، ثم لا يمس إلا عطراً واحداً لا يغيره، يرى أن هذا الطيب يحفظ خيال الصبي، وأنه يبقي للأيام رائحتها.وله فلسفة من حسه لا من عقله، ولفلسفته قواعد وأصول ثابتة لا تتغير، ومن بعض قواعدها الزهر، ومن بعضها الموسيقى، ومن بعضها الصلاة أيضاً ؛ وكل تلك هي عنده قواعد لحفظ الشباب.ومن فلسفته أن مبادئ الشباب وعاداته إذا هي لم تتغير اتصل الشباب فيها واطرد في الروح، فتكون من ذلك قوة تحرس قوة اللحم والدم، وتمسك على الجسم حالته النفسية الأولى.وهو يزيد في حكمة الصلاة فكرة رياضية عملية لم ينتبه إليها أحد، هي رياضة البطن والأمعاء بالركوع والسجود والقيام ؛ ويقول: إن ثروة الصلاة تكنز في صندوقين: أحدهما الروح لما بعد الموت، والآخر البطن لما قبل الموت ؛ ويرى أن الإسلام لم يفرض صلاة الصبح قبل الشمس إلا ليجعل الفجر ينصب في الروح كل يوم.قال المحدث: وبينما نحن جالسان مر بنا شيخ أعجف مهزول موهون في جسمه، يدلف متقاصر الخطو كأن حمل السنين على ظهره، مرعش من الكبر، مستقدم الصدر منحنٍ يتوكأ على عصاً، ويدل انحناؤه على أن عمره قد اعوج أيضاً، وهو يبدو في ضعفه وهزاله كأن ثيابه ملئت عظاماً لا إنساناً، وكأنها ما خبطت إلا لتمسك عظماً على عظم. .قال: فحملق إليه 'م' ثم صاح: رينا ! رينا.فالتفت العجوز، وما كاد يأخذنا بصره حتى انفتل إليه وأقبل ضاحكاً يقول: أوه !.ريت، ريت !ونهض 'م' فاحتضنه وتلازما طويلاً، وجعل رأساهما يدوران ويتطوَّحان، وكلاهما يقبل صاحبه قبلاً ظمئة لا عهد لي بمثلها في صديقين، حتى لخيل إلي أنهما لا يتعانقان ولا يتلاءمان، ولكن بينهما فكرة يعتنقانها ويقبلانها معاً. .وقلت: ما هذا أيها العجوزان ؟فضحك 'م' وقال: هذا صديقي القديم 'ن'، تركته منذ أربعين سنة معجزة من معجزات الشباب، فها هو ذا معجزة أخرى من معجزات الهرم، ولم يبق منه كاملاً إلا اسمه. . .ثم التفت إليه وقال: كيف أنت يا رينا ؟قال العجوز 'ن': لقد أصبحت كما ترى ؛ زاد العمر في رجلي رجلاً من هذه العصا، ورجع مصدر الحياة في مصدراً للآلام والأوجاع ودخلت في طبيعتي عادة رابعة من تعاطي الدواء.فضحك 'م' وقال: قبح الله هذه الدخيلة، فما هي العادات الثلاث الأصلية ؟قال العجوز: هي الأكل والشرب والنوم. .ثم أنت يا ريت كيف تقرأ الصحف الآن ؟قال 'م': أقرؤها كما يقرؤها الناس، فما سؤالك عن هذا ؟ وهل تقرأ الصحف يوماً غير ما تقرأ في يوم ؟قال: آه ! إن أول شيء أقرأ في الصحف أخبار الوفيات ؛ لأرى بقايا الدنيا، ثم 'إعلانات الأدوية'. . .ولكن كيف أنت يا ريت ؟ إني لأراك ما تزال من وراء أربعين سنة في ذلك العيش الرخي، وأراك تحمل شيخوختك بقوة كأن الدهر لم يخرمك من هنا ولا من هنا، وكأنه يلمسك بأصابعه لا بمساميره، فهل أصبت معجزة من معجزات العلم الحديث ؟قال: نعم.قال: ناشدتك الله، أفي معجزات العلم الحديث معجزة لعظمي ؟قال 'م': ويحك يا رينا ! إنك على العهد لم تبرح كما كنت مزبلة أفكار. .ماذا يصنع فيك العلم الحديث وأنت كما رأى بمنزلة بين العظم والخشب ؟ !قال المحدث: وضحكنا جميعاً، ثم قلت للأستاذ 'م': ولكن ما 'رينا وريت' ؟ وما هذه اللغة ؟.وفي أي معجم تفسيرها ؟قال: فتغامز الشيخان، ثم قال 'م': يا بني، هذه لغة ماتت معانيها وبقيت ألفاظها، فهي كتلك الألفاظ الأثرية الباقية من الجاهلية الأولى.قلت: ولكن الجاهلية الأولى لم تنقضِ إلا فيكما. . .ولا يزال كل شاب في هذه الجاهلية الأولى، وما أحسب 'رينا، وريت' في لغتكما إلا بمعنى 'سوسو، وزوزو' في اللغة الحديثة ؟فقال 'م': اسمع يا بني: إن رجل سنة 1935 متى سأل فيَّ رجل سنة 1895: ما معنى رينا وريت ؟ فرد عليه: إن 'رينا' معناها 'كاترينا' ؛ وكان 'ن' بها صبّاً مغرماً، وكان مقتتلاً قتله حبها.أما 'ريت' فهو لا يعرف معناها.فامتعض العجوز 'ن'، وقال: سبحان الله ! اسمع يا بني: أن رجل سنة 1895 فيَّ يقول لك: إن 'ريت' معناها 'مرغريت'، وكانت الجوى الباطن وكانت اللوعة والحريق الذي لا ينطفئ في قلب الأستاذ 'م'.قلت: فأنتما أيها العجوزان من عشاق سنة 1895، فكيف تريان الحب الآن ؟قال العجوز 'ن': يا بني، أن أواخر العمر كالمنفي. .ونحن نتكلم بالألفاظ التي تتكلم بها أنت وأنتما وأنتم. .غير أن المعاني تختلف اختلافاً بعيداً.قلت: واضرب لهم مثلاً.قال: واضرب لهم مثلاً كلمة 'الأكل'، فلها عندنا ثلاثة معانٍ: الأكل وسوء الهضم، ووجع المعدة ؛ وكلمة 'المشي' فلها أيضاً ثلاثة معانٍ: المشي، والتعب، وغمزات العظم. . .وكلمة 'النسيم'، النسيم العليل يا بني، زيد لنا في معناها: تحرك 'الروماتيزم'. .فضحك 'م' وقال: يا شيخ. .قال العجوز: وتلك الزيادة يا بني لا تجيء إلا من نقص، فهنا بقية من يدين، وبقية من رجلين، وبقية من بطن، وبقية من، ومن، ومن. . .ومجموع كل ذلك بقية من إنسان.قال الأستاذ 'م': والبقية في حياتك.قال 'ن': وبالجملة يا بني فإن حركة الحياة في الرجل الهرم تكون حول ذاتها لا حول الأشياء ؛ وما أعجب أن تكون أقصر حركتي الأرض حول نفسها كذلك، وإذا قال الشاب في مغامرته: ليمض الزمن ولتتصرم الأيام ! فإن الأيام هي التي تتصرم والزمن هو الذي يمر ؛ أما الشيوخ فلن يتمنوه أبداً ؛ فمن قال منهم: ليمض الزمن، فكأنما قال: فلأمض أنا. .