وحي القلم/الإنسانية العليا

من موسوعة الأدب العربي
اذهب إلى:تصفح، ابحث

الإنسانية العليا

الإنسانية العليا - وحي القلم

الإنسانية العليا

من أوصاف النبي صلى الله عليه وسلم إنه كان متواصل الأحزان، دائم الفكرة، ليست له راحة، طويل السكت، لا يتكلم في غير حاجة، ليس بالجافي ولا المهين، يعظم النعمة وإن دقت لا يذم منها شيئا، ولا تغضبه الدنيا ولا ما كان لها، فإذا تعدى الحق لم يقم لغضبه شيء حتى ينتصر له، ولا يغضب لنفسه ولا ينتصر لها ؛ وكان خافض الطرف، نظره إلى الأرض أطول من نظره إلى السماء، من رآه بديهة هابه، ومن خالطه معرفة أحبه ولا يحسب جليسه أن أحدا أكرم عليه منه، ولا يطوي عن أحد من الناس بشره، قد وسع الناس بسطه وخلقه، فصار لهم أبا، وصاروا عنده في الحق سواء ؛ يحسن الحسن ويقويه، ويقبح القبيح ويوهيه، معتدل الأمر غير مختلف ؛ وكان أشد الناس حياء، لا يثبت بصره في وجه أحد، له نور يعلوه كأن الشمس تجري في وجهه، لا يؤيس راجيه، ولا يخيب عافيه، ومن سأله حاجة لم يرده إلا بها أو بميسور من القول ؛ أجود الناس بالخير.صلى الله وسلم على صاحب هذه الصفات التي لا يجد الكمال الإنساني مذهبا عنها ولا عن شيء منها، ولا يجد النقص البشري مساغا إليها ولا إلى شيء منها ؛ ففيها المعنى التام للإنسانية، كما أن فيها المعنى التام للحق، ومن اجتماع هذين يكون فيها المعنى التام للإيمان.هي صفات إنسانها العظيم، وقد اجتمعت له لتأخذ عنه الحياة إنسانيتها العالية ؛ فهي بذلك من برهانات نبوته ورسالته.ولو جمعت كل أوصافه صلى الله عليه وسلم ونظمتها بعضها إلى بعض، واعتبرتها بأسرارها العلمية لرأيت منها كونا معنويا دقيقا قائما بهذا الإنسان الأعظم، كما يقوم هذا الكون الكبير بسننه وأصول الحكمة فيه، ولأيقنت أن هذا النبي الكريم إن هو إلا معجم نفسي حي ألفته الحكمة الإلهية بعلم من علمها، وقوة من قوتها، لتتخرج به الأمة التي تبدع العالم إبداعا جديداً، وتنشئه النشأة المحفوظة له في أطوار كماله.ولن ترى في الإنسانية أسمى من اجتماع هذه الصفات بعضها إلى بعض وإني لأكاد كلما تأملتها أحسب هذا السمو قضاء وقدراً بإنسان على الإنسانية كلها.وهي دليل على أنه الإنسان الذي خلق للدنيا لا لنفسه ؛ فهو لا ينمو بما يكون على الناس من الحق، ولكن بما يكون للناس عليه من الواجبات، كأنما هو حقيقة كونية تعيش عيشها، فما تكون في الوجود إلا لتقرر وجودها هي، ولا تنتهي حين تنتهي بذاتها إلا لتبدأ معانيها في غيرها، فهو صلى الله عليه وسلم إنسان غرس في التاريخ غرسا ليكون حدا لزمن وأولا لزمن بعده، وما كانت حياته تلك إلا طريقة غرسه، وهو أبداً قائم في مكانه الاجتماعي، إذ كان الزمن كلما تقدم زاد في إثباته، وقد أصبح في الدنيا كأنه جهة من الجهات لا إنسان من الناس، فلن يتغير أو يمحى إلا إذا تغير أو محي المشرق والمغرب.ونحن حين نقرأ تلك الصفات وما فاضت به كتب الشمائل من أمثالها، لا نقرؤها أوصافا ولا حلية، بل نراها صفحة إلهية مصنفة أبدع تصنيف وأدقه، ومن وراء تأليفها تفسير طويل لا يهتدي الفكر البشري لأحسن منه ولا أصح ولا أكمل ؛ فقد اجتمعت تلك الصفات في إنسانها اجتماع الأجزاء في المسألة الرياضية، لا ينبغي أن تزيد أو تنقص، إذ كان في مجموعها ما وجد له مجموعها.ويكاد الارتباط بين أجزاء المسألة يكون هو بعينه صورة للارتباط بين أجزاء تلك الصفات الشريفة ؛ فإن كل جزء منها موضوع وضعا لا يتم الكل إلا به، حتى لا موضع فيها لقلة أو كثرة ؛ وهذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم: 'أدبني ربي فأحسن تأديبي'، وأنت إذا دققت في هذا الحديث أدركت من معناته أن هناك طبيعة أخلاقية مفردة تجرى على قانونها الذي وضعه الله لها وأحكمها به.وأعجب ما يدهشنا من مجموع صفاته صلى الله عليه وسلم أن فيها دليلاً بينا على أنه مخلوق خلقة متميزة بنفسها، كخلقة القلب الإنساني: نظامه حياته وحياته نظامه، وكأنما اعترته حالة نفسية كالتي تعتري القلب في استشعار الخطر فتخرجه من طبيعته إلى أقوى منها، فلا يزال يمد أعضاء الجسم بمدد لا ينفد من القوة والصبر، يجعل الحياة فيها على أضعافها كأنها حياة كانت مخبوءة وظهرت بغتة ؛ وفي هذه الحالة تتجه غرائز النفس كلها إلى جهة واحدة كأنها مقدرة بميزان، مضبوطة بقياس ؛ فترجع على تناقضها واختلافها متعاونة يؤازر بعضها بعضا، وكان قانونها الطبيعي أن تتجاذب وتتساقط وتفسر الواحدة منها عمل الأخرى، فيجيء بها الشيء وضده معا: كالصدق والكذب، والطمع والقناعة، والشهوات الثائرة والخمود الساكن، إلى آخر ما تعد من هذه الغرائز ؛ ولكنها في استعشار الخطر تكون كالأشباه لا كالأضداد، فيشد بعضها بعضا، ويتم النقيض منها نقيضه، وتجري كلها في قانون واحد: هو الدفاع بأجزائها عن مجموعها ؛ فترى النازع منها وإنه لمستقر في أشد من القيد، وكأن فيه غير طبيعته.وهل ينبئك مجموع صفاته صلى الله عليه وسلم إلا أنه يعيش معيشة القلب إذا اختلف ما حوله وفجأته بغتات الوجود فتجاوز أن يكون منبعا للحياة إلى أن يكون حافظا للحياة في منبعها ؟وتلك الحالة - كما مر بك - تجعل وجود الإنسان هو وجود إرادته وعقله، لا وجود شهواته وغرائزه ؛ وكذلك عاش نبينا صلى الله عليه وسلم فهو مدة حياته في وجود إرادته لا غيرها، حتى ليس عليه سبيل لغميزة أو لائمة، كأنه خلق تشده نية مستيقظة قد نبهها ما ينبه النفس من الغرر والخطر، ولعل هذا الشعور في نفسه صلى الله عليه وسلم هو التفسير لقوله: 'نية المؤمن خير من عمله'.إلى أحاديث كثيرة مما يجري في معنى هذه الكلمة الجامعة ؛ يريد بها: أن نية المؤمن لا تنطوي إلا على الخير الكامل، فهو - ما دامت نيته على صلاحها وسره على إخلاصه - لا يعد اليسير من الشر يسيرا، ولا يرى الكثير من الخير كثيراً ؛ فالأصل القائم في تلك النية المؤمنة ألا يبدأ الشر كي لا يوجد، وألا ينتهي الخير كي لا يفنى ؛ فالمؤمن من ذلك على الخير والكمال أبداً، في حين أن عمله بطبيعته الإنسانية يتناول الخير والشر جميعا، ثم لا يكون إلا عملا إنسانيا على نقص واضطراب والتواء.وقد لا يستطيع المؤمن أن يأتي الخير في بعض أحواله، ولكنه يستطيع دائما أن ينويه ويرغب فيه ويعزم عليه، ليحقق ضميره في كل ما يهم به ؛ ويحصر أفكاره في قانون نيته المؤمنة.وهذا هو الأساس في علم الأخلاق، لا أساس من دونه.والنية من بعد هي حارس العمل ؛ فكل إنسان يستطيع أن يذعن وأن يأبى، ومن ثم تكون هذه النية ردا ومدافعة من ناحية، واستجابة ومطاوعة من الناحية الأخرى ؛ فهي على الحقيقة متى صلحت كانت استقلالا تاما للإرادة، وكانت مع ذلك ضبطا لهذه الإرادة على حال واحدة هي التي ينتظم بها قانون المبدأ السامي.ثم إنه لا ضابط لصحة العمل واستقامته إلا النية الصحيحة المستقيمة ؛ فالتزوير والتلبيس كلاهما سهل ميسور في الأعمال، ولكنهما مستحيلان في النية إذا خلصت.وهي كذلك ضابط للفضائل توجه القلوب على اختلافها وتفاوتها اتجاها واحداً لا يختلف ؛ فيكون طريق ما بين الإنسان والإنسان، من ناحية الطريق ما بين الإنسان وبين الله.وأشواق الروح بطبيعتها لا تنتهي، فيعارضها الجسم بجعل حاجاته غير منتهية ؛ يحاول أن يطمس بهذه على تلك، وأن يغلب الحيوانية على الروحانية، فإذا كانت النية مستيقظة كفته وأماتت أكثر نزعاته، ووضعت لكل حاجة حدا ونهاية ؛ وبذلك تجرع النية إلى أن تكون قوة في النفس يخرج بها الإنسان عن كثير مما يحده من جسمه، ليخرج بذلك عن كثير مما يحده من معاني الأرض.وهي بعد هذا كله تحمل الإنسان أن ينظر إلى واجبه كأنه رقيب حي في قلبه، لا يرائيه ولا يجامله، ولا يخدع من تأويل، ولا يغر بفلسفة ولا تزيين، ولا يسكته ما تسول النفس، ولا يزال دائما يقول للإنسان في قلبه: إن الخطأ أكبر الخطأ أن تنظم الحياة من حولك وتترك الفوضى في قلبك.وجملة القول في معاني النية أنها قوة تجعل باطن الجسم متساوقا مع ظاهره، فتتعاون الغرائز المختلفة في النفس تعاونا سهلا طبيعيا مطردا، كما تتعاون أعضاء الجسم على اختلافها في اطراد وسهولة وطبيعة.وكل صفات النبي صلى الله عليه وسلم - مما ذكرناه وما لم نذكره - متى اعتبرت بذلك الأصل الذي بيناه انتظمها جميعا، فجاء بعضها تماماً على بعض في نسق رياضي عجيب، وظهرت حكمة كل منهما واضحة مكشوفة، ورأيتها في مجموعها تصف لك عمرا هندسيا دقيقا قد بلغ الغاية من الكمال والروعة والدقة، لا يعد جزء منه جزءاً، بل كله أجزاؤه، وأجزاؤه كله ؛ كالوضع الهندسي: إما أن يكون بكله، وإما ألا تكون فيه الهندسة كلها.وليس مجموع تلك الصفات في معناه إلا صنعة الإنسان صنعة جديدة تخرجه موجوداً من ذات نفسه، وتكسرت القالب الأرضي الذي صب فيه وتفرغه في مثل قالب الكون، فإذا هو غير هذا الإنسان الضيق المنحصر في جسمه ودواعي جسمه، فلا تخضعه المادة، ولا يؤتى من سوء نظره لنفسه، ولا تغره الدنيا، ولا يمسكه الزمان ؛ إذ كانت هذه هي صفات المستعبد بأهوائه لا الحر فيها، والخاضع بنفسه لا المستقبل بها، والمقبور في إنسانيته لا الحي فوق إنسانيته، ومثل هذا المستعبد الخاضع المقبور لا وجود له إلا في حكم حواسه، فعمله ما يعيش به لا ما يعيش من أجله، ويتصل بكل شيء اتصالا مبتوراً ينتهي في هوى من أهواء الحيوان الذي فيه.ومن المقابلة العجيبة أن يكون في الإنسان الاجتماعي حيوان، تقابله الحكمة في الحيوان الأليف بإنسان، وحكمها واحد ومنطقهما لا يختلف.