فصاح 'م': يا شيخ يا شيخ. . . .ثم قال العجوز: واعلم يا بني أن العلم نفسه يهرم مع الرجل الهرم، فيصبح مثله ضعيفاً لا غناء عنده ولا حيلة له ؛ وكل مصانع لنكشير ومصانع بنك مصر واليابان والأمريكتين، وما بقي من مصانع الدنيا، لا فائدة من جميعها ؛ فهي عاجزة أن تكسر عظامي. . .قال المحدث: فقهقه الأستاذ 'م'، وقال: كدت والله أتخشب من هذا الكلام، وكادت معاني العظم تخرج من عظامي ؛ لقد كان المتوحشون حكماء في أمر شيوخهم، فإذا علت السن بجماعة منهم لم يتركوهم أحياء إلا بامتحان، فهم يجمعونهم ويلجئونهم إلى شجرة غضة لينة المهزة، فيكرهونهم أن يصعدوا فيها ثم يتدلوا منها وقد عقلت أيديهم بأغصانها ؛ فإذا صاروا على هذه الهيئة اجتمع الأشداء من فتيان القبيلة فيأخذون بجذع الشجرة يرجونها وينفضونها ساعة من نهار ؛ فمن ضعفت يداه من أولئك الشيوخ أو كلت حوامل ذراعيه فأفلت الغصن الذي يتعلق به فوقع، أخذوه فأكلوه ؛ ومن استمسك أنزلوه فأمهلوه إلى حين !فاقشعر العجوز 'ن'، وقال: أعوذ بالله ! هذه شجرة تخرج في أصل الجحيم، ولعنها الله من حكمة، فإنما يطبخونهم في الشجرة قبل الأكل، أو هم يجعلونهم كذلك ؛ ليتوهموهم طيوراً فيكون لحمهم أطيب وألذ، ويتساقطون عليهم من الشجرة حمائم وعصافير.قال 'م': إن كان في الوشيحة منطق فليس في هذا المنطق 'باب لم'، ولا 'باب كيف'، ولو كان بهم أن يأكلوهم، غير أنها تربية الطبيعة لأهل الطبيعة ؛ فإن رؤية الرجل هذه الشجرة وهزها وعاقبتها يبعد عنه الضعف والتخلخل، ويدفعه إلى معاناة القوة، ويزيد نفسه انتشاراً على الحياة وطمعاً فيها وتنشطاً لأسبابها، فيكون ساعده آخر شيء يهرم، ولا يزال في الحدة والنشاط والوثبان ؛ فلا يعجز قبل يومه الطبيعي، ويكون المتوحشون بهذا قد احتالوا على الطبيعة البشرية فاضطروها إلى مجهودها، وأكرهوها على أن تبذل من القوة ما يسع الجسم.قال 'ن': فنعم إذن، ولعن الله معاني الضعف ؛ كدت والله أظن أني لم أكن يوماً شابّاً، وما أراك إلا متوحشاً تخاف أن تؤكل، فتظل شيخاً رجلاً لا شيخاً طفلاً، وترى العمر كما يرى البخيل ذهبه: مهما يبلغ فكثرته غير كثيرة.قال المحدث: وأضجرني حوارهما ؛ إذ لم يعد فيه إلا أن جسم هذا يرد على جسم هذا ؛ وإنما الشيخ من أمثال هؤلاء زمان يتكلم ويقص ويعظ وينتقد، ولن يكون الشيخ معك في حقيقته إن لم ترحل أنت فيه إلى دنيا قديمة ؛ فقلت لهما: أيها العجوزان ! أريد أن أسافر إلى سنة 1895. . .^قال محدثي: ولما قلت لهما: أيها العجوزان، أريد أن أسافر إلى سنة 1895 نظر إلي العجوز الظريف 'ن'، وقال: يا بني، أحسب رؤيتك إياي قد دنت بك من الآخرة. . .فتريد أن نلوذ بأخبار شبابنا ؛ لتنظر إلينا وفينا روح الدنيا.قال الأستاذ 'م': وكيف لا تريه الآخرة وأكثرك الآن في 'المجهول' ؟قال: ويحك يا 'م' ! لا تزال على وجهك مسحة من الشيطان هنا وهنا ؛ كأن الشيطان هو الذي يصلح في داخلك ما اختل من قوانين الطبيعة، فلا تستبين فيك السن وقد نيفت على السبعين، وما أحسب الشيطان في تنظيفك إلا كالذي يكنس بيته. .قال 'م': فأنت أيها العجوز الصالح بيت قد تركه الشيطان وعلق عليك كلمة 'الإيجار'. .فضحك 'ن'، وقال: تالله إن الهرم لهو إعادة درس الدنيا، وفهمها مرة أخرى فهماً لا خطأ فيه ؛ إذ ينظر الشيخ بالعين الطاهرة، ويسمع بالأذن الطاهرة، ويلمس باليد الطاهرة. . .وتالله إن الشيطان لا معنى له إلا أنه وقاحة الأعصاب.قال 'م': فأنت أيها العجوز الصالح إنما أصبحت بلا شيطان ؛ لأن الهرم قد أدب أعصابك. . .وإنما امتنع العرب أن يقولوا للرجل 'عجوز'، وخصوا ذلك بالمرأة، تعسفاً وظلماً وطغياناً، كدأبهم مع النساء، فإذا شاخت المرأة فقد بطلت أنوثتها عندهم وعجزت عن حاجة الرجل وعجزت في كثير، ونفتها الطبيعة وبرأت منها ؛ أما الرجل فبالخلاف ؛ لأنه رجل ؛ وإذا شاخ وبطل وعجز ولم يستطع أن يكابر في المعنى - كابر في اللفظ. .وأبى أن يقال إنه 'عجوز'، وزعم أن ذلك خاص بالمرأة. .إلا أن هذا تزوير في اللغة، وإن كان للرجال عليهن درجة فذلك في أوصاف القدرة لا في أوصاف العجز !قال العجوز الظريف: وعند من غيرنا - نحن الشيوخ - تطاع الأوامر والنواهي الأدبية حق طاعتها ؟ عند من غير الشيوخ تقدس مثل هذه الحكم العالية: لا تعتد على أحد. . .لا تفسد امرأة على زوجها. . .قال المحدث: وضحكنا جميعاً، وكان العجوز 'ن' من الآيات في الظرف والنكتة، فقال: تظنني يا بني في السبعين ؟ فوالله ما أنا بجملتي في السبعين، والله والله.قال 'م': لقد أُهتر الشيخ يا بني ؛ فإن هذا من خرفه فلا تصدقه.قال 'ن': والله ما خرقت وما قلت إلا حقاً، فههنا ما عمره خمس سنوات فقط، وهو أسناني. .قلت: 'ورينا وريت' وسنة 1895 ؟قال الأستاذ 'م': أنت يا بني من المجددين، فما هواك في القديم وما شأنك به ؟وما كاد العجوز 'ن' يسمع هذا حتى طرف بعينيه وحدد بصره إلي وقال: أئنك لأنت هو ؟ لعمري إن في عينيك لضجيجاً وكذباً وجدالاً واختيالاً وزعماً ودعوى وكفراً وإلحاداً ؛ ولعمري. . .فقطعت عليه وقلت: 'لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون'، لقد وقع التجديد في كل شيء إلا في الشيوخ أجساماً والشيوخ عقولاً ؛ فهؤلاء وهؤلاء عند النهاية، وغير مستنكر من ضعفهم أن يدينوا بالماضي، فإن حياتهم لا تلمس الحاضر إلا بضعف !قال العجوز: رحم الله الشيخ 'ع' ؛ كان هذا يا بني رجلاً ينسخ للعلماء في زمننا القديم، وكان يأخذ عشرة قروش أجراً على الكراسة الواحدة، وهو رديء الخط، فإذا ورق لأديب، ولم يعجبه خطه فكلمه في ذلك تعلق الشيخ به وطالبه بعشرين قرشاً عن الكراسة ؛ منها عشرة للكتابة، وعشرة غرامة لإهانة الكتابة. . .نعم يا بني، إن للماضي في قلوبنا مواقع ينزل فيها فيتمكن، ولكن قاعدة 'اثنان واثنان أربعة'، لا تعد في الماضي ولا في الحاضر ولا في المستقبل، والحقيقة بنفسها لا باسمها ؛ وليست تحتاج النار إلى ثوب المرأة إلا في رأي المغفل.قال الأستاذ 'م': وكيف ذلك ؟قال العجوز: زعموا أن مغفلاً كان يرى امرأته تضرم الحطب فتنفخ فيه حتى يشتعل، فاحتاج يوماً في بعض شأنه إلى نار، ولم تكن امرأته في دارها فجاء بالحطب وأضرم فيه وجعل ينفخ، وكان الحطب رطباً فدخن ولم يشتعل، ففكر المغفل قليلاً ثم ذهب فلبس ثوب امرأته وعاد إلى النار، وكان الحطب قد جف فلم يكد ينفخ حتى اشتعل وتضرم ؛ فأيقن المغفل أن النار تخاف امرأته. . .وأنها لا تتضرم إلا إذا رأت ثوبها !قال الأستاذ 'م': إن الكلام في القديم والجديد أصبح عندنا كفنون الحرب تبدع ما تبدع لتغيير ما لا يتغير في ذات نفسه، وعلى ما بلغت وسائل الموت في القديم والجديد فإنها لم تستطع أن تميت أحداً مرتين.لقد قرأت يا بني كثيراً فلم أر إلى الآن من آثار المجددين عندنا شيئاً ذا قيمة ؛ ما كان من هراء وتقليد فهو من عندهم، وما كان جيداً فهو كالنفائس في ملك اللص: لها اعتباران، إن كان أحدهما عند مقتنيها. . .فالآخر عند القاضي.كلا أيها اللص، لن تسمى مالكاً بهذا الأسلوب ؛ إنما هي كلمة تسخر بها من الناس ومن الحق ومن نفسك.يقولون: العلم والفن والغريزة والشهوة والعاطفة والمرأة وحرية الفكر واستقلال الرأي ونبذ التقاليد وكسر القيود، إلى آخره وإلى آخرها. . .فهذا كله حسن مقبول سائغ في الورق إن كان في مقالة أو قصة، وهو سائغ كذلك حين ينحصر في حدوده التي تصلح له من ثياب الممثلين أو من بعض النفوس التي يمثل بها القدر فصوله الساخرة أو فصوله المبكية، ولكنهم حين يخرجون هذا كله للحياة على أنه من قوته الموجبة، ترده الحياة عليهم بالقوة السالبة ؛ إذ لا تزال تخلق خلقها وتعمل أعمالها بهم وبغيرهم، وإذا كان في الإنسانية هذا القانون الذي يجعل الفكر المريض حين يهدم من صاحبه - يهدم في الكون بصاحبه ؛ ففيها أيضاً القانون الآخر الذي يجعل الفكر الصحيح السامي حين يبني من أهله - يبنى في الكون بأهله.قال العجوز 'ن': زعموا أن أحد سلكي الكهرباء كان فيلسوفاً مجدداً، فقال للآخر: ما أراك إلا رجعياً ؛ إذ كنت لا تتبعني أبداً ولا تتصل بي ولا تجري في طريقتي ؛ ولن تفلح أبداً إلا أن تأخذ مأخذي وتترك مذهبك إلى مذهبي.فقال له صاحبه: أيها الفيلسوف العظيم، لو أني اتبعتك لبطلنا معاً فما أذهب فيك ولا تذهب في ؛ وما علمتك تشتمني في رأيك إلا بما تمدحني به في رأيي.قال العجوز: وهذا هو جوابنا إذا كنا رجعيين عندهم من أجل الدين أو الفضيلة أو الحياة أو العفة إلى آخرها وإلى آخره ؛ ونحن لا نرى هؤلاء المجددين عند التحقيق إلا ضرورات من مذاهب الحياة وشهواتها وحماقاتها تلبست بعض العقول كما يتلبس أمثالها بعض الطباع فتزيغ بها ؛ وللحياة في لغتها العملية مترادفات كالمترادفات اللفظية: تكون الكلمتان والكلمات بمعنى واحد، فالمخرب والمخرف والمجدد بمعنى !كل مجدد يريد أن يضع في كل شيء قاعدة نفسه هو، فلو أطعناهم لم تبق لشيء قاعدة.قال الأستاذ 'م' إن هذه الحياة الواحدة على هذه الأرض يجب أن تكون على سنتها وما تصلح به من الضبط والإحكام، والجلب لها والدفع عنها والمحافظة عليها بوسائلها الدقيقة الموزونة المقدرة، والسهلة في عملها الصعبة في تدبيرها ؛ فعلى نحو مما كانت الحياة في بطن الأم يجب أن نعيش في بطن الكون بحدود مرسومة وقواعد مهيأة وحيز معروف ؛ وإلا بقيت حركات هذا الإنسان كحركات الجنين ؛ يرتكض ليخرج عن قانونه، فإن استمر عمله ألقى به مسخاً مشوهاً من جسد كان يعمل في تنظيمه، أو قذف به ميتاً من جسم كان كل ما فيه يعمل لحياته وصيانته.هذا الجسم كله يشرع للجنين ما دام فيه، وهذا الاجتماع كله يشرع للفرد ما دام فيه ؛ فكيف يكون أمر من أمر إذا كان الجنين مجدداً لا يعجبه مثلاً وضع القلب ولا يرضيه عمل الدم، ولا يريد أن يكون مقيداً ؛ لأنه حر.انظر إلى هذا الشرطي في هذا الشارع يضرب مقبلاً ليدبر، ومدبراً ليقبل، وقد ألبسته الحكومة ثياباً يتميز بها، وهي تتكلم لغة غير لغة الثياب، وكأنها تقول: أيها الناس، إن ههنا الإنسان الذي هو قانون دائماً، والذي هو قوة أبداً، والذي هو سجن حيناً، والذي هو الموت إذا اقتضى الحال.