فلو أنك سألت حيوان الأعصاب عن صاحبه الإنسان لقال لك: هو غلتي ومزرعتي.ولو سألت كلبا عن حبه صاحبه ومبلغ هذا الحب في نفسه لما زاد في جوابه على أنه يحبه حب اللقمة والعظمة.ومتى كان الإنسان في حكم حواسه لم تعد الأشياء عنده كما هي في نفسها بمعانيها الطبيعية المحدودة، وانقلبت كما هي في وهمه بمعان متفاوتة مضطربة، فلا يشعر المرء بائتلاف الوجود وتعاونه، ولكن باختلافه وتناقضه، فمن ثم لا تكون أسباب اللذة إلا من أسباب الإثم، ويدخل في كل حب بغض، وفي كل رغبة طمع، وفي كل خير شر، وفي كل صريح خبيء، وهلم جرا، إذ لا بد من هذا كله متى غلب الفاني على الباقي، ولا بد من كل هذا في تمثيل رواية الحواس الخادعة التي أساسها التغير والتقلب، حتى لكأن النفس غنما تعيش بها في ظاهر من الحياة لا في الحياة نفسها.وهذا الخداع جاعل كل شيء من أشياء النفس لا يبدأ إلا لينتهي، ثم لا ينتهي إلا ليبدأ ؛ فما تزال هذه النفس طامعة فيما لا تناله، ولا يزال من ذلك مصدر لآلامها الحسية ؛ ثم إذا هي نالت منالتها سئمت، فلا يزال من ذلك مصدر آخر لآلامها المعنوية، ولن يجيء الصحيح من غير الصحيح، فالكون كله ليس إلا كذبا في النفس الكاذبة بحواسها.ولذا كان أخص أوصافه صلى الله عليه وسلم راجعا إلى خروجه من سلطان نفسه، فلا يغضب لها، ولا يطلقها من الدنيا فيما تذمه أو تمدحه، ولا يحب فيها، ولا يبغض من أجلها، ولا يهاونها، ولا يستلين لها في مأكل وملبس، ولا يأخذها إلا من ناحية الإيمان بالله والإيمان بالإنسانية ؛ فأفراحها أحزانها، وآمالها أشواقها، وأملاكها أعمالها، وحسابها في طبيعتها، وحوادثها من العقل لا من الحواس، وعظمتها إثبات ذاتها في غيرها، لا إثبات غيرها في ذاتها، وغايتها في الباقي لا الزائل، وفي الخالد لا الفاني، وما دام الحاضر متحركا فهو طارئ عابر أوشك أمور الدنيا زوالاً، والعمل له على مقداره في قلة لبثه وهوان أمره، والاهتمام أبداً بما وراءه لا به.فأول النفس النية العاملة لآخرتها، وآخر النفس ما تؤدي إليه أعمال هذه النية ؛ فليس في إنسان الدنيا إلا إنسان العالم الآخر، وبهذا يقدر صمته وكلامه، وحركته وسكونه، وما يأتي وما يدع، وما يحب وما يكره، إذ كل شيء منه على ذلك الاعتبار إنما هو صورة الحقيقة العاملة فيه.وجماع الأمر ألا يكون مستقبل الإنسان علامة استهزاء بجانب ماضيه، ولا علامة استفهام، ولا علامة إنكار.وتدل صفات النبي صلى الله عليه وسلم باجتماعها وتساوقها على حقيقة عظمى لم يتنبه إليها أحد ؛ وهي أن جميع خصائصه النفسية مرهفة متيقظة، وهذا مما يندر وقوعه وإمكانه ؛ فإن الرجل من الناس ليكون حيا بالحياة، ولكن جوانب كثيرة من نفسه قد طاح بها الموت، أو هي مريضة وذلك أول الموت ؛ أو غافلة وذلك شبه الموت ؛ أما الحي العظيم فهو الذي يحيا بأكثر خصائص نفسه، وأما الحي الأعظم فهو الذي يحيا بجميع خصائصها، تملؤه الحياة فيملأ الحياة، ويتمدد السر فيه ليريه حقائق الأشياء ويهديه ويدله، فيكون بنفسه رؤية للناس وهداية ودلالة ؛ ومثل هذا يعظم ثم يعظم حتى ليرى الفرق بينه وبين غيره كالفرق بين نور لبس اللحم والدم، وبين تراب لبس الدم واللحم.وذلك لا يكاد يتفق إلا في مراتب أعلاها الامتياز في النبوة، ثم تدنو إلى النبوة ؛ ثم تنزل إلى الامتياز في الحكمة ؛ ثم تهبط إلى عبقرية الشعر.فأكبر الشعراء قاطبة كالنبي في معناه إلا أنه نبي صغير، وإلا أنه في حدود قلبه.وهذه القوى الثلاث هي التي أبدعتها الحكمة الإلهية لتحويل الحياة والسمو بها ؛ فالشاعر يستوحي الجمال إذا تأله الجمال في قلبه، والحكيم يستوحي الحقيقة إذا تألهت في نفسه، والنبي يستوحي الألوهية نفسها.'كان صلى الله عليه وسلم متواصل الأحزان' ولكنها أحزان النبوة تكسو الحياة فرح النفس الكبيرة ؛ وهو فرح كله حزن وتأمل، وفكرة وخشوع، وطهر وفضيلة ؛ وما فرح أعظم الشعراء بطرب الوجود وجمال الموجودات إلا شيء قليل من حزن النبي.'وكان دائم الفكرة ليست له راحة' إذ هو مكلف أن يصنع الإنسان الجديد وينفخ الآدمية فيه.وفكرة النبي هي معيشته بنفسه مع الحقائق العليا، إذ لا يرى أكثرها تعيش في الناس، وهي الفردية واستقلالها وسموها ؛ لأنها إطاقة النفس الكبيرة لوحدتها، بخلاف الأنفس الضعيفة التي لا تطيقها، فدأبها أبداً أن تبحث عما تستعبد له، أو تنسى ذاتها فيه، أو تستريح إليه من ذاتها.ومتى كانت النفس فارغة كان تفكيرها مضاعفة لفراغها، فهي تفر منه إلى ما يلهيها عنه ؛ ولكن العظيم يعيش في امتلاء نفسه ؛ وعالمه الداخلي تسميه اللغة أحيانا: الفكرة ؛ وتسميه أحيانا: الصمت.'وكان صلى الله عليه وسلم طويل السكت لا يتكلم في غير حاجة' ومن الصمت أنواع: فنوع يكون طريقة من طرق الفهم بين المرء وبين أسرار ما يحيط به ؛ ونوع يغشى الإنسان العظيم ليكون علامة على رهبة السر الذي في نفسه العظيمة ؛ ونوع ثالث يكون في صاحبه طريقة من طرق الحكم على صمت الناس وكلامهم ؛ ونوع رابع هو كالفصل بين أعمال الجسد وبين الروح في ساعة أعمالها ؛ ونوع خامس يكون صمتا على دوي تحته يشبه نوماً ساكناً على أحلام جميلة تتحرك.على هذا النمط يجب أن تفسر كل أوصافه صلى الله عليه وسلم، فهي بمجموعها طابع إلهي على حياته الشريفة، يثبت للدنيا بكل برهانات العلم والفلسفة أنه الإنسان الأفضل، وأنه الأقدر، وأنه الأقوى.^

في المصلح الاجتماعي الأعظم

كان النبي صلى الله عليه وسلم على ما يصف التاريخ من الفقر والقلة، ولكنه كان بطبيعته فوق الاستغناء، فهو فقير لا يجوز أن يوصف بالفقر، ولا تناله المعاني النفسية التي تعلو بعرض من الدنيا وتنزل بعرض، فما كانت به خلة تحدث هدما في الحياة فيرممها المال، ولا كان يتحرك في سعي ينفق فيه من نفسه الكبيرة ليجمع من الدنيا، ولا كان يتقلب بين البعيد والقريب من طمع أدرك أو طمع أخفق، ولا نظر لنفسه في الحسبة والتدبير ليتدبر معيشته فيختلبها ذهباً أو فضة، ولا استقر في قلبه العظيم ما يجعل للدينار معنى الدينار ولا للدرهم معنى الدرهم ؛ فإن المعنى الحي لهذا المال هو إظهار النفس رابية متجسمة في صورة تكبر في قدر من السعة والغنى ؛ والمعنى الحي للفقر من المال هو إبراز النفس ضئيلة منزوية في صورة تصغر على قدر من الضيق والعسرة.إن فقره صلى الله عليه وسلم كان من أنه يتسع في الكون لا في المال، فهو فقر يعد من معجزاته الكبرى التي لم يتنبه إليها أحد إلى الآن، وهو خاص به ومن أين تدبرته رأيته في حقيقة معجزة تواضعت وغيرت اسمها، معجزة فيها الحقائق النفسية والاجتماعية الكبرى، وقد سبقت زمنها بأربعة عشر قرنا، وهي اليوم تثبت بالبرهان معنى قوله صلى الله عليه وسلم في صفة نفسه: 'إنما أنا رحمة مهداة'.نحن في عصر تكاد الفضيلة الإنسانية فيه تلحق بالألفاظ التاريخية التي تدل على ما كان قديماً، بل عادت كلمة من كلمات الشعر تراد لتحريك النسيم اللغوي الراكد في الخيال، كما تقول: السحاب الأزرق، والفجر الأبيض، والشفق الأحمر، والتطاريف الوردية على ذيل الشمس.وأصبح الناس ينظر أكثرهم إلى أكثرهم بأعين فيها معنى وحشي لو لمس لضرب أو طعن أو ذبح.وعملت المدنية أعمالها فلم تزد على أن أخرجت الشكل الشعري لإنسانها الفني متهافتا ترفا، ونعمة، وافتتانا بين ذلك من أيسر الحلال إلى الفظيع المتفاحش في الإباحة ؛ فكأنما وضعت المدنية عقلا في وحش، فجاء وقد زاغت فيه الطبيعة من ناحيتين ؛ ثم قابلته بالشكل الوحشي لإنسانها الفقير، فكأنما نزعت عقلا من إنسان، فجاء وقد ضلت فيه الطبيعة من ناحيتين ؛ وكان مع الأول سرف الهوى بالطبيعة، وكان مع الثاني بالطبيعة سرف الحماقة.وقد أصبح من تهكم الحياة بأهلها أن يكون الفقير فقيراً وهو يعلم أن صناعته في المدنية عمل الغني للأغنياء. . .وأن يكون الغني غنيا وهو يعلم أن عمله في المدنية هو صنعة الفقر لضميره !وخرجت من هذا وذاك مسائل جديدة في فلسفة المعايشة الإنسانية التي يسمونها 'الاجتماع' ؛ إلى أسئلة كثيرة لو ذهبنا نعدها ونصفها لطال بنا القول، وكلها عاملة على نزع الشعور العقلي من الحياة لتظهر أسخف مما هي، وأقبح ممن كانت ؛ حتى أصبحت الشمس تطلع تمحو ليلا عن المادة وتلقى ليلا على النفس، في حين أن الدين والإنسانية لا يعملان غير بث هذا النور العقلي في الأشياء والمعاني لتظهر الحياة مضيئة ملتمعة، فتصبح أوضح مما هي في نفسه، وأجمل مما هي في الطبيعة.في مثل هذه النزعات المتقاتلة التي صعدت بالفلسفة ونزلت، وجعلت من العلم في صدر الإنسانية ملء سماء من الغيوم بسوادها ورعدها وصواعقها، وتركت العالم يضج ضجيجه المزعج في قلب كل حي حتى لتذاع الهموم إلى قلوب الناس إذاعة الأصوات إلى أسماعهم في 'الراديو'. . .في مثل هذا البلاء الماحق تتلفت الإنسانية إلى التاريخ تسأله درسا من الكمال الإنساني القديم تطب منه لهذه الحماقات الجديدة، ولو علمت لعلمت أن درس هذا العصر في علاج مشاكله الإنسانية هو 'محمد' صلى الله عليه وسلم، الذي لن يبلغ أحد في وصفه الاجتماعي ما بلغ هو في قوله: 'إنما أنا رحمة مهداة'.هذا المصلح الاجتماعي الأعظم يلقى فقره اليوم درسا على الدنيا العلمية الفلسفية، لا من كتاب ولا فكر، ولكن بأخلاقه وعمله وسيرته ؛ إذ ليس المصلح من فكر وكتب، ووعظ وخطب، ولكنه الحي العظيم الذي تلتمسه الفكرة العظيمة لتحيا فيه، وتجعل له عمرا ذهنيا يكون مصرفا على حكمها، فيكون تاريخه ووصفه هو وصف هذه الفكرة وتاريخها.