أتحسب يا بني هذا الشرطي قائماً في هذا الشارع كجدران هذه المنازل ؟ كلا يا بني ؛ إنه واقف أيضاً في الإرادة الإنسانية وفي الحس البشري وفي العاطفة الحية ؛ فكيف لا يمحوه المجددون مع أنه في ذاته إرغام بمعنى، وإكراه بمعنى غيره، وقيد في حالة، وبلاء في حالة أخرى ؟لكنه إرغام ليقع به التيسير، وإكراهٌ لتنطلق به الرغبة، وقد لتتمجد به الحرية ؛ وكان هو نفسه بلاء من ناحية ؛ ليكون هو نفسه عصمة من الناحية التي تقابلها.يا بني، كل دين صالح، وكل فضيلة كريمة، وكل خلق طيب - كل شيء من ذلك إنما هو على طريق المصالح الإنسانية كهذا الشرطي بعينه: فإما تخريب العالم أيها المجددون، وإما تخريب مذهبكم. .قال العجوز 'ن': أنبحث عما نتسلط به أم نبحث عما يتسلط علينا ؟ وهل نريد أن تكون غرائزنا أقوى منا وأشد، أو نكون نحن أشد منها وأقوى ؟ هذه هي المسألة لا مسألة الجديد والقديم.فإن لم يكن هناك المثل الأعلى الذي يعظم بنا ونعظم به، فسد الحس وفسدت الحياة ؛ وكل الأديان الصحيحة والأخلاق الفاضلة إن هي إلا وسائل هذا المثل الأعلى للسمو بالحياة في آمالها وغايتها عن الحياة نفسها في وقائعها ومعانيها.قال المحدث: ورأيتني بين العجوزين كأني بين نابين ؛ ولم أكن مجدداً على مذهب إبليس الذي رد على الله والملائكة وظن لحمقه أن قوة المنطق تغير ما لا يتغير ؛ فسكت، حتى إذا فرغا من هذه الفلسفة قلت: والرحلة إلى سنة 1895 ؟^قال المحدث: وتبين في العجوز 'ن' أثر التعب، فتوجع وأخذ يئن كأن بعضه قد مات لوقته. .أو وقع فيه اختلال جديد، أو نالته ضربة اليوم ؛ والشيخ متى دخل في الهرم دخل في المعركة الفاصلة بينه وبين أيامه.ثم تأفف وتململ وقال: إن أول ما يظهر على من شاخ وهرم، هو أن الطبيعة قد غيرت القانون الذي كانت تحكمه به.قال الأستاذ 'م': إن صاحبنا كان قاضياً يحكم في المحاكم، وأرى المحاكم قد حكمت عليه بهذه الشيخوخة 'مطبقة فيها' بعض المواد من قانون العقوبات فما خرج من المحكمة إلا في الحبس الثالث.فضحك 'ن' وقال: قد عرفنا 'الحبس البسيط' و'الحبس مع الشغل' فما هو هذا الحبس الثالث ؟قال: هو 'الحبس مع المرض'. . .قال 'ن': صدقت لعمري، فإن آخر أجسامنا لا يكون إلا بحساب من صنعة أعمالنا ؛ وكأن كرسي الوظيفة الحكومية قد عرف أنه كرسي الحكومة، فهو يضرب الضرائب على عظام الموظفين. . .أتدري معنى قوله تعالى: { وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ } ولم سماه الأرذل ؟قلنا: فلم سماه كذلك ؟قال: لأنه خلط الإنسان بعضه ببعض، ومسه من أوله إلى آخره، فلا هو رجل ولا شباب ولا طفل، فهو أردأ وأرذل ما في البضاعة. . .فاستضحك الأستاذ 'م' وقال: أما أنا فقد كنت شيخاً حين كنت في الثلاثين من عمري، وهذا هو الذي جعلني فتى حين بلغت السبعين.قال 'ن': كأن الحياة تصحح نفسها فيك.قال: بل أنا كرهتها أن تصحح نفسها ؛ فقد عرفت من قبل أن سعة الإنفاق في الشباب هي ضائقة الإفلاس في الهرم، وأيقنت أن للطبيعة 'عداداً' لا يخطئ الحساب، فإذا أنا اقتصدت عدت لي، وإذا أسرفت عدت علي ؛ ولن تعطيني الدنيا بعد الشباب إلا مما في جسمي ؛ إذ لا يعطي الكون حيّاً أراد أن ينتهي منه، فكنت أجعل نفسي كالشيخ الذي تقول له الملذات الكثيرة: لست لك ؛ ومن ثم كانت لذاتي كلها في قيود الشريعتين: شريعة الدين وشريعة الحياة.قال: وعرفت أن ما يسميه الناس وهن الشيخوخة لا يكون من الشيخوخة ولكن من الشباب ؛ فما هو إلا عمل الإنسان في تسميم جسمه ثلاثين أو أربعين سنة بالطعام والشراب والإغفال والإرهاق والسرور والحزن واللذة والألم، فكنت مع الجسم في شبابه ليكون معي بعد شبابه، ولم أبرح أتعاهده كما يتعاهد الرجل داره: يزيد محاسنها وينفي عيوبها، ويحفظ قوتها ويتقي ضعفها ؛ ويجعلها دائماً باله وهمه، وينظر في يومها القريب لغدها البعيد، فلا ينقطع حساب آخرها وإن بعد هذا الآخر، ولا يزال أبداً يحتاط لما يخشى وقوعه وإن لم يقع.قال العجوز 'ن': صدقت - والله - فما أفلح إلا من اغتنم الإمكان ؛ وما نوع الشيخوخة إلا من نوع الشباب ؛ وهذا الجسم الإنساني كالمدينة الكبيرة فيها 'مجلسها البلدي' القائم على صيانتها ونظامها وتقويتها ؛ ورئيس هذا المجلس الإرادة، وقانونه كله واجبات ثقيلة، وهو كغيره من القوانين: إذا لم ينفذ من الأول لم يغن في الآخر.قال الأستاذ 'م': وكل جهاز في الجسم هو عضو من أعضاء ذلك 'المجلس البلدي' فجهاز التنفس وجهاز الهضم والجهاز العضلي والجهاز العصبي والدورة الدموية، هذه كلها يجب أن تترك على حريتها الطبيعية وأن تعان على سنتها، فلا يحال بينها وبين أعمالها برشوة من لذة، أو مفسدة من زينة، أو مطمعة في رفاهية، أو دعوة إلى مدنية، أو شيء مما يفسد حكمها أو يعطل عملها ويضعف طبيعتها.