وما كان محمد صلى الله عليه وسلم إلا عمرا ذهنيا محضا، تمر فيه المعاني الإلهية لتظهر للناس إلهية مفسرة، وكل حياته صلى الله عليه وسلم دروس مفننة مختلفة المعاني، ولكنها في جملتها تخاطب الإنسان على الدهر بهذه الجملة: أيها الحي، إذا كانت الحياة هنا فلا تكن أنت هناك ؛ أي إذا كانت الحياة في الحقيقة فلا تكن أنت في الكذب، وإذا كانت الحياة في الرجولة البصيرة فلا تكن أنت في الطفولة النزقة، فإن الرجل يعرف ويدرك، فهو بذلك وراء الحقيقي ؛ ولكن الطفل يجهل ولا يعرف الدنيا إلا بعينه، فهو وراء الوهم، ومن ثم طيشه ونزقه، وإيثاره كل عاجل وإن قل، وعمله أن تكون حياته النفسية الضئيلة في مثل توثب أعضاء جسمه، حتى كأنه يلعب بظاهره وباطنه معا.أيها الحي، إذا كانت الحياة هنا فلا تكن أنت هناك ؛ أي الحياة في ذاتك الداخلية وقانون كمالها، فإذا استطعت أن تخرج للأرض معنى سماويا من ذاتك فهذا هو الجديد دائما في الإنسانية، وأنت بذلك عائش في القريب القريب من الروح، وأنت به شيء إلهي ؛ وإذا لم تستطع وعشت في دمك وأعصابك فهذا هو القديم دائما في الحيوانية، وأنت بذلك عائش في البعيد البعيد من النفس، وأنت به شيء أرضى كالحجر والتراب.هنا: أي في الإرادة التي فيك وحدك.ولا هناك: أي في الخيال الذي هو في كل شيء، وهنا، في أخلاقك وفضائلك التي لا تدفعك إلى طريق من طرق الحياة إلا إذا كان هو بعينه طريقا من طرق الهداية والحكمة ؛ وليس هناك، في أموالك ومعايشك التي تجعلك كاللص مندفعا إلى كل طريق متى كان هو بعينه طريقا إلى نهبة أو سرقة.هنا، في الروح، إذ تشعر الروح أنها موجودة، ثم تعمل لتثبت أنها شاعرة بوجودها، ماضية إلى مصيرها، منتهية بجسدها إلى الموت الإنساني على سنة النفس الخالدة، وليس هناك في الحس، إذ يتعلق الحس بما يتقلب على الجسم، فهو مهتاج لشعوره بوشك فنائه فلا يحدث إلا الألم إن نال أو لم ينل، وهو منته بجسمه إلى الموت الحيواني بين آكل ومأكول على سنة الطبيعة الفانية.أيها الحي، إذا كانت الحياة هنا فلا تكن أنت هناك.إن الحكيم الذي ينظر إلى ما وراء الأشياء فيتعرف أسرارها، لا تكون له حياة الذي يتعلق بظاهرها ولا أخلاقه ولا نظرته ؛ هذا الأخير هو في نفسه شيء من الأشياء له مظهر المادة وخداعها عن الحقيقة ؛ وذلك الأول هو نفسه سر من الأسرار له روعة السر وكشفه عن الحقيقة، ولهذا كان في حياة الأنبياء والحكماء ما لا يطبقه الناس ولا يضبطونه إذا تكلفوه، بل ينخرق عليهم فيكون منه العجز والغلط، ويحدث من الغلط الزلل.ونظرة نبينا صلى الله عليه وسلم إلى هذا الوجود نظرة شاملة مدركة لحقيقة اللانهاية، فيرى بداية كل شيء مادي هي نهايته في التو واللحظة، فلا وجود له إلا عارضا مارا، فهو في اعتباره موجود غير موجود، مبتدئ منته معا ؛ وبذلك تبطل عنده الأشياء المادية وتأثيرها، فلا تتصل بنفسه العالية إلا من أضعف جهاتها، ويجد لها الناس في حياتهم الشجرة والفرع والثمرة، وما لها عنده هو جذر ولا فرع ؛ وبهذا لم يفتنه شيء ولم يتعلق به شيء.وكانت الدنيا تطول الناس وتتقاصر عنه، وكانت منقطعة النماء وهو ذاهب في نموه الروحي، وكأنما هو صورة أخرى من آدم 'عليه السلام' ؛ فكلاهما لمس بنفسه الحياة جديدة خالية مما جمع فيها الزمن وأهله من طمع وشره، وجاء آدم ليعطي الأرض ناسها من صلبه، وجاء محمد ليعطي الناس قوانينهم في فضائله ؛ فآدم بشخصه هو دنيا بعثت لتتسع، ومحمد بشخصه هو دنيا بعثت لتنتظم.وماذا يفهم من الفلسفة الأخلاقية النبوية العظيمة ؟ يفهم منها أن الشهوات خلقت مع الإنسان تتحكم فيه، لينقلب بها إنساناً يتحكم فيها ؛ وأن الإنسان الصحيح الذي لم تزوره الدنيا يجب أن يكون ذا روح يمتد فيفيض عن غايات جسمه إلى ما هو أعلى فأعلى حتى يصبح في حكم النور وانطلاقه وحريته، ولا ينكمش فيحصره جسمه في غاياته وضروراته فيرتد إلى ما هو أسفل أسفل حتى يعود في حكم التراب وأسره وعبوديته.فالفقر وما إليه، والزهد وما هو بسبيل منه، والانصراف عن الشهوات والرذائل كل ذلك إن هو إلا تراجع النفس العالية إلى ذاتها النورانية حالا بعد حال، وشيئا بعد شيء، لتضيء على المادة فتكشف حقائقها الصريحة فلا تباليها ولا تقيم لها وزناً.فبينما الناس يرون الأموال والشهوات مادة حياة وعمل وشعور، تراها هي مادة بحث ومعرفة واعتبار ليس غير ؛ وبهذا تكون النفس العظيمة في الدنيا كأستاذ المعمل، تدخل المادة إلى معمله وهي مادة وفكرة، وتخرج منه وهي حقيقة ومعرفة، وعلى أي أحوالها فهي إنما تحس في ذلك المعمل بأصابع علمية دقيقة ليس فيها الجمع ولا الحرص، ولكن فيها الذهن والفكر ؛ وليس لها طبيعة الرغبة والغفلة، ولكن طبيعة الانتباه والتحرز، وليست في أسر المادة، ولكن المادة في أسرها ما شاءت.ولا يسمى فقره صلى الله عليه وسلم زهدا كما يظن الضعفاء ممن يتعلقون على ظاهر التاريخ ولا يحققون أصوله النفسية ؛ وأكثرهم يقرأ التاريخ النبوي بأرواح مظلمة تريهم ما ترى العين إذا ما اختلط الظلام ولبس الأشياء فتراءت مجملة لا تفصيل لها، مفرغة لا تبيين فيها ؛ وما بها من ذلك شيء، غير أنها تتراءى في بقية من البصر ولا تغمرها.وهل الزهد إلا أن تطرد الجسم عنك وهو معك، وتنصرف عنه وهو بك متعلق ؟ فتلك سخرية ومثلة، وفي رأيي تشويه للجسم بروحه، وقد تنعكس فتكون من تشويه الروح بجسمها ؛ فليس يعلم إلا الله وحده، أذاك تفسير لإنسانية الزاهد بالنور، أم هو تفسير بالتراب.ولقد كان صلى الله عليه وسلم يملك المال ويجده، وكان أجود به من الريح المرسلة، ولكنه لا يدعه يتناسل عنده، ولا يتركه ينبت في عمله، وإنما كان عمله ترجمة لإحساسه الروحي، فهو رسول تعليمي، قلبه العظيم في القوانين الكثيرة من واجباته، وهو يريد إثبات وحدة الإنسانية، وأن هذا الإنسان مع المادة الصامتة العمياء مادة مفكرة مميزة، وإن الدين قوة روحية يلقى بها المؤمن أحوال الحياة فلا يثبت بإزائها شيء على شيئيته، إذ الروح خلود وبقاء، والمادة فناء وتحول، ومن ثم تخضع الحوادث للروح المؤمنة وتتغير معها، فإن لم تخضع لم تخضعها، وإن لم تتغير الروح بها ؛ وأساس الإيمان أن ما ينتهي لا ينبغي أن يتصرف بما لا ينتهي.ما قيمة العقيدة إلا بصدقها في الحياة، وأكثر ما يصنع هذا المال: إما الكذب الصراح في الحياة، وإما شبهة الكذب، ولهذا تنزه النبي صلى الله عليه وسلم عن التعلق به، وزاده بعدا منه أنه نبي الإنسانية ومثلها الأعلى، فحياته الشريفة ليست كما نرى في الناس: إيجاداً لحل مسائل الفرد وتعقيدا لمسائل غيره، ولا توسعا من ناحية وتضييقا من الناحية الأخرى، ولا جمعا من هنا ومنعا من هناك ؛ بل كانت حياته بعد الرسالة منصرفة إلى إقرار التوازن في الإنسانية، وتعليم الجميع على تفاوتهم واختلاف مراتبهم كيف يكون لهم عقل واحد من الكون ؛ وبهذا العقل الكوني السليم ترى المؤمن إذا عرض له الشيء من الدنيا يفتنه أو يصرفه عن واجبه الإنساني أبت نفسه العظيمة إلا أن ترتفع بطبيعتها، فإذا هو في قانون السمو، وإذا المادة في قانون الثقل ؛ فيرتفع وتتهاوى ويصبح الذهب - وإنه ذهب - وليس فيه عند المؤمن إلا روح التراب.^

في المصلح الاجتماعي الأعظم

قالت عائشة 'رضي الله عنه': لم يمتلئ جوف النبي صلى الله عليه وسلم شبعا قط، وإنه كان في أهله لا يسألهم طعاما ولا يتشهاه ؛ إن أطعموه أكل، وما أطعموه قبل، وما سقوه شرب.وقالت: ما شبع آل محمد من خبز الشعير يومين متتابعين متى قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم.وعنها: كنا آل محمد نمكث شهراً ما نستوقد بنار، إن هو إلا التمر والماء.وقالت: ما رفع رسول الله صلى الله عليه وسلم قط غداء لعشاء، ولا عشاء لغداء ولا اتخذ من شيء زوجين ؛ لا قميصين، ولا ردائين، ولا إزارين، ولا زوجين من النعال.ويروى عنها، قالت: توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس عندي شيء يأكله ذو كبد، إلا شطر شعير في رف لي.وقالت: توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ودرعه مرهونة عند يهودي في ثلاثين صاعا من شعير.وعن ابن عباس: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبيت الليالي المتتابعة وأهله طاويا لا يجدون عشاء، وإنما كان خبزهم الشعير.وعن الحسن، قال: خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: 'والله ما أمسى في آل محمد صاع من طعام، وإنها لتسعة أبيات ! ' والله ما قالها استقلالا، ولكن أراد أن تتأسى به أمته.وعن ابن مجير قال: أصاب النبي صلى الله عليه وسلم جوع يوماً، فعمد إلى حجر فوضعه على بطنه، ثم قال: 'ألا رب نفس طاعمة ناعمة في الدنيا، جائعة عارية يوم القيامة ؛ ألا رب مكرم نفسه وهو مهين لها ؛ ألا رب مهين نفسه، وهو مكرم لها'.وخير صلى الله عليه وسلم أن يكون له مثل 'أحد' ذهباً فقال: 'لا يا رب ؛ أجوع يوماً فأدعوك، وأشبع يوما فأحمدك'.وكان يقول في دعائه ويكثر منه: 'اللهم أحيني مسكينا، وأمتني مسكينا، واحشرني في زمرة المساكين'.هذا هو سيد الأمة، يمسكه في الحياة نبيا عظيما ما يخرج غيره منها ذليلا محتقرا، وكأنما أشرق صفاء نفسه على تراب الأرض فرده أشعة نور، على حين يلقى الناس على هذا التراب من ظلام أنفسهم فلا يبقى ترابا بل يرجع ظلاماً، فكأنهم إذ يمشون عليه يطئون المجهول بخوفه وروعته ؛ ثم لا يستقر ظلاما بل يرجع آلاما، فكأنهم ينبتون على المرض لا على الحياة ؛ ثم لا يثبت آلاما بل يتحول فورة وتوثبا تكون منه نزوات الحمق والجنون في النفس.