والقاعدة في العمر أنه إذا كان الشباب هو الطفولة الثانية في براءته وطهارته، كانت الشيخوخة هي الشباب الثاني في قوتها ونشاطها ؛ وما رأيت كالدين وسيلة تجعل الطفولة ممتدة بحقائق إلى آخر العمر في هذا الإنسان ؛ فسر الطفولة إنما هو في قوتها على حذف الفضول والزوائد من هذه الحياة، فلا يطغيها الغنى، ولا يكسرها الفقر، ولا تذلها الشهوة، ولا يفزعها الطمع، ولا يهولها الإخفاق، ولا يتعاظمها الضر، ولا يخيفها الموت ؛ ثم لا تمل وهي الصابرة، ولا تبالغ وهي الراضية، ولا تشك وهي الموقنة، ولا تسرف وهي القانعة، ولا تتبلد وهي العاملة، ولا تجمد وهي المتجولة ؛ ثم هي لا تكلف الإنسانية إلا العطف والحب والبشاشة وطبائع الخير التي يملكها كل قلب ؛ ولا توجب شريعتها في المعاملة إلا قاعدة الرحمة، ولا تقرر فلسفتها للحياة إلا طهارة النظر ؛ ثم تتهكم بالدنيا أكثر ما تهتم لها، وتستغني فيما أكثر مما تحتاج، وتستخرج السعادة لنفسها دائماً مما أمكن، قل أو كثر.وبكل هذا تعمل الطفولة في حراسة الحياة الغضة واستمرارها ونموها، ولولا ذلك لما زها طفل ولا شب غلام، ولا رأت العيون بين هموم الدنيا ذلك الرواء وذلك المنظر على وجوه الأطفال يثبتان أن البراءة في النفس أقوى من الطبيعة.وكل ذلك هو أيضاً من خصائص الدين وبه يعمل الدين في تهذيب الحياة واطرادها على أصولها القوية السليمة، ومتى قوي هذا الدين في إنسان لم تكن مفاسد الدنيا إلا من وراء حدوده، حتى كأنه في أرض وهي في أرض أخرى، وأصبحت البراءة في نفسه أقوى من الطبيعة.ثم قال: والعجيب أن اعتقاد المساواة بين الناس لا يتحقق أبداً بأحسن معانيه وأكملها إلا في قلبين: قلب الطفل ؛ لأنه طفل، وقلب المؤمن ؛ لأنه مؤمن.فقال العجوز 'ن': إنه لكما قلت، ولعنة الله على هذه الشهوات الآدمية الباطلة، فإن الشهوة الواحدة في ألف نفس لتجعل الحقيقة الواحدة كأنها ألف حقيقة متعادية متنازعة ؛ والطامعان في امرأة واحدة قد تكون شهوة أحدهما هي الشهوة وهي القتل ؛ ولعنة الله على الملحدين وإلحادهم، يزرون على الأديان بأنها تكاليف وقيود وصناعة للحياة، ثم لا يعلمون أن كل ذلك لصناعة الآلة النفسية التي تستطيع أن تحرك المختلفين حركة واحدة، فما ابتليت الإنسانية بشيء كما ابتليت بهذا الخلاف الذي يفتح من كل نفس على كل نفس أبواب التجني، ويجعل النفرة وسوء الظن أقرب إلى الطبيعة البشرية من الألفة والثقة.لقد جاء العلم بالمعجزات، ولكن فيما بين الإنسان والطبيعة، وبين الإنسان ومنافعه، وبين الإنسان وشهواته ؛ فهل غير الدين يجيء بالمعجزات العملية فيما بين النفس والنفس، وبين النفس وهمومها، وبين ما هو حق وما هو واجب ؟قال المحدث: ثم نظر إليَّ العجوز 'ن' وقال: صل عمك يا بني بالأحاديث الذي مضى، فأين بلغنا آنفاً من أمر التجديد والمجددين ؟ وماذا قلنا وماذا قلت ؟ أما إن الحماقة الجديدة والرذيلة الجديدة والخطأ الجديد، كل ذلك إن كان جديداً من صاحبه فهو قديم في الدنيا ؛ وليس عندنا أبداً من جديد إلا إطلاق الحرية في استعمال كل أديب حقه في الوقاحة والجهل والغرور والمكابرة.قال الأستاذ 'م': وليس الظاهر بما يظهر لك منه، ولكن بالباطن الذي هو فيه، فمستشفى المجاذيب قصر من القصور في ظاهره، ولكن المجاذيب هم حقيقته لا البناء، وكل مجدد عندنا يزعم لك أنه قصر عظيم، وهو في الحقيقة مستشفى مجانين، غير أن المجانين فيه طباع وشهوات ونزوات ؛ وعلى هذا ما الذي يمنع الفجور المتوقح أن يسمي نفسه الأدب المكشوف ؟قال 'ن': وإذا أنت ذهبت تعترض على هذه التسمية زعموا لك أن للفن وقاحة مقدسة. . .وأن 'لا أدبية' رجل الفن هي 'اللا أخلاقية العالمية'. . . .قال الأستاذ 'م': فوقاحة الشهوة إذا استعلنت بين أهل الحياء وأهل الفضيلة ودعت إلى مذهبها، كانت تجديداً ما في ذلك ريب ؛ ولكن هذا المذهب هو أقدم ما في الأرض، إذا هو بعينه مذهب كل زوجين اجتمعا من البهائم منذ خلق الله البهائم. .قال 'ن': وقل مثل ذلك في متسخط على الله وعلى الناس يخرج من كفره بين أهل الأديان أدباً جديداً، وفي مغرور يتغفل الناس، وفي لص آراء، وفي مقلد تقليداً أعور - كل واحد من هؤلاء وأشباههم مبتلى بعلة، فمذهبه رسالة علته ؛ وأكثرهم لا يكون ثباته على الرأي الفاسد إلا من ثبات العلة فيه.قال المحدث: وكنت من المجددين، فأرمضني ذلك وقلت للعجوزين: إن هذا نصف الصحيح، أما النصف الآخر فهو في كثير من هؤلاء الذين ينتحلون الدفاع عن الدين والفضيلة ؛ نعم إنهم لا يستعملون حقهم في الوقاحة، ولكن القروش تستعمل حقها. .فضحك العجوز 'ن'، وقال: يا بني، إن الجديد في كل حمار هو أن يزعم أن نهيقه موسيقى. . .فالحمار والنهيق والموسيقى كل ذلك لا جديد فيه، ولكن التسمية وحدها هي الجديدة ؛ ولو كان البرهان في حلق الحمار لصح هذا الجديد، غير أن التصديق والتكذيب هنا في آذان الموسقيين لا في حلق حمارنا المحترم. . . .قال 'م': وزعموا أن رجلاً نصب فخّاً لصيد العصافير، فجاء عصفور فنظر من هذا الفخ إلى شيء جديد، فقال: يا هذا، ما لك مطموراً في التراب ؟ قال الفخ: ذلك من التواضع لخلق الله ! قال: فمم كان انحناؤك ؟ قال الفخ: ذلك من طول عبادتي لله ! قال: فما هذه الحبة عندك ؟ قال الفخ: أعددتها لطيور الله الصائمين يفطرون عليها ! قال العصفور: فتبيحها لي ؟ قال: نعم.فتقدم المسكين إليها، فلما التقطها وقع الفخ في عنقه، فقال وهو يختنق: إن كان العباد يخنقون مثل هذا الخنق فقد خلق إبليس جديد.قال 'ن': فالحقيقة أن إبليس هو الذي تجدد ؛ ليصلح لزمن الآلات والمخترعات والعلوم والفنون وعصر السرعة والتحول ؛ وما دام الرقي مطرداً وهذا العقل الإنساني لا يقف عند غاية في تسخير الطبيعة، فسينتهي الأمر بتسخير إبليس نفسه مع الطبيعة ؛ لاستخراج كل ما فيه من الشر.قال 'م': ولكن العجب من إبليس هذا ؛ أتراه انقلب أوربياً للأوربيين ؟ وإلا فما باله يخرج مجددين من جبابرة العقل والخيال، ثم لا يؤتينا نحن إلا مجددين من جبابرة التقليد والحماقة ؟قال المحدث: فقلت لهما: أيها العجوزان القديمان، سأنشر قولكما هذا اليقرأه المجددون.قال الأستاذ 'م': وانشر يا بني أن الربيع - صاحب الإمام الشافعي، مر يوماً في أزقة مصر فنثرت على رأسه إجانة مملوءة رماداً، فنزل عن دابته وأخذ ينفض ثيابه ورأسه، فقيل له: ألا تزجرهم ؟ قال: من استحق النار وصولح بالرماد فليس له أن يغضب !. . .ثم قال محدثنا: واستولى علي العجوزان، ورأيت قولهما يعلو قولي، وكنت في السابعة والعشرين، وهي سن الحدة العقلية، فما حسبتني معهما إلا ثلث عجوز. .مما أثرا علي، وانقلبت لا أرى في المجددين إلا كل سقيم فاسد، واعتبرت كل واحد منهم بعلته، فإذا القول ما قال الشيخان، وإذا تحت كل رأي مريض مرض، ووراء كل اتجاه إبرة مغناطيسية طرقها إلي الشيطان. . . .وفرغنا من هذا، فقلت للشيخين: لقد حان وقت نزولكما من بين الغيوم أيها الفيلسوفان، أما كنتما في سنة 1895 من الجنس البشري. .؟^

تتمة

قال محدثنا: وكنت قد ضقت بهذه اللجاجة الفلسفية، ورأيتني مضطعنا على الشيخين معاً، فقلت العجوز 'ن': حدثني 'رحمك الله' بشيء من قديمكما، فأنتما اختصار لكل ما مر من الحياة يستدل به على أصله المطول إلا في الحب. .وما زلتما في جد الحديث تعبثان بي منذ اليوم، فقد عدلتما بي إلى شأنكما ورأيكما في القديم والجديد، وبقي أن أميل بكما ميلة إلى سنة 1895، وقد - والله - كاد ينتحر قلبي يأسا من خبر 'كاترينا ومرغريت' ؛ ولكأنك تخشي إذ أعلمتني خبر صاحبتك هذه وهي وراء أربعين سنة - ما تخافه من رجل سيفجؤك معها في الخلوة على حال من الربية فيأخذك 'متلبسا بالجريمة' كما تقولون في لغة المحاكم. . . .قال: فضحك العجوزان وقال 'ن': لا - والله - يا بني، ولكني أقول ما قال ذلك الحكيم العربي لقومه وقد بلغ مائتي سنة: 'قلبي مضغة من جسدي، ولا أظنه إلا قد نحل سائر جسدي'، واعلم يا بني أنه إذا ذهب الحب عن الشيخ بقي منه الحنان يعمل مثل عمله، فيحب العجوز مكانا أو شيئا أو معنى أي ذلك كان، ليعيده ذلك إلى الدنيا أو يبقيه فيها 'بقدر الإمكان'. . .فضحك الأستاذ 'م' وقال: ولعل ثرثرة العجوز 'ن' هي الآن معشوقة العجوز 'ن'.ثم قال: وكل شيء يرق في قلب الرجل الهرم ويحول وجهة كأنه لا يطبق أن ينظر إلى معناه الغليظ ؛ ولا بد أن يخرج العجوز من معاني الدنيا قبل أن يخرج من الدنيا ؛ ولهذا لا يهنأ الشيخ إلا إذا عاش بأفكار جسمه الحاضر، وقدر الأمور على ما هو فيه لا على ما كان فيه ؛ والفرف بين جسمه الحاضر وبين جسمه الماضي أن هذا الماضي كانت تحمل أعضاؤه، فهو مجتمع من أعمالها وشهواتها، ماضٍ في تحقيق وجودها ومعانيها ؛ أما الحاضر، أما الجسم الهرم، فهو يشعر أنه يحمل أعضاءه كلها ملفوفة في ثيابه كمتاع المسافر قبل السفر. .وكأن بعضها يسلم على بعض سلام الوداع يقول: تفارقني وأفارقك.فتململ الأستاذ 'م' وقال: أُفٍّ لك ولما تقول ! لا جرم أن هذه لغة عظامك التي لا صلابة فيها، فمن ذلك لا تجيء معانيك في الحياة إلا واهنة ناحلة فقدت أكثرها وبقي من كل شيء منها شيء عند النهاية ؛ أليس في الهرم إلا أن يبقى الجسم ليكون ظاهراً فقط كعمشوش العنقود بعد ذهاب الحب منه، يقول: كان هنا وكان هنا ؟ألا فاعلم يا 'ن' أن هذه الشيخوخة إنما هي غلبة روحانية الجسم على بشريته، فهذا طور الحياة لا تدعه الحياة إلا وفيه لذته وسروره كما تصنع بسائر أطوارها ؛ غير أن لذاته بين الروح والجمال، ومسراته بين العقل والطبيعة، وكل ما نقص من العمر وجب أن يكون زيادة في إدراك الروح وقوتها وشدتها ونورها ؛ قد قيل لبعض أهل هذا الشأن وكان في مرض موته: كيف تجد العلة ؟ فقال: سلوا العلة عني كيف تجدني.وإنما تثقل الشيخوخة على صاحبها إذا هي انتكست فيه وكانت مراغمة بينه وبين الحياة، فيطمع الشيخ فيما مضي ولا يزال يتعلق به ويتسخط على ذهابه وتصنع له ويتكلف أسبابه، وقد نسي أن الحياة ردته طفلاً كالطفل، أكبر سعادته في التوفيق بين نفسه وبين الأشياء الصغيرة البريئة، وأقوى لذته أن يتفق الجمال الذي في خياله والجمال والذي في الكون، وإنه لكما قلت أنت: لا يهنأ الشيخ إلا إذا عاش بأفكار جسمه الحاضر.وما أصدق وأحكم هذا الحديث الشريف: 'إن الله تعالى بعدله وقسطه جعل الروح والفرح في الرضى واليقين، وجعل الهم والحزن في الشك والسخط'.