هؤلاء الذين تعيش أنفسهم في التراب، ويتمرغون بأخلاقهم فيه، ينقلبون على الحياة من صنع التراب ناسا دوداً كطبع الدود لا يقع في شيء إلا أفسده أو قذره ؛ أو قوما سوسا كطبع السوس لا ينال شيئا إلا نخره أو عابه، فهم يوقعون الخلل في نظام أنفسهم، فإذا هي طائشة تخيل لهم كأنما اختلت نواميس الدنيا، وكأن الله قبضهم وبسط غيرهم، وشغلهم وفرغ من عداهم، وابتلاهم على مسكة الرزق بالشهوة المسعورة التي لا تتحقق، فضربهم بالمجاهدة التي لا تنقطع ؛ وأنعم على غيرهم في بسطة الرزق بالشجرة المسحورة التي لا تقطع منها ثمرة إلا نبت غيرها في مكانها.إن ما وصفناه من فقر النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه لم يكن له عتيد حاضر، وأنه لم يجعل نفسه في هم المال، ولا جعلته نفسه في هم الفقر، وأنه لقي الحياة حاملا لا محمولاً، واستقر فيها هادئاً لا مضطربا، كل ذلك إنما يثبت للدنيا أنه خلق وبعث وعاش ليكون درساً عمليا في حل المشكلات الاجتماعية، يعلم الناس أنها لا تتعقد بطبيعتها، ولكن بطبائعهم فيها، ولا تستمر بقوتها، ولكن بإمداد قواهم لها ؛ ولا تغلب بصولتها، ولكن بجزعهم منها ؛ ولا تعضل من ذات نفسها، ولكن من سوء أثرهم عليها وسوء نظرهم لأنفسهم ولها.فإذا قرأت الأحاديث التي أسلفناها فلا تقرأها زهداً وتقللا، ولا فقرا وجوعا، ولا اختلالا وحاجة، كما تترجمها نفسك أو تحسها ضرورتك ؛ بل انظر فيها واعتبرها بنفسه هو صلى الله عليه وسلم، ثم اقرأها شريعة اجتماعية مفصلة على طبيعة النفس، قائمة على أن تأخذ نفس الإنسان من قوى الدنيا عناصرها الحيوية، لتعطي الحياة من ذلك قوة عناصرها.والحياة العاملة غير الحياة الوادعة، هما ذكر وأنثى ؛ فأما الأولى فهي ما وصفنا وحكينا، وأما الثانية فهي تغلل النعمة، وإطلاق قانون التناسل في المال ينمي بعضه بعضا، وينبت بعضه على بعض، ثم إقامة الحياة على الزينة ومقوماتها، وقيام الزينة على الخداع وطباعه، فيقبل المرء من دنياه على ما هو جدير أن يصرفه عنها، ويحب منها ما كان ينبغي أن يباغضه فيها، وكل ما رأيت وعلمت في رجل، قوته القوة فهو هناك ؛ وكل ما علمت ورأيت في أنثى، قوتها الضعف فهو هنا.فالسواد الذي تراه في فقره صلى الله عليه وسلم هوالسواد الحي ؛ سواد الليل حول الروح النجمية الساطعة ؛ وذلك التراب هو التراب الحي ؛ تراب الزرع تحت النضرة والخضرة ؛ وتلك الحاجة الجسمية هي الحاجة الحية الدافعة إلى حرية النفس ؛ وذلك الإقلال من فهم اللذاة هو الإقلال الحي الذي يزيد قوة فهم الجمال في السماء والأرض وما بينهما، وذلك الضيق في حيز المتاع للحاسة هو الضيق الحي الذي يوسع حيز المتاع للروح.وبالجملة فذلك النقص من المادة لم يكن إلا لنفي النقص عن الفضيلة، وذلك الاحتقار للعرض الفاني الزائل هو المعنى الآخر لتقديس الخالد الباقي.فليس هناك خبز الشعير، ولا الجوع، ولا رهن الدرع عند اليهودي، كلا، كلا، بل هناك حقيقة نفسية عقلية، ثابتة متزنة، قائمة بعناصرها السامية: من اليقين والعقل والحكمة، إلى الرفق والحلم والتواضع.تخبر هذه الدنيا العلمية الفلسفية المفكرة أن ذلك النبي العظيم هو الرجل الاجتماعي التام بأخلاقه وفضائله، وهو الذي بعث لتنقيح غريزة تنازع البقاء، وكسر هذه الحيوانية، وقمع نزواتها، وإماتة دواعيها، والسمو بخواطرها ؛ فهو بنفسه صورة الكمال الذي بعث لتحقيقه وإثبات أنه الممكن لا الممتنع، والحقيقي لا الخيالي.ليس هناك درع مرهونة في ثلاثين صاعاً، ولا الفقر ولا خبز الشعير، كلا، كلا، بل هناك تقرير أن النصر في معركة الحياة لا يأتي من المال والثراء والمتاع، ولكن من المعاناة والشدة والصبر ؛ وأن التقدم الإنساني لا يباع بيعا، ولا يؤخذ هونا ؛ بل هو انتزاع من الحوادث بالأخلاق التي تتغلب على الأزمات ولا تتغلب الأزمات عليها، وأن هذا المال وهذه الشهوات - في حقائق الحياة ومصائرها - ككنوز الأحلام، لا تكون كنوزا إلا في مواضعها من أرض الغفلة والنوم، فلا لذة منها إلا بمقدار خفيف من هذه الغفلة.وليس إلا الأحمق أو المخذول أو الضائع هو الذي يقطع العمر نائما أبداً ليظل مالكا أبدا لهذه الكنوز، وهو يعلم أنه لا بد مستيقظ، وأنه متى انتبه في آخرته لم يجد منها شيئاً 'ووجد الله عنده فوفاه حسابه'.كلا، كلا، ليس هناك فقر ولا جوع وما إليهما، بل هناك وضع هذه الحقيقة ؛ ينبغي أن تجد نفسك، وموضع نفسك، وإيمان نفسك، وعزة نفسك.فإذا أدركت ذلك ورفعت نفسك إلى موضعها الحق، وأقررتها فيه، وحبستها عليه، وحددتها بالإنسانية من ناحية وبالله من الناحية المقابلة، رأيت إذن أن قيمتك الصحيحة في أن تكون وسيلة تعطي وتعمل لتعطي، لا غاية تأخذ وتعمل لتأخذ، ومهما ضيق عليك فإنما أنت كالشجرة الطيبة تأخذ ترابا وتصنع حلاوة.وما قط نبتت شجرة في مكانها لتأكل وتشرب وتختزن السماد والتراب وتحصنهما وتمنعهما عن غيرها، ولو قد فعلت ذلك شجرة لكان هلاكها فيما تفعل، إذ تحاول أن تضاعف فائدتها من قانون العالم، فيكون طمعها سريعاً في إفساد الصلة بينهما، فلا يجد القانون فيها نظامه، ومن ثم لا تجد في القانون نظامها، فيهلكها الذي كان يحييها، وتستعبد لحظ نفسها، فيفقدها ذلك حرية الحياة التي كانت لها في نفسها.يقول نبينا صلى الله عليه وسلم: 'إن المؤمن بكل خير على كل حال، إن نفسه تنزع من بين جنبيه وهو يحمد الله عز وجل'.فهذا هو أسمى قانون اجتماعي يمكن أن تظفر به الإنسانية، وما يأتي لها ذلك إلا إذا أصبحت تلك المعاني التي أومأنا إليها شعوراً اجتماعيا عاما مقررا في النفس، قائما فيها على إيمان راسخ بأن الفرد هو صورة المجتمع لا صورة نفسه وحدها، وأن الناس كحب القمح في السنبلة، ليس لجميعه إلا قانون واحد، فموضع كل حبة من السنبلة هو ثروتها، علت أو سفلت، وكثر ما تأخذه أو قل ؛ وإذا كان أساس الحياة في الحبة منها أن تجد قوامها وكفايتها من مادة الأرض، فتمام الحياة فيها أن يغمرها النور من حولها، وأن يستمر النور من حولها يغمرها.فالحبة من السنبلة بكل خير على كل حال، إنها لتنزع وما بها أنها نزعت، ولكنها أدت ما تؤدي، وانقطعت من قانون لتتصل بقانون غيره، وما اغتنت ولا افتقرت، ولا أكثرت ولا أخفت بل حققت موضعها، فإنها ما نبتت لتبقى، وما نمت إلا لينقطع نماؤها، وكذلك المؤمن الصحيح الإيمان الصادق النظر في الحياة، هو أبداً في قانون آخرته، فهو أبداً في عمل ضميره.والناس في هذه الحياة كحشد عظيم يتدفق من مضيق بين جبلين ينفذ إلى الفضاء ؛ فإذا هم أدركوا جميعا أنهم مفضون إلى هذه النهاية مروا آمنين وكان في يقينهم السلامة، وفي صبرهم الوقاية، وفي نظامهم التوفيق، وفي تعاونهم الحياة ؛ فهم بكل خير على كل حال، ما دام هذا قانون جميعهم ؛ فأيما رجل شذ منهم فاضطرب فطاش، هلك وأهلك من حوله، ومن عكس منهم موضعه ونكص على عقبيه، أهلك من حوله وهلك، والموت أشقى الموت هنا في هذا المضيق بين الجبلين، اعتبار الحاضر حاضراً فقط، والضجر منه، وجعل كل إنسان نفسه غاية، والحياة أهنأ الحياة، اعتبار الحاضر بما رواءه، والصبر على شدته، وجعل الإنسان نفسه وسيلة.فذلك معنى خبز الشعير، والقلة والضيق، ورهن الدرع عند يهودي من سيد الخلق وأكملهم، ومن لو شاء لمشى على أرض من الذهب، فهو صلى الله عليه وسلم يعلم الإنسانية أن الرجل العظيم النفس لا يكون في الحياة إلا ضيفا نازلاً على نفسه.ومن معاني ذلك الفقر العظيم أن خبز الشعير هو رمز من رموز الحياة على التحلل من خلق الأثرة، والبراءة من هوى الترف ؛ ورهن الدرع رمز آخر على التخلص من الكبرياء والطمع ؛ والعسرة رمز ثالث على مجاهدة الملل الحي الذي يفسد الحياة كما يفسد بعض النبات النبات.ومجموع هذه الرموز رمز بحاله على وجوب الإيقاظ النفسي للأمة العزيزة التي تقود أنفسها بمقاساة الشدائد ومجاهدة الطباع، لتكون في كل فرد مادة الجيش، وليصلح هذا الجيش قائداً للإنسانية.على أنه صلى الله عليه وسلم حث على طلب اليسار، والتغلل من الأعمال الشريفة بالغلة والمال، فقال: 'إنك إن تدع عيالك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس'.ورأى عابداً قد انقطع للعبادة حتى أكلت نفسه جسمه، ووصفوا له من زهده وعبادته، فقال: صلى الله عليه وسلم: 'من يعوله ؟ ' قالوا: كلنا نعوله.فقال: 'كلكم خير منه'.إلى أحاديث كثيرة مروية، هي تمام القانون الأدبي الاجتماعي في الدنيا، تثبت أن الحي إن هو إلا عمل الحي.ولكن حين يكون سيد الأمة وصاحب شريعتها رجلا فقيراً، عاملا مجاهداً، يكدح لعيشه، ويجوع يوما ويشبع يوما، فلم يقلب يده في تلاد من المال يرثه، ولم يجمعهما على طريف منه يورثه، فذلك هو ما بيناه وشرحناه، وذلك كالأمر نافذا لا رخصة فيه، على ألا يتخذ الغني من الفقير عبدا اجتماعيا لفقر هذا ولمال ذاك ؛ بل هي المساواة النفسية لا غيرها وإن اختلفت طبقات الاجتماع، والأكرم هو الأتقى لله بمعنى التقوى، والأقوم بالواجب على معنى الواجب، والأكفأ للإنسانية في معاني الإنسانية.فقر ذلك السيد الأعظم ليس فقراً، بل هو كما رأيت، ضبط السلطة الكائنة في طبيعة التملك، لقيام التعاون الإنساني على أساسه العملي ؛ هو المحاجزة العادلة بين المصالح الاقتصادية الطاغية، يمنع أن تأكل مصلحة مصلحة فتهلك بها، ويوجب أن تلد المصلحة مصلحة لتحيا بها.والنبي الفقير العظيم هو في التاريخ من وراء كل هذه المعاني، كالقاضي الجالس وراء مواد القانون.صلى الله عليه وسلم.^

شارك هذه الصفحة:

تابع موسوعة الأدب العربي على شبكات التواصل الإجتماعي