فهذه في قاعدة الحياة: لا تعاملك الحياة بما تملك من نفسك، وبذلك تكون السعادة في أشياء حقيقة ممكنة موجودة، بل تكون في كل ما أمكن وكل ما وجد ؛ وإذا كان الرضى هو الاتفاق بين النفس وصاحبها، وكان اليقين هو الاتفاق بين النفس وخالقها، فقد أصبح قانون السعادة شيئاً معنويّاً من فضيلة النفس وإيمانها وعقلها، ومن الأسرار التي فيها، لا شيئاً ماديّاً من أعضائها ومتاعها ودنياها والأخيلة المثقلة عليها.فأطرق العجوز 'ن' قليلاً ثم قال: { رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي }، ألا ما أحكم هذه الآية ! فوالله إن قرأت ولا قرأ الناس في تصوير الهرم الفاني أبدع منها ولا أدق ولا أوفى ؛ ألا تحس أن قائلها يكاد يسقط من عجف وهزال وإعياء ؛ وأنه ليس قائماً في الحياة قيامه فيها من قبل، وأن تناقض هذه الحياة قد وقع في جسمه فأخل به، وأن معاني التراب قد تعلقت بهذا الجسم تعمل فيها عملها، فأخذ يتفتت كأنما لمس القبر عظامه وهو حي، وأنه بهذا كله أوشك أن ينكسر انكسار العظم بلغ المبرد فيه آخر طبقاته ؟قال محدثنا: فقلت له: ترى لو أن نابغة من نوابغ التصوير في زمننا هذا تناول بفنه ذلك المعنى العجيب فكتبه صورة وألواناً، لا أحرفاً وكلمات، فكيف تراه كان يصنع ؟قال: كان يصنع هكذا: يرسم منظر الشتاء في سماء تعلق سحابها كثيفاً متراكباً بعضه على بعض يخيل أن السماء تدنو من الأرض، وقد سدت السحب الآفاق وأظلم الجو ظلامه تحت النهار المغطى، واستطارت بينها وشائع من البرق، ثم يترك من الشمس جانب الأفق لمعة كضوء الشمعة في فتق فن فتوق السحاب، ثم يرسل في الصورة ريحاً ياردة هو جاء يدل عليها انحناء الشجر وتقلب النبات، ثم يرسم رجالاً ونساء يغلي الشباب فيهم غليانه من قوة وعافية، وحب وصبابة، وتغلي فيهم أفكار أخرى. . .وهم جميعاً في هيئة المسرعين إلى مرقص ؛ وهم جميعاً من المجددين.ثم يرسم يا بني في آخرهم 'على بعد منهم' عمك العجوز 'ن'، يرسمه كما تراه منحل القوة منحني الصلب، مرعشاً متزلزلاً متضعضعاً ؛ قد زعزعته الريح، وضربه البرد، وخنقته السحب ؛ وله وجه عليه ذبول الدنيا، ينبئ أن دمه قد وضع من جسمه في برادة، والكون كله من حوله ومن فوقه أسباب روماتيزم. .ثم يصوره وقد وقف هناك ساهماً كئيباً، رافعاً رأسه ينظر إلى السماء.قال المحدث: وضحكنا جميعاً، ثم قال الأستاذ 'م': لعمري إن هذه الحياة الآدمية كالآلة صاحبها مهندسها ؛ فإن صلحت واستقامت فمن علمه بها وحياطته لها، وإن فسدت واختلت فمن عبثه فيها وإهماله إياها، وليس على الطبيعة في ذلك سبيل لائمة ؛ والشيخ الضعيف ليس في هذه الدنيا إلا الصورة الهزلية لمفاسد شبابه وضعفه ولينه ودعته، تظهرها للدنيا ليسخر من يسخر ويتعظ من يتعظ.قال 'ن': أكذلك هو يا أستاذ ؟قال الأستاذ: بل هي الصورة الجدبة من هذه الباطلة التي دأبها ألا تصرح عن حقيقتها إلا في الآخر، فتظهرها الدنيا ليجل الحقيقة من يجلها ؛ وليس إلا بهذه الطريقة يعرف من خراب الصورة خراب المعنى.قال العجوز 'ن': آه من إجلال الشيخوخة واحترام الناس إياها ! إنهم يرونه احتراماً للشيخ والشيخ لا يراه إلا تعزية، وما الأشياخ الهرمي إلا جنازات قبل وقتها، لا توحي إلى الناس شيئاً غير وحي الجنازة من مهابة وخشوع.قال الأستاذ: بل هي الصورة الجدية من هذه الباطلة التي دأبها ألا تصرح عن حقيقتها إلا في الآخر، فتظهرها الدنيا ليجل الحقيقة من يجلها ؛ وليس إلا بهذه الطريقة يعرف من خراب الصورة خراب المعنى.قال العجوز 'ن': آه من إجلال الشيخوخة واحترام الناس إياها إنهم يرونه احتراماً للشيخ والشيخ لا يراه إلا تعزية.وما الأشياخ الهرمى إلا جنازات قبل وقتها، لا توحي إلى الناس شيئاً غير وحي الجنازة من مهابة وخشوع.قال الأستاذ: إنما أنت دائماً في حديث نفسك، ولو كنت نهراً يا مستنقع لما كان في لغتك هذه الأحرف من البعوض.قال العجوز الظريف: إن هذا ليس من كلام الفلسفة التي نتنازعها بيننا، ترد علي وأرد عليك، ولكنه كلام القانون الذي لك وحدك أن تتكلم به أيها القاضي.قال 'م': صرح وبيِّن ؛ فما فهمنا شيئاً.قال العجوز: هذا كلام قلته قديماً في حادثة عجيبة، فقد رفعت إلي ذات يوم قضية شيخ هرم كان قد سرق دجاجة ؛ وتوسمته فإذا هو من أذكى الناس، وإذا هو يجل عن موضعه من التهمة، ولكن صح عندي أنه قد سرق، وقامت البينة عليه ووجب الحكم ؛ فقلت له: أيها الشيخ، ما تستحي وأنت شائب أن تكون لصاً ؟قال: يا سيدي القاضي، كأنك تقول لي: ما تستحي أن تجوع ؟فورد علي من جوابه ما حيرني، فقلت له: وإذا جعلت أما تستحي أن تسرق ؟ قال: يا سيدي القاضي، كأنك تقول لي: وإذا جعلت أما تستحيي أن تأكل ؟فكانت هذه أشد علي، فقلت له: وإذا أكلت أما تأكل إلا حراماً ؟فقال: يا سيدي القاضي، إنك إذا نظرت إلي محتاجاً لا أجد شيئاً، لم ترني سارقاً حين وجدت شيئاً.فأقحمني الرجل على جهله وسذاجته، وقلت في نفسي: لو سرق أفلاطون لكان مثل هذا ؟ فتركت الكلام بالفلسفة وتكلمت بالقانون الذي لا يملك الرجل معه قولاً يراجعني به، فقلت: ولكنك جئت إلى هذه المحكمة بالسرقة، فلا تذهب من هذه المحكمة إلا بالحبس سنتين.قال محدثنا: وأرمضني هذا العجوز الثرثار وملأ صدري، إذ ما برح يديرني وأديره عن 'كاترينا ومرغريت'، ورأيت كل شيء قد هرم فيه إلا لسانه، فحملني الضجر والطيش على أن قلت له: وهب القضية كانت هي قضية 'كاترينا' وقد رفعت إليك متهمة، أفكنت قائلاً لها: جئت إلى المحكمة بالسرقة فلا تذهبين من المحكمة إلا بالحبس سنتين ؟وجرت الكلمة على لساني وما ألقيت لها بالاً ولا عرفت لها خطراً ؛ فاكفهر القاضي العجوز وتربد وجهه غضباً، وقال: يا بغيض ! أحسبتني كنت قائلاً لها: جئت إلى المحكمة بالسرقة فلا تذهبين من المحكمة إلا بالقاضي. . .؟وغضب الأستاذ 'م': وقال: ويحك ! أهذا من أدبكم الجديد الذي تأديتم به على أساتذة منهم الفجرة الذين يكذبون الأنبياء ولا يؤمنون إلا بدين الغريزة ويسوغونكم مذاهب الحمير والبغال في حرية الدم. .؟ أما إني لأعلم أنكم نشأتم على حرية الرأي، ولكن الكلمة بين اثنين لا تكون حرة كل الحرية إلا وهي أحياناً سفيهة كل السفاهة، كهذه القولة التي نطقت بها.لقد كان الناس في زمننا الماضي أناساً على حدة، وكانت الآداب حالات عقلية ثابتة لا تتغير ولا يجوز أن تتغير، وكان الأستاذ الكافر بينه وبين نفسه لا يكون مع تلاميذه إلا كالمومس ؛ تجهد أن تربي بنتا على غير طريقتها !قال المحدث: فلجلجت وذهبت أعتذر، ولكن العجوز 'ن' قطع علي وأنشأ يقول وقد انفجر غيظه: لقد تمت في هؤلاء صنعة حرية الفكر، كما تمت من قبل في ذلك الواعظ المعلم القديم الذي حدثوا عنه أنه كان يقص على الناس في المسجد كل أربعاء فيعلمهم أمور دينهم ويعظهم ويحذرهم ويذكرهم الله وجنته وناره ؛ قالوا: فاحتبس عليهم في بعض الأيام وطال انتظارهم له، فبينما هم كذلك إذ جاءهم رسوله فقال: يقول لكم أبو كعب: انصرفوا قد أصبحت مخموراً. . .هذا القاص المخمور هو عند هؤلاء السخفاء إمام في مذهب حرية الفكر، وفضيلته عندهم أنه صريح غير منافق. . .وكان يكون هذا قولاً في إمام المسجد لولا أنه إمام المسجد ؛ غير أن حرية الفكر تبنى دائماً في كل ما تبنى على غير الأصل، وعندها أن المنطق الذي موضوعه ما يجب، ليس بالمنطق الصحيح ؛ إذ لا يجب شيء ما دام مذهبها الإطلاق والحرية.كل مفتون من هؤلاء يتوهم أن العالم لا بد أن يمر من تفكيره كما مر من إرادة الخالق، وأنه لا بد له أن يحكم على الأشياء ولو بكلمة سخيفة تجعله يحكم، ولا بد أن يقول 'كن وإن لم يكن إلا جهله ؛ ومذهبه الأخلاقي: اطلب أنت القوة للمجموع، أما أنا فألتمس لنفسي المنفعة واللذة ! ويحسبون أنهم يحملون المجتمع، فإنهم ليحملونه، ولكن على طريقة البراغيث في جناح النسر.قال 'م': وكيف ذلك ؟قال: زعموا أن طائفة من البراغيث اتصلت بجناح نسر عظيم واستمرأته ورتعت فيه، فصابرها النسر زمناً، ثم تأذى بها وأراد أن يرميها عنه، فطفق يخفق بجناحيه يريد نفضها، فقالت له البراغيث: أيها النسر الأحمق ! أما تعلم أننا في جناحيك لنحملك في الجو ؟. .أما أساتذة هذه الحرية الدينية الفكرية الأدبية، فقد قال الحكماء: إن بعرة من البعر كانت معلمة في مدرسة.قال 'م': وكيف ذلك ؟قال: زعموا أن بعرة كبش كانت معلمة في مدرسة الحصى، فألفت لتلاميذها كتاباً أحكمته وأطالت له الفكرة، وبلغت فيه جهد ما تقدر عليه لتظهر عبقريتها الجبارة ؛ فكان الباب الأكبر فيه أن الجبل خرافة من الخرافات، لا يسوغ في العقل الحر إلا هذا، ولا يصح غير هذا في المنطق ؛ قالت: والبرهان على ذلك أنهم يزعمون أن الجبل شيء عظيم، يكون في قدر الكبش الكبير ألف ألف مرة ؛ فإذا كان الجبل في قدر الكبش ألف ألف مرة فكيف يمكن أن يبعره الكبش ؟. . . .قال الأستاذ 'م': هذا منطق جديد سديد لولا أنه منطق بعرة !قال 'ن': وكل قديم له عندهم جديد، فكلمة 'رجل' قد تخنثت، وكلمة 'شاب' قد تأنثت، وكلمة 'عفيفة' قد تدنست، وكلمة 'حياء' قد تنجست ؛ والزمن الجديد ألا يعرف الطالب في هذا العام ماذا تكون أخلاقه في العام القادم. .والحياة الجديدة أن تتقن الغش أكثر مما تتقن العمل. .والذمة الجديدة أن مال غيرك لا يسمى مالاً إلا حين يصير في يدك. .والصدق الجديد أن تكذب مائة مرة، فعسى أن يصدق الناس منها مرة. .ثم الإنسان الجديد، والحب الجديد، والمرأة الجديدة، والأدب الجديد، والدين الجديد، والأب الجديد، والابن الجديد، وما أدري وما لا أدري.قالوا: السوبرمان، وتنطعوا في إخراج المخلوق الكامل بغير دينه وأخلاقه، فسخرت منهم الطبيعة فلم تخرج إلا الناقص أفحش النقص، وتركتهم يعملون في النظرية وعملت هي الحقيقة.قال محدثنا: ونهض العجوز 'ن' وهو يقول: تباركت وتعاليت يا خالق هذا الخلق ! لو فهموا عنك لفهموا الحكمة في أنك قد فتحت على العلم الجديد بالغازات السامة. . .قال: ولما انصرف العجوز، قلت للأستاذ 'م': ولكن ما خبر 'كاترينا' و 'مرغريت' وسنة 1895 ؟فقال: أيها الأبله، أما أدركت بعد أن العجوزين قد سخرا منك بأسلوب جديد. .^

شارك هذه الصفحة:

تابع موسوعة الأدب العربي على شبكات التواصل